فهو قد أسرف في اتباع الخيال والانقياد له حتى أصبح كأنه قد خلق جمهوريته من لا شيء، وأصبحت جمهوريته غير قابلة للوجود إلا في عالم الخيال.
أما أرسطاطاليس فقد أراد أن يدرس الحكومة من حيث هي ظاهرة اجتماعية، وأن يدرس الظواهر الاجتماعية كما درس الظواهر الطبعية؛ أي إنه أراد أن لا يعتمد في هذا الدرس إلا على الملاحظة، فأثبت الملك، ورأى أن شيوع الأشياء غير معقول التحقيق، إلا إذا استحالت النفس الإنسانية فأصبحت فضيلة خالصة، وأثبت الزواج؛ لأن عليه تقوم الأسرة وعلى الأسرة تقوم المدينة، وأنفق كل ما كان يملك من قوة في الجدال والمناقشة ليهدم مذهب أفلاطون، وليبين عيوب الحكومات التي اشتمل نظامها على شيء قليل أو كثير من الاشتراك.
ثم استعرض صور الحكومات الموجودة فوازن بينها واختار منها صورة مختلطة، ليست بالملكية التي يستبد فيها الفرد، ولا بالديمقراطية التي تستبد فيها الجماعة، ولا بالأقلية التي يستبد فيها نفر من الأشراف، وإنما هي حكومة وسط تمثل جميع طبقات الشعب تمثيلا صحيحا معقولا.
وقد فصل ذلك أرسطاطاليس تفصيلا كافيا، ووضع له النظم والقواعد، فمن شاء فليرجع إليها في كتاب السياسة، كل هذه أشياء لا تزال قيمة يحتفظ بها الفلاسفة ويدرسونها، وهناك أشياء كثيرة لا تظهر فائدتها للفلاسفة، ولكنها أساسية لا يستطيع التاريخ أن يستغني عنها، بل لولاها لضاع قسم عظيم من أقسامه وهو التاريخ النظامي لمدن اليونان.
فأنت ترى أن هذا الكتاب لا يزال جديدا قيما، مع أنه قد بلغ من السن ثلاثة وعشرين قرنا، ولئن لم يكن لنا أن نقول مثل ذلك في الأخلاق؛ لأن علم الأخلاق قد سلك طريقا تكاد تغاير كل المغايرة طريق أرسطاطاليس، فليس من شك في أن قسم المنطق والبيان لا يزالان يحفظان أكثر قيمتهما، فقليل جدا ما أضاف العرب والأوروبيون المحدثون إلى منطق أرسطاطاليس، فأما بيانه وآراؤه في الشعر والخطابة وفي الجدل والحوار، فما زالت إلى الآن قاعدة لدرس البيان الأوروبي.
فكل هذا يدلنا على أن أرسطاطاليس لم يكن يشخص عصره الذي عاش فيه فحسب، وإنما كان يشخص الرقي الإنساني من وجه عام.
فآثاره العلمية تمتاز بخصلتين، الأولى أنه مثل لنا تمثيلا صحيحا خلاصة الحياة العقلية القديمة، والثانية أنه وضع للحياة العقلية الجديدة أصولها وقواعدها، ورسم للإنسانية ما يجب أن تسلك إلى الرقي من سبيل.
نظام الأتينيين كتاب تاريخي كان واحدا من خمسين ومائة كتاب مثله تختلف طولا وقصرا، قد حاول فيها أرسطاطاليس وتلاميذه جمع ما كان معروفا من النظم اليونانية، وقد ضاعت هذه الكتب ولم يبق منها إلا هذا الكتاب الذي استكشف بطريقة المصادفة، فقد وجد في بعض القبور على ورق من البردي، يشتمل قسم منه على هذا الكتاب والقسم الآخر يشتمل على شيء من الحساب، ويظهر أن هذا البردي كان قد اتخذ لفافة لجسم من أجسام الموتى، وقد كتب هذا الكتاب بثلاثة خطوط مختلفة، ولكن الزمان قد عبث به فضاع من أوله شيء وفسد آخره.
فأما أوله الضائع فقد كان يصف أول عهد أتينا بالحياة السياسية، وليس بذي خطر عظيم؛ لأن هذا العصر الأول إنما هو عصر قصص وأساطير حظ التاريخ منها قليل، وأما آخره المشوه فخسارته عظمى يأسف لها الذين يشتغلون بالقانون خاصة؛ لأنه كان يصف المحاكم وما كان يجري فيها من النظم القضائية، سواء في ذلك نظم المرافعة وتأليف الجلسات وطريقة القضاة في التصويت وجمع الأصوات وإصدار الحكم ثم تعيين العقوبة أو مقدار الغرامة.
أما الذين يشتغلون بالتاريخ السياسي والنظامي فقد ظفروا بشيء لا يكاد يقوم؛ لأن الكتاب يذكر التاريخ السياسي والنظامي لأتينا منذ أواخر القرن السابع إلى أواخر القرن الرابع قبل المسيح، يبدأ من عصر دراكون سنة أربع وعشرين وستمائة وينتهي إلى نحو سنة خمس وعشرين وثلاثمائة قبل المسيح.
نامعلوم صفحہ