وهكذا أصبح البك بك رسميا وإن لم يصدر بشأن رتبته براءة من القصر الملكي، وهو أيضا في غير حاجة إلى براءة القصر الملكي؛ لأن الوهم الذي يحيط به ضخم ضخامة الحقيقة نفسها، فالبراءة بالبكوية لن تزيد حقيقة تكوينه ثبوتا لديه أو لدى المجتمع الذي يحيط به.
وهكذا تثور حول يحيى بك مشكلة أعيت الأجيال؛ هل الحقيقة هي ما يعتقده الإنسان أم أنها معنى مجرد ليس يعنى بمن يعرفه أو من يعارضه؟ وإن كانت معنى مجردا فما قيمته إذا لم يجمع عليه الناس؟ ولكن هل كل حقيقة يجمع عليها الناس؟ ودعنا نسأل أيضا: هل كل ما يجمع عليه الناس حقيقة؟ وما لنا لا نسأل أيضا: وهل أجمع الناس على شيء؟
فإذا قلنا إن هناك غالبية كاثرة تجمع على أمر معين، وإن هناك أقلية لا توافق الإجماع؛ فإنه لا بد لنا أن نسأل مرة أخرى: هل من الحتم أن تكون أغلبية الناس معتنقة الحقيقة، وأن الأقلية لا قيمة لها؟ ومن يحكم في هذه القضية؟ إن هناك رأيا معروفا أن الحقيقة واحدة لا تتعدد. ولكن هل عرف أحد هذه الحقيقة الواحدة؟ وما دام أحد لم يعرفها فأين نجدها؟ المؤكد أنها متعددة، وأنها واحدة، ولكن أحدا لا يستطيع أن يعرف أين الحقيقة الخالصة في هذا العدد الكبير من الحقائق؟ ليس غريبا إذن أن تكون الحقيقة ضائعة بين البشر الذي ركب من عقل وشهوة، ومن فكر وعاطفة، ومن حكمة وهوى، فبين التيارين المتعارضين تنزوي الحقيقة، ويعتقد كل إنسان أن الحقيقة التي استقر عليها رأيه هي الحقيقة؛ فلا بأس إذن أن يعتقد يحيى أنه بك فعلا رغم افتقار رتبته إلى براءة رسمية.
وعرف حامد أن البك في هذا البيت معناها يحيى، وعرف شهيرة وأعجب كل الإعجاب بابنتها بهيرة.
وكان بين المدعوين أيضا وجدي، فإن أردت أن أذكرك به فلا بد أن أنسبه إلى أمه لأنها الجانب المجمع عليه من أبويه أنه ابن نجاة. وهو عند كل من يعرف نجاة ابن عزت بهادر وعند القضاء الذي أصدر الحكم في قضيته ابن عبد المحسن باشا وفيق.
وكان وجدي في نضارة الشباب وفي فتوته، يتمتع بجمال أخاذ سامق، ويتمتع أيضا بذكاء خارق، يعرف هو بخلقه الخاص، وظروفه التي أحاطت بولادته ونشأته، والقضايا التي وجدها تتلقفه مع مهد الطفولة، كيف يستعمل هذا الذكاء وأين يستعمله. وهو في إعماله لذكائه هذا يستعمل كل ما لديه من أصل ممزق بين الحقيقة التي يكاد يلمسها بالشبه بينه وبين الذي يناديه بعمه عزت، وبين الوهم الذي أكسبه القضاء حجية الشيء المحكوم فيه، كما يجعل ذكاءه يستخدم هذا الجمال الذي لا تستطيع عين أن تعبره دون أن تقف عنده وتطيل الوقوف.
وكانت خديجة وراشد باشا وأسامة بين المدعوين.
راشد باشا قد عادت إليه ثروته، ولكنه حولها إلى عمارات باسم أسامة مباشرة، وقطع ما بينه وبين الريف تماما؛ فباع عزبته التي استخلصها من أيدي الديانة وابتاع بثمنها عمارات، فقد أدرك أن وحيده الذي ربي بالقاهرة لن يستطيع أن يستنبت من الأرض ريعها، كما أدرك أن ابن خديجة التي عاشت عمرها بالقاهرة لن يكون فلاحا يفهم كيف يعامل الأرض. وقد حقق أسامة ظن أبيه؛ فإذا هو طالب يحب العلم ، وإذا هو شاب يحب القراءة، وهكذا لم يكن غريبا أن يجد نفسه بين شباب الفرح يقف على جزيرة مستقلة به، وإن كان ذكاؤه قد مكنه أن يشارك الشباب من أمثاله أرضهم ودنياهم.
جمع الفرح قوما كثيرين وتعارف منهم من لم يكن من قبل متعارفا، والتقى الأصدقاء يصلون حديثا كان بينهم ثم انقطع أو يبدءون حديثا هو آخر الأمر إلى انقطاع.
الفصل السابع عشر
نامعلوم صفحہ