نساء في حياة دستويفسكي
نساء في حياة دستويفسكي
اصناف
وفي رحلاته التالية لم يتوقف خوفه من رفيقته هذه «الطفلة ذات العشرين ربيعا، وهو أمر رائع وضروري»، ولكنه لم يجد في نفسه القوة والقدرة على الاستجابة.
كان يكتفي بتأمل هذا الحماس المتدفق، طزاجة الانطباعات، المعاناة النفسية المباشرة. «لقد اتضح أن أنا جريجوريفنا تمتلك سمات حازمة نادرة (وهو أمر محبب بالنسبة لي ومضحك). بالنسبة لها فإن الذهاب لمشاهدة دار بلدية سخيفة، على سبيل المثال، هو عمل جاد، فإذا بها تسجل وتصف، حتى إنها تملأ سبعة دفاتر بعلاماتها الاختزالية لتعود فتنقلها. أكثر من ذلك أن قاعات المعارض أخذت بلبها وشغلتها، وقد سعدت بذلك جدا؛ لأن ذلك ولد في روحها انطباعات شتى أبعدتها عن الملل.»
يخبر دستويفسكي أصدقاءه أن أنا هي «رحالة غير عادية»، وأنها وقفت أمام أبواب فينيسيا «تطلق الآهات والصيحات فقط»، وأنها وقد فقدت مروحتها في كنيسة سان مارك «راحت تبكي بحرقة!»
سرعان ما عرفت أنا الحياة الحقيقية بعيدا عن المعارض والجداريات، وفي بادن حاولت من صميم قلبها أن تدعم دستويفسكي الذي عاد يائسا بعد خسارته في القمار، وهنا راحت في حزم تجمع أشياءهما كلها لكي تخرج بأي طريقة من دوامة الولع بالقمار التي هوى فيها الكاتب، الذي كان قد أنهى لتوه كتابة روايته العبقرية «المقامر».
يقول دستويفسكي: «لقد اتضح أن أنا جريجوريفنا أقوى وأعمق مما كنت أعرفه وأظنه عنها. إنها في كثير من الأحوال وببساطة ملاكي الحارس.» وبالفعل فقد راحت تنتقل معه بنكران للذات من بلد إلى بلد، وحتى في لحظات الحزن الممض لم تتوقف، وقد فقدت طفلها الأول، عن مساعدة دستويفسكي في عمله، ناسخة ومنسقة مخطوطاته.
لم يخفف الاهتمام الكبير بالفن والأدب الرومانسي الجديد والرسم والاهتمامات والأحاسيس الطازجة الطفولية تقريبا مثقال ذرة من أثر الظروف المادية الصعبة والعمل المتوتر في إعداد مخطوطات «الأبله».
لكن أنا جريجوريفنا عادت بعد رحلة السنوات الأربع خارج روسيا شخصا مختلفا تماما، فلم تعد تلك الشابة الساذجة العديمة الحيلة التي كانت من قبل، وإنما امرأة صاحبة إرادة قوية، امرأة خبرت الحزن الممض (وفاة ابنتها البكر)، امرأة معدة إعدادا جيدا لمعركة الحياة القادمة. في هذا الوقت اكتملت شخصيتها بشكل نهائي، وتحددت مهمتها الثقافية الرفيعة.
لم تكن أنا جريجوريفنا مجرد زوجة لدستويفسكي فحسب، وإنما كانت صاحبة مآثر شخصية هامة في الثقافة الروسية. وما يزال عملها ينتظر جردا أمينا وتقييما شاملا وأمينا.
إن طبيعة أ. ج. دستويفسكايا خلقت من أجل أن تضع تصورا عريضا لعديد من الانطباعات والأحاسيس الحيوية المتنوعة. لقد تجمعت لديها، وعلى نحو متوازن، خصال متناقضة، وعلى ما يبدو أن هذه الخصال كانت في جانب منها، على ما يبدو، متنافرة. إنها ابنة جيل الستينيات التي تحسب نفسها على الجيل «الحر»، وهي في الوقت نفسه تذهب لتؤدي الطقوس الكنسية والأرثوذوكسية بكل غيرة وحماس. كانت تجمع بين العصبية الشديدة والحمية الفائقة، وبين الإرادة الصلبة والحزم الشجاع في أمور الحياة الصعبة.
لقد تواءمت بداخلها الاهتمامات العقلية المحضة جنبا إلى جنب مع الاهتمامات الفنية، فضلا عن النزعة التطبيقية والرؤية العملية التي لا يتطرق إليها الشك. ومع تميزها بشيء من الإيمان الغيبي (المعجزات والإلهام والأحلام) فإن ذلك لم يمنعها من أن تستخدم قدراتها الفائقة في تنظيم أمور حياتها العملية، وأن تحسب لكل شيء حسابه، وتقدره تقديرا دقيقا في كل تفاصيله؛ كل هذه الخصال، فضلا عن ذوق رفيع، وظفته أنا لصالح معبودها دستويفسكي لتستحق منا كل الامتنان. أما مأثرتها الكبرى التي حققتها، فينبغي أن تدفعنا للاهتمام بشخصيتها.
نامعلوم صفحہ