لعلك الآن تعجب إن ذكرت كل شيء عن الباشا أو أكاد، ولم أذكر شيئا عن زوجه الأولى نعيمة هانم شهاب ، ولا عن زوجه الثانية الآنسة سهير حمدي.
وما كان لي أن أذكر شيئا عن واحدة منهن دون تفصيل لا يقبل الإجمال؛ فنعيمة هانم شهاب هي الابنة الوحيدة للغني الشهير مجدي باشا شهاب، وهي سيدة علمها الغنى أن تأمر فتطاع، وليس زكريا باشا بأقل منها غنى أو أدنى حسبا، وإنما تعلقه بالنساء وعلمه بأنه لا شك سيخونها جعله يسمح لها بأن تأمر فتجاب، وأن تبدو وكأنها هي رجل البيت. وكان ذكاء زكريا ومعرفته أنه آخر الأمر يستطيع دائما أن يفعل ما يريد داخل البيت أو خارجه يجعله يتيح لها هذا المظهر المتأمر الصلب تفرح به هي، ولا يخسر هو شيئا.
ولكن شيئا واحدا فات زكريا باشا، وما هذا بعجيب؛ فالأذكياء أيضا تفوتهم أشياء.
لقد استولت نعيمة هانم على ابنهما عدلي منذ ولادته، فهي وحدها صاحبة الشأن في تربيته وهي التي تدخله المدرسة، بل إنها هي التي اختارت له الكلية التي يدخل إليها، والعجيب أن هذه الكلية لم تكن الحقوق التي تخرج فيها أبوه، والتي تخرجت فيها الغالبية العظمى من وجوه البلاد ووزرائها وحكامها. لقد اختارت له كلية الهندسة وقد نشأ عدلي فكرة من أمه وخطرة منها وإشارة من يدها، فهو لا يعرف أن يختار ولا يريد أن يعرف، فالذي لم يعرف الحرية يوما لا يفكر فيها، بل لعله إذا منحها تمثلت له شيئا بغيضا لا يطيقه ولا يحتاج إليه. فالاختيار في الحياة شيء صعب ومهمة شاقة لا يتعرض لها إلا من لا يتمتع بأم كأم المهندس عدلي التي تختار عنه كل شيء يتعلق به، وكل طريق ينبغي له أن يسير فيه.
وحين تخرج عدلي في كلية الهندسة اختارت له نعيمة هانم زوجته وتزوجها، وكان عدلي على غناه دميم الخلقة، وأصبح بفضل السيدة والدته كريه الخلق ضعيفا تافها. وحين تزوج وانسلخ كيانه عن كيان أمه في السكن وخلا به وبزوجته بيت تجلى على حقيقته البشعة أمام زوجته؛ أنه لا يجيد في الحياة إلا أصناف الطعام، فما كان له في بيت أبيه بعد أمه إلا الطاهي يلازمه فتعلم عنه أصول الطهي حتى أجادها، وأحس بالرضاء عن نفسه واطمأن أنه صاحب موهبة، وسبحان رب العرش في علياء سمائه؛ يهب لكل عبد من عباده مهما يكن تافها شيئا تطمئن إليه نفسه أنه يملك ما لا يملكه الآخرون.
وربما كانت هذه الموهبة بالنسبة لزوجته في الأيام الأولى من زواجهما مثار ضحك ومزاح، ولكن ويل للزوجة وللزوج معا إذا تبينا أن الضحك والمزاح إنما هما جد كل الجد، وأن عبقرية المهندس ليست في شيء إلا في طهو أصناف الطعام.
ضاقت الزوجة راوية بزوجها أشد الضيق، ولما كان لا بد للضيق أن يتمثل في عمل؛ فما هو إلا شهر أو بعض شهر حتى كان عدلي مطية وزوجه راكبتها، ويبدو الأمر من النظرة السطحية أن مثله في ذلك مثل أبيه، ولكن وهلة من إنعام النظر سرعان ما تعود بها العين الخبيرة أن هدوء أبيه عن ذكاء وعن محاولة لإعفاء ما يصنعه خارج البيت. أما هدوء الابن فعن غباء؛ ولأنه لا يعرف إلا أن يكون هادئا. وحلت الزوجة محل الأم ولم يقم بينهما أي خلاف، فراوية ذكية تعرف كيف تبدو أمام حماتها دائما طيعة ذلولا، لا تخالف لها أمرا أو ترد لها كلمة، فملكت بذكائها الأم والابن جميعا.
وهكذا وقع زكريا باشا في خطأ لم ينجه منه ذكاؤه المتوقد، وبدلا من أن يكون ابنه جديرا بأن يحمل اسمه أصبح هزوة لكل هازئ، وأغلب الأمر أن زكريا باشا أراد لابنه أن يلهي زوجته عنه، فيستطيع هو أن ينصرف إلى نسائه ما شاء له الانصراف؛ فإن زوجته تعرف عنه ميله للنساء، بل لقد حدث بينهما حادث تدافعت أصداؤه في مصر جميعا، يوم أن دعت زوجته سيدات كثيرات في ليلة شاع فيها الأنس والسرور، بمناسبة عودتها من الأراضي الحجازية، بعد أن حجت بيت الله وزارت قبر نبيه.
وكان الباشا يوم ذاك في البيت، ولكنه كان في حجرته بعيدا عن مجتمع النسوة.
لم تكن نعيمة هانم تعرف أن صديقتها صالحة هي رفيقة الباشا في هذه الأيام، فلم يكن عجيبا أن تدعوها. وكم كانت المفاجأة صعبة حين تفقدت صالحة في أثناء الحفل، فلم تجدها فإذا خادمتها مبروكة تشير لها بإصبعها إلى أعلى، وتصعد نعيمة هانم إلى حجرة الباشا، فتجدها خالية فتكمل صعودها إلى السطح، لتجد صالحة في أحضان زوجها، وإذا بها تصرخ صراخا يتعالى على صوت المغنية في الطابق الأدنى، وإذا بها تخلع حذاءها، وتنهال به على معالي الباشا، وكان يومذاك وزيرا جديدا. وتصبح القصة حديث مصر جميعا، وتطلق صالحة من زوجها، وتنقطع صلة الباشا بها.
نامعلوم صفحہ