وفي هذه البقعة، وفي مستقبل جرية النهر حول تونغة، تبصر ألوف الأكواخ متراصة في صف، وهذه هي مساكن الشلك الذين دحروا منذ نحو مائتي عام إلى الشمال، إلى مناقع بحر الغزال، ثم أسفر فيض السكان في تلك المنطقة الضيقة الخصيبة عن هجرة قاموا بها حتى بحيرة ألبرت في الجنوب منتشرين تحت كل اسم، وهكذا ألقي رعاة النيل البدويون هنا وهنالك بين الجفاف والفيضان في صراع أبدي بين النهر والأطيان.
ويذكرنا ذلك العرق الأصيل بما في القبور الفرعونية من المثال المصري مع الأنف الأقنى المنفصل عن الجبين بأخدود أعمق من أخاديد جميع الزنوج الآخرين ومع الأسنان الجميلة والأرجل الصغيرة والحركات البطيئة كالدنكا، ولكن أولئك القوم يشوهون أنفسهم بدهن أبدانهم وشعورهم بالسناج
2
حتى يصيروا سمرا حمرا ككلابهم السلوقية، وهم من المهرة في صنع أوعيتهم وأكواخهم، وهم ينتفعون بالسنط، الذي يشتمل السودان منه على أحد عشر نوعا كما يروى، انتفاع إخوانهم من سكان خط الاستواء بالطلح، ومن السنط يصنعون زوارق ودواليب ووقودا ودباغا وصمغا وعلفا.
وللمرة الأولى ترى الجمل، الذي هو حيوان السهب والصحراء، يأتي ليشرب على ضفاف النيل، وترى رجلا معه يدنو من النهر فيهيمن عليه بأحسن مما يمكن أن يفعله أكثر الزنوج تفكيرا، وتقوم الأكواخ المكعبة مقام الأكواخ المستديرة، ولم تلبث البيوت المكلسة أن تنعكس على النيل، ويختفي الرجال العراة المطليون، وتغسل نساء لابسات ثيابا ملونة ملابسهن في ماء النيل، وتجوب العذراء شاطئ النهر راكبة حمارا محجبة بخمار
3
أزرق، وتبصر إبراهيم ويعقوب بجانبها، وتسطع خيمة بيضاء تحت وهج الشمس ويخرج منها رجل، ولا يزيد لونه رونقا عن لون آخر من لاقيناهم من الزنوج، ولكن مع لبسه برنسا، وتشاهد بجانبه غلاما يسوق حصانا أدهم ذا سنابك بيض.
وتتوارى أفريقية الحقيقية، أو أفريقية الوحشية، مع انتهاء فتاء النيل، ويلوح فجر بلاد العرب في الأفق، وتظهر نوبية مع كثير زيغان، وتبدو ظافرة بوجودها الألفي فيما تقدم من الحضارات وما تأخر، ويبرز بقر الماء من خلال الأمواج، ولكن على قلة، وهنالك حيث يستقي الحمار والفرس والجمل من النهر، وحيث تنتشر الأشرعة
4
المثلثة تتقدم روح آسية المجاورة إلى النيل.
نامعلوم صفحہ