وأصبح حامد قريبا كل القرب إلى قلب باسل وشهاب، ولم يكن ذلك غريبا؛ فقد كان هو الإنسان الوحيد الذي يدخل البيت دخول الأقارب. وقد استطاعت معاملة حامد هذه أن تفتح عين الأم على تلك الهوة التي تفصل بين الولدين وأبيهما، بل إنها فتحت عينيها المروعتين على تلك الهوة بينها هي وبين ولديها.
وهكذا راحت تتقرب إليهما، وتعمل على إسعادهما بكل ما تملك من قوة، ولكنها حرصت كل الحرص أن تكون مصادر هذه السعادة بعيدة عن الأب؛ فهي لم تكن تريد للولدين أن يحبا أباهما، فهي حريصة أن يدرك الأب أن أحدا لا يحبه في هذا الوجود إلا هي.
وكان الولدان يحسان بحنوها، ويحسان أيضا بهذا الحنو ينقلب إلى قساوة طاحنة، كلما اقترب واحد منهما إلى ساحة الأب. •••
كان الوقت شتاء، وكان شهاب في حجرته الخاصة يشاهد التليفزيون الذي أحضرته له أمه في عيد ميلاده، ولم يكن معه باسل، ولم يكن ذلك عن جفاء؛ فقد كانت العلاقة بين الأخوين صداقة صحيحة فرضتها عليهما طبيعة الحياة في بيت أبيهما أو قصر أبيهما إذا شئت، ولكن باسل كان قد اختار أن يتجه إلى الهندسة، حين اختار شهاب أن يتجه إلى الحقوق، فإن الصداقة بينهما لم تستطع أن توحد طريقهما في الحياة.
وكان لكل منهما حجرته في البيت، وكانت هذه الحجرة مجهزة بكل ما تصبو إليه نفس شاب، فلكل مكتبته الخاصة، ولكل جهازه الخاص للتليفزيون وجهازه الخاص للراديو؛ فلم يكن غريبا أن يفترق الأخوان في الساعات الأولى من الليل، ليصنع كل منهما في حجرته ما يحلو له.
كان التليفزيون في تلك الليلة يعرض فيلما أجنبيا، وكان شهاب مستغرقا في مشاهدته بعيدا عن واقع الحياة كل البعد.
وانتهى الفيلم وانتهى الإرسال أيضا، وقام شهاب إلى الباب، ونظر إلى غرفة أخيه، فوجد أنوارها مطفأة؛ فقد كان يحس أن النوم بعيد عنه. خاب أمله في السمر مع أخيه وأقفل الباب، وعاد إلى مكتبته، فوجد كتابا كان قد اشتراه ولم يفتحه، وراح ينظر في صفحاته، الفكر الماركسي والإسلام، وكان عنوان الكتاب هو الذي أغراه بالشراء؛ فقد كان يحس كأبناء جيله أن النفاق من حوله يمكن أن يقلب جميع القيم والموازين، ولم يستبعد أن يجد منافقا يزعم أن الإسلام يبارك الماركسية . وكان هذا النفاق هو الحديث الذي لا تنقطع مصادره كلما اجتمع شباب، واعتقد شهاب أن هذا الكتاب سيمده بمادة لا تنفد عن سيطرة النفاق المطلقة على الحياة المصرية، بل على الدين أيضا.
أعاد الكتاب إلى المكتبة؛ فقد كان في نشوة لا تقبل أن تواجه هذا الانحطاط. بحسب الإنسان المصري أن يواجه النفاق في الصحف وفي الحياة؛ لأن الإنسان لا بد له أن يقرأ الصحف، وأن يعيش الحياة، فإذا خلا إلى نفسه وأحس بنوع من النشوة؛ فينبغي له أن يحاول نسيان الصف والحياة العامة وما يسودهما من نفاق؛ وإلا أصبح شخصا مولعا بتعذيب ذاته دون مبرر.
بحث عن رواية لكاتب يحترمه، ووجدها ووجد فيها ما تصبو إليه نفسه من انطلاق، واستلقى على السرير وبدأ يقرأ. لم ترق له بداية الرواية، أقفلها وأطفأ نور السرير، وترك نفسه ترود ما يحلو لها من وديان الخيال أو الحقيقة أو هما معا متمازجان، تتماوج المعالم منهما متناغمة أو متنافرة وهو ملق نفسه إلى الدفاع، لا يكبح جماح الخيال ولا يهتم بحقائق الواقع، ولم يكن يدري أطال به الوقت أم لم يطل حين سمع همسا وخطوات وعجب، فإن لكل حجرة من حجرات القصر حمامها الخاص، وليس هناك ما يدعو إلى صوت في الليل أبدا.
قام إلى الباب وفتحه في غير حذر، وفي اللحظة نفسها سمع صوت باب يقفل، ثم رأى شخصا ينزل السلم المفروش بالبساط السميك، وعلى ضوء القمر الذي ينفذ كسهم القدر من شباك السلم رأى وجه حامد، هم أن يلحق به ولكن قدميه تسمرتا، وحين استطاع أن يجرهما كان حامد قد خرج من الباب الرئيسي.
نامعلوم صفحہ