مقدمة
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
رأي العرب في منابع النيل
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
سيحور
فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين
التنبؤات المصرية القديمة الخاصة بالنيل
أعمال ملوك الأسرة 12 في النيل
زيادة النيل ونقصانه وأطواره في عهد العرب1
نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
مصبات النيل: حسب عقيدة القدماء
مقاييس النيل في عهد الفراعنة
ذكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب
المقياس بناء على تحقيقات مهندسي العصر الحالي
الضرائب المصرية القديمة
المكوس المصرية القديمة على المراكب
أموال خراج أراضي مصر في عهد العرب
خراج مصر في الإسلام
رأي العلماء في بحيرة مريس
أعياد النيل عند قدماء المصريين
في العصور الوسطى
في العصور الحديثة
رسوم النيل في الآثار المصرية
أنشودة النيل لقدماء المصريين
الشعر العربي في مدح النيل
عبادة النيل
آلهة الأنهر - ثالوث بيلاق - العجل أبيس وسيرابيس - قصص خرافية عن النيل - ما أشيع عن النيل
ذكر شيء من فضائل النيل
مقدمة
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
رأي العرب في منابع النيل
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
سيحور
فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين
التنبؤات المصرية القديمة الخاصة بالنيل
أعمال ملوك الأسرة 12 في النيل
زيادة النيل ونقصانه وأطواره في عهد العرب1
نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
مصبات النيل: حسب عقيدة القدماء
مقاييس النيل في عهد الفراعنة
ذكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب
المقياس بناء على تحقيقات مهندسي العصر الحالي
الضرائب المصرية القديمة
المكوس المصرية القديمة على المراكب
أموال خراج أراضي مصر في عهد العرب
خراج مصر في الإسلام
رأي العلماء في بحيرة مريس
أعياد النيل عند قدماء المصريين
في العصور الوسطى
في العصور الحديثة
رسوم النيل في الآثار المصرية
أنشودة النيل لقدماء المصريين
الشعر العربي في مدح النيل
عبادة النيل
آلهة الأنهر - ثالوث بيلاق - العجل أبيس وسيرابيس - قصص خرافية عن النيل - ما أشيع عن النيل
ذكر شيء من فضائل النيل
النيل في عهد الفراعنة والعرب
النيل في عهد الفراعنة والعرب
تأليف
أنطوان زكري
حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول: «أول ملك جلس على عرش مصر بعد دول الفراعنة المرسومة صور عظمائهم حول رسمه الكريم.»
مقدمة
على غير ما اعتاده بعض الكتاب من اتخاذهم عادة في ما يؤلفون ويكتبون وضع مقدمات كبيان للفن الذي يشتغلون به، أو المواضع التي يوفقون للإجادة في مباحثها تشويقا للقراء، وتنبيها عن أهمية ما يتصدرون للإطناب فيه، بما أوتوا من براعة واقتدار؛ حتى يكون المطلع على اشتياق لما تزفه الأقلام للأفهام.
قد رأيت في هذا المؤلف اجتناب الإطالة في التمهيدات والمقدمات اكتفاء بأن الموضوع المقصود بالبحث والبيان هو النيل، والنيل ذو أهمية بذاته لا تحتاج معالجة لإثارة الأشواق واستفزاز الفطن؛ لأن النيل ومزاياه وتوقف حياة البلاد عليه تكاد أن تكون في حكم المعلومات الفطرية، التي تنبعث الأذهان بطبيعتها إلى حب الاطلاع على كل ما يتعلق به من المباحث التاريخية، والمعلومات الفنية التي جادت بها القرائح في قرون ماضية، لا زلنا نقتفي آثارها في الارتشاف من مناهلها، والحرص على الاستفادة من كل جديد مفيد.
النيل في عصر الفراعنة، وفي عصور الفتوحات الاستعمارية، إلى عصر الفتح الإسلامي وما يليه، أخذ عناية دائمة بالمحافظة على فوائده من كل دولة كان لها حق السيطرة على هذه البلاد.
لهذا تحتم عندي التلخيص بأقصى مستطاع لكل المعلومات الزمنية للنيل وتطوراته في كل هذه العصور، اعترافا للرجال المصلحين في كل أمة بالفضل الذي بذلوه لفائدة العمران في المحافظة على مياهه، وانتفاع بلاده ببركات فيضه.
فلنا المعذرة إذا قصرنا بحثنا على أدق ما يهم الاطلاع عليه، خصوصا فيما يتعلق بالمناطق الشهيرة التي نرى في الإلماع إليها أتم كفاية لمن يهمه أمثال مباحثها العمرانية والتاريخية.
فلهذه الأسباب يكون اقتناء كتابي هذا، والتكرم بالاطلاع عليه كتشجيع أدبي لكل قارئ فيه حظ الارتياح وامتنان الثناء؛ لأن كل فرد من سائر الطبقات المصرية يشتاق لتبادل وتعميم هذه المباحث العمومية، بقدر الارتباط العام لكل فرد ممن أقلته أرض مصر ببركات النيل وفيوضاته.
منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
قليل من المصريين من يشاهد عليه الاعتناء بالنيل ومعرفة تطوراته، بحسب النظامات الحكومية التي طرأت عليه لمناسبات تحسين الري، وحسن التصريف في كميات الفيضان، وقل أن تجد حتى عند ذوي الاطلاع معلومات تدل على اهتمام القوم بهذا النهر، الذي هو مصدر الثروة وينبوع الحياة، بل إن أغلب الأمة المصرية لا تذكر شيئا عن النيل إلا في أوان التحاريق، بمناسبة التشديدات التي تتخذها مصلحة الري في وضع المناوبات، واحتياجهم إلى تلقي الأخبار المنبئة عن بدء الفيضان، وهذا هو منتهى اهتمام الزراع وأرباب الأطيان الواسعة، وأما أغلبية الطبقات من الأمة حتى المشتغلين بالعلوم العامة في المدارس بأنواعها وطبقات الصناع والتجار، فلا يحسبون للنيل حسابا ولا يعتنون بشيء من أخباره إلا في مقتضيات محدودة من الزمن، مثل حفلة وفاء النيل وباقي الأعياد المتداخلة في أشهر الفيضان عند بعض الطوائف، فإذا انقضت هذه المدة أغفلوا ذكر النيل جانبا، كأنهم ليسوا من سكان واديه، أو من القاطنين في أراضيه التي كرمها الله بالخصب والرغد، وجعله لها مصدر السعادة ومهاد الثروة.
أفرد كثير من المؤرخين النيل بمباحث مطولة عن البعثات التي كلفت باكتشاف ينابيعه وطرق سريانه في الأودية، ووسائل الانتفاع به وما تحويه مسالكه من المعادن والأتربة ذات الخواص، وهذا المبحث مفيد من الوجهة العلمية، التي تقبل المزيد من الوضوح، كلما تقدم العقل العرفاني في ارتقائه ووصوله إلى حقائق لم تكن معلومة من ذي قبل، وغرضنا في هذا الكتاب البحث الآن عما كان للنيل من المزايا الخاصة، المترتبة على عقائد وتقاليد تداولها قدماء المصريين حسب اعتقادهم، فمن ذلك ما قاله هيردوت: «إنما مصر هدية من هدايا النيل.» وكلمته هذه الصغيرة تشمل وادي النيل بأسره؛ لأن النيل كشريان الحياة، بفيضاناته الدورية التي يعبر عنها في أقاليم الصعيد بلفظة «دميرة ».
والبداهة ترشدنا إلى أن مجرى النيل وما يحيط بشواطئه كلها جزء اغتصبته سطوة النيل من مجموعة الأقاليم، واختص هذا الجزء المغتصب بالمقتضيات الطبيعية من الخصوبة، فجاد بحسن الإنبات وامتاز بالموقع الثمين، وأحاسن المجهودات الإنسانية التي ابتدع الأهالي طرائقها ووسائلها في تقسيم المناطق إلى بلدان وحيضان وحدائق، واتخذوا لكل موقع ما يناسبه من الاحتياطات الزراعية، ولم يشيدوا المباني في البلاد إلا بأماكن محدودة من أطرافها؛ لتكون مناطق المزارع خالية من عوائق التقسيم والترتيب وحرية الانتفاع، وليكون أهل كل قرية عونا لبعضهم في حقوق الجوار والارتفاق وصد الطوارئ، جريا على عادة المجاملات التي كانت راسخة في أخلاق المصريين قبل أن يتغلب عليها التقليد الأجنبي الحاضر، الذي أفقد النفوس كثيرا من مزايا التعاون والمحبة والإخلاص.
وكان قدماء المصريين يجعلون للنيل احتراما اعتقاديا؛ لكونه السبب الفعال في صيانة أرواحهم من مهالك القحط والجدب، وانتشار الفاقة واستحكام الضيق؛ إذ كان عوام الناس وخاصتهم مقبلين على الزراعة والاعتناء بها أكثر من كل شيء، ولم يكن الاعتناء بالصناعات والأحوال الأخرى الأدبية إلا في بعض المدائن التي كانت تقوم بالحاجة الكافية لمجموع الأهالي، وبهذا كانت التجارب على جانب من الرواج، وأولو البراعة في العلوم كانوا على منتهى درجات الاحترام والتوقير، اعترافا بفضلهم وتشجيعا لذوي الاستطاعة، على أن يحذو النجباء حذوهم في فضلهم ومعارفهم، وكانوا يقدمون للنيل بعض اعتبارات كالعبادة ويسمونه «حعبي»؛ أي الإله المقدس.
وعدم إلمام المصريين القدماء بمعلومات عن منابع النيل كان شأنا عاما، ولا يعدونه تقصيرا في الوجهة العلمية، وقد لاحظ ذلك المؤرخ الشهير هيردوت الذي قدم لمصر قاصدا البحث وجمع الاستدلالات في هذا الشأن، حتى قال: «لم يعرفني أحد شيئا من منابع النيل.» وأيدت رأيه أنشودة النيل القديمة التي كانوا يترنمون بها في المواسم والأعياد، ويعترفون فيها «بأن النيل آت من الظلمات.»
وذكر في كتاب الموتى: «أن النيل مولود من رع»؛ أي الشمس التي هي أكبر الآلهة عند المصريين القدماء، ويقرب من هذا المعنى أنه وجد مكتوبا في ورقة بردية، «من ضمن أوراق كتب التحنيط »، نص بالمعنى الآتي، «في بطاقة عند مقبرة أحد الموتى»: «إنك أيها الراحل في لحد الخلود، سيفيض عليك النيل في مضجعك الأخير أثرا من بركاته؛ لأن ماءه آت من مدينة أبو «أي جزيرة أسوان»، وهذا النيل ينفجر من هوته، هذا «نو» الخارج من ينبوع صخري، كأن الفيضان يفور من خزانته والمياه تتدفق من ينبوعها.»
وقد قال المؤرخ هيردوت أن أمين معبد الآلهة «نيت» بمدينة سايس أخبره بأن بين مدينة «سين» بطيبة ومدينة جزيرة أسوان جبلين؛ أولهما يدعى باللغة المصرية القديمة «كروفي»؛ أي هوته، والثاني «موفي»؛ أي مياهه، وبين هذين الجبلين تتفجر منابع النيل من هوة عظيمة، وينصب الماء منها طبقا لطبيعة الحواجز الصخرية هناك إلى شطرين؛ أحدهما إلى مصر في الشمال والآخر إلى إثيوبيا في الجنوب.
وقد اجتهد هيردوت لما أتى مصر بمباحثه العلمية من الوجهة الجغرافية، وعالج كثيرا من طبقات الكهنة، فلم يبوحوا له بشيء من معلوماتهم، إلا فيما يتعلق بعظمته المشهورة ومكانته الراسخة في النفوس، كمعبود يؤدون له فرائض العبادة والإجلال ما استطاعوا، وخصوصا في الأوقات التي حددوها لذلك عند بدئه في الزيادة، وبلوغه منتهى الفيضان، ومبادئ تصريفه في الأقاليم، ورتبوا على ذلك الأعياد والمواسم الشهيرة، التي لا زالت تراعى في الاحتفالات والمظاهر السنوية ترحيبا بوفائه، وشكرا لما يغدقه على الأرض من نعيم الخصوبة والرغد.
وقد اكتشفوا في معبد بيلاق الذي شيده الإمبراطور «تراجان»، واحتفظ عليه خلفاؤه من بعده رسما يمثل لنا الإله حعبي «النيل» في مخبئه، وتفسير هذا الرمز أنه يوجد فوق صخور مرتفعة عليها رسما الصقر والباشق، وفي حجرة يرى بداخلها هيكل إلهي لإله راكع، حاملا في يديه آنية تخرج منها فيوضات النيل المباركة، ويجد الرائي مرسوما على رأس الحجرة حية ملتفة على نفسها، وبين رأسها وذنبها منفذ ضيق لمرور النيل، وهذا الرسم فسره كاهن مدينة سايس للمؤرخ هيردوت بأنه منتهى معلوماتهم عن منابع النيل، فهو فيض من عند الله لم تصل استطاعة أمثالهم لاكتشاف أوائله غير ما هو مشاهد للزائرين في أطراف وادي النيل ، ويقصد الكهنة بذلك وقوف الأمة عند هذه النقطة، وعدم التطلع إلى مباحث أخرى.
وكان علماء المصريين مع كثرة الرموز العلمية وسعة المعلومات المحفوظة في الصدور، والمرموز إليها في بعض المخلدات الأثرية، لا يسمحون لمعاصريهم ولا لزائريهم من فجاج الممالك بالتوسع في مباحث عن ينابيع النيل وأوائل مصدر فيضه؛ لأنهم يعتقدون سعة البحث في ذلك ممنوعة دينيا، وتعرض المشتغلين بها لحلول النقمات التي تنذر بها الكتب المقدسة كل من يسعى إلى عمل يؤدي إلى كفر أو ضلال، وكانوا يعتقدون أن النيل فيض من البركات الإلهية، يتنزل من السموات العلا إلى عالم الأرض، فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية، ولهذا كانوا يسمونه أبا الآلهة «أتف نترو»، ولم يلتفت قدماء الباحثين من المصريين إلى أسباب الزيادة في النيل في أزمنة الفيضان؛ لاعتقادهم أنه قدسي في تكوينه، وفي تأثيره وفيما تبصر الخلائق عنه؛ لأنه سر من فيض البركات الإلهية، اختص الله بها هذا الوادي السعيد، وجعله إلى الأبد مصدر الرفاهية والسعة والإغداق بأنواع الأرزاق التي تفي باحتياجات قاطنيه، وبسد العوز لكل الطبقات التي تأوي إليه، ويجدون فيه ومن سجايا أهله حرما آمنا.
وقد اجتهد علماء المباحث المصرية عن النيل وينابيعه ومصادره العليا، مثل هيردوت وسترابون وديودور الصقلي، وعلماء الرومان كالمؤرخ بلين وسنيك وغيرهم من الفلاسفة، فلم يستطيعوا سوى الوقوف عند ما ألقاه إليهم الكهنة عن عظمة النيل، وإن عجائبه ترجع إلى قدسية مصدره الإلهي، فاضطروا للإذعان خاضعين لعقائد وتقاليد قدماء المصريين في شأنه، ولم يتجاوزوا في مباحثه إلى ما وراء الشلالات، وإلى ذلك أشار هيردوت بقوله: «إن النيل يعرف مبدؤه بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برا أو بحرا، وهي المدة التي كان يستغرقها المسافر في وصوله إلى جزيرة أسوان.»
واستمر الناس على الاعتقاد بأن ينابيع النيل مما يعسر على الباحثين حل غوامضه إلى عصر الرومان، فأرسل نيرون بعثة رسمية لاكتشاف هذه المنابع، فوصلت بعد مستنقعات واسعة إلى صخرين تجري فيهما المياه فظنوهما المنابع الأولى للنيل ، وعادوا يتوهمون لأنفسهم الظفر بما لم يستطع غيرهم الوصول إليه.
وقال بلين: «إن منبع النيل آت من موريتاني
Mauritanie
الواقع شمال أفريقيا.» وقال سنيك: «إن منبعه يبتدئ في ضواحي مدينة بيلاق.» وقال المؤرخ لوكين: «إن منبع النيل الحقيقي لم يعرفه أحد في العالم.» ووافقه على ذلك المؤرخ أميان مرسليان، أحد علماء القرن السابع للمسيح، وإن منتهى ما وصلت إليه الاجتهادات وتجوال البعثات في رحلاتها أن منابعه آتية من بحيرات أفريقيا الوسطى، وكان قدماء الباحثين يضربون الأمثال بمعرفة منابع النيل في استحالة الوصول إلى غرض يرضي ويقنع الباحثين.
وقال المقريزي في وصف مصر: «إن النيل يظهر على الأرض بقرب وادي القمر، الواقع بقرب الاستواء.» وقال جرانفيل: «إن النيل فردوس أرضي.» ولا تزال هذه العقيدة عند قدماء النوبيين رغما عن توالي السنين وظهور الاكتشافات العلمية التي تحتم بمقتضاها أن يتحول الناس عن عقائدهم الأولى التي توارثوها في أجيال ماضية.
خطاب أحد رؤساء كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني بشأن منابع النيل
من المعلوم أن حقوق الاستعمار تحتم على القائمين به البحث في الأقاليم التي يحتلونها عن منابع ثروتها، ومصادر رغدها، وأساليب مجدها؛ ليتخذوا لهم في هذه المصادر سطوة فعالة؛ لتخضع النفوس إلى إرادتهم بدون أن يتجشموا في هذا الإخضاع معاناة شاقة؛ لأن الاستعانة بما يعد من ضروريات الطبيعة في ترويج الاستعمار من ضروب السياسة، التي يتفنن فيها مهرتهم لاجتذاب الشعوب وتسخيرهم، وعلى هذا المبدأ افتكر الرومان أن يتخذوا أساليب الاستعمار المعتادة مع الكهنة البارعين في عصر قدماء المصريين، وابتدءوا يخابرونهم عن مصادر النيل وينابيعه؛ ليستدرجوهم بعد ذلك إلى صيرورتهم في قبضتهم، وليبوحوا لهم بطرق الدهاء وأساليب السياسة عما استأثروا به علما؛ حتى يتوصلوا بذلك إلى السلطة الفعلية في هيمنة الأعمال وتسخير الظروف إلى ما يشاءون.
وقد جاء في أنشودة النيل ما يشير إلى أنه بطبيعته فيض سماوي، يحيي به الله الأرض بعد موتها، وأن ارتسام هذا المعنى في خيالات الكهنة مكنهم من اختراع الروايات والأقاصيص؛ ليحفظوا لأنفسهم مركز الاختصاص بالمعلومات الدقيقة، وليخلدوا لهيمنتهم على الشعب صفة أدبية أبدية.
وقد روى الكهنة للمؤرخ اليوناني هيردوت في القرن الخامس ق.م وليوليوس قيصر الروماني في القرن الأول ق.م أقاصيص نظمها الشاعر الروماني ليكين
Lucain
باللاتينية، وسردها بأسلوب خطاب بعثه رئيس كهنة قدماء المصريين إلى يوليوس قيصر الروماني، بشأن هذه الينابيع، ويحق لي التنويه بأني أول من وفق إلى ترجمته إلى اللغة العربية، وإليك فحواه بالاختصار:
أخطأ الأقدمون في تعبيرهم بأن النيل يزداد فيضانه عقب ذوبان الثلوج في جبال إثيوبيا؛ لأن سكان تلك الجهة من حرارة الشمس تبدو جلودهم سمراء، كما أخطأ الزاعمون بأن منابع الأنهار المتكونة من ثلوج يذيبها الحر وتزداد في أوائل فصل الخريف؛ لأن النيل لا تبتدئ زيادته قبل أن ترسل نجمة الشعرى اليمانية أشعتها إلى الأفق، وقبل أن يتساوى في ميزان الأفلاك زمن الليل والنهار.
فنواميس النيل ليست كنواميس بقية الأنهر، ولم يزدد فيضانه في الشتاء، فبعد ابتعاد الشمس عن درجات المقارنة الأفقية لها في فصل الصيف تتدفق المياه بنسبة تعويضه عن ذلك، وقد اختص النيل بلطافة حالة الجو، فهو يفيض في منتصف الصيف حينما تكون منطقة الأرض الحارة مانعة عن الحيلولة بتأثير القيظ، فيأتي النيل مساعدا للعالم في أرجاء واديه، وقد يتجه أمام وجه برج الأسد المتأجج بالحرارة، ويبادر بلدة سيين
Syéne
المحترقة ببروج السرطان، فلا ترتفع مياهه قبل نزول الشمس في الخريف، ويتسع الظل في بلدة مروى
Méroé ، «وهي بقرب شندى عاصمة المملكة المصرية بالسودان»، فلن يستطاع بيان السبب لسعة وأدوار فيضك أيها النيل؛ لأن القدرة الإلهية هي التي نظمته بقدر حاجة العالم إليك.
وأخطأ القدماء أيضا في نسبتهم زيادة الفيضان إلى هبوب الرياح في وقت طويل، تكون الأمطار فيه مجبورة على أن تجود بقطراتها على هذا النهر، وتدفعه بلا انقطاع إلى المنافذ الكبيرة التي تسيل على شواطئ البحر الأحمر، ولوجود حواجز أمامه تعوق سرعة انحداره، ويتدفق في الجداول والجهات التي تستفيد مزارعها وحقولها لوصول فيوضاته إليها.
ومن الخطأ أيضا التصديق بأقوال من زعموا أن فيض النيل ناتج عن قنوات مارة تحت الأرض ، أو ثقوب مفتحة الأفواه في حفر واسعة تنحدر إليها المياه في مسافات عميقة آتية من الجهات الباردة في الدب الأكبر، وسط قطب الدنيا، وإن حرارة الشمس لما تضعف عند بلدة مروى تجلب مياهها وتجذب النهرين الكانج والألب بمسالك خفية يقذف عندها النيل تدفقاته إلى هذه الأنهار في منبع واحد، ولكنها لا تستطيع السريان في هوته فيدمج الأرض حين يغمرها، وينتزع من بعض طبقاتها الأملاح الكامنة في طول مجراه.
وظن البعض أن الشمس والهواء يجتذبان الماء من المحيط، ولما تصل الشمس إلى المنطقة الحارة أمام برج السرطان ينشق المحيط، ويأخذ مياها أكثر من الجو، وهذه الزيادة تنقلها الأعاصير إلى النيل.
وأرجوك أيها القيصر أن تسمح لي بأن أشرح لك تحليلات هذه المسألة العويصة فأقول:
إن مياه النيل منذ بدء الخليقة تتسرب من عروق في الأرض، أوجدها الله لتكون مجراه الطبيعي، تسيره القدرة الإلهية بأنظمة وقوانين فوق مقدورات أمثالنا وأمثالكم، أتريد يا روماني معرفة منابع النيل، وقد اهتم قبلك بالبحث في موضوعها الملوك المصريون الجبابرة والعجم والمقدونيون منذ أجيال، ولم يتغلبوا على قوة الطبيعة في شيء؟ وأراد إسكندر ذو القرنين أكبر ملوك الأرض في عهده، والمعبود الأعلى في مدينة ممفيس معرفة منابع النيل، فأرسل بعثة في أواخر إثيوبيا، وهناك عاقتها حرارة الجو الملتهب، وذهب سيزوستريس إلى الغرب وإلى أقاصي الدنيا تجر الملوك عربته، وكان في استطاعته أن يشرب من منابع أنهاركم «كالرون والبو»، فإن ذلك أسهل عليه من أن يشرب من منابع النيل، ووصل كمبير الأحمق إلى الشرق بين الذين يعمرون طويلا، ولما غابت عنه المئونة ذبح رجاله والتهمهم بدون أن يعرف منابع النيل، ولم يستطع أحد في القصص والروايات الوصول إلى مقر منبعه، ولم تدخر الأمم وسعا في السعي إلى اكتشاف منابع النيل، وإني أدرك حكمة الآلهة الذين أرادوا صيانة مجراك أيها النيل، من أن يستطيع أحد الوصول إلى منتهاك البعيد المدى، فإنك تقوم وسط قطب العالم ناصبا شواطئك أمام برج السرطان المضطرب، فتسري إلى الجهات، وتراك فيها الشعوب القاصية والدانية ، وتبحث القاصية عن منبعك ثم تعود مقهورة إلى حقول إثيوبيا المرتوية من مياهك الغربية ويجهل العالم منبعك.
وقد أعطيت وحدك أيها النيل حق الامتياز لتسير من قطب لآخر، يبحث الناس في بداية مجراك ونهايتك، تتسع مياهك ثم تضيق لتحيط مروى، وسكانها قوم سود الوجوه يفتخرون بغاباتهم المملوءة بخشب الأبنوس الكثيرة الأوراق، ولا يوجد هناك ظل يخفف حدة الحر ما دام برج الأسد يرسل حرارته على خط مستو على وجه الأرض، فتمر في منطقة الشمس بدون أن تضيع شيئا من مائك، تدعو قريبا تحت طبقتك مياهك المقسمة إلى حدود قبائل العرب وأراضي ببلاق «فيلا» التي هي منتهى حدود مملكتك المصرية، وعند ميلك تخطط الصحراء بممر التجارة بين البحر الأحمر وجبال ليبيا.
أرتنا لجج النيل عندما تحتد، فيلاقي مجراها في مسيره عراقيل وشلالات سريعة تعترضها بعض الصخور في الصحراء، ولكن لم يوقف مياهك شيء، فحينئذ تلقي الزبد حتى الكواكب، وكل شيء يخشى اضطراب أمواجك، ويتذمر الجبل تحت بياضها احتراما؛ لأنك النهر الذي لا يقهر، وبعد ذلك تظهر الأرض المقدسة والصحراء المعروفة بشرايين النيل؛ لأنها تبشر بالفيضان في أوائله عقب أن أغلقت الطبيعة أبواب المجاري بمياهك المتشردة عن دخول بلاد ليبيا بحاجر الجبال في هذا الوادي العميق، الذي فيه يجد مجراك نظامه المألوف، ويتقدم بهدو وسكينة، ويبتدئ من مدينة ممفيس التي تسلم إليك حقولها وتفتح أبواب السهول والوديان، ولا يوجد على شواطئك حواجز تعتبر حدا لفيضانك.
بحث العالم القديم والحديث في منابع النيل
فوق المزايا العلمية والصناعية التي امتازت بها مصر في قرونها الأولى، قرون العظمة والإسعاد، والتفوق الباهر على سائر الأمم، خص الله هذا الإقليم بالنيل المبارك، وهو أكبر المنن الإلهية التي جعلت كافة مواهب البشر أمامها لا تكاد أن تكون شيئا مذكورا، فالنيل هو ينبوع الحياة ومهد الارتقاء ووسيلة الحياة الخالدة، ورغد العيش المزيد، فكلما أمعن الباحثون فكرتهم فيما تقله أرض مصر من العجائب الصناعية، والهياكل والآثار والمباني التي قاومت العصور ظاهرة فوق بعض المواطن، وتحت بطون الأرض في غيرها، يرتد إليهم طرف مجهوداتهم الفكرية حائرا ذاهلا، كلما رأى النيل يتماوج بأعاجيب المناظر ويتدفق في مجاريه بأوفر الخيرات على بلاد أسعدتها الطبيعة بأن يفيض عليها من كنوزه وخيراته ما جعلها تمتاز بسعة الخصب وقوة النماء، وأن أهاليها كلما جدوا في الأعمال الزراعية جادت عليهم بأضعاف ما كانوا يتمنون في مبادئ أعمالهم، فينشطون على الدوام إلى التوسع في استخدامها بقدر ما تشجعهم عليه سعة الآمال، فلا تضن الأرض بما استودعت من المزايا، ولا تكل السواعد ولا الهمم عن اجتناء أطيب الثمرات، وإحراز الأرباح الوافرة، وهكذا كان المصري وبلاده في دور نشأته الأولى وسعادتها الماضية كل على صاحبه يجود بأقصى المنح، فتجدد للأراضي زيناتها النباتية، وتتنوع لأقوام الشعب موارد ثروتهم المالية.
كانت مصر بهذا الاعتبار مصدرا للمعجزات العقلية؛ لأن خصائصها الشهيرة ومميزاتها المدهشة لم تجتمع في غيرها من الأقاليم، وكفى أن منابع النيل وأدوار فيضه وتطورات انتقاصه، واستمرار مجاريه على حالة لا تعوقها الرواسب ولا كميات الرمال التي تذروها الرياح في المناطق، قد جعلت ألباب الباحثين حيارى، وطالما عاق الأقدمين الوصول إلى حل مسائله العويصة، ولكنهم وقفوا أمام أقاويل وآراء كل فريق يدلي فيها بحجته التي يؤيد بها رأيه على رأي مناظريه، وامتدت بالقوم العصور الغابرة بدون أن يصلوا في هذه النقط إلى تمحيص نهائي يرفع النقاب ويزيل الشكوك.
وروي في عصر فايتون الخرافي رواية أشبه إلى الخيال منها إلى الحقيقية؛ إذ قيل فيها: إن النيل كأنه لما رأى قرب الشمس من الأرض خشي من احتراقه بلهيبها، فأخفى رأسه في آخر الكرة الأرضية، وإلى القرن السابع عشر ق.م لم تصل مباحث المؤرخين إلى رأي سديد في حقيقة ومبادئ منابعه.
وقد أفرغ الفراعنة مثل سيزوستريس «رعمسيس الثاني» وغيرهم جهدا كبيرا من عنايتهم؛ للوقوف على حقيقة الينابيع فما استطاعوا، ولما قدم إلى مصر هيردوت وابتدأ مباحثه عن الينابيع لم يرشده أحد، وذكر أن بسامتيك أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين ألف بعثة مكونة من 240000 رجل، وأمدها بكل ما تحتاجه لتسهيل العقبات في مسيرها ، والوسائل الصناعية الأخرى في نقل الأحمال والمؤن، والوسائل الدفاعية إذا صادفها شيء من ذلك، وترتيب وصول المعلومات منها إليه عن الأقاليم التي تجتازها، والمناظر التي اهتدت إليها، وعجائب الأودية والقبائل، وأمدها بسعة الإغداق والمعونات الكبرى؛ لتتغلب بالبذخ والسخاء والمعدات الكثيرة على إنجاح مأموريتها، فقضت فيها بعض السنين وعادت من حيث أتت، ولم تدون غير اكتشافات جغرافية عن بعض المواقع في تلك المجاهل، ثم استحكمت هذه الفكرة لدى إسكندر المقدوني وكمبيز، ورتب كل منهم في عهده رحلة خاصة وأمدها بأساليب أقرب في الوصول إلى الغاية المطلوبة، وأسهل منالا في الاستكشافات والتوسع في المعلومات، فعادت كباقي البعثات الماضية راضية من الغنيمة بالإياب.
وفي القرن الثالث ق.م في عهد بطليموس إفرجت
Evergète
تكلم المؤرخون عن منابع النيل، فكانت آراؤهم متطابقة مع المعنى الذي أورده الشاعر الروماني في كتابه المعروف بالفرساي
Versailles ، على لسان يوليوس قيصر، أن النيل يخفي رأسه عن الأنظار كحسناء لا تبرح عن دلالها مهما أطال إليها المشوق الضراعة والاستعطاف، فالنيل يستمر في مجاريه فياضا متدفقا، بينما أفكار الباحثين تكد وتجهد وتعود بالملل والضعف.
وفي القرن الأول ق.م أبدى «جوبا» ملك «موريتانيا» رأيه عن منابع النيل، وتبعه فيه بلين وميلا والمؤرخ ديون كاسييس، وهو أن منابع النيل القاصية لتعمقها تحت الصخور والتجاويف العميقة بتلك الأودية والوهاد، لا يستطيع أفراد البعثات التي تنتدب من أجله خوض غمار تلك المياه، وفي هذه المنابع الفجوات التي تتفاوت بين الضيق والسعة، والمنعطفات الطويلة إلا إذا تطوعت بحياتها للخطر الذي لا يحتمل معه عود بعض أفرادها؛ لينبئ الباقين عما رأت عيناه ووعته ذاكرته من هذه المناظر وعجائب تكوينها.
وقال بطليموس الجغرافي، المولود في القرن الثاني ب.م: إن منابع النيل تلتقي في بحيرتين كبيرتين بأنحاء خط الاستواء، ولا يستطيع الغرباء التجول إلى ما وراءها؛ لأن الأذهان ممتلئة بالروايات المنفرة عن وجود الوحوش والحيوانات الضارية، التي تفتك بكل من أراد المسير في غاباتها أو مغاورها.
جاء العرب بعد اليونان خلفاء لهم في الاستعمار، وحكموا مصر واستولوا على بلاد النوبة وغيرها من البلاد المجاورة لمنابع النيل، وأحكموا صلاتهم التجارية والسياسية مع السودان وشعوب أفريقيا الجنوبية، واتخذوا هذه التمهيدات وسيلة لوصولهم إلى ما عجز عنه أسلافهم في تلك الأقاليم المجهولة.
ومن مشاهير العرب الأجلاء، الذين صرفوا وقتا مديدا وعزما صادقا في الوقوف على معلومات صحيحة بشأن منابع النيل، الإمام الشهير أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي، نسبة إلى منوف، في نهاية القرن التاسع الهجري، وكان إماما في العلوم الإسلامية وتواريخ الأمم، احترمه كثير من العلماء وأئمة البحث وعظماء الشعوب، ونقلوا عنه في مؤلفاتهم، وكان يثبت لتلامذته أن العلم الصحيح والتقوى توأمان، فمن لم يزدد عقله بقوة الإيمان الذي هو فوق نواميس الطبيعة يكون دائما في تردد الحيرة والضلال، دون هذا المؤلف الشهير كتابا عنوانه: «الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد»، وتوجد منه الآن نسختان خطيتان إحداهما في دار كتب مرسيليا، والثانية في دار الكتب المصرية بالقاهرة، تكلم فيه عن منابع النيل وأصله واستمداده وطوله وعرضه، وتضمن أبحاثا وافية فلخص منها ما أورده من الفوائد في الباب الأول «في فصل رأي العرب في منابع النيل».
ثم جاء نابليون مصر مع بعثة علمية بحثت في أحوال البلاد وأمورها، ودونت عنها مؤلفات كثيرة، ولكنها لم توفق للبحث عن منابع النيل.
وفي سنة 1819 أرسل محمد علي باشا بعثته العلمية الشهيرة، يرأسها جالياردو المهندس الفرنسي، فسافر إلى الخرطوم وقال في مذكرته: «إن منابع النيل تبتدئ من جبال القمر.»
وفي سنة 1856 توسع في الاستكشاف كل من الباحث برتون وبيك.
خريطة وادي النيل لبطليموس نقلا عن الخوارزمي.
وبيكر إلى ما خلف بحيرتي «فكتوريا والبيرنيانزا»، وتحقق أخيرا أنهما أهم المنابع التي يتكون منها النيل، وقد ساعدت الاكتشافات الأخيرة رجال أوربا على التجول في أواسط أفريقيا، واستطاعوا الوصول إلى قول عززوه ببراهين الاكتشافات والرحلات المتوالية في هذه الأقطار، وكلل النجاح سعيهم، وكانوا مصداقا للمثل القائل بأن من لازم السير في الدرب وصل إلى مرحلة النجاح، «كما سيأتي بيانه تفصيلا.»
رأي العرب في منابع النيل
وفاء بما أجملناه في هذا البحث نثبت هنا ما جاء في كتاب «الفيض الجديد في أخبار النيل السعيد»، تأليف الشيخ العالم أحمد بن محمد بن عبد السلام المنوفي، في ذكر منابع النيل، الذي هو من أكبر الثقات في المباحث العلمية.
ذكر المؤرخون في أصل منبعه من مبتداه إلى منتهاه أقوالا، فقال أكثرهم ومنهم الحافظ ابن كثير في تاريخه الكبير: إن مبتداه من الجبل القمر، «بضم القاف وسكون الميم»؛ أي البيض، ومنهم من يقول: «جبال القمر» «أي بفتح القاف»، بالإضافة إلى الكوكب، وهي غربي الأرض وراء خط الاستواء في الجانب الجنوبي، ويقال: إنها صخور تنبع من بينها عيون، ثم تجتمع من عشرة مسيلات متباعدة، ثم تجتمع كل خمسة منها في بحيرة، ثم يخرج منها أنهار ستة، ثم تجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد وهو النيل، فيمر على بلاد السودان بالحبشة،
1
ثم على النوبة ومدينتها العظمى دنقلة، ثم أعلى أسوان، ثم تظهر على ديار مصر، ويحمل إليها من زيادات أمطارها، ويجرف من ترابها، وهي محتاجة إليها معا؛ لأن مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها، وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجيء النيل بزياداته وطينه، فينبت فيها ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأرض دخولا في قوله تعالى:
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ، ثم يجاوز النيل مصر قليلا، فيفترق فرقتين عند قرية على شاطئيه يقال لها: شطنوف، وهي من عمل القليوبية، فيمر الغربي منه على رشيد ويصب في البحر الملح، وأما الشرقي فيفترق أيضا عند جوجر فرقتين، يمر الغربي منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر الملح، والشرقي منهما يمر على أشمون طناح فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط يقال لها بحيرة تنيس وبحيرة دمياط،
2
وهذا بعد بعد عظيم من ابتدائه إلى انتهائه؛ ولهذا كان ألطف المياه.
وقال ابن القيم في كتاب الهدى: «النيل أحد أركان الجنة، أصله من وراء جبال القمر في أقصى بلاد الحبشة من أمطار تجتمع هناك وسيول يجر بعضها بعضا، فيسوقه الله تعالى إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها، فيخرج به زرعا تأكل منه الأنعام والأنام، ولما كانت الأرض التي يسوقه سبحانه إليها إبليزا صلبة، إن أمطرت مطر العادة لم ترو ولم تتهيأ للنبات، وإن أمطرت فوق العادة أضرت الناس والمساكن، وعطلت المعائش والمصالح، فأمطر سبحانه البلاد لعبيده، ثم ساق تلك الأمطار إلى هذه الأرض في نهر عظيم، وجعل سبحانه زيادته في أوقات معلومة على قدر ري البلاد وكفايتها، فإذا روى البلاد وغمرها أذن سبحانه بتناقصه وهبوطه لتتم المصلحة بالتمكن من الزرع.»
وقال قدامة: «إن منبع النيل في بلاد القمر وراء خط الاستواء من عين تجري منها عشرة أنهار، كل خمسة منها تصب في بطيحة في الإقليم الأول، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.»
وقال صاحب كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: «إن هذه البحيرة تسمى بحيرة كوري
3
منسوبة إلى طائفة من السودان، يسكنون حولها متوحشين، يأكلون من وقع إليهم من الناس، ومن هذه البحيرة يخرج نهر النيل، وإذا خرج النيل منها يشق بلاد كوري،
4
ثم بلاد قنة، طائفة من السودان أيضا وهم بين كانم
5
والنوبة، ثم يغوص في الرمال ويمر تحت الأرض مكتوما من الجنوب إلى الشمال، ثم يظهر ببلاد النوبة، فإذا بلغ مدينة دنقلة عطف من غربيها إلى المغرب، وانحدر إلى الإقليم الثاني، فيكون على شاطئيه عمائر النوبة، وفيه جزاير لهم متسعة عامرة بالمدن والقرى، ثم يشرق إلى الجنادل وإليها تنتهي مراكب النوبة انحدارا، ومراكب الصعيد الأعلى صعودا، وهناك أحجار لا تمر المراكب عليها إلا في أيام زيادة النيل، ثم يأخذ إلى الشمال فيكون على شرقيه مدينة أسوان من بلاد الصعيد الأعلى، ثم يمر بين جبلين هما مكتنفان لأعمال مصر أحدهما شرقي والآخر غربي، حتى يأتي مدينة مصر، وهي الفسطاط الذي بناه عمرو بن العاص، فيكون على شرقيه، فإذا جاوزها انقسم كما تقدم.» قلت: أي في قوله: فيفترق فرقتين عند قرية على شاطئيه يقال لها شطنوف إلى آخر ما ذكره.
قال صاحب الأقاليم السبعة : «إن النيل يخرج أصله من جبل القمر من عشرة عيون، خمسة تجتمع في بطيحة وخمسة في بطيحة؛ أي مكان منبطح من الأرض، ثم يجتمع بعد ذلك الماءان، وذكر صورة جبل القمر، وأنه مقدس وعلى رأسه شراريف «شرفات عالية».»
حكى ذلك عنه الشيخ العلامة شهاب الدين بن عماد رحمه الله تعالى في جزئه الذي جمعه في النيل، وهو جزء لطيف جدا، وحكى فيه عن المسعودي أنه قال في كتابه «مروج الذهب»: «وأصل النيل ومنبعه من تحت جبل القمر، ومبدأ ظهوره من اثني عشر عينا، وجبل القمر خلف خط الاستواء، يعني الذي يستوي فيه الليل والنهار، وأضيف إلى القمر؛ لأنه يظهر تأثيره فيه عند زيادته ونقصانه، بسبب النور والظلمة والبدو والمحاق.»
قال المسعودي: «فتنصب تلك المياه الخارجة من الاثني عشر عينا إلى بحيرتين هناك.» وهو معنى كلام صاحب الأقاليم في بطيحة.
قال: «ثم يجتمع الماء منها جاريا، فيمر برمال هناك وجبال، ثم يخترق أرض السودان مما يلي بلاد الزنج، فينبع منه خليج ينتهي إلى بحر الزنج.»
6
انتهى ما أردته منه.
وممن قال بأنه ينبع من جبال القمر السرج الكندي، كما نقله عنه ابن عماد في جزئه المذكور، فظهر بذلك أن أكثر المؤرخين على هذا القول، كما أشار إليه صاحب الأصل بقوله فيما تقدم: «ذكر غير واحد من المؤرخين.»
وقال صاحب السكردان: «وفي أصل النيل أقوال للناس، حتى ذهب بعضهم إلى أن مجراه من جبال الثلج، وهو بجبل «ق»، وأنه يخرق البحر الأخضر
7
بقدرة الله تعالى، ويمر على معادن الذهب والياقوت والزمرد والمرجان، فيسير ما شاء الله إلى أن يأتي بحيرة الزنج.»
قال الحاكي لهذا القول: ولولا ذلك، يعني دخوله في البحر الملح وما يختلط به منه، لما كان يستطاع أن يشرب منه لشدة حلاوته.
وقال قوم: مبدؤه من خلف خط الاستواء بإحدى عشرة درجة. وقال قوم: مبدؤه من جبال القمر، وأنه ينبع من اثني عشر عينا. انتهى ما أردته منه.
وقال ابن عماد في جزئه المذكور: «وذكر بعضهم أن سائر مياه الأرض وأنهارها يخرج أصلها من تحت الصخرة
8
بالأرض المقدسة، والعلم عند الله تعالى.» انتهى. ولم يبين قائل ذلك، وقد بينه في موضع آخر من جزئه المذكور، فقال: «وذكر الثعالبي في قصص الأنبياء أن جميع مياه الأرض يخرج أصلها من تحت الصخرة. انتهى.» ويدخل في إطلاق هذا القول النيل وغيره.
وذكر ابن عماد في جزئه المذكور، عند كلامه في الاستدلال على أفضلية النيل على غيره من الأنهار، أن النيل يخوض في البحر الملح ولا يختلط به، بل يجري تحته متميزا عنه، كالزيت مع الماء، قال: «ولهذا يظهر لركاب البحر في بعض النواحي فيستقون منه للشرب، وذلك في أماكن معروفة.» انتهى.
ورأيت في مناقب إمامنا الإمام الأعظم والحبر المحترم الشافعي رضي الله عنه لأبي القاسم بن غانم المقدسي حكاية عنه، تدل على أن النيل يمر ببلاد الهند، وسيأتي كلامه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وكان ابن طولون قد سأل شيخا كبيرا من علماء القبط، عمره مائة وثلاثون سنة، عن أشياء في أحوال مصر: أين منتهى النيل في أعلاه؟ فقال: البحيرة التي لا يدرك طولها وعرضها، وهي نحو الأرض التي الليل فيها والنهار متساويان طول الدهر، وهي تحت الموضع الذي يسمى عند المنجمين الفلك المستقيم. قال: وما ذكرت فمعروف غير منكور. قلت: قد اختصر صاحب الأصل هذه الحكاية، وقد نقلها الشهاب بن عماد في جزئه المذكور عن المسعودي، فقال:
قال المسعودي: وكان أحمد بن طولون في سنة نيف وستين ومائتين بلغه أن رجلا بأعلى مصر من الصعيد له ثلاثون ومائة سنة من الأقباط، ممن يشار إليهم بالعلم، وأنه علامة بمصر وأرضها في برها وبحرها وأجنادها وأجناد ملكها، وأنه ممن سافر الأرض وتوسط الممالك، وشاهد الأمم في أنواع البيضان والسودان، وأنه ذو معرفة بأنواع هيئات الأفلاك وأحكامها، فبعث إليه أحمد وأخلى له نفسه ليالي وأياما كثيرة، يسمع كلامه وإيراده وجواباته، فكان فيما سأله عن طول الأحباش على النيل وممالكهم، قال: لقيت من ملوكهم ستين ملكا في ممالك مختلفة، كل منهم ينازع من يليه من الملوك، وبلادهم حارة يابسة. قال: فما منتهى النيل في أعلاه؟ فقال: البحيرة. إلى آخر ما ذكره عنه صاحب الأصل، والله أعلم.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الأسواني، في كتاب أخبار النوبة من أخبار النيل: «وما شاهدت منه ومن تشعبه وتقسيمه على سبعة أبحر، من بدء علوه واجتماعه ببلدة مقره وتعطفه تعطفا عجيبا قبلي مدينتهم وافتراشه، وأنه يجري بحري دنقلة حتى يكون ما بين شرقيه وغربيه نحو أربعين فرسخا، ويتضايق بعد ذلك حتى يكون عرضه دون الخمسين ذراعا، وتكون الجنادل معترضة في غير موضع منه حتى يكون انصبابه في بابين أو ثلاثة أبواب.»
قال: «وقلعة أصفون أول الجنادل الثلاثة، وهي أشد الجنادل صعوبة؛ لأن فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما يرجع إلى بابين عند انحداره شديد الخرير عجيب المنظر، لاندفاق الماء من علو الجبل، وقبليه مرسى حجارة في النقل نحو ثلاثة أبرد إلى قرية تعوق بيسير، وهي آخر قرى ميرس وأول بلاد مقره.»
قال أبو محمد عبد الله بن محمد الأسواني في كتاب أخبار النوبة، عند ذكر ناحية يقرن ما نصه:
وما رأيت على النيل ناحية أوسع منها، وقدرت أن سعة النيل فيها من المشرق إلى المغرب مسيرة خمس مراحل،
9
الجزاير تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أراض منخفضة وقرى وعمائر حسنة. انتهى.
قلت: وطريق الجمع بين هذا وبين ما تقدم نقله عن صاحب خزانة التاريخ أن عرضه مختلف بحسب بلاد النوبة أيضا، ففي بعضها كما قاله صاحب خزانة التاريخ، أعني ثلاثة أميال فما دونها، وفي بعضها كما قاله الأسواني، أعني خمس مراحل، وهذا جمع حسن، ولا مانع من ذلك؛ لأن سبيله المشاهدة، والله أعلم.
قالوا: ومن وراء مخرج النيل الظلمة.
10
قال أبو الخطاب: وخلف الظلمة ضياء، فسبحان العليم القدير. وفي تاريخ ملوك مصر أن الوليد
11
أحد ملوك مصر من العمالقة، كان يعبد القمر، وهو أول من تسمى فرعون، وأقام بمصر مدة، ثم عن له أن ينظر مخرج النيل ويعرف من بتلك الناحية من الأمم، فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك، ثم جمع جميع ما يحتاج إليه، واستخلف على مصر عونا، وتوجه، فمر على أمم السودان، ومر في طريقه على أرض الذهب،
12
وفيها أمة عظيمة ينبت الذهب في تلك الأرض كالقضبان، ثم سار حتى بلغ البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل من الأنهار التي تخرج من جبل القمر وراء القصر الذي عمله هرمس،
13
وصعد على جبل القمر وراء البحر الزفتي الأسود، ورأى النيل يجري عليه كالأنهار الرقاق، وأتاه من ذلك البحر روائح منتنة هلك بسببها كثير من أصحابه، وذكروا أنهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر مثل نور الشمس، ثم توجه راجعا إلى مصر وأقام بها مدة، ثم ركب يوما إلى الصيد فظفر به أسد فقتله، ودفن في بعض الأهرام، وملك بعده الريان؛ وهو فرعون يوسف عليه السلام.
قال الشيخ عماد الدين بن كثير في تاريخه الكبير: «وأما ما يذكره بعضهم من أن منبع النيل من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولا عظيما وجواري حسانا وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على هذا لم يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين وهذيانات الأفاكين.»
قلت: هذا الذي قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله، لعله أشار به إلى ما حكاه ابن زولاق في تاريخه عن بعض خلفاء مصر، أنه أمر قوما بالمسير إلى حيث يجري النيل، فساروا حتى انتهوا إلى جبل عال، والماء ينزل من أعلاه، له دوي وهدير لا يكاد يسمع أحدهم صاحبه، ثم إن أحدهم تسبب في الصعود إلى أعلى الجبل؛ لينظر ما وراء ذلك، فلما وصل إلى أعلاه رقص وصفق وضحك، ثم مضى في الجبل ولم يعد، ولم يعلم أصحابه ما شأنه، ثم إن رجلا منهم صعد؛ لينظر ففعل مثل الأول فطلع ثالث، وقال: اربطوا في وسطي حبلا، فإذا أنا وصلت إلى ما وصلا إليه، ثم فعلت ذلك فاجذبوني حتى لا أبرح من موضعي، ففعلوا ذلك، فلما صار في أعلى الجبل فعل كفعلهم فجذبوه إليهم، فقيل إنه خرس فلم يرد جوابا، فمات من ساعته، فرجع القوم ولم يعلموا غير ذلك. انتهى.
قال: وقلعة أصفون أول الجنادل الثلاثة، وهي أشد الجنادل صعوبة؛ لأن فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب في النيل، والماء ينصب من ثلاثة أبواب، وربما يرجع إلى بابين عند انحساره، شديد الخرير عجيب المنظر لاندفاق الماء عليه من علو الجبل، وقبليه فرش حجارة في النيل نحو ثلاثة أبرد إلى قرية تعرف بيسير، وهي آخر قرى مرسين وأول بلاد مقره.
قال: وأما هذه الأنهار التي مادة النيل منها، والبحث عن ابتدائها والسؤال عن أوائلها، فقد أكثرت السؤال عنها من قوم عن قوم، فما وجدت مخبرا يقول إنه وقف على نهاية جميع الأنهار، والذي انتهى إليه علم من عرفني عن آخرين إلى خراب، وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار آلة المراكب وأبواب وغير ذلك، فيدل ذلك على عمارة بعد الخراب.
وقال الوطواط الكتبي في كتاب مباهج الفكر: «إن طول مسافته ثلاثة آلاف فرسخ ونيف.» وقيل: إنه يجري في الخراب أربعة أشهر، وفي بلاد السودان شهرين، وفي بلاد الإسلام شهرا. قلت: هذا القول موافق لما جزم به ابن زولاق في تاريخه.
وذكر صاحب درر التيجان أن من ابتدائه إلى انتهائه اثنين وأربعين درجة وثلثي درجة، كل درجة ستون ميلا، فيكون طوله ثمانية آلاف وستمائة وأربعة وعشرين ميلا وثلثي ميل، على الفصل والاستواء، وله تعويجات شرقا وغربا فيطول ويزيد على ما ذكرناه. وقال صاحب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: «وبين طرفي النيل مما ثبت في الكتب خمسة آلاف وستمائة ميل وثلاثون ميلا.»
وذكر صاحب خزانة التاريخ أن «طوله أربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وسبعون ميلا، وعرضه في بلاد الحبشة والنوبة ثلاثة أميال فما دونها، وعرضه ببلد مصر ثلثا ميل، ليس يشبهه نهر من الأنهار.» وفي تاريخ ابن زولاق: «ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل؛ يسير مسيرة شهر في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة، إلى أن يخرج من جبال القمر خلف خط الاستواء.» قلت: ما حكاه صاحب الأصل في تاريخ ابن زولاق ادعى أبو قبيل الإجماع عليه، ولفظه كما حكاه ابن عماد في جزئه المذكور ما نصه: «وأجمع أهل العلم على أنه ليس في الدنيا نهر أطول مدى من النيل؛ يسير مسيرة شهر في الإسلام ...» إلى آخر ما تقدم ذكره، وزاد فقال: «وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الروم والصين غير نيل مصر.» انتهى والله أعلم.
أسماء النيل من النصوص المصرية القديمة
كان قدماء المصريين يعتقدون أن النيل الذي تروى منه الأقاليم القبلية نيلا خاصا، وأطلقوا عليه «حعب رسيت»، ويقولون إنه لولاه لما استطاع النيل المخصص لري الوجه البحري إيفاء الحاجة لأقاليمه، وحددوا النيل القبلي «كاعتقادهم» بأنه يبتدئ من جزيرة أسوان، والنيل الخاص بالوجه البحري دعوه «حعب محيت»، وقالوا: إن ابتداءه من منطقة الدلتا المعروفة قديما باسم بابيلون التابعة لإقليم هليوبوليس، وقد نقش في معبد بيلاق النص الآتي: «إن نيل الوجه القبلي أبو الآلهة الخارج من مغارته «جزيرة أسوان»، ونيل الوجه البحري الخارج من خزانته.»
ولما قدم لمصر هيردوت؛ لمباحثه عن النيل، وحادث في شأنه الكهنة الصاويين حاولوا إقناعه بعقيدتهم هذه، ولكن أظهرت المباحث الجغرافية والحديثة أنها لا تطابق الصواب.
وكانوا يرسمون نيل الوجه البحري على شكل رجل في ريعان الشباب، ضخم الجسم ثقيل الكتفين كبير الثديين، متشح برداء عليه أثمار النيل في بلاد الوجه القبلي ولونها أزرق، ويرسمون تمثال النيل للوجه القبلي على شكل رجل متشح برداء فوقه أثمار النيل الممثلة ببلاد الوجه البحري، ولونها أحمر.
وكانوا يطلقون على النيل أسماء كثيرة، جعلوا منها اسما مقدسا له وهو حعبي، ونقش على حجر كانوب المحفوظ الآن بالمتحف المصري في القاعة حرف
T
تحت رقم 980، وتحته العبارة الآتية: «إن النيل حعبي نقص نقصا عظيما في عهد الملك بطليموس.»
والعامة كانوا يطلقون عليه اسم آيور، وقال بروكش باشا في قاموسه الجغرافي: إن كلمة آيور هذه مشتقة من كلمة «أور» المنقوشة على مسلة إسكندر ذي القرنين ، وجاءت في اللغة القبطية باللفظ ذاته يور
Your ؛ أي النهر، وترجمت التوراة في عهد أحد الملوك البطالسة، وذكر في سفر الخروج اسم النيل بلفظ آيور، الذي يشبه في النطق الاسم المصري القديم، وقد ورد اسم نيل الوجه البحري بلفظ «وعر».
وقال بروكش باشا: إن كلمة «وعر» معناها باللغة المصرية القديمة المياه الغزيرة في وقت الفيضان، وقال لباج رينوف: إنه ورد النيل باسم عرتي، وإن هذا الاسم يشبه كثيرا الفعل «أر» الذي معناه باللغة المصرية القديمة صعد.
وبعضهم أعطى للنيل من الجانب الغربي للقاهرة اسم «أيوما» أي اليم-البحر، وورد هذا الاسم في قصة شهيرة «تدعى قصة الأخوين»، مكتوبة باللغة المصرية القديمة، وفيها كثيرا ما أطلق على النيل هذا الاسم «اسم البحر» حتى اليوم.
واسمه الأصلي مجهول، وقيل: إنه مأخوذ من اللغة اليونانية التي نقلنها من الشعوب الأجنبية، كالفنيقيين وقبائل ليبيا وآسيا الصغرى.
ولما بطلت عبادة النيل زال اسمه المقدس «حعبي»، وأطلقوا عليه لفظ البحر أو النهر، وجاء في قرار ممفيس المنقوش بالديموطيقية «لغة الشعب» أن النيل كان فيضانه منخفضا في السنة الثامنة من حكم الملك بطليموس أبيفان، وذكر فيه النيل بالديموطيقية بلفظ «إل» أي النهر.
وجاء في ورقة بردية تتضمن علوم المعبودين فتاح وتحوت تسمية النيل بهذا اللفظ أيضا، وورد في مسلة منقوشة بالخط الفارسي أن دارييس أمر بحفر قناة من النيل وعبر عن اسمه بالفارسية «ب-أر-ع ا»
، فالباء أداة التعريف للمذكر المفرد بالهيروغليفية و«أر» يطابق «إل» بالديموطيقية
II-ir ، ومعناه النهر، و«ع ا» ومعناه كبير؛ أي النهر الكبير؛ أي النيل، ووردت الباء أداة للتعريف للمذكر المفرد في كلمة «يوم»؛ أي بحر فصارت «بيوم»، والباء تقلب فاء فصارت «فيوم»؛ أي مدينة الفيوم، ومعناها البحر، وكذلك التاء فإنها أداة التعريف للمؤنث المفرد في كلمة «مير» التي معناها فيضان النيل، وبالقبطية ميرة فصارت بالعربية العامية «دميرة»؛ أي فيضان النيل.
وذكر في قصة ستنا المكتوبة بالديموطيقية اسم النيل «ن-إل» ومعناه النهر، فالنون أداة التعريف للجمع المذكر و«إل» معناه النهر.
ويلاحظ أن اسم النيل عند قدماء المصريين يدعى «أر» أو «إل»، واشتق منه الديموطيقي بلفظ «إل» وكذلك القبطية، ولكن هؤلاء استعملوا الكلمة الديموطيقية «ن-إل-و»، فالنون أداة التعريف للجمع المذكر كما تقدم، و«إل» معناه النهر و«و» علامة للجمع، ومن كلمة نيلو اشتقت الكلمة اليونانية
Neilos ، أما الصاد في «نيلوص» فيطابق الحرف السادس عشر من الأبجدية اليونانية.
وليلاحظ القارئ النظرية الآتية القديمة العهد الغريبة في كلمة نيلوص
Neilos ، التي ربما كانت من اختراع اليونان أنفسهم، وأن عدد أيام السنة المصرية 365، ومن الغريب إذا حسبنا كل حرف من كلمة نيلوص بحساب الجمل اليوناني، صار مجموعها الكلي 365، وهو مجموع أيام السنة المصرية، وإليك جدولا يتضمن هذا الحساب:
حروف نيلوص
Neilos
حسب الأبجدية اليونانية.
عدد الجمل
المجموع
365
50
N
365 − 50 الباقي 315
5
E
315 − 5 الباقي 310
10
T
310 − 10 الباقي 300
30
L
300 − 30 الباقي 270
70
O
270 − 70 الباقي 200
200
S
إن مجموع الأعداد المذكورة 365 «5 + 6 + 3 = 14»، وهذا العدد هو الحرف الرابع عشر من الأبجدية؛ أي النون، والعدد الجملي 50 كما تقدم.
وهنا للنقد مجال؛ إذ من المبادئ المتبعة أن الكلمة تشتق من مأخذ واحد، فكيف يكون اسم نيلوص مأخوذا من اللغة السامية العبرية «نهر»، ومن اللغة المصرية القديمة «ن-إل-و»، أو من اسم مخترع مركب من الأعداد 365، ومن السهل معرفة نتيجة شيء واحد وإن كانت أسبابه كثيرة، فمن الممكن أن يكون اليونان قد سمعوا من الساميين لفظة نهر عن النيل، وتعلموا من المصريين أن فروع النيل التي تمر بالدلتا تسمى «ن-إل-و»؛ أي الأنهر، ولكن من الصعب فهم أسباب كلمة نيلوص، وهو 365 الموافق تماما لعدد أيام السنة المصرية.
وقيل: إن لفظ النيل كلمة عربية مشتقة من نال، فإن النيل نوال من السماء، وإن الهنود نقلوا اسم النيل إلى بلادهم ومنها النيلة «الصبغة» كما نقله قبلهم العجم والعرب إلى لغاتهم.
وجاء في تأليف الفيلسوف أراتوستين
Aratosthène
1
أن أحد الملوك كان يسمى نيلوص، ومن اسمه أخذ اسم النيل.
وقال بلين المؤرخ الروماني: إن النيل يخرج من بحيرة تدعى نيلوص؛ وأعطى هذا الاسم للنيل نفسه.
فيتضح مما تقدم أن كلمة نيل لم تجتمع آراء المؤرخين على حقيقة مأخذها ، بل تشعبت الآراء كما علمت، والذي أراه أن الأقرب هو أن النيل أخذ من لفظة نيلوص اليونانية المأخوذة من الكلمة الديموطيقية «ن-إل-و» أي الأنهر كما تقدم.
سيحور
لم يكن سيحور اسما للنيل كله عند قدماء المصريين كأتور وغيره، بل كان اسما لجزء منه، وهو الجزء الواقع في الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري الذي كانت قاعدته مدينة ذور، كما يستفاد ذلك مما وجد منقوشا على جدران معبد إدفو باللغة المصرية القديمة، فقد نصت هذه النقوش على أن هذا الاسم «شيحور» كان علما على جزء من أجزاء النيل، في الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري، ثم توسعوا في استعماله فأطلقوه على النيل كله، من باب إطلاق الجزء على الكل كما يسميه علماء البلاغة «بالمجاز المرسل»، ولهذا الإطلاق نظائر في جميع اللغات.
ويؤيد هذا أن شيحور «بالشين المعجمة» كلمة مصرية قديمة مركبة من كلمتين؛ الأولى «شي» ومعناها بحيرة، والثانية «حور» ومعناها المعبود، وكان يطلق عليه حور أو هور أو حورس أو هورس، وهو إله هذا الإقليم الرابع عشر بالوجه البحري المذكور، وكان رمزا للشمس التي هي أكبر الآلهة عندهم، فمعنى شيحور إذن؛ بحيرة حور؛ أي بحيرة الإله المسمى بهذا الاسم.
ومما ورد في رواية مصرية قديمة «أن النيل يبتدئ من جزيرة أسوان، ويمتد إلى شيحور»، فيؤخذ من ذلك أن شيحور هو الجزء الأخير من النيل، ويمكننا أن نقول أيضا: إن شيحور آخر الحدود المصرية القديمة.
ثم لما أتى الإسرائيليون أرض مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة، واختلطوا بالمصريين سرت إليهم كلمات كثيرة من اللغة المصرية القديمة وامتزجت بلغتهم العبرية، ولذلك وردت بمعنى أسود وأطلقوها على النيل؛ للدلالة على مياهه المكدرة «بفتح الدال المشددة»، وطميه «الطينة السوداء» الذي يتركه وقت فيضانه.
وجاءت أيضا كلمة شيحور في التوراة في سفري أرميا وأشعيا، ويفهم من كلامهما أن المراد بها النيل أو جزء منه.
وقد نطق بها «الزبور»، فإنه جاء فيه أنه «لما أراد سيدنا داود نقل تابوت العهد إلى مدينة أورشليم جمع الإسرائيليين المقيمين في البلاد، من شيحور الواقعة في الجنوب حتى «أماث» الواقعة في الشمال.» ويفهم من عبارة الزبور أن شيحور كانت الحد الفاصل بين الأراضي المصرية وأملاك بني إسرائيل.
وفي سنة 283ق.م ترجمت التوراة من العبرية إلى اليونانية بأمر بطليموس فيلادلف، وسميت الترجمة السبعينية؛ لأن الذين ترجموه كانوا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل، ثم ترجمت بعدئذ إلى اللاتينية ودعيت «فلجات»؛ أي العامة
Vulgate ، فترجمت لفظة شيحور بلفظ النيل، إذن فهم الأقدمون أن كلمة شيحور هي نفس كلمة النيل. •••
ولا بأس من أن نثبت هنا خلاصة بحث جديد، هو آخر ما اطلعنا عليه في نوعه للعلامة الجليل المرحوم أحمد باشا كمال، أمين المتحف المصري سابقا، في رسالة أفردها بالبحث عن أسماء النيل واشتقاق التسمية فقال:
إلى الآن لم يهتد أحد من الأثريين إلى اسم النيل بالتحقيق، بل وجدوه في العربية واليونانية، فقال: إنه مأخوذ من اللغة الفنيقية أو الأشورية إلى نحو ذلك، ووقف بحثهم إلى هذا الحد فخرجه «جروف» بطريقة لا تنطبق على الحقيقة لما فيها من التكلف، ولكن هناك لفظ مصري دال على النيل؛ لأنه ذكر في الجدول الشامل لأسماء هذا النهر المبارك المنقوش على الآثار، ونقله بروكش في قاموسه الجغرافي (فراجعه في الصحيفة 1408)، وهذا اللفظ هو «ننو ونينو»، ورد أيضا في قاموس اللغة للأثري المذكور (جزء 3 الصحيفة 779 وجزء 4 الصحيفة 678)، وذكر كثيرا في النصوص المصرية، ونونه الأخيرة تقلب في العربية لاما إذا أريد مقارنته بالنيل، كما سترى في الأمثلة الآتية من انقلاب النون المصرية إلى اللام في العربية:
ن:
حرف نفي في المصرية، ويقابلها في العربية والعبرية لا.
نن:
معناه الليل بقلب النونين لامين «وخلفه إشارة السماء مزينة بالنجوم.»
نن، ننو:
الاء اللائي اسم إشارة في اللغتين.
نز:
لوز شجر معروف.
نت:
التي، الذي؛ «لأن التاء تقلب ذالا» اسم موصول في اللغتين.
نبن، ننبن:
لبنى، وهي شجرة الميعة أي المصطكى.
نخب:
لقب وألقاب، إلخ.
إذا علمنا ذلك جاز لنا أن نقول: إن «ننو» أو «نينو» هو النيل؛ لأن هذا التخريج لا يخرج الكلمة عن المعنى الذي وردت به في اللغة المصرية؛ إذ قد ذكر في ورقة هريس (Harris I, 48, 9)
نص معناه: قربان الأعياد الكبيرة لمبدء «ننو»؛ أي: القرابين التي كانت تقدم للنيل في مبدأ الفيضان، في نقوش دندرة عبارة معناها (Demt Hist. Ins. 29) : دمهم مثل «ننو»؛ أي مثل النيل، وجاء أيضا في صحيفة 256 من قاموس بروكش الجغرافي هذا النص: جبلا «ننو»؛ أي: الجبلين المحيطين بالنيل عند الشلال الأول، «وننو» تطلق أيضا في اللغة على جدول القسم العاشر في الوجه البحري، (راجع كتاب الجغرافية بروكش بصحيفة 15 و252، والجزء الثالث منه الصحيفة 29.)
أما اسم النيل المقدس فهو «حعب» و«حعبي»، والباء في المصرية تأتي لتضعيف الحرف الأخير.
واعلم أن «الحاء» و«النون» و«الراء» تسقط في بعض الكلمات المصرية، وهذا أمر معلوم عند الأثريين، فمثلا كلمة «أمن حتب» اسم من أسماء ملوك مصر ذكر في اليونانية باسم: «أمنوفيس»، فإن فاء الكلمة تحذف منه في أول إلى العربية، فهو يقابل طاب يطيب طيبة، والصفة منه طيب وطيبة إلخ.
فكلمة «حعب» تقابل إذن؛ في العربية «عب» (البحر عبابا: ارتفع وكثر موجه)، وعبت: مياه متفرقة، «وعباب» معظم السيل وارتفاعه وكثرته، وقيل: موجه.
واليعبوب: (قال أهل اللغة: إن الياء فيه زائدة) النهر الشديد الجريان والجدول الكثير الماء، ف «حعب»؛ أي «اليعبوب»: اسم متداول كثيرا في اللغة، وذكر في مدحة النيل التي كتبها ماسبرو وترجمها في كتاب قصص العوام المصرية، وإليك مطلع هذه المدحة عن ترجمتي لا ترجمة ماسبرو:
تعظمت أيها اليعبوب، تنزهت أيها اليعبوب «حرف النداء محذوف كما يأتي ذلك في العربية» البارز في هذه الأرض، السائر لعيشة مصر مسيرك كمين ليلا ونهارا، مسيرك ممدوح؛ لأنه يروي الحقول التي أوجدتها الشمس ليعيش جميع الحيوانات، ويروي الصحراء البعيدة عن الماء، نداه هو السماء «أي مياهه من المطر؛ لأن هوى السماء هو ما يهوي منها في الماء؛ أي المطر»، فالأرض تروم وتتقرب بالحب «أي تجود بالمحصول» إلخ.
أما أسماء النيل الواردة في الجدول المنقوش على الآثار فهي اثنان وخمسون اسما، استعملت إما بوجه الحقيقة أو بوجه المجاز لعلاقات معلومة عند أهل اللغة قديما.
فيضان النيل وأسبابه عند قدماء المصريين
كان فيضان النيل الدوري أمرا هاما لسعادة مصر، وأيقظ أنظار أولي الأمر إليه فجدوا في وسائل تحسينه، وإن هذا الفيضان الطبيعي الذي يفسره العلم الحديث بكل سهولة، كان في عقيدة قدماء المصريين دليلا ساطعا على أنه لا يتم إلا بمعونة وقدرة إلهية.
المعبودة إزيس والأصل بالمتحف المصري.
قال بوزانياس المؤرخ اليوناني الجغرافي المولود في القرن الثاني ق.م: إن المصريين اعتبروا النيل في بدء فيضانه مجموعة من دموع المعبودة إزيس التي تبكي زوجها أزوريس، وقال لاباج رينوف: يحتمل أن يكون هذا تقليدا قديما؛ لأن إزيس وأختها نفتيس تسميان في كتاب الموتى بالنادبتين، وجاء في نصوص أخرى كثيرة أن مجرى النيل منسوب لإزيس أو لمعبود آخر مثل سوتيس الشبيه بإزيس.
ومن الغريب أن جميع سكان مصر لا يزالون على اعتقادهم القديم، بأن يوم 11 من شهر بئونة، الموافق 17 يونيو تنزل فيه نقطة، فتسبب فيضان النيل، ولا زالت تعرف إلى الآن بليلة النقطة.
والجدير بالذكر هو معرفة أسباب الفيضان الواقع بأمر إلهي كما يعتقدون.
المعبودة نفتيس، والأصل بالمتحف المصري.
ينتظر المصريون أشهر الفيضان بلهف وشغف، فإن تأخر قليلا بسبب غير متوقع، فزعت القلوب وخافوا من الدمار، وتكسد الأعمال، وتنتشر الأوبئة، وتفتك بالناس فتكا ذريعا، ويعقب ذلك اضطراب في الأحوال، وتنضب ينابيع الثروة، وتتوالى العداوات والمشاحنات بين الناس، وقد يستبيحون الاعتداء على بعضهم، وحينما يأتي الفيضان تسكن تلك المخاوف وترتفع الشرور، ويستقبل الناس أسباب سعادتهم ووسائل رزقهم بالنشاط والبشاشة، فيقبلون على المستلزمات الزراعية، ويعم الفرح القلوب إلى درجة تقل معها نسبة الوفيات في البلاد عن اعتيادها في الأيام الأخرى، وتقام للفيضان مظاهر الاحتفاء كأكبر الأعياد، ويظهر أن الفيضان يقترن بزمن ظهور نجمة الشعرى المعروفة بالشعرى اليمانية في السماء، وقد جاء في نقوش معبد دندرة أن سوتيس الإله يجلب الفيضان، وأنه يشبه إزيس أم حورس التي تفيض من دموعها ماء النيل، وكان بمدينة أسوان معبد خاص لعبادة إزيس سوتيس احتراما لذلك.
ووجد في بعض نصوص مصرية قديمة أن النيل يبتدئ فيضانه في أول السنة المصرية، ويعرف بدؤه بظهور النجمة سوتيس في فصل الصيف في السنة المصرية القديمة.
وورد في ورقة هريس السحرية البردية أن ظهور النجمة المذكورة يوافق ابتداء الفيضان، واتفق جميع المؤرخين على ذلك، وقال هيردوت وديودور الصقلي وبلين أن النيل يبتدئ في زمن انقلاب الشمس في الصيف.
واستدام جهل قدماء المصريين بأسباب الفيضان مع اعتقادهم بأنه من دموع إزيس، وظنوه ناشئا عن الرياح الشمالية، ولكن ديودور الصقلي خالفهم في ذلك، وأبدى أن أمطارا كثيرة تنزل في كل السنين ابتداء من الصيف حتى يتعادل الليل والنهار في فصل الخريف، ومن المعقول جدا أن ينخفض النيل في الشتاء ويزداد في الصيف من تهاطل الأمطار التي تهبط عليه، فهي التي تأتي دائما إلى مصر من إثيوبيا، فتملأ في الصيف مجرى النهر، وهذه النظرية صحيحة، وهي أصدق المعلومات عن السبب الوحيد في فيضان النيل الذي هو مصدر الحياة لمصر وقاطنيها.
تتراوح مدة الفيضان بين تسعين يوما أو مائة «على رأي قدماء المصريين والأقباط»، ويبتدئ الفيض رويدا إلى يوم 20 سبتمبر، وهو أقصى مدته، وتتغير مياه النيل أثناء زيادته، فتكون خضراء في الأوائل حينما تقذف الزيادة من مجاريها المياه الراكدة في مستنقعات بحر الغزال ونحوه، ثم تصير حمراء قاتمة مغبرة حينما تنزل من سطوح جبال الحبشة الرمضاء، ومنها تنحدر إلى النيل الأخضر والنيل الأحمر اللذين أشبها ساكني تلك الجهات المجاورة، وهذه التغييرات لم تمنع ماء النيل من صلاحيته للشرب، وقد جاء في أمثال العرب «على سبيل المبالغة» أن من شرب من ماء النيل مرة يشتاق أن يشرب منه أبدا، وبالغوا من قديم في شهرته وخواصه، حتى زعموا أنه يبعث الأموات في الدار الآخرة، وذكر في كتاب الموتى أن من أكبر مشتهيات الميت الشرب من المياه الباردة الآتية من نهر الجنة الذي كان يشبه النيل.
واعتاد قدماء المصريين كما اعتاد أبناء هذا العصر اعتبار النيل المورد الأول لحياتهم وأرزاقهم، فيحتفلون بالفيضان ومستوى الزيادة احتفالات سنوية، فإذا تأخر فيضانه امتلأت المعابد بمن يؤدون الصلوات والتضرع، ويقدمون الضحايا ابتهالا للآلهة في أن يجود النيل عليهم بفيضه المعتاد، فإذا أبطأ ولم يستجب دعاؤهم، توجهوا إلى فرعون ليضرع معهم في طلب الزيادة، فيسمع النيل أمر أبيه فيأتي فتعم الأفراح، ويأخذ القوم في الاطمئنان على معايشهم ورخائهم.
النصوص المصرية القديمة الخاصة بالفيضان قليلة، وما ورد منها لم يؤيد قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
وقد ورد في شاهد حجري ترجمه بروكش باشا أنه وقعت بمصر مجاعة دامت سبع سنين، ولم يمكن الجزم بأنها هي السبع سنوات الواردة في نص التوراة أو غيرها، وإليك ترجمتها:
يقول الملك لرجال بلاطه: أنا الملك حزين على عرشي، وقلبي مفعم بالكآبة لتأخر النيل عن فيضه المعتاد سبع سنوات، فأصبحت ثمرات الأرض نادرة، وجفت الخضرة، واستحال كل شيء على وجه الأرض، إني أفكر كثيرا فيما مضى، وأتضرع معكم إلى إمحتب بن فتاح الذاهب إلى منبع النيل؛ ليمنحنا جميعا الشفاعة والإغاثة بفيضه سريعا.
وورد في حجر كانوب المحفوظ بالمتحف المصري تحت رقم 980 بقاعة حرف
T
بالطبقة السفلى، أنه في عهد الملك بطليموس إفرجت الأول سنة 238ق.م اشتد انخفاض النيل وحدثت بذلك الأهوال والمجاعة.
وقال الفيلسوف سنيك: إن النيل لم يفض سنتين؛ أولاهما في السنة العاشرة في حكم الملكة كليوبطرة، ويؤكد لنا كليماك أن النيل سبق أن تخلف فيضانه عن عادته تسع سنين لما قتل بطليموس بومباوس الروماني
الشهير، حتى قال رجاله: إن النيل لم يفض غضبا لارتكاب هذه الجناية في أرضه.
وقد يتجاوز النيل في زيادته الحد المعتاد، وأحيانا تبلغ الزيادة إلى درجة الخطر فتكون البلاد تحت نطاق الحصار، وتتهدم مبانيها وتفسد مدخراتها الزراعية، وتتعطل المواصلات، ويلجأ المستطيعون إلى النجاة بأرواحهم آبقين إلى الأراضي العالية، أو حواجز الجبال إن كانوا قريبين منها.
وفي أنشودة النيل عن تأخره بعض السنين، ما يثبت أن تأخير فيضانه كما يضر بالآدمي والحاصلات الزراعية المدخرة، يؤذي البهائم أيضا؛ لأنها لا تجد ما تعودت الاقتيات به من الحشائش ونحوها التي كانت تجوب الأودية في طلبها قبل أن يغمرها الفيضان ويقطع عليها السبيل.
ووجد باللغة المصرية القديمة في جدران فناء معبد أمنحتب الثالث بالأقصر أنه حصل فيضان زائد في عهد الأسرة 22، فامتنع الناس عن حفلات المعبد، وخربت الأرض وما فيها، ولم توقفنا الآثار على شيء من هذا القبيل في العصر الفرعوني، ولم يذكر لنا شيئا مؤرخو اليونان والرومان، بل أجمعوا على مدح جمال مصر في أزمنة فيضانها المعتادة، وأن به يتغير منظر البلاد ويتلطف ميزان الحرارة في الجو.
وقال سنيك الفيلسوف: «ما أبدع منظر مصر وقت فيضان نيلها على الأودية والحقول!» وقال هيردوت: «إن مصر تصير بحرا في ذاك الوقت، وإن النيل إذا بلغ ارتفاعه 15 أو 16 ذراعا اعتبر الفيضان مباركا.» وأيدت هذه الأقوال المعلومات المستفادة من الأوراق البردية، والنقوش الموجودة على الحجارة الأثرية.
نيل مدينة تانيس. تمثالان يمثلان نيل الوجه القبلي ونيل الوجه البحري، وهما يحملان أثمار النيل من الأسماك والطيور المائية وزهرة اللوطس، ويقدمانها هدية لملك مصر. والأصل بالمتحف المصري بالطبقة السفلى بالطرقة
J
رقم 508.
ومتى انتهى الفيضان، أو كما يعبر قدماء المصريين في لغتهم: لما تخرج الأرض من الماء، يباشر الفلاح الزراعة، فتغطي الخضرة وجه الأرض، وتصبح على سعتها بساطا سندسيا يبهر النواظر ويروق الألباب.
وإذا بلغت زيادة النيل أكثر من ذلك تعطلت مواعيد الزراعة، وإلى هذا أشار مارييت باشا في قوله: إن مصر كما تهتز بالجزع إذا تأخر الفيضان، فكذلك يعمها الضرر إذا كان فيضانه زائدا عن الحالة المألوفة، ولهذا فحياتها تتوقف على اعتداله في مجيئه بآونة الحاجة إليه وعدم زيادة فيضه عن قدر هذه الحاجة.
التنبؤات المصرية القديمة الخاصة بالنيل
ورقة أنسطاسي البردية أو سفر أبوور المتنبي المصري القديم منذ 4000 سنة
بلغت العناية بأمر النيل في مصر اجتراء كثير من المتصدرين للبحث والعلوم على تنبؤات كثيرة فيما يختص بزيادته ونقصانه، وما يعتري الأمة في أدوار القحط من الانزعاج والألم والانكماش، وكان من تصدر عنهم هذه التنبؤات يجهرون بها بين يدي الفراعنة في وقتهم، ويتلقاها الناس بتشوق شديد، وحرص مستمر لمقارنة الحوادث وتطبيقها عند وقوع شيء منها بما يكون منافيا أو مؤيدا لهذه الأقاويل، ومن ذلك ورقة أنسطاسي البردية التي توجد في متحف لندن تحت رقم 344، اشتهرت بورقة أنسطاسي؛ لأنه هو الذي اكتشفها في مدينة ممفيس بالقرب من سقارة، وابتاعها منه متحف لندن سنة 1828 مكتوبة بالهيراطيقية من وجهيها، ويرجع عهدها إلى عهد الأسرة 12 أو 19.
ومما اشتملت عليه أقوال ذلك المتنبي: «إنه سيأتي على مصر دور تقل فيه مياه النيل، ويتبع ذلك كساد الأحوال، وتنتشر الأوبئة وحوادث الثورات وإراقة الدماء، ويتغلب الصعاليك على الأعاظم، وتتعدد الحروب الداخلية، ويتوالى الانقلاب، وتسود بعض العناصر المنحطة، وتنفرد بالسيطرة، ونهب الأموال من ساداتها، وتكثر نساءهم من التجمل بنفائس العقود والقلائد، وتحل التعاسة ببعض الطبقات الراقية حتى يعوذها طلب القوت، وتكثر الدخلاء حتى في العلماء، وتنتهك أماكن العبادة، وتعطل الشعائر، فالويل كل الويل لمن يجعل في عصره أقل إمكان لوقوع أقل شيء من هذه الشرور.
ثم تنتهي تلك الدورة المؤلمة ويسود السلام، ويعود النيل إلى فيضه المعتاد، وتسترد الأرض بهجتها، وتعود إلى النفوس مكانتها على يد من يسخرهم الله لسعادة الإنسان.»
ومن هذه الأساطير وأمثالها يعلم أن عظماء الفراعنة وأيمة الباحثين كانوا يعلقون كل شيء في مستقبل البلاد على فيض النيل وانخفاضه، ويرتبون نتائج الخير على بركات الفيضان، ويتشاءمون بكل حوادث الشر في السنوات التي يكون فيض النيل فيها بطيئا أو منخفضا، ولا ننكر أن حياة مصر قديما وحديثا تتفاوت في الرخاء والنعم بقدر ما يغمرها به نيلها المبارك، أدامه الله لها مستفيضا بالخيرات والسعادة، ووفق رجالها العاملين إلى الصالح العام في كل أدوارهم الكريمة.
أعمال ملوك الأسرة 12 في النيل
اشترك الفراعنة مع الشعب في عقائده نحو النيل، وفي الاهتمام بكل شئونه كواجب فطري تألفوه بالتوارث، ثم رأى الممتازون منهم بقوة الفطنة وحب الاستطلاع والتشوق في زيادة المزايا العمرانية التوسع في المباحث، فابتدءوا بانتداب المتضلعين في العلوم الفنية، فأرسل بعضهم مهندسين للشلالات لحصر الارتفاعات التي وصل إليها النيل في مدد الفيضان، ليقيموا بنسبتها الجسور، ويشيدوا الخزانات، وبإتمام هذه الإصلاحات النظامية سميت مصر قديما الأرض المرواة أو المتصلبة بالقنوات، أو الأرض السوداء، ولا غرو في ذلك؛ لأن مصر أرض زراعية، والزراعة هي الوسيلة للثروة، وحياة الزراعة تستلزم العناية بالمياه في الإيراد والصرف كيلا يضيع جزء منها في أراض مهملة، ولا تحرم الأراضي الزراعية الخصبة من كفاية المياه لريها وإنماء مزارعها، وعرف قدماء المصريين أن مياه النيل المتدفقة بالفيضان تنقل كل عام كميات من الطمي النقي، الذي يمنح الأرض زيادة في الخصوبة وجودة في الزراعة، فاجتهدوا في توصيل هذه المياه بمحتوياتها إلى الجهات القاصية، لتأخذ حظها مما تجود عليها به طبيعة الفيض، فالعناية بموازنة المياه في الاستجلاب والصرف ليست من الوسائل الحديثة، أو من مبتكرات الأجيال الأخيرة كما يدعي الزاعمون، بل إنها من مجهودات الأفكار المتوالية في عهد الفراعنة، فامتازت الأرض بكثرة الإنبات وتعدد المحاصيل ووفرة الثمرات منها بأسباب ترجع إلى توفر المياه، وإلى فاعلية الشمس وحرارتها، واعتدال العنصر الأرضي، حتى إن الحبة الواحدة قد تبلغ في الإنبات إلى مائة حبة، فكانت مصر أمام بقية الممالك أشبه بخزائن حاصلات لكثير من الممالك، وكانت تعد كمستودع الأرزاق للعالم الروماني مثل بلاد توميدي.
وقد جاء في التوراة أن أبانا إسحاق أرسل ابنه لمدينة ممفيس لاستجلاب القمح، وكان الفيضان الدوري يخفف عن الفلاح معالجة أرضه فتجود عليه بالحبوب والحاصلات الوافرة، وهو لا يتكبد إلا تخطيطا بسيطا في مواسم التقاوي، وانتقاء أنواعها؛ ليجني من حسن نقاوتها وتوفر مياه الري لديه خيرات وافرة.
ووضعوا في تلك العصور الماضية اللوائح والقوانين المشجعة على التحسين الزراعي، ومكافأة المجتهدين مكافأة مالية ليقتدي بهم الغير، وكانت الأراضي تقسم بين المزارعين بنسبة أفراد العائلات وخبرتهم الزراعية إذا كانت مساحة الأرض على سعة تمكن من كل ذلك، ومد الجداول وإنشاء المجاري ونحوها رغبة في تعميم الفائدة، وتسهيلا على الزراع فيما تشتد حاجتهم إليه.
وكان كل عصر من الفراعنة يفتخر بما أحدثه من أنواع التحسينات، ولا يصرفه الاهتمام بما أحدثه عن دوام العناية بما استجيد منها في عهد أسلافه رغبة في تخليد المنفعة لذويها، وإبقاء الذكر الحسن لمن أدى للبلاد عملا مشكورا؛ لأن الجسور ونحوها إن لم يتعهدها ولاة الأمور بالعناية والإصلاح والقنوات والمجاري، وإن لم يتخذ نحوها الترميم والتطهير كل سنة في الوقت المناسب له يترتب على تركها انحطاط درجة الأرض من الخصوبة إلى الجدب، وتتحول حالة الملاك من السعادة إلى الشقاء.
وقد عثرنا على نص رقيم حكومي صدر في عهد الملك سنوسرت الثالث يأمر بترميم قناة، وهذا نصه (دلالة على ما سبقت إشارتنا إليه): «في السنة الثانية من حكم ملك الوجهين البحري والقبلي الملك سنوسرت، الحي الإرادة الدائم الذكر، أمر بإنشاء قناة جديدة طولها مائة وخمسون ذراعا وعرضها عشرون ذراعا وعمقها خمس عشرة ذراعا.»
ووجد منقوشا على شاهد أقيم للملك تحوتمس الأول: «إنه في السنة الثالثة من حكمه، وفي اليوم 22 من الشهر الأول من فصل الحصاد، أمر الملك المعظم بحفر هذه القناة، شكرا لمعونة الرب الأعلى، وإسدائه بالنعمة على شعبه بمناسبة فوزه بالنصر والفوز على بلاد كوش.»
وفي عهد تحوتمس الثالث أنشئت قناة أخرى بعد ما أن ملأتها الحجارة، وفي هذا المرسوم نص بإلزام من يزاولون مهنة الصيد في جزيرة أسوان بتطهيرها سنويا؛ لأنهم هم الذين بترددهم عليها لأعمال الصيد بالزوارق وغيرها يتسببون في انهيار ميول الجسور تساقط الحجارة حولها حسب مستلزمات مهنتهم، فمن العدل أنهم كما يغنمون الأرباح بالصيد منها يتكبدون بعض الإجراءات الواجبة لتطهيرها وصيانتها حتى لا تنطمس مجاريها ولا يتعطل الانتفاع بها.
وقد وضعت في عهدهم القوانين الشديدة بالعقوبات الرادعة، والجزاءات الزاجرة لمنع الناس عن إحداث أي ضرر بمجاري المياه وطرق المواصلات، وعدم مس الأعمال الزراعية والمحاصيل أيضا بأي ضرر أو تلف؛ لأنها في واقع الأمر أعدت لمنفعة المجتمع العمراني، وليس قيام الأفراد بالخدمة والزراعة فيما يكون تحت ملكيتهم إلا من أنواع التعاون الضمني؛ لأن كل فرد يؤدي خدمة شخصية ترتبط بالمنافع العامة يعتبر خادما للمجتمع، وإن لم يقصد هو في عمله هذه الملاحظة.
وقد وجد في نصوص الكتاب المقدس في كتاب الموتى ما يؤيد هذا الاهتمام الحكومي الذي تتناقله الأجيال: «إني لم أقطع قناة في ممرها، ولم أخالف نظام الري، ولم أتلف الأراضي الزراعية.»
وقد وجدت نقوش في قبور الأمراء بأسيوط تدل على الأعمال التي تمت لإصلاحات النيل في عهد الأسرة الهراقلوبولتية، وفي هذه النقوش إشارة إلى أن الملك خيتي الأول يفتخر باستيلائه على المياه وحسن التصرف فيها كيفما شاء، ولم تكن في الوجه القبلي إلا أراض منحطة، فاهتم بحفر قناة كبيرة في الأراضي الشراقي، وأقام لها أبوابا، وغير مجرى المياه القبلية، فوصلت إلى حد لم تبلغه المياه قبلها، ومكن حدود القناة، فارتوت منها بلاد كثيرة، وجعلت الهضاب المرتفعة بحيرات، وصار النيل يغمر الجزائر، وأصبحت الأراضي الجدباء ذات خصب ورغد، وكل الأراضي التي كانت في الماضي محرومة من الري النيلي، فأهلها ينسبون الفضل في سعادة حالهم وصفاء عيشهم إلى الملك سيتي الأول الذي حفر قناة تم بها الاتصال من فرع النيل الثاني إلى بوباستيس بالبحيرات المرة ووادي طيبة، وأهم القنوات التي تمر بقرب قبطوس ذكرت في قصة ساتني خماييس.
وكان البحر اليوسفي في الحقيقة فرعا للنيل في الجهة الغربية يبتدئ من أسيوط وينتهي إلى الدلتا.
وقد أتم الملك نخاو الثاني ابن الملك بسامتيك مشروعات كثيرة في الري، ووضع مشروعا جليلا لإنشاء قناة تصل البحرين، ولكن هذا المشروع لم يتم في أيامه، والذي وفق لإنجازه هو الملك دارييس الفارسي، وقد نقش اسمه في شاهد شالوف بالفارسية، ونصه كالآتي: «أمرت بحفر هذه القناة تبتدئ بالنيل من مصر إلى البحر الأحمر.»
وذكر هيردوت أن الفمين البولبستيكي والبيكوليكي لم يكونا طبيعيين، ولا بد أن تكون يد الإنسان العاملة في العمران قد خطتهما، فإن الفراعنة أنشئوا قنوات كثيرة للبلاد ليسهل على أهلها الانتفاع بالمياه الوافرة لري الأراضي وكافة الاحتياجات البشرية، واقتفى اليونان والرومان آثار الفراعنة في إصلاحات الري، وكانوا يعتنون بتطهير الترع من رواسب الرمال والحجارة، وأول من افترض على الأهالي القيام بهذه التطهيرات هو أكتاف أغسطت
Octave Auguste ، وكان يراعي تقسيم الأعمال بينهم بمراعاة قرب أهالي كل جهة من القسم الذي يكلفون بتطهيره.
وفي الأوراق البردية ومن بينها ورقتا باريز وبرلين أن الملوك بطليموس فيلادلف وإفرجت الثاني إبيفان وتراجان وجستنيان كانوا يعتنون سنويا بتطهير الترع وتقوية الجسور، ويكلفون مراقبين فنيين بدوام المرور عليها، وإيضاح ما يحتاج علاجا، فيبادر لاتخاذه ولو قبل المواعيد المعتادة في الميزانيات السنوية وجداولها.
وروي أنه في السنة الثانية (سنة 198ق.م) من حكم الملك إفرجت الثاني بلغت شدة الفيضان درجة قصوى، أغرقت كثيرا من الأودية والصحاري، فقام الملك بنفسه للإشراف على الأعمال المتخذة لتخفيف المضار والعناية بتقوية جسور النيل وسياج الترع وتجديد المصارف بين المسافات، حتى أوقف طغيان المياه، واطمأن باله بنجاة البلاد من الخطر.
زيادة النيل ونقصانه وأطواره في عهد العرب1
نقلا عن كتاب «تقويم النيل» لحضرة العلامة الجليل أمين باشا سامي.
التاريخ
م
ه
769
152
وصل النيل في نهاية الفيضان إلى 12 ذراعا و16 أصبعا
891
278
غار نيل مصر ولم يبق منه شيء، فغلت الأسعار بسبب ذلك
863
249
غلق النيل 16 ذراعا
944
333
وصل النيل إلى 14 ذراعا و16 أصبعا
953
342
قصر النيل فوقع البلاء والغلاء
962
351
وصل النيل إلى 15 ذراعا وهبط
963
352
وصل النيل إلى 15 ذراعا و4 أصابع وهبط سريعا فوقع الغلاء تسع سنين متوالية
964
353
وصل النيل إلى 15 ذراعا وأصبعين
965
354
وصل النيل إلى 16 ذراعا ولم يغلقها وهبط سريعا
966
355
وصل النيل إلى 14 ذراعا وأصابع وهبط سريعا
967
356
وصل النيل إلى 12 ذراعا وأصبعا فاستمر الغلاء إلى سنة 360، فلما دخلت سنة 361 حصل الوفاء وأخصبت الأرض وتحسنت الأسعار
972
361
أوفى النيل الوفاء التام وأخصبت الأراضي بالزرع
997
387
قصر النيل عن الوفاء فوقع الغلاء
1005
395
وصلت الزيادة إلى 16 ذراعا وأصابع فروى بعض الأراضي
1006
397
وصلت الزيادة إلى 13 ذراعا فاستسقى الناس مرتين
1007
398
وصلت الزيادة إلى 14 ذراعا وهبط سريعا فوقع الغلاء
1008
399
فتح الخليج في 15 توت والماء على 16 ذراعا ثم نقص فوقع الغلاء بمصر
1031
422
نقص ماء النيل ثم زاد بعد أوانه بأربعة أشهر
1052
444
قصر النيل عن الزيادة ووقع الغلاء بمصر
1055
457
قصر النيل عن الزيادة ووقع الغلاء بمصر
1056
448
انقطع ماء النيل فعم الوباء والقحط
1059
451
وقع الغلاء العظيم بمصر واستمر سبع سنين يزيد في الأول إلى 12 ذراعا ثم ينقص، وكانت القاعدة 3 أذرع و11 أصبعا
1068
460
نقص النيل في هذه السنة والتي بعدها فكان الغلاء العظيم الذي لم يسمع بمثله من عهد يوسف، واشتد القحط والوباء سبع سنين
1073
466
وكان مقدار النيل 16 ذراعا وأصبعا
1077
470
فتح الخليج يوم 17 مسرى والماء على 15 ذراعا و12 أصبعا ونقص في 13 بابه
1078
471
فتح الخليج يوم 27 مسرى والماء على 15 ذراعا و18 أصبعا
1079
472
فتح الخليج يوم 20 مسرى والماء على 15 ذراعا و19 أصبعا
1080
473
فتح الخليج يوم 5 توت والماء على 15 ذراعا و15 أصبعا
1081
474
فتح الخليج يوم 25 مسرى والماء على 15 ذراعا و18 أصبعا
1082
475
بلغ الماء في 25 توت 14 ذراعا، ولكن كانت نهاية الفيضان في هذه السنة 15 ذراعا و10 أصابع
1083
476
فتح الخليج في 2 النسيء ونقص في 9 بابه
1084
477
فتح الخليج في 24 مسرى والماء على 15 ذراعا و12 أصبعا
1087
480
نقص في 4 بابه
1088
481
هلك الزرع والغلات والمخازن من كثرة الماء
1191
484
انتهت الزيادة إلى 11 ذراعا وأصبعا ثم هبط سريعا
1123
517
انتهت الزيادة إلى 16 ذراعا ثم هبط ووقع الغلاء بمصر
1124
518
كان الوفاء على 16 ذراعا و11 أصبعا ثم نقص ولم يثبت فوقع الغلاء
1149
544
كان النيل عاليا
1164
559
عظمت زيادة النيل وبلغ 18 ذراعا و13 أصبعا فسقطت الجدران وغرقت البساتين وفارت الآبار
1176
572
فتح الخليج في 20 رمضان
1180
576
بلغت الزيادة
ذراعا
1181
577
هبط النيل بدرجة لم يعهد حصولها إلا مرة واحدة في دولة الفاطميين، واشتد الوباء ومات نحو ثلاثة أرباع أهل البلاد، وكان وفاء النيل في 16 مسرى من هذه السنة
1181
577
فتح الخليج في 4 ربيع الثاني والماء على 16 ذراعا و15 أصبعا، وقال الناس: سنة سبع افترست أسباب الحياة
1182
578
بلغت الزيادة 18 ذراعا و13 أصبعا، وهذا الحد كان يسمى وقتها اللجة الكبرى، فسقطت الجدران وغرقت البساتين
1183
579
عظمت زيادة النيل. والجزء الثامن من المذكرات نقلا عن المقريزي في الخطط، وهذا من النوادر الغريبة التي لم يسمع بمثلها قط
1184
580
بلغت الزيادة 16 ذراعا إلا ثلاثة أصابع ووقف فكسر السد ووقع الغلاء بمصر
1191
587
لم يزد النيل إلا زيادة يسيرة وهبط من غير وفاء فوقع الغلاء وعدمت الأقوات من مصر، واستمر الحال على ذلك ثلاث سنين متوالية، فمات من شدة الغلاء الثلث
1200
596
كسر الخليج والماء على 13 ذراعا إلا ثلاثة أصابع وشرقت الأراضي وعم الغلاء والبلاء
1201
597
توقف النيل عن الزيادة في هذه السنة لغاية 6 توت، ولم يبلغ إلا 15 ذراعا و16 أصبعا وهبط من يومه، فحدث بمصر حوادث من جهة القحط والفناء والموت والمهاجرة ما لم يسبق لها مثيل في القحوط السابقة. وقال العماد الكاتب في وصف حوادث هذه السنة: اشتد الغلاء وامتد البلاء وتحدثت المجاعة وتفرقت الجماعة وهلك القوي فكيف الضعيف!
1203
599
زاد النيل زيادة كثيرة ورخصت الأسعار
1230
627
جاء في ابن إياس أن النيل بلغ 16 ذراعا و3 أصابع، ولم يثبت فوقع الغلاء وكان في قاع النيل ذراعين
1231
628
بلغ النيل بعد توقف كبير 16 ذراعا و3 أصابع، وكان غلاء شديد ووصل القمح خمسة دنانير، وجاء في ابن إياس أن نهاية الفيضان كان 16 ذراعا فقط
1232
629
بلغت الزيادة 18 ذراعا و6 أصابع، وطال مكثه إلى آخر هاتور فخاف الناس عدم هبوطه
1240
637
ولم يقع مثله
1263
661
شح النيل ولم يثبت فوقع الغلاء
1273
672
أوفى النيل أول أيام النسيء
1294
693
بلغ النيل 15 ذراعا و3 أصابع، ولم يثبت فوقع الغلاء
1295
694
بلغت زيادة النيل 16 ذراعا و17 أصبعا ثم هبط وحصل بديار مصر غلاء شديد.
1297
696
بلغت زيادة النيل إلى أول توت 15 ذراعا و18 أصبعا ثم نقص ولم يوف
1298
697
أوفى بعد توقف
1299
699 «حسن المحاضرة وكوكب الروضة»
1303
702
قال ابن أبي حجلة: قد زاد النيل حتى غرق البلاد ووقع البلاء وعم البلاء
1304
704
أوفى بعد توقف وانتهت الزيادة إلى 15 ذراعا و17 أصبعا فشرقت البلاد ووقع الغلاء
1305
705 «حسن المحاضرة»
1309
709
توقف النيل واستسقى الناس فلم يسقوا وانتهت زيادته في 27 توت إلى 15 ذراعا و17 أصبعا فشرقت البلاد ووقع الغلاء، وفي 17 بابه نقص جملة واحدة
1313
713 «ابن إياس وكوكب الروضة»
1317
717
وكان الماء على
وجاء في كوكب الروضة أن فتح الخليج كان ثاني يوم من النقص، ثم زاد زيادة عظيمة
1321
721 «النجوم الزاهرة»
1322
722 «النجوم الزاهرة»
1325
725 «النجوم الزاهرة»
1327
727
قال ابن المتوج: إن النيل بلغ 16 ذراعا و3 أصابع بعد توقف عظيم، ووصل القمح خمسة دنانير «الإردب»، وذكر المقريزي أنه بلغ 13 ذراعا و13 أصبعا، وأن مقدار التحاريق كان ذراعين
1329
729
كانت زيادة النيل 18 ذراعا و6 أصابع، وتأخر نزوله حتى خاف الناس عدم هبوطه
1331
731
جاء في كنز الدرر أن الوفاء كان في 20 مسرى، وفتح الخليج في يومها والماء على 16 ذراعا
1335
736 «النجوم الزاهرة»
1337
738 «النجوم الزاهرة»
1338
739
بلغت الزيادة 16 ذراعا و10 أصابع ثم هبط سريعا فشرقت الأرض ، ووقع الغلاء، وذكر كوكب الروضة أصابع
1339
740
تأخر النيل في بلوغه درجة الفيضان
1343
744
بلغ النيل 20 ذراعا و15 أصبعا فغرقت البساتين وانقطعت الطرق والجسور.
1346
747
كان التحاريق شديدا مع أن صاحب النجوم قال: إن التحاريق كان 5 أذرع
1348
749
كان التحاريق شديدا مع أن صاحب النجوم قال: إن التحاريق كان 4 أذرع و20 أصبعا
1350
751
بلغ النيل 17 ذراعا وهبط في 5 توت فشرقت بلاد كثيرة ووقع الغلاء وتوالى الشراقي ثلاث سنين فشق الأمر على الناس
1351
752
سنة شراق
1352
753
سنة شراق
1359
760
ثبت إلى أول هاتور فدعا الناس بهبوطه وبلغ 19 ذراعا و4 أصابع
1360
761
قال المقريزي: كان النيل مما يتعجب منه؛ فإن القاعدة كانت 12 ذراعا، وبلغ 19 ذراعا و9 أصابع، وأبطل النداء عليه حتى بلغ 24 ذراعا وخرب عدة مساكن وثبت إلى آخر بابه فدعوا الله بهبوطه
1363
764
توقف النيل ولم يوف إلا في 3 توت، وبلغ 17 ذراعا و4 أصابع، ثم هبط سريعا ووقع الغلاء
1371
773
طال مكث النيل فدعوا لله بهبوطه، واستمر في ثبات إلى آخر هاتور، وفات أوان الزراعة، وجاء في كوكب الروضة أنه كان 20 ذراعا وأصابع، وفي النجوم الزاهرة 18 ذراعا و4 أصابع
1373
775
توقف النيل عن الزيادة وكسر السد بعد النيروز بنقص 5 أصابع عن الوفاء، ثم هبط من يومه فاضطربت الأحوال
1382
784
كان النيل عاليا واستمر حتى دعا الناس بهبوطه، قال المقريزي: انتهت زيادة النيل إلى 20 ذراعا و3 أصابع فعد ذلك طوفانا. وكتب الصاحب فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن مكانس إلى البدر اليشتكي رسالة في ذلك قال في مطلعها: رب اجعلنا في هذا الطوفان من الآمنين، وسلام على نوح في العالمين
1383
785
مع علو النيل مكث طويلا فغرقت مواضع وتهدمت دور، وذكر ابن إياس مقدار النيل وهو 20 ذراعا و5 أصابع
1389
791
انتهت الزيادة إلى 19 ذراعا و18 أصبعا، وثبت إلى تاسع بابه فعد ذلك من النوادر
1391
793
ثبت إلى آخر بابه فكان طوفانا، وقال كوكب الروضة: رابع باب، وقال: إن الوفاء كان في ثالث مسرى وانتهت الزيادة إلى 19 ذراعا و20 أصبعا
1395
797
بلغ 19 ذراعا و8 أصابع وثبت إلى رابع بابه فكان طوفانا
1397
799 «الجزء الثامن من المذكرات»
1403
806
توقف النيل وكسر السد في أول توت مع نقص أربع أصابع على الوفاء ، ووقع الغلاء، وجاء في النجوم الزاهرة أن النيل أوفى خامس توت
1404
807
احترق النيل احتراقا شديدا
1405
808 «الجزء الثامن من المذكرات»
1409
812
أوفى النيل وفتح الخليج في أول يوم من مسرى، وقال ابن إياس: إنه بلغ 22 ذراعا وأصبعا، وثبت إلى نصف هاتور فحصل للناس بسبب ذلك الضرر الزائد، وغرق أكثر البلاد، وقال المقريزي: إن الوفاء كان في 29 أبيب
1412
815 «ابن إياس»
1413
816 «ابن إياس»
1415
818 «ابن إياس»
1416
819 «ابن إياس»
1420
823
توقف النيل عن الزيادة واستقى الناس، وجاء في ابن إياس أنه أوفى، وكان نيلا شحيحا ولم يثبت روي نصف البلاد ووقع الشراقي والغلاء
1421
824
وبلغت الزيادة 18 ذراعا و20 أصبعا
1422
825
انتهت الزيادة إلى 20 ذراعا وأصبعا، وثبت إلى نصف هاتور فحصل ضرر عظيم من عدم هبوطه وتعذر الزرع لفوات أوانه، وجاء في كوكب الروضة أن الوفاء كان في 29 أبيب
1423
826 «ابن إياس»
1424
827 «ابن إياس»
1425
828 «ابن إياس»
1426
830
انتهت الزيادة إلى 17 ذراعا وأصبعين ثم نقص بعد ذلك ولم يثبت فشرقت البلاد ووقع الغلاء
1427
831 «ابن إياس»
1428
832
وهبط سريعا فشرق غالب البلاد ووقع الغلاء
1429
833 «ابن إياس»
1430
834
وجاء في كوكب الروضة أنه أوفى في 29 أبيب
1433
837
أوفى النيل في هذه السنة مرتين
1439
843
بلغ النيل 20 ذراعا و10 أصابع
1440
844
بلغ النيل 20 ذراعا و31 أصبعا
1441
845
إن النيل زاد زيادة مفرطة في رابع بئونة فغرقت الأمكنة وحصل الضرر ووصل النيل في غير أوانه 19 ذراعا و20 أصبعا، واستمرت الزيادة عمالة حتى أوفى في 27 أبيب
1449
853
توقف النيل عن الوفاء أياما
1450
854
خس النيل وكسر الخليج، وقد بقي ثمانية أصابع من الوفاء وحصل غلاء شديد، وجاء في كوكب الروضة: لم يوف النيل وكسر الخليج وباق على الوفاء أصبع فهبط وشرقت الأراضي ووقع الغلاء
1462
866
أوفى بعد توقف واستسقاء
1466
871
أوفى بعد توقف واستسقاء: أن الوفاء كان في غاية ذي الحجة سنة 870 الموافق 20 مسرى، وكل التقاويم أجمعت على أن 20 مسرى يطابق غرة المحرم سنة 871
1468
873
أوفى بعد توقف وهبط سريعا أثناء توت وتزايد الغلاء
1477
882
فتح السد أول يوم من مسرى، وانتهت الزيادة إلى 20 ذراعا و21 أصبعا في أواخر بابه فغرقت الأراضي والطرق
1478
883
وجاء في كوكب الروضة أن الوفاء كان في 29 أبيب
1479
884
وفتح السد في غاية أبيب
1484
889
انتهت الزيادة إلى 19 ذراعا و33 أصبعا وهبط بسرعة في أواخر مسرى فاشتد الغلاء
1485
890
انتهت الزيادة إلى 17 ذراعا فاشتد الغلاء
1489
894
وفي كوكب الروضة الوفاء في 5 مسرى، وكسر السد في 6 منه
1491
896
الموافق ليلة عيد الفطر وكسر السد ثاني شوال
1492
897
وسارت بالبشرى في البلاد رسائل
1496
902
أوفى بعد توقف وفتح الخليج يوم 28 فكان الوفاء متأخرا نحو 20 يوما ولم يعم سوى أيام، ثم هبط سريعا فشرقت الأراضي وارتفعت الأسعار
1498
904
أوفى النيل في هذه السنة مرتين الأولى في 29 مسرى والثانية في 20 الحجة، واستمر النيل في الثانية في ثبات إلى أواخر بابه
1500
906
وانتهت الزيادة في 19 ذراعا و17 أصبعا وثبت إلى نصف بابه
1501
907
فتح السد في 9 مسرى
1502
908
وانتهت الزيادة إلى 18 ذراعا و21 أصبعا وكان نيلا شحيحا
1503
909
وانتهت الزيادة إلى 18 ذراعا و13 أصبعا، وثبت إلى عشرين توت
1505
911
انتهت الزيادة إلى 19 ذراعا وأصبعين وهبط سريعا
1507
913
وثبت على 19 ذراعا و5 أصابع إلى عشرين بابه
1508
914
وانتهت الزيادة إلى 18 ذراعا و22 أصبعا وثبت إلى آخر بابه
1509
915
وانتهت الزيادة إلى 17 ذراعا و21 أصبعا وثبت إلى آخر توت
1510
916
وثبت على 19 ذراعا و9 أصابع إلى 17 توت
1511
917
وفتح السد في اليوم الذي يليه وانتهت الزيادة إلى 20 ذراعا وأصبعا
1512
918
وانتهت الزيادة إلى 19 ذراعا و4 أصابع
1514
920
وفتح السد في سادس مسرى
1515
921
وثبت على 20 ذراعا و16 أصبعا في أوائل هاتور وحصل به غاية النفع وفتح السد في 6 مسرى
1516
922
وثبت على
ذراعا
1571
979
سنة خصب حيث زاد النيل فيها زيادة كثيرة
1622
1031
زاد النيل زيادة عظيمة قريبا من 23 ذراعا، ثم بعد نزوله زاد زيادة أخرى عظيمة وتلف بعض الزرع واستمر الخليج يجري بالقاهرة فوق 100 يوم، وحصل بسبب ذلك غلاء عظيم
1641
1051
بلغت الزيادة 15 ذراعا وهبط فوقع الغلاء والقحط
1694
1106
قصر النيل وهبط بسرعة فشرقت الأراضي ووقع الغلاء
1704
1116
توقف النيل فاستسقوا وزاد في 11 توت حتى بلغ 17 ذراعا، فروى بعض البلاد وهبط سريعا فاشتد الغلاء
1722
1134
قصر النيل في هذه السنة وغلت الأسعار في السنة التي بعدها
1778
1192
زاد النيل زيادة مفرطة حتى انقطعت الطرقات واستمر إلى آخر توت
1783
1197
قصر النيل وهبط قبل الصليب بسرعة فشرقت البلاد القبلية والبحرية، وغلت الأسعار حتى بلغ سعر القمح 10 ريالات «الإردب »، واشتد جوع الفقراء
1784
1198
قصر النيل فكانت شدة الغلاء كالسنة التي قبلها
1792
1206
في المحرم من هذه السنة هبط النيل مرة واحدة فشرقت الأراضي ولم يرو منها إلا القليل فاشتد الغلاء
1792
1207
هبط النيل قبل الصليب بعشرة أيام، وذلك بعد الوفاء الذي حصل في السنة التي قبلها، وكان ناقصا عن ميعاد الري نحو ذراعين، فقلت الأسعار حتى بلغ ثمن الإردب من القمح 18 ريالا، وأكلت الناس الميتة من الخيل والحمير والأطفال
1793
1208
بلغ النيل الزيادة المتوسطة وثبت إلى أول بابه وشمل الماء غالب الأراضي بسبب التفات الناس إلى سد المجاري وحفر الترع وإصلاح الجسور
1799
1214
فتح الخليج يوم 24 أغسطس
1800
1215
فتح الخليج في 17 أغسطس وزاد النيل زيادة مفرطة حتى غرقت البلاد وتقطعت الطرق ومكث زائدا إلى آخر توت
1802
1217
وكسر السد في 7 منه
1803
1218
وكسر الخليج صبحها وهو على 17 ذراعا ونقص ماء النيل في أيام النسيء نقصا فاحشا، وانحدر من على الأرض فعلت الأسعار وقامت الناس شدائد
1804
1219
أوفى النيل 17 ذراعا وكسر الخليج في صبح يوم السبت
1806
1221
فتح الخليج يوم الخميس 9 مسرى، ويقال إنه فتح قبل الوفاء
1807
1222
فتح الخليج يوم السبت 7 مسرى، وكان ضعيفا وهاف الزرع
1808
1223
ما وفى النيل إلا بعد أن استقى الناس
1809
1224
أوفى وزاد زيادة مفرطة وتلف بعلوه الدراوي والأقصاب بالوجه القبلي والأرز والقطن
1810
1225
أوفى النيل بعد توقف طال زمنه واستسقى الناس في رابع شعبان، ثم زاد النيل وثبت إلى آخر توت واطمأن الناس
1811
1226
وفتح الخليج ثامن مسرى
1815
1230
ولم يحصل وفاء في آخر أبيب إلا مرة واحدة في سنة 1283، وبينها وبين هذه السنة سنة 47
1816
1231
وفتح السد في 5 منه
1817
1232
جاء النيل مبكرا في نصف بئونة
1818
1233
كانت زيادة النيل مفرطة لم يسمع بمثلها، وأغرق كثيرا من الزروع الصيفية، وانهدم بسببه قرى كثيرة وغرق كثير من الناس والحيوان، وعلا الماء على جزيرة الروضة حتى صارت السفن تسير فوقها
1819
1234
كانت زيادة النيل مفرطة أكثر من العام الماضي واستمر عاليا إلى منتصف هاتور حتى فات أوان الزراعة
1820
1235
فتح السد رابع مسرى، وكانت زيادة النيل مفرطة وأغرقت الزرع والأماكن
1821
1236
لم يستتم النيل أذرع الوفاء إلى 18 مسرى حتى ضجر الناس وضج الفلاحون
1847
1263
وقد بلغ النيل 16 ذراعا و7 أصابع، وكانت نهاية النيل 23 ذراعا وأصبعين
1848
1264
وكان الماء على 16 ذراعا وكانت نهاية الفيضان 24 ذراعا و6 أصابع
1873
1290
وكان الماء على 15 ذراعا و8 أصابع، وفي اليوم الذي بعده 16 ذراعا و8 أصابع، وكانت نهاية الفيضان 20 ذراعا و13 أصبعا، وهبط مبكرا
1874
1291
وكان الماء على 15 ذراعا و16 أصبعا، وفي اليوم الذي بعده 16 ذراعا و13 أصبعا، وبلغ في نهاية الفيضان 26 ذراعا و13 أصبعا، وحصل غرق تسبب عنه كسر قنطرة الشرقاوية، وقطع السكة الحديدية التي هي بين بولاق الدكرور والمنيا، واستمر الماء 115 يوما، ولولا العناية التي بذلت من الحكومة وسنها قوانين صارمة لنشأ عن الغرق مضرات لا يمكن حصرها، وقد جمع الأجانب مبالغ بقصد عمل تمثال للمغفور له الخديوي إسماعيل باشا، في مقابلة العناية التي بذلها، ولكنه فضل إنشاء مدرسة مجانية أنشئت في الإسكندرية بدلا من إقامة التمثال، وهي باقية للآن
1875
1292
والماء على 15 ذراعا و16 أصبعا وهو أزيد من الوفاء بثلاثة عشر قيراطا، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و22 أصبعا
1876
1293
والماء على 15 ذراعا و6 أصابع وهو أزيد من الوفاء بثلاثة قراريط، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و23 أصبعا
1877
1294
والماء على 15 ذراعا و3 أصابع وهو المقدار المقرر للوفاء، ولم يبلغ النيل إلا 17 ذراعا و3 أصابع، وهبط سريعا فحصل شراق ترتب عليه ترك نصف مال الوجه البحري ومعظم مال الوجه القبلي حتى بلغ قيمة المتروك من المال 1120000 جنيه عن 1300000 فدان، وقد بلغ ثمن الإردب القمح ثلاثة جنيهات، والذرة جنيهين، وأكل بعضهم الحشائش لسد الرمق، ومات بعضهم وكثرت وقائع القتل والسلب والنهب
1878
1295
والماء على 15 ذراعا و5 أصابع وهو أزيد من الوفاء بقيراطين، وكانت نهاية الفيضان 26 ذراعا و6 أصابع، ومكث الماء في علو 104 أيام
1879
1296
والماء على 15 ذراعا و6 أصابع وهو أزيد من المقدار المقرر للوفاء بثلاثة قراريط، وكانت نهاية الفيضان 24 ذراعا و11 أصبعا
1880
1297
والماء على 15 ذراعا و6 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بثلاثة قراريط، وكانت نهاية الفيضان 21 ذراعا و17 أصبعا وهبط سريعا حيث لم يمكث سوى 59 يوما
1881
1298
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بقيراط واحد، وكانت نهاية الفيضان 21 ذراعا و9 أصابع، ولم يمكث سوى 59 يوما
1883
1300
والماء على 15 ذراعا و22 أصبعا، وفي اليوم الذي بعده 17 ذراعا و3 أصابع، وكانت نهاية الفيضان 24 ذراعا وأصبعا
1884
1301
وكان الماء على 15 ذراعا و12 أصبعا، وفي اليوم الذي بعده 16 ذراعا و17 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و11 أصبعا
1885
1302
وكان الماء على 15 ذراعا و3 أصابع، وهو المقدار المقرر للوفاء، واحتفل بجبر الخليج في غاية أبيب الموافق 15 أغسطس سنة 1885، والنيل يومها 17 ذراعا و18 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و18 أصبعا
1886
1303
والماء على 15 ذراعا و13 أصبعا، وكان في اليوم الذي يليه 16 ذراعا و10 أصابع، وقطع الخليج في 17 أغسطس سنة 1886، والماء على 18 ذراعا و16 أصبعا، وبلغ في النهاية 22 ذراعا و7 أصابع
1887
1304
والماء على 15 ذراعا و16 أصبعا، بزيادة 13 قيراطا عن الوفاء، وجبر الخليج أول مسرى سنة 1603، والماء على 15 ذراعا و19 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 18 ذراعا و14 أصبعا ولم يصل لهذا المقدار إلا في فترة صغيرة فتخلف كثير من الأراضي بدون ري بلغ مقدارها 279600 فدان، ودفع مالها البالغ قدره 342537 جنيها، فقرر مجلس النظار في 10 نوفمبر سنة 1888 قيام نظارة الاشتغال بإجراء تخفيف ويلات الشراقي، وبلغها ذلك في 19 نوفمبر من تلك السنة
1889
1306
والماء على 15 ذراعا و9 أصابع، وكان في اليوم الذي يليه 16 ذراعا، وقطع الخليج في 6 مسرى سنة 1605، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و21 أصبعا
1890
1307
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بقيراط، وجبر الخليج في 3 مسرى والماء على 15 ذراعا و23 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و14 أصبعا
1308
خلت سنة 1308 من وفاء النيل
1891
1309
والماء على 15 ذراعا و11 أصبعا، وكان في اليوم الذي يليه 16 ذراعا و5 أصابع، وقطع الخليج في 9 مسرى سنة 1607، والماء على 17 ذراعا و12 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و20 أصبعا، وتخلف 7830 فدانا بدون ري ورفع مالها وقدره 6522 جنيها
1892
1310
والماء على 15 ذراعا و8 أصابع، وهو أزيد بخمس قراريط عن الوفاء، وجبر الخليج في 3 مسرى والماء على 15 ذراعا و22 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 25 ذراعا وأصبعين
1893
1311
والماء على 15 ذراعا و5 أصابع، وهو أزيد بقيراطين عن الوفاء، وجبر الخليج في 7 مسرى سنة 1609، والماء على 16 ذراعا و17 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و19 أصبعا، وتخلف 7059 فدانا بدون ري ورفع مالها وقدره 6369 جنيها
1894
1312
والماء على 15 ذراعا وأصبعا، وكان في اليوم الذي يليه 16 ذراعا، وجبر الخليج في 7 مسرى سنة 1610، والماء على 18 ذراعا و7 أصابع، وبلغ في النهاية 24 ذراعا و21 أصبعا
1895
1313
والماء على 15 ذراعا و8 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بخمسة قراريط، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و22 أصبعا
1896
1314
والماء على 15 ذراعا و7 أصابع، وهو أزيد 3 قراريط عن الوفاء، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و14 أصبعا
1897
1315
والماء على 15 ذراعا و6 أصابع، وفتح الخليج في 18 أغسطس سنة 1897، وكانت نهاية الفيضان 19 ذراعا و20 أصبعا، وهبط مبكرا وتخلف 11199 فدانا بدون ري ورفع مالها وقدره 8774 جنيها
1898
1316
والماء على 15 ذراعا و5 أصابع، وكان في اليوم الذي يليه 17 ذراعا، وجبر الخليج في 10 مسرى والماء على 19 ذراعا و16 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و10 أصابع، وتخلف 9728 فدانا بدون ري ورفع مالها وقدره 8560 جنيها
1899
1317
والماء على 15 ذراعا و3 أصابع، وهو المقدار المقرر للوفاء، وكانت نهاية الفيضان 16 ذراعا فقط، ومع كونه منحطا فإن أيام الفيضان لم تزد عن 75 يوما
1900
1318
والماء على 15 ذراعا و12 أصبعا، وكان في اليوم الذي يليه 16 ذراعا و14 أصبعا، وكان جبر الخليج في 15 أغسطس سنة 1900، والماء على 18 ذراعا و8 أصابع، وكانت نهاية الفيضان 20 ذراعا و14 أصبعا، وتخلف 11828 فدانا بدون ري ورفع مالها من ميزانية السنة التي بعدها وقدره 8589 جنيها
1901
1319
والماء على 15 ذراعا و7 أصابع، وهو أزيد بأربعة قراريط عن الوفاء، وكانت نهاية الفيضان 21 ذراعا و8 أصابع، وكان نيلا قليلا، وتخلف 7453 فدانا بدون ري ورفع مالها من ميزانية السنة التي بعدها وقدره 5775 جنيها
1902
1320
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بقيراط واحد، وكانت نهاية الفيضان 18 ذراعا و12 أصبعا، وتخلف بسبب انحطاط النيل نحو 119372 فدانا بدون ري ورفع مالها وقدره 108024 جنيها من ميزانية السنة التي بعدها
1903
1321
والماء على 15 ذراعا و6 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بثلاثة قراريط، واحتفل بوفاء النيل في 27 أغسطس والماء على 18 ذراعا و18 أصبعا، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و9 أصابع
1904
1322
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وهو زائد قيراطا عن الوفاء، واحتفل بالوفاء في 27 أغسطس والماء على 18 ذراعا و8 أصابع، وكانت نهاية الفيضان 19 ذراعا وأصبعين، وانصرف مبكرا ولم يرو من الوجه القبلي ما روى إلا بسبب إقفال قناطر أسيوط التي تم إنشاؤها سنتها
1905
1323
والماء على 15 ذراعا و9 أصابع، وفيه 6 أصابع زيادة عن الوفاء، فيه احتفل بالوفاء، وكانت نهاية الفيضان 19 ذراعا أصبعين، وكان الأمر كالعام الماضي
1906
1324
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وفيه قيراط زيادة عن الوفاء، واحتفل في 25 أغسطس بالوفاء، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و8 أصابع
1907
1325
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وفيه قيراط زيادة عن الوفاء، واحتفل بالوفاء في اليوم الذي قبله، وكانت نهاية الفيضان 18 ذراعا و12 أصبعا، ومع كون النيل منحطا انصرف مبكرا
1908
1326
والماء على 15 ذراعا و7 أصابع، وهو أزيد من الوفاء بأربعة قراريط، واحتفل بالوفاء في 22 أغسطس، وكانت نهاية الفيضان 24 ذراعا و4 أصابع
1909
1327
والماء على 15 ذراعا و3 أصابع، وهو المقدار المقرر للوفاء، واحتفل بوفاء النيل في 21 أغسطس، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و16 أصبعا
1910
1328
والماء على 15 ذراعا و9 أصابع، وفيه 6 قراريط زيادة عن الوفاء، واحتفل بالوفاء في 25 أغسطس، وكانت نهاية الفيضان 23 ذراعا و10 أصابع
1911
1329
والماء على 15 ذراعا و4 أصابع، وفيه قيراط زيادة عن الوفاء، واحتفل بالوفاء في 23 أغسطس، وكانت نهاية الفيضان 22 ذراعا و4 أصابع
1912
1330
والماء على 15 ذراعا و7 أصابع، وهو أزيد بأربعة قراريط عن الوفاء، واحتفل بالوفاء في 19 أغسطس، وكانت نهاية الفيضان 20 ذراعا و8 أصابع
1913
1331
والماء على 15 ذراعا و3 أصابع، وهو المقدار المقرر للوفاء، ولكن احتفل بوفاء النيل في هذه السنة في 4 سبتمبر ، والماء على 14 ذراعا و13 قيراطا، ووقع على محضر الوفاء حضرات أصحاب السعادة حسين باشا واصف مفتش ري الجيزة، وأمين بك واصف مدير الجيزة حينذاك بأن هذا المقدار وإن كان أقل من 15 ذراعا و3 أصابع إلا أنه بالنسبة للنظامات الحديثة يكفي للوفاء، وكانت نهاية الفيضان في هذه السنة 15 ذراعا و6 أصابع، وأنه لولا إتمام تعلية الخزان في تلك السنة ما تيسر ري ما روي من أراضي القطر مطلقا
1914
1332
والماء على 15 ذراعا و3 أصابع، وهو المقدار المقرر للوفاء، واحتفل بوفاء النيل في 27 أغسطس سنة 1914، وكانت منتهى الزيادة 21 ذراعا و10 أصابع
تمثال للنيل على شكل إنسان محفوظ اليوم في حدائق التويليري بباريز
Le Nil personnifié Statue du jardin des Tuileries .
نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
لما فقدت مصر استقلالها قبل ألفي سنة تهاون ولاة الأمور الأجانب في شئون البلاد، حتى أهملوا نظام الري وتعطلت زراعة الأرض، ونضبت موارد المعيشة على الناس، فهاجروا وهجروا البلاد فصارت بعدهم أطلالا بالية وآثارا خاوية، وأصبح كثير من الجهات حفرا ومستنقعات، ولو كان في هذه العصور حكومة وطنية تهتم بالمصالح الحيوية لما تمادت على هذا الإهمال الذي أوقع البلاد في مهاوي الدمار والخراب.
وكانت زيادة النيل في هذه العصور تهاجم المدن والقرى فتدمرها لعدم إقامة الجسور واختلال نظام الري الذي عليه مدار الحياة، ومن طبيعة الحكومة الوطنية أن تحافظ على نظامها المرتبط بحياة الأمة، ولكن من سوء حظ مصر أن توالت عليها إذ ذاك حكومات أجنبية مختلفة لم تهتم بمصلحة البلاد، ولا بنظام شئونها كما هي العادة قديما وحديثا في كل زمان ومكان.
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها
تشقى كما تشقى العباد وتسعد
ومن المأثور عن نابليون بونابرت قوله: «من علامة حسن الإدارة في البلاد أن ترى نظام الري معتدلا، والترع مطهرة والفيضان منتفعا به في كل مكان، وإن علامة ضعف الحكومة واختلال شئونها أن ترى الترع معطلة؛ لعدم تطهيرها، والجسور مهدمة، ونظام الري فاسدا وقوانين توزيع المياه جائرة.»
كم تحكمت في مصر حكومات أجنبية أثقلت عواتق الرعية بالضرائب الباهظة والغرامات الفادحة، فكنت ترى أفراد الهيئة الحاكمة من الوالي إلى الجندي البسيط لا هم للجميع إلا جمع المال وإحراز الثروة، وأوقعوا النهب والسلب في المصريين وأذلوهم وأذاقوهم الأمرين حتى سئموا الحياة واضطروا للثورات السياسية.
وكان عبد اللطيف البغدادي
1
طبيبا ابن طبيب، زار مصر سنة 597ه وذكر ما حصل بها من البؤس والشقاء من جراء زيادة فيضان النيل في أرض مصر، فقال في كتابه «مختصر أخبار مصر»:
إن نيل مصر يمد وقت نضوب مياه الأرض، وذلك في شمس السرطان والأسد والسنبلة، فيعلو على الأرض ويقيم أياما، فإذا نزل عنها حرثت وزرعت ثم يكثر الندا في الليل جدا، وبه يتغذى الزرع إلى أن يستحصد، ونهاية ما تدعو إليه الحاجة من الزيادة ثماني عشرة ذراعا فإن زاد على ذلك فإنه يروي أمكنة مستعلية.
وروى لنا ما رآه بعينه من الفظائع التي وقعت في مصر سنة 597: دخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد، وشمل أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهلي السواد كالريف إلى أمهات البلاد، وانجلى كثير منهم إلى الشأم والمغرب والحجاز واليمن، وتفرقوا في البلاد أيادي سبا ومزقوا كل ممزق، ودخل إلى القاهرة ومصر منهم خلق عظيم، واشتد بهم الجوع ووقع فيهم الموت، وعند نزول الشمس بالحمل وبرد الهواء ووقع المرض والموت واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل.
ورأيت صغيرا مشويا في قفة، وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما.
ووجد في رمضان بمصر رجل وقد جردت عظامه من اللحم، فأكل وبقي قفصا كما يفعل الطباخون بالغنم، ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته؛ ولذلك تطلبه بكل حيلة وكذلك كل من آثر الاطلاع على علم التشريح، وحينما نشم الفقراء في أكل بني آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم ويفيضون في ذلك استفظاعا لأمره وتعجبا من نذوره.
ثم اشتد إليه اضطرارهم بحيث اتخذوه معيشة ومطيبة ومدخرا، وتفننوا فيه وفشا عنهم، ووجد بكل مكان من ديار مصر، فسقط حينئذ التعجب والاستشناع واستهجن الكلام فيه والسماع له، ولقد رأيت امرأة مثحجة يسحبها الرعاع في السوق، وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم، لم أر فيهم من يعجب لذلك أو ينكره، فعاد تعجبي منهم أشد، وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم، حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه.
ورأيت قبل ذلك بيومين صبيا نحو الرهاق مشويا، وقد أخذ به شابان أمرا بقتله وشيه وأكل بعضه. وفي بعض الليالي بعد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير، فبينما هو إلى جانبها انتهزت غفلتها عنه صعلوكة، فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نيا. وحكت لي عدة نساء أنه يتوثب عليهن لاقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن.
ورأيت مع امرأة فطيما لحيما فاستحسنته وأوصيتها بحفظه، فحكت لي أنها بينا تمشي على الخليج انقض عليها رجل جاف ينازعها ولدها، فترامت على الولد نحو الأرض حتى أدركها فارس وطرده عنها، وزعمت أنه كان يهم بكل عضو يظهر منه أن يأكله، وأن الولد بقي مدة مريضا لشدة تجاذبه بين المرأة والمفترس.
وتجد أطفال الفقراء وصبيانهم ممن لم يبق له كفيل ولا حارس، منبثين في جميع أقطار البلاد وأزقة الدروب كالجراد المنتشر، ورجال الفقراء ونساؤهم يتصيدون هؤلاء الصغار ويتغذون بهم، وإنما يعثر عليهم في الندرة وإذا لم يحسنوا التحفظ.
وأكثر ما كان يقع من ذلك مع النساء، وما أظن العلة فيه إلا أن النساء أقل حيلة من الرجال، وأضعف عن التباعد والاستتار، ولقد أحرق بمصر خاصة في أيام يسيرة ثلاثون امرأة كل منهن تقر أنها أكلت جماعة، فرأيت امرأة قد أحضرت إلى الوالي وفي عنقها طفل مشوي فضربت أكثر من 200 سوط على أن تقر فلا تحير جوابا، بل تجدها قد انخلعت عن الطباع البشرية، ثم سحبت فماتت على مكان.
وإذا أحرق آكل أصبح وقد صار مأكولا؛ لأنه يعود شواء ويستغنى عن طبخه.
ثم نشأ فيهم أكل بعضهم بعضا حتى تفانى أكثرهم، ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير منهم من يفعله حاجة ومنهم من يفعله استطابة.
وحكى لنا رجل أنه كان له صديق أدقع في هذه النازلة، فدعاه صديقه هذا إلى منزله ليأكل عنده على ما جرت به عادتهما قبل، فلما دخل منزله وجد عنده جماعة عليهم رثاثة الفقر، وبين أيديهم طبيخ كبير اللحم وليس معه خبز، فرابه ذلك وطلب المرحاض، فصادف عنده خزانة مشحونة برمم الآدمي، وباللحم الطري، فارتاع وخرج فارا. وظهر من هؤلاء الخبثاء من يتصيد الناس بأصناف الحبايل، ويجتلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل، وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطباء: أما أحدهم فإن أباه خرج فلم يرجع، وأما الآخر فإن امرأة أعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضها، فلما توغلت به مضايق الطرق استراب وامتنع عنها وشنع عليها، فتركت درهميها وانسلت، وأما الثالث فإن رجلا استصحبه إلى مريضه في الشارع يزعمه وجعل في أثناء الطريق يصدف «بالكسر»، ويقول: اليوم يغتنم الثواب ويتضاعف الأجر، ولمثل هذا فليعمل العاملون، ثم كثر حتى ارتاب منه الطبيب، ومع ذلك فحسن الظن يغلبه وقوة الطبع تجذبه، حتى أدخل دارا خربة فزاد استشعاره وتوقف في الدرج.
وسبق الرجل فاستفتح فخرج إليه رفيقه يقول له: هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فخرج الطبيب لما سمع ذلك، وألقى نفسه إلى إصطبل من طاقة صادفها لسعادته، فقام إليه صاحب الإصطبل يسأل عن قضيته، فأخفاها عنه خوفا منه أيضا، فقال له: قد علمت حالك، فإن أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالختل.
ووجد بأطفيح عند عطار عدة خوابي ملأى بلحم الآدمي وعليه الماء والملح، فسألوه عن علة اتخاذه والاستكثار منه فقال: خفت إذا دام الجدب أن يهزل الناس.
وكان جماعة من الفقراء قد آووا إلى جزيرة وتستروا ببيوت طين يتصيدون فيها الناس، ففطن لهم وطلب قتلهم فهربوا، ووجد في بيوتهم من عظام بني آدم شيء كثير، وخبرني الثقة أن الذي وجد في بيوتهم أربعمائة جمجمة.
ومما شاع وسمع من لفظ الوالي، أن امرأة أتته سافرة مذعورة، تذكر أنها قابلة وأن قوما استدعوها وقدموا لها صحنا فيه مكباج محكم الصنعة مكمل التوابل فألفته كثير اللحم مباينا للحم المعهود، فتقززت منه ثم وجدت خلوة ببنت صغيرة فسألتها عن اللحم فقالت: إن فلانة السمينة دخلت لتزورها فذبحها أبي وها هي معلقة إربا، فقامت القابلة إلى الخزانة فوجدتها أنابير لحم، فلما قصت على الوالي القصة، أرسل معها من هجم الدار وأخذ من فيها، وهرب صاحب المنزل ثم صانع عن نفسه في خفية بثلاثمائة دينار ليحقن بذلك دمه.
ومن غريب ما حدث من ذلك أن امرأة من نساء الأجناد ذات مال ويسار كانت حاملا، وزوجها غائب في الخدمة، وكان يجاورها صعاليك فشمت عندهم رائحة طبيخ فطلبت منه، كما من عادة الحبالى، فألفته لذيذا فاستزادتهم فزعموا أنه نفد، فسألتهم عن كيفية عمله فأسروا إليها أنه لحم بني آدم، فواطأتهم على أن يتصيدوا لها الصغار وتجزل لهم العطاء، فلما تكرر ذلك منها وضريت وغلبت عليها الطباع السبعية ، وشى بها جواريها خوفا منها، فهجم عليها فوجد عندها من اللحم والعظام ما يشهد بصحة ذلك فحبست مقيدة وأرجئ قتلها احتراما لزوجها وإبقاء على الولد في جوفها.
ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر، وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صدفناه اتفاقا، بل كثيرا ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره.
وأما من يتحين ذلك بدار الوالي فإنه يجد منه أصنافا تحضر مع آناء الليل والنهار، وقد يوجد في قدر واحدة اثنان وثلاثة وأكثر، ووجد في بعض الأيام قدر فيها عشر أيد كما تطبخ أكارع الغنم، ووجد مرة أخرى قدر كبيرة وفيها رأس كبيرة وبعض الأطراف مطبوخا بقمح وأصناف من هذا الجنس تفوت الإحصاء.
وكان عند جامع ابن طولون قوم يتخطفون الناس، ووقع في حبالتهم شيخ كتبي بدين ممن يبتاعون الكتب، فأفلت بجريعة الذقن.
وكذلك بعض أقوام من جامع مصر وقع في حبالة قوم آخرين بالقرافة، فتداركه الناس فخلص من الوهق وله حصاص، وأما من خرج عن أهله فلم يرجع إليهم فخلق كثير.
وحكى لي من أثق به أنه اجتاز على امرأة بخربة، وبين يديها ميت قد انتفخ وتفجر، وهي تأكل من أفخاذه، فأنكر عليها، فزعمت أنه زوجها، وكثيرا ما يدعي الآكل أن المأكول ولده أو زوجه أو نحو ذلك، ورؤي مع عجوز صغير تأكله فاعتذرت بأن قالت: إنما هو ولد ابنتي وليس بأجنبي مني، ولأن آكله أنا خير من أن يأكله غيري. وأشباه هذا كثير جدا حتى إنك لا تجد أحدا في ديار مصر إلا وقد رأى شيئا من ذلك، حتى أرباب الزوايا والنساء في خدورهن.
ومما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى، وبيع لحومهم، وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر، ليس فيها بلد إلا وقد أكل فيه الناس أكلا ذريعا، من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحي.
وخبرني بعض أصحابي، وهو تاجر مأمون حين ورد من الإسكندرية بكثرة ما عاين بها من ذلك، وأعجب ما حكى لي أنه عاين رءوس خمسة صغار مطبوخة في قدر واحدة بالتوابل الجيدة. وهذا المقدار في هذا الاقتصاص كان، فإني وإن كنت قد أسهبت أعتقد أني قد قصرت، وأما القتل والفتك في النواحي فكثير فاش في كل فج، ولا سيما طريقي الفيوم والإسكندرية، وقد كان بطريق الفيوم ناس في مراكب يرخصون الأجرة على الركاب، فإذا توسطوا بهم الطرق ذبحوهم وتساهموا أسلابهم، وظفر الوالي منهم بجماعة فمثل بهم، وأقر بعضهم عندما أوجع ضربا أن الذي خصه دون رفقائه ستة آلاف دينار. وأما موت الفقراء هزالا وجوعا فأمر لا يحيط علمه إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما نذكر منه كالأنموذج يستدل به اللبيب على فظاعة الأمر.
فالذي شاهدنا بمصر والقاهرة وما يليهما أن الماشي أين كان لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميت، أو من هو في السياق أو على جمع كثير بهذه الحال، وكان يرفع من القاهرة خاصة إلى الميضاة كل يوم ما بين مائة إلى 500.
وأما مصر فليس لموتاها عدد، ويرمون ولا يوارون، وأما من عجزوا عن رميهم فبقوا في الأسواق، وبين البيوت والدكاكين وفيها، والميت منهم قد تقطع وإلى جانبه الشواء والخباز ونحوه.
وأما الضواحي والقرى فإنه هلك أهلها قاطبة إلى ما شاء الله، وبعضهم انجلى عنها، اللهم إلا الأمهات والقرى الكبار كقوص والأشمونين والمحلة ونحو ذلك، ومع هذا أيضا فلم يبق فيها إلا تحلة القسم، وإن المسافر ليمر بالبلدة فلا يجد فها نافخ ضرمة، ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى متقابلين بعضهم قد ورم وبعضهم طري، وربما وجد في البيت أثاثه وليس له من يأخذه.
حدثني ذلك غير واحد كل منهم حكى ما يعضد به قول الآخر، قال أحدهم: دخلنا مدينة فلم نجد فيها حيوانا في الأرض ولا في السماء، فتخللنا البيوت فألفينا أهلها كما قال الله عز وجل:
جعلناهم حصيدا خامدين ، فنجد ساكن كل دار موتى فيها الرجل وزوجه وأولاده، قال: ثم انتقلنا إلى بلد آخر ذكر لنا أنه كان فيه أربعمائة دكان للحياكة، فوجدناها كالتي قبلها في الخراب، وإن الحايك في بير حياكته ميت وأهله موتى حوله، فحضر لي قول الله تعالى:
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ، قال: ثم انتقلنا إلى بلد آخر فوجدناه كالذي قبله ليس به أنيس وهو مشحون بموتى أهله. قال: واحتجنا إلى الإقامة به لأجل الزراعة، فاستأجرنا من ينقل الموتى مما حولنا إلى النيل، كل عشرة بدرهم. قال: ولكن قد بدلت البلاد بالذئاب والضباع ترتع في لحوم أهلها.
ومن عجيب ما شاهدت أني كنت يوما مشرفا على النيل مع جماعة، فاجتاز علينا في نحو ساعة نحو عشرة موتى كأنهم القرب المنفوخة، هذا من غير أن نتقصد رؤيتهم ولا أحطنا بعرض البحر، وفي غد ذلك اليوم ركبنا سفينة فرأينا أشلاء الموتى في الخليج وسائر الشطوط، كما شبهها ابن حجر بأنابيش الفصل، وخبرت عن صياد بفرضة تنيس أنه مر به في بعض نهار أربعمائة غريق يقذف بهم النيل إلى البحر الملح.
وأما طريق الشأم فقد تواترت الأخبار أنها صارت مزرعة لبني آدم، بل محصدة، وأنها عادت مأدبة بلحومهم للطير والسباع، وأن كلابهم التي صحبتهم من منجلاهم هي التي تأكل فيهم.
وأول من هلك في هذا الطريق أهل الحوف، عندما انتجعوا إلى الشأم وانتشروا في هذه المسافة مع طولها كالجراد المحسوس، ولم تزل تتواصل هلكاهم إلى الآن، وانتهى انتجاعهم إلى الموصل وبغداد وخرسان، وإلى بلاد الروم والمغرب واليمن، ومزقوا في البلاد كل ممزق.
وكثيرا ما كانت المرأة تملص من صبيتها في الزحام، فيتضورون حتى يموتوا.
وأما بيع الأحرار فشاع وذاع عند من لا يراقب الله حتى تباع الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وعرض علي جاريتان مراهقتان بدينار واحد، ورأيت مرة أخرى جاريتين إحداهما بكر ينادى عليهما بأحد عشر درهما.
وسألتني امرأة أن أشتري ابنتها، وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم، فعرفتها أن ذلك حرام، فقالت: خذها هدية، وكثيرا ما يترامى النساء والولدان الذين فيهم صباحة على الناس بأن يشتروهم أو يبيعوهم، وقد استحل ذلك خلق عظيم، ووصل سبيهم إلى العراق وأعماق خراسان.
وباشرنا لبعض الرؤساء زراعة فأرسل من يقوم بها، ثم بعث يسأل عنهم فجاء الخبر بموتهم أجمعين، فأرسل عوضهم فمات أكثرهم هكذا مرات في عدة جهات.
وسمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركة واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا.
ومن عجيب الكائنات في هذه المدة، أنه ولد مولود أبيض الشعر ورأيته.
وأما خراب البلاد والقرى وخلو المساكن والدكاكين فهو مما يلزم هذه الجملة التي قصصناها، وناهيك أن القرية التي كانت تشتمل على زها عشرة آلاف نسمة تمر عليها فتراها دمنة، وربما وجد فيها نفر وربما لم يوجد، وأما مصر فخلا معظمها، وأما بيوت الخليج وزقاق البركة وحلب والمقس وما تاخم ذلك فلم يبق فيها بيت مسكون أصلا، بعدما كان كل قطر منها قدر مدينة في زحمة من الناس، حتى إن الرباع والمساكن والدكاكين التي في سرة القاهرة وخيارها أكثرها خال خراب.
ولم يبق لأهل المدينة وقود في تنانيرهم وأفرانهم وبيوتهم إلا خشب السقوف والأبواب والزروب، ومما يقضي منه العجب أن جماعة من الذين ما زالوا محدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة، فمنهم من أثرى بسبب متجرة من القمح، ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل إليه بالإرث، ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف، فتبارك من بيده القبض والبسط، ولكل مخلوق من عنايته قسط.
وأما خير النيل في هذه السنة فإنه احترق في برمودة احتراقا كثيرا، وصار المقياس في أرض جرز، وانحسر الماء عنه نحو الجيزة، وظهر في وسطه جزيرة عظيمة طويلة ومقطعات أبنية، وتغير الماء في ريحه وطعمه، ثم تزايد التغير ثم انكشف أمره عن خضرة طحلبية، كلما تطاول الأيام ظهرت وكثرت كالتي ظهرت في أبيب من السنة الحالية، ولم تزل الخضرة تتزايد إلى آخر شعبان، ثم تناقصت إلى أن ذهبت وبقي في الماء أجزاء نباتية منبثة فقط، وطاب طعمه وريحه، ثم أخذ في رمضان ينمو وتقوى جريته إلى اليوم السادس عشر منه، فقاس فيه ابن أبي الرداد قاع البركة فكان ذراعين، وأخذ في زيادة ضعيفة أضعف من السنة الخالية، ولم يزل في زيادة ضعيفة إلى ثامن ذي القعدة، وهو السابع عشر من مسرى، فزاد أصبعا ثم وقف ثلاثة أيام، فأيقن الناس بالبلا واستسلموا للهلكة، ثم أخذ في زيادات قوية أكثرها ذراع إلى ثالث ذي الحجة، وهو السادس من توت، فبلغ خمس عشرة ذراعا وست عشرة أصبعا، ثم انحط من يومه وانهزم على فوره، ومس بعض البلاد تحلة القسم فكأنما زارها طيف خياله في الحلم.
وإنما انتفع به ما كان في البلاد مطمأنا فأروى المنخفضات كالغربية ونحوها، غير أن القرى خالية عن فلاح أو حراث أصلا فهم كما قال الله تعالى:
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، وإنما أرباب الجدات يجمعون شذاذهم ويلتقطون أفرادهم، وقد عز الحراث والبقر جدا حتى بيع الثور الواحد بسبعين دينارا، والهزيل بدون ذلك.
وكثير من البلاد ينحسر عنها الماء بغير حقه ولغير وقته؛ إذ ليس بها من يمسك الماء ويحبسه فيها فتبور لذلك مع ريها، وكثير مما روي يبور لعجز أهله عن تقاويه والقيام عليه، وكثير مما زرع أكلته الدودة، وكثير مما سلم منها أضوى وعطب، ونهاية سعر القمح في هذه السنة خمسة دنانير للإردب، والفول والشعير بأربعة دنانير، وأما بقوص والإسكندرية فبلغ ستة دنانير.
ومن الله سبحانه برجوع الفرج وهو المتيح للخير بمنه وجوده.
وفي حوادث سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، دخلت هذه السنة والأحوال التي شرحناها في السنة الخالية على ذلك النظام إلى زها نصفها، فتناقص موت الفقراء لقلتهم لا لارتفاع السبب الموجب.
وحكي أنه كان في مصر تسعمائة منسج للحصر، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجا، وقس على هذا سائر ما جرت العادة أن يكون في المدينة من باعة وخبازين وعطارين وأساكفة وخياطين وغير ذلك من الأصناف، فإنه لم يبق من كل صنف من هؤلاء إلا نحو ما بقي من الحصيرين أو أقل من ذلك.
وأما الدجاج فعدم رأسا، لولا أنه جلب منه شيء من الشأم، وحكي لي أن رجلا مصريا شارف الفقر، فألهم أن اشترى من الشأم دجاجا بستين دينارا، وباعها بالقاهرة على القماطين بنحو ثمانيمائة دينار، ولما وجد البيض بيع بيضة بدرهم ثم بيضتان ثم ثلاثا ثم أربع واستمر على ذلك، وأما الفراريج فبيع الفروج بمائة درهم، ولبث برهة يباع الفروج بدينار فصاعدا.
والذي دخل تحت الإحصاء من الموتى ممن كفن، وجرى له اسم في الديوان وضمته الميضاة في مدة اثنين وعشرين شهرا أولها شوال في سنة ست وتسعين، إلى رجب في سنة ثمان وتسعين، مائة ألف نفس وأحد عشر ألفا إلا آحادا، وهذا مع كثرته نزر في جنب الذين هلكوا في دورهم وفي أطراف المدينة وأصول الحيطان، وجميع ذلك نزر في جنب من هلك بمصر وما تاخمها، وجميع ذلك نزر في جنب من أكل في البلدين، وجميع ذلك نزر جدا في جنب من هلك وأكل في سائر البلاد والنواحي والطرقات، وخاصة طريق الشأم فإنه لم يرد أحد من ناحيته فسألته عن الطرق إلا ذكر أنها مزرعة بالأشلا والرمم، وهكذا ما سلكته منها، ثم إنه وقع بالفيوم والغربية ودمياط والإسكندرية موت عظيم ووباء شديد، ولا سيما عند وقت الزراعة، فيموت على المحراث الواحد عدة فلاحين، حكي لنا أن الذين بذروا غير الذين حرثوا كذلك الذين حصدوا.
وباشرنا لبعض الرؤساء زراعة فأرسل من يقوم بها، ثم بعث يسأل عنهم فجاء الخبر بموتهم أجمعين، فأرسل عوضهم فمات أكثرهم، هكذا مرات في عدة جهات.
وأعجب من جميع ما اقتصصناه أن الناس، مع ترادف هذه الآيات، عاكفون على أصنام شهواتهم لا يرعوون، مغمسون في بحر ضلالاتهم، كأنهم هم المستثنون، فمن ذلك اتخاذهم بيع الأحرار متجرا ومكتسبا، ومنه عهارهم بهؤلاء النسوة، حتى إن منهم من يزعم أنه افتض خمسين بكرا، ومنهم من يقول سبعين.
وسمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركة واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثا، إلخ.
رسم مجرى النيل حسب خريطة بطليموس المحفوظة بدير جبل أوتوس منقول من كتاب عنوانه:
The Nile question
وضع السر
Hurry Johstone .
مصبات النيل: حسب عقيدة القدماء
لإحصاء هذه الجداول خطأ غير مقصود، وإن تناوله الناقلون خلفا عن سلف منذ العصور الأولى، وخلاصة القول أن مصبات النيل «أي جداوله» سبع، وممن سرى إلى رواياتهم الخطأ في إحصائها الفيلسوف الشهير سنيك.
وقد قال المؤرخون القدماء أن مصبات النيل سبع، ويظهر أن مصباته الأصلية اثنان، وهما الفرعان اللذان ينقسمان تحت مدينة القاهرة، ومنهما تفرع باقي المصبات في عهد الفراعنة، توصلا لإرواء المسافات الكبيرة التي كانت محرومة من الري والزرع، وباقتضاء العمران توسعوا في الاستفادة من هذه الفروع، فتدفقت منها الخيرات على العباد والبلاد، وشكروا الأيدي العاملة التي قامت بهذه المشروعات النافعة، والمصبان الطبيعيان المذكوران هما الكانوبي
Canopique
في الجهة الغربية، والبلوزي
في الجهة الشرقية.
وقال هيردوت في كتابه الثاني الفصل 17 في القرن الرابع ق.م: «إن مصبات النيل من الجهة الشرقية إلى الجهة الغربية من جهة البحر خمس، وهي: البلوزي
والصعيدي
Saitique
والمنديزي
Mendésique
والسبنيتي
Sebennytique
والكانوبي
Canopique .»
وقال سترابون في كتابه 17 الفصل الأول في القرن الأول ق.م: «إن مصبات النيل من الشرق إلى الغرب سبع وهي: البليزي والتانيتي
Tanitique
والمنديزي
Mendésique ، والفاتنيتي
، والسبنيتي
Sebennytique ، والبلبيتي
Bolbitique
والكانوبي.»
وقال ابن الحكم من علماء القرن الثالث للهجرة: «إن مصبات النيل سبع، ولم يتفق مع العلماء إلا في العدد فقط، وهي: (1) بنها. (2) الفيوم. (3) ممفيس. (4) سردوس. (5) دمياط. (6) سخا. (7) إسكندرية.»
مقاييس النيل في عهد الفراعنة
أوجد الفراعنة مقاييس نظامية في كثير من المناطق؛ للرجوع إليها في موازنة المياه وتوزيعها بين الأقاليم توزيعا ثابتا يفي بحالتها الطبيعية، وبنوا هذه المقاييس على نسبة اختبارية في فصول السنة كلها، لتكون هذه المقاييس ميزانا صحيحا، حتى إذا طرأت بعض العوارض في منطقة أمكنهم حصر ميزانيات الماء فيها، فلا يحدث من انحدارها القهري إخلال بالنظام يؤذي المناطق المجاورة، وهذه الاختبارات تدل على حذق وفطنة.
قال سترابون في كتابه بالفصل 17 العدد 1: «كان لدى قدماء المصريين مفتشون فنيون يجيبون الناس والحكام عن كل الملاحظات التي تطلب منهم بتواريخ بدء الفيضان ونسبته؛ لأن لديهم علامات ثابتة «أي المقاييس» يرجعون إليها في معرفة ذلك قبل أوان الفيضان، وأنه يوجد بمدينة بيلاق مقياس يشبه مقياس مدينة ممفيس، والمقياس المبني من الحجر على شاطئ النيل هو عبارة عن بئر تتوازن فيه درجة المياه ارتفاعا وانخفاضا على مقدار مياه النهر، وقد نقشوا في جوانب البئر إشارات تدل على درجات الفيضان في كل عام.» وقد أيدت الاكتشافات الأخيرة رأي هذا المؤرخ، وعثر علماء البعثة المصرية على مقياس مدينة بيلاق، وزاره جومار قبل ترميمه، وقال في وصفه ما يأتي: «يتألف هذا المقياس من سطح مربع، ومنه ينزل بسلم إلى 85 درجة، وينقسم سطحه إلى ثلاثة أجزاء، وفيه باب يفتح إلى النيل لا يمكن النظر إليه إلا وقت انخفاض المياه، وجدرانه المتطرفة مبنية بقطع أفقية من الحجر الجرانيت، وقد صالت يد القدم على النقوش الهيروغليفية، ولم يبق من الآثار اليونانية فيه إلا النذر القليل.»
قال هليودور: «كان في مدينة سيين مقياس للنيل دقيق في الصنع والمزية الفنية في أوائل استعمارهم لمصر، فأقاموا فيها المعاقل والحصون لتحفظ الحدود الملاصقة لبلاد الحبش.» وإلى هذا يرجع رأي من قال: إن مقياس مدينة سيين هو المقياس الذي كان في مدينة بيلاق؛ لأن موقعيهما متقاربان جدا، ويسري إلى الظن الخطأ في الرواية أو نسبة كل مدينة منهما إلى اشتمالها على مقياس خاص لها.
ويوجد بين الآثار المحفوظة في المتحف البريطاني نصوص هيروغليفية، تثبت أن الملك سنوسرت الثالث صنع في السنة الثامنة من حكمه بعض إصلاحات في مقياس بيلاق خلاصتها: «في السنة الثامنة من الشهر الثالث من فصل الفيضان، في عهد ملك الوجهين البحري والقبلي سنوسرت الثالث المحبوب من ساتيت «معبودة مدينة بيلاق» الخالد الذكر، قد أمر وزيره أمني بعمل باب من مباني مقياس بيلاق ...» إلخ.
وقد ذكر مقياس النيل في كتاب الموتى، يقول الميت: «أيتها الدار كراو التي يقابلها النيل في أعلا تاتو، حيث يقاس النيل في ممره.»، ويقول الميت أيضا في الفصل 110 من كتاب الموتى: «قد وصلت إلى إقليم كبير وقت الفيضان»، ويتضح من هذه النصوص الدينية أن الميت يقصد مقياس النيل، ويعد نفسه سعيدا لكونه قاس الفيضان الذي يجعل مصر مخصبة بمحض الهبة الإلهية.
ونشر بروكش باشا نقوشا يرجع تاريخها إلى عصر البطالسة، خاصة بمقياس النيل الكائن في مدينة بيلاق، ونصها: «متى خرج النيل في وقته من منبعك يكون ارتفاعك في بيلاق 24 ذراعا.» ووجد العالم جورج داريسي في مدينة هابو مقياسا للنيل كمقياس بيلاق، ومنقوشا فيه اسم نقتانيبو الأول أحد ملوك الأسرة التاسعة والعشرين، ولم توجد معلومات يستنتج منها دراجات الفيضان في هذا المكان.
وقد اندرست بمرور الزمن مقاييس أخرى كانت في مناطق عديدة، بل كان بقرب كل معبد في مدينة على النيل مقياس خاص بها، يستفيد به أهل الجهات في معرفة درجات الفيضان في أوائله ونهايته.
وقد قال ديودور الصقلي: إن مدينة ممفيس كان بها مقياس شهير، وأثبت بشأنه العبارة الآتية:
لما كانت مسألة الفيضان الشغل الشاغل عند الملوك المصريين اعتنوا في بناء مقاييس له، ومن جملتها مقياس مدينة ممفيس، وبواسطته كانوا يعرفون درجات الفيضان بالضبط.
وقال سترابون: إن مقياس النيل الذي في مدينة بيلاق بني على نسق مقياس مدينة ممفيس.
وقال بروكش باشا العالم الأثري: إنه كان في مدينة ديوبوليس مقياس خاص بها. وكان الفيضان يصل في مدينة بيلاق إلى 28 ذراعا، وكان مستوى الفيضان سبعة أذرع في مدينة ديوسبوليس. ووصف المؤرخ بلين آبارا وجد فيها درجات مقسمة خاصة بمقاييس النيل بطريقة مختصرة لأهل البلاد الموجودة بها.
وقد عثر سنة 1894 على جدار أثري منقوش فيه احتفال بفيضان النيل، بالعبارة الآتية ترجمتها: «في السنة 10 في الشهر الثاني من فصل الصيف جاء النيل ذاخرا.» واكتشف المسيو جورج لجران نقوشا على رصيف الكرنك، تبين الجهات التي ابتدأ فيها الفيضان من السنة السادسة من حكم الملك ششنق الأول، إلى السنة 19 من عهد الملك بسامتيك. وقال سترابون الجغرافي اليوناني أنه رأى نقوشا تثبت تعيين مفتشين فنيين، كانوا يراقبون زيادة النيل ونقصانه في المقاييس، وربما كان هؤلاء الأشخاص هم الكتبة المذكورون في شاهد حجري محفوظ بمتحف ليد، يرجع تاريخه إلى الأسرة 12، ومنقوش عليه هذا اللقب باللغة المصرية القديمة: «الكاتب المنوط بمقياس الفيضان ...» إلخ.
ذكر مقاييس النيل وزيادته في عهد العرب
قال ابن عبد الحكم: أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، ووضع مقياسا بمنف، ثم وضعت العجوز دلوكة ابنة زبا، وهي صاحبة حائط العجوز، مقياسا بأنصنا، وهو صغير الذرع ومقياسا بإخميم، ووضع عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وهو صغير، ووضع أسامة بن زيد التنوخي في خلافة الوليد مقياسا بالجزيرة وهو أكبرها، قال يحيى بن بكير: أدركت القياس يقيس في مقياس منف، ويدخل بزيادته إلى الفسطاط.
وقال القضاعي: كان أول من قاس النيل بمصر يوسف عليه السلام، وبنى مقياسا بمنف، وهو أول مقياس صنعه عليه السلام. وقيل: إن النيل كان يقاس بأرض علوة إلى أن بني مقياس منف، وإن القبط كانت تقيس عليه إلى أن بطل، ومن بعده دلوكة العجوز بنت مقياسا بأنصنا وهو صغير الذراع، ومقياسا آخر بإخميم وهي التي بنت الحائط المحيط بمصر، وقيل: إنهم كانوا يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرصاصة، فلم يزل المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيسارية الأكسية ومعالمه هناك، إلى أن ابتنى المسلمون بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن، وكان للروم أيضا مقياس بالقصر خلف الباب يمنة في مدخله في داخل الزقاق، أثره قائم إلى اليوم، وقد بني عليه وحوله، ثم بنى عمرو بن العاص عند فتحه مصر مقياسا بأسوان، ثم بنى بموضع يقال له: دندرة، ثم بني في أيام معاوية مقياس بأنصنا، فلم يزل يقاس عليه إلى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان وكانت منزله، وكان هذا المقياس صغير الذراع، فأما المقياس القديم الذي بني في الجزيرة فالذي وضعه أسامة بن زيد، وقيل: إنه كسر فيه ألفي أوقية، وهو الذي بنى بيت المال بمصر، ثم كتب أسامة بن زيد التنوخي عامل خراج مصر لسليمان بن عبد الملك ببطلانه، فكتب إليه سليمان بأن يبني مقياسا في الجزيرة فبناه في سنة سبع وتسعين، ثم بنى المتوكل فيها مقياسا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين في ولاية يزيد بن عبد الله التركي على مصر، وهو المقياس الكبير المعروف بالجديد، وأمر بأن يعزل النصارى عن قياسه، فجعل يزيد بن عبد الله على المقياس أبا الرداد المعلم، واسمه عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن الرداد المؤذن، كان يقول العمي: أصله من البصرة، قدم مصر وحدث بها، وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج مصر يومئذ دنانير في كل شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت في يد أبي الرداد وولده إلى اليوم، وتوفي أبو الرداد سنة ست وستين ومائتين، ثم ركب أحمد بن طولون سنة تسع وخمسين ومائتين، ومعه أبو أيوب صاحب خراجه وبكار بن قتيبة القاضي، فنظر إلى المقياس، وأمر بإصلاحه وقدر له ألف دينار، فعمر وبنى الخازن في الصناعة مقياسا وأثره باق لا يعتمد عليه.
وقال يزيد بن أبي حبيب: إن موسى عليه السلام دعا على آل فرعون، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء ، فطلبوا إلى موسى أن يدعو الله، فدعا الله رجاء أن يؤمنوا، وذلك في ليلة الصليب، فأصبحوا وقد أجراه الله في تلك الساعة ست عشرة ذراعا، فاستجاب الله لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيه موسى عليه السلام.
قال القضاعي: ووجدت في رسالة منسوبة إلى الحسن بن محمد بن عبد المنعم، قال: لما فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يلقى أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حده، في مقياس لهم، فضلا عن تقاصره، وأن فرض الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار، ويدعو الاحتكار إلى تصاعد الأسعار لغير قحط، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال، فأجابه: إني وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربع عشرة ذراعا، والحد الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى، ست عشرة ذراعا، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان، وهما الظمأ والاستبحار اثنتا عشرة ذراعا في النقصان، وثماني عشرة ذراعا في الزيادة، هذا؛ والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلموه من القبط، وخميرة العمارة فيه، فاستشار عمر أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه في ذلك، فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا، وأن ينقص ذراعين على اثنتي عشرة ذراعا، وأن يقر ما بعدها على الأصل، وأن ينقص في كل ذراع بعد الست عشرة ذراعا أصبعين، ففعل ذلك وبناه بحلوان، فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف وزوال ما منه كان يخاف، بأن جعل الاثنتي عشرة ذراعا أربع عشرة؛ لأن كل ذراع أربع وعشرون أصبعا، فجعلها ثمانيا وعشرين من أولها إلى الاثنتي عشرة ذراعا، يكون مبلغ الزيادة على الاثنتي عشرة ثمانيا وأربعين أصبعا، وهي الذراعان، وجعل الأربع عشرة ست عشرة، والست عشرة ثماني عشرة، والثماني عشرة عشرين.
قال القضاعي: وفي هذا الباب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتفاض الأحوال، وشاهد ذلك أن المقاييس القديمة الصعيدية من أولها إلى آخرها أربعة وعشرون أصبعا كل ذراع، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة، وهو الذي هدمه الماء، وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبشرودات، وبنى المتوكل آخر بالجزيرة، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن، وقد تقدم ذكره.
قال ابن عفير عن القبط المتقدمين: إذا كان الماء في اثني عشر يوما في مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء، وإلا فالماء ناقص، وإذا تم ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم، فاعلم ذلك.
وقال أبو الصلت: وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ بالتزيد في شهر أبيب، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب كان للماء دبيب، وعند ابتدائه في التزيد يتغير جميع كيفياته ويفسد، والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة، فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله، فإذا بلغ الماء خمس عشرة ذراعا وزادت السادسة عشر أصبعا واحدا كسر الخليج، ولكسره يوم معدود ومقام مشهود ومجتمع غاص يحضره العام والخاص، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات الخلجان، ففاض الماء وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل، وهي على آكام وربى لا ينتهي الماء إليها، ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامر الماء بين جبليها ريثما يبلغ الحد المحدود في مشيئة الله عز وجل له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أولا فيما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطأمنا فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل تلعة كالبرد المسهم.
وقال القاضي أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية: وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأول من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد، قدرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما، وهي التي تتعامل الناس بها في ذراع البز والتجارة والأبنية وقياس نيل مصر، والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية، تعرف بالأصابع، ما عدا الاثنتي عشرة ذراعا الأولى فإنها مفصلة على ثمانية وعشرين أصبعا كل ذراع.
رسم عمود المقياس مأخوذ من كتاب عنوانه:
The Nile Gauge at Roda.
وضع قاسم بك.
المقياس بناء على تحقيقات مهندسي العصر الحالي
إن مقياس الروضة هو عبارة عن عمود من الحجر، مقسم إلى أذرع وقراريط، موضوع بوسط بئر مربعة من البناء، طول ضلعها نحو الأربعة أمتار، وهو مقام بالنهاية الجنوبية لجزيرة الروضة تجاه مصر القديمة.
أما بناء هذا المقياس فكان في سنة 861م، كما قرره المستر ولكوكس في كتابه: «الري المصري»، وقد وضع الفرنسيون حين دخولهم لهذه البلاد في سنة 1798، واحتلالهم إياها سنتي 1799 و1800، وخروجهم منها في سنة 1801، تاجا مزخرفا فوق عمود المقياس محفور عليه
La République Française ، «أي الجمهورية الفرنساوية، السنة التاسعة من تأسيس الجمهورية»، ولكن بعد مبارحة الفرنسيين قد أسقط هذا التاج في البئر، ووضع بدله قاويس من خشب القرو الثقيل فوق العمود، ثبت من طرفيه بحائطي البئر، هذا ويظهر من فحص وضع القاويس المذكور بالنسبة لقمة عمود المقياس أن هذا العمود لا بد وأن يكون هبط بمقدار 0,19 في خلال القرن الماضي.
ومما يشاهد في هذا المقياس أن التقاسيم المنقوشة على عموده ليست ظاهرة جليا، أما مقادير الأذرع فهي واحدة بطول العمود كله، إنما الأرصاد اليومية تجري لحد الذراع الثانية عشرة فقط على العمود، وما تجاوز ذلك يرصد على تقاسيم أخرى على مدرج من الحجر، بداخل البئر، وليس ارتفاع درج هذا المدرج مقسما تقسيما متساويا، بل إن الأذرع التي تحت 16 ذراعا تساوي الواحدة منها 0,54 من المتر تقريبا، والتي بين 16 ذراعا و22 ذراعا تساوي الواحدة منها 0,027 من المتر تقريبا، أو نصف ذراع ثم ما فوق 22 ذراعا فطول الذراع الواحدة 0,54 من المتر.
وقد أوضح المغفور له الكولونيل روس سبب هذا التقسيم حيث قال: إنه حينما بني المقياس بالروضة كان المعتاد فتح جميع ترع الري عند بلوغ تسوية مياه النيل 16 ذراعا بهذا القياس، وكان يعقب فتح الترع ضرورة تحويل جانب عظيم من مياه النهر لها، ولهذا السبب كان يقدر أن زيادة ذراع واحدة بأسوان يقابلها نصف ذراع فقط بالروضة، وكان يستمر على هذا التقدير حتى تبلغ الزيادة بالروضة 22 ذراعا؛ أي لحد تمام ملء الحيضان وسد أفمام الترع، وبعد ذلك كان يقدر أن كل زيادة تحدث بأسوان كانت تأتي بتمامها لمقياس الروضة، ولهذا كانت أرصاد المقياس بالأذرع الكاملة بعد تجاوز تسوية مياه النيل 22 ذراعا.
أما في أيامنا هذه فنظرا لكون مياه النيل لا تمر بترع الحياض بمقدار كاف، إلا عند بلوغ تسويتها بمقياس الروضة 19 ذراعا، فلا فائدة من اختلاف أطوال الأذرع، بل ربما أوجب الالتباس.
ومما يحسن إيراده هنا أن لا فائدة من دلالات مقياس الروضة في فصلي الشتاء والصيف؛ لأن الرد الناتج من الحجر على القناطر الخيرية أثناء هذين الفصلين يجعلها غير دالة على حالة مياه النيل بالتمام.
1
هذا؛ وفي سنة 1886م قد وضع السير وليم جارستن، لما كان مفتشا لري القسم الأول، مقياسا آخر مقسما بالأمتار داخل بئر المقياس الأصلي، وجاء رصده يوميا من ذاك الحين مع المقياس الأصلي.
ومما عساه يكون فيه فائدة للعموم العلم بأنه لم تعمل مباحث لحد الآن للعلم بالنهاية السفلى لتقاسيم المقياس، وإنما قد ربطت بواسطة الميزانية هذه التقاسيم بسطح البحر المالح الأبيض المتوسط، فوجد أن منسوب 6 أذرع هو 12,0525 فوق سطحه، هذا وكان في عزم السير وليم جارستن عندما وضع المقياس المتري أن يزيل القاويس الموضوع فوق عمود المقياس الذراعي، ويرد التاج الذي كان صنعه الفرنسيون إلى محله الأصلي.
ورسم مقياس الروضة صفحة 87 ينبئنا بما كان عليه من يوم إنشائه إلى الآن، وعلى الزيادة التي استلزم الحال وضعها فوق عمود المقياس مقسمة على مثال تقسيمه الأصلي، وعليه وعليها التقسيم المتري الحديث المنوه عنه بهذا.
الضرائب المصرية القديمة
وجد منقوشا على معبد أدفو ديباجة كأنها على لسان النيل تقدم أقاليم مصر إلى المعبود حورس الكبير إله أدفو بما معناه: «جئت إليك أيها المعبود العظيم أستعرض تحت بركاتك جميع الأشياء والمحاصيل والمباني والمعاهد، وخدمة الأماكن المقدسة القائمين بواجباتهم الدينية، معربين بمظاهر أفراحهم المتنوعة وأعيادهم المستديمة، اعترافا بأن النيل الذي يستمد فيضه من المعبود المحترم أدى واجبه في إرواء الأرض وإنتاج النبات، فهو وكل ما يستفيد بمنافعه تجود به الأرض على الزراع أثر من بركات هباتك، فتقبل هداياه؛ لأن فيض النيل هو المساعد على استبقاء الحياة للأجسام، وبواسطته يستطيع العباد تقديم هداياهم وقرباناتهم إلى الآلهة، وبتوالي فيضه تتضاعف عنايتهم بإقامة الأفراح وتأدية الشعائر المألوفة، شكرا لهذه النعم، وبقبولك هديته تنبث في الشعب الشجاعة والحركة الطيبة، فإليك نضرع في هذا الاحتفال، وبك نتمنى دوام الفيض بالبركات.» ومن هذا المأخذ يتضح أن رخاء البلاد لا يكون إلا بتوفر المياه، وموازنتها هي الأساس الأول في ترتيب المنافع واقتسامها بين الشعوب، وتقدير المكافأة من الشعب الخاضع للهيئة الحاكمة المسيطرة بالنظامات على النيل والتجارة وتعليم الشعب والدفاع عن البلاد، ومن هذا أيضا أرشدنا التاريخ إلى أن الضرائب تفرض على الأراضي الزراعية بنسبة درجتها في الخصوبة ووفرة المحاصيل؛ لأن بالضرائب تستطيع الحكومات تنظيم الشئون العامة جهد استطاعتها، وتبذل عنايتها في ترقية الأحوال باقتضاء العصور وتطورات الأدوار العمرانية .
وقد كان التعامل في السابق جاريا عن تبادل العروض التجارية، والمحاصيل بنسبة اصطلاحية، ألفوا قبولها فيما بينهم باعتبار أن الإردب القمح يعادل كذا من الأقمشة، ويعادل كذا من باقي المطعومات وأدوات المباني ونحوها.
فكان الفلاح يدفع للصيارف مقادير من المحاصيل على نسبة زراعته، وصاحب الأغنام يؤدي عددا منها بنسبة عدد أغنامه وهكذا.
وكان بعض الملوك يجعل، علاوة على تقدير الضرائب بأنواعها بالأسلوب السالف ذكره، قيام بعض القرى والمدائن بتموين طوائف من المستخدمين الذين يكلفون بتنفيذ نظامات الري، والمحافظة على الترع والجسور، وتطهير الجداول ومؤاساة الذين يؤسرون في الحروب، بما يحتاجونه من الطعام إلى أن يتوفر لديهم من كسب أيديهم ما يكفي باحتياجاتهم.
والقرى التي كانت لا تستطيع النفقات لأولئك الموظفين كانوا يكلفون أفرادا منها بما يناسب أحوالهم من هذه الأعمال، وجاء في التوراة أن فرعون كان يسخر قبائل بني إسرائيل في هذه الشئون.
وكان عدد المكلفين لتحصيل الخراج كثيرا جدا، والقصد من كثرتهم تسهيل الحصول على ما يمكن في أيدي المزارعين؛ ليسهل على المحصلين توريد ما جمعوه إلى الأماكن الحكومية التابعة لها مناطقهم بأيسر مستطاع، باعتبار أن الكميات التي تجبى يجب عرضها للمعاملات التجارية، حتى لا تزدحم بها المخازن الحكومية، ويترتب على تراكمها تعرض البعض منها إلى التلف، أو أن يؤدي ذلك إلى شبه احتكار في المطعومات ونحوها، فكانت وجهة الملوك في هذا الوقت سعة الرأفة بالطبقات الفقيرة، وأن من صالح هذه الطبقات تسهيل السبيل أمامها في موارد الارتزاق وأوجه الكسب.
وكان عمال الخراج يدعون باللغة المصرية القديمة «ونو»، وفي عهد الدولة الحديثة «سنو»، وبالقبطية «سون»؛ أي جابي خراج المزارعين، وكان تقدير الخراج بعد مقياس النيل، ويتم تحصيله قبل تمام الفيضان؛ إذ كانوا بحلوله يمتنعون عن تحصيل الضرائب، وكانت أعمال الجباية وتحديد مقادير الضرائب غاية في الدقة، ولهذا يلتجئ الجباة إلى استعمال وسائل للإخضاع في دفع ما عليهم، وكان بعض المزارعين يتذمر من الضرائب كلما تجدد ربطها عاما بعد آخر؛ لأنه يظن نفسه مغبونا في التقدير بادئ بدء، وعندما يتأكد أن التقدير جاء طبق ما وصلت إليه التجديدات الفنية بعد مقياس النيل يذعن للأداء، وقد جاء في بعض الأوراق البردية مثل ورقة أنسطاسي وساليير أن بعض محصلي الأموال كانوا إذا أعياهم الأمر لجئوا إلى ضرب الأشخاص بالعصي، أو تغطيسهم في الماء إلى أن يدفع المماطل ما يكون متأخرا عليه.
وكان تحت أيدي هؤلاء الكتبة المكلفين بجبايات الضرائب وتحصيلها مستخدمون كثيرون بألقاب متنوعة، فمنهم من يلقب المكلف بمون الفم، ومنهم من يلقب برؤساء الشون أو المخازن، وفي التوراة ما يؤيد ذلك، لا سيما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
وكان للمعبود خراج آخر فوق خراج الحكومة، علاوة على ما كانوا يخصصونه من الغنائم والأسلاب الحربية، وهذا خلاف الهدايا التي كان يقدمها الشعب لخدمة المعابد، وكان الكاهن يلقب عندهم رئيس شون آمون ووكيل خزانته.
وكان الشعب المصري يدفع العشر للمعبود، ومن المؤرخين من كان يظن أن أداء هذا العشر من مخترعات الشعب الإسرائيلي، ولكن اتضح أنه كان موجودا في مصر من الزمن القديم.
وقد اكتشف حديثا شاهد للملك نقتانيبو الثاني، ووجد منقوشا فيه أن الملك بسبب انتصاره على غريمه في جهات الدلتا وهب لوالدته المعبودة نيت رفع عوائد المكوس التي كانت تدخل خزانته من هذه البلاد.
وكان من عاداتهم إذا جاء الفيضان ناقصا أن يخفض من قيمة الخراج مقدارا يعادل نقص الفيضان، ويؤيد ذلك ما وجد في بعض النقوش لأموني أمير الإقليم «مح» في عهد الملك سنوسرت، بما معناه: «لما كان النيل مرتفعا والمحاصيل جيدة لدرجة ساعدت في ثروة المزارعين، لم أفرض عليهم ضرائب جديدة ليكونوا على الدوام في فرح وشكر.» وهذه الجملة تثبت أنه عند نقص الفيضان يراعى تخفيض الضرائب بقدر هذا النقص، ولا يجوز تقرير ضرائب جديدة.
ووجدت في نقوش أخرى لأمراء أسيوط في عهد الملك خيتي الأول عبارات عن تاريخه بالمعنى الآتي: يفتخر الملك خيتي الأول بأنه أغنى المزارع وساعده على الرفاهية، حتى جعله يقتات بالقمح بدلا من الذرة الذي كان القوت الغالب لعموم المزارعين في تلك الأدوار.
وكانت طريقة الجباية مرتبة على أشهر المحاصيل؛ لأن الخراج كان يؤخذ من أجودها، ووجد في بعض النقوش على قبر أمتن الذي كان معاصرا لأحد ملوك الأسرة 6 ما يؤيد هذه القاعدة، وسريان العمل بها إلى عصر الأسرة 24.
وفي عصر البطالسة والرومان كان الملك يشرف على لجان تقرير الخراج التي تؤلف في كل ولاية لتقدير قيمة الأراضي ومحصولاتها، ووضع الخراج لها بدرجة تطابق حالتها، ويقصد الملوك بهذا الإشراف منع التحيز والمجاملة من أعضاء اللجان لوجهاء الأقاليم في التقدير ورفع الحيف عن الفقراء فيما يقدر عليهم.
وقد عثر سابقا على رسوم نحاسية بها نقوش، مضمونها أن فيضان النيل في السنين 131 و144 و153 كان حسنا جدا.
المكوس المصرية القديمة على المراكب
من المكوس التي كانت مفروضة قديما في الديار المصرية ضرائب على الملاحة، فيفرض على السفن عند مرورها في مناطق معينة أداء مقدار معين على نسبة ما تحمله كل سفينة عند اجتيازها الممر المقرر له الرسم.
مركب شراعية مصرية قديمة، والأصل بالمتحف المصري بالطبقة العليا بالقاعة
D .
ويوجد في متحف اللوفر قطع حجرية منقوش بها بيان بنقطة محدودة في مدينة سيين، تؤدي المراكب عندها رسوما مقررة قبل اجتيازها القنطرة، فكانت القناطر تقفل في ممر الأنهر والترع، ولا يصرح لها بعبورها إلا بعد أداء الضرائب ومنحها تصريحات المرور.
وكانت مدينة بيلاق مرسى لأساطيل النيل، وتوجد أيضا قطع حجرية أخرى محفوظة بمتحف اللوفر تحت رقم 26، فيها نقوش صريحة بأن المراكب تدفع قبل مرورها مقدارا من الفضة أو المواشي أو الأشياء المصنوعة أو حبوبا، أو ما يفي بمئونة العمال في تلك القنطرة مدة 29 يوما.
أموال خراج أراضي مصر في عهد العرب
ذكر أخبار أموال خراج أراضي مصر، وذلك على سبيل الاختصار، قال ابن عبد الحكم: إن أموال الديار المصرية في زمننا هذا تنقسم إلى قسمين؛ أحدهما يقال له خراجي، والآخر يقال له هلالي، فالمال الخراجي ما يؤخذ من الأراضي التي تزرع حبوبا أو نخلا أو ما تزرع من أصناف الزراعات أو غير ذلك، فهذا يسمى خراجيا، وأما المال الذي يسمى هلاليا فقد أحدثه جماعة من ولاة السوء شيئا بعد شيء حتى وصل ذلك في الإسلام، فكان أول من أحدث الأموال التي هي من وجوه المظالم بمصر أحمد بن محمد بن مدبر لما ولي أمر خراج مصر بعد خمسين ومائتين، فإنه كان من دهاة الناس، ومن شياطين الإنس، فابتدع في مصر بدعا كثيرة، فصارت مستمرة من بعده إلى الآن، فحجر على النطرون وكان مباحا، وقرر على الكلا الذي ترعاه البهائم مالا وسماه المراعي، وقرر على الأسماك التي تصاد من البحر مالا وسماه المصايد، وكانت مباحا من عند الله للصيادين، وأحدث من أبواب هذه المظالم أشياء كثيرة، فانقسم مال مصر من يومئذ إلى خراجي وهلالي، فلما ولي الأمير أحمد بن طولون أبطل هذه المظالم التي أحدثها أحمد بن محمد بن مدبر، وكتب بإسقاطها في جميع أعمال الديار المصرية، وكانت نحوا من مائة ألف دينار في كل سنة.
فلما كانت الدولة التي يقال لها الفاطمية أعادوا جميع ما أبطله الأمير أحمد بن طولون من المظالم والمكوس، فلما ولي الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أمر بإسقاط تلك المكوس من أعمال الديار المصرية كلها، وكتب بذلك مرسوما بخط القاضي الفاضل، فلما ولي ابنه الملك العزيز عثمان أعاد تلك المكوس التي أبطلها أبوه صلاح الدين، فلما ابتدأت دولة الأتراك وولي الملك المعز أيبك التركماني وانقرضت دولة بني أيوب جدد عدة مكوسات وضمانات، وأخذ أموال التجار، فلما ولي الملك المظفر قطز جدد عدة مظالم عند خروجه إلى هولاكو، وصادر الناس وأخذ على الأملاك والأراضي والنخيل والرءوس من ذكر وأنثى، وأحدث من هذه الأنواع أشياء كثيرة من أبواب المظالم، حتى بلغت هذه المصادر نحو ستمائة ألف دينار، فلما ولي الملك الظاهر بيبرس البندقداري أبطل جميع ما كان أحدثه المظفر قطز من أبواب المظالم، كما تقدم ذكر ذلك، فلما ولي الظاهر برقوق أبطل من المظالم أشياء كثيرة، مما كان يؤخذ على القمح والشعير والفول، وما كان يؤخذ على الدبش والحلفا بباب النصر، وأبطل الأبقار التي كانت ترمى على الناس بالوجه البحري عند فراغ الجسور، وأبطل من هذا النمط شيئا كثيرا، فلما ولي الملك الناصر فرج بن برقوق زاد في الظلم وتجديد المكوس بواسطة جمال الدين يوسف الإستادار، وهو الذي جدد المكوس على بيع السمك البوري فغلا سعره بالقاهرة وقل وجوده.
خراج مصر في الإسلام
قال ابن وصيف شاه: جبى خراج مصر في الإسلام عمرو بن العاص لما فتحها فكان اثني عشر ألف ألف دينار، ثم جبى عبد الله بن أبي سراح في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه خراج مصر أربعة عشر ألف ألف دينار، فقال الإمام عثمان لعمرو بن العاص يا أبا عبد الله درت اللقحة بعدك، فقال له عمرو بن العاص: نعم، درت ولكن أجاعت أولادها، وهذا الذي جباه عبد الله بن أبي السرح، إنما أخذه على الجماجم والرءوس خاصة دون الخراج، ثم من بعد ذلك انحط خراج مصر حتى جباها أسامة بن زيد عامل مصر في خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان الأموي اثني عشر ألف ألف دينار.
فلما ولي الأمير أحمد بن طولون على مصر وجدها خرابا، وقد انحط خراجها حتى بقي ثمانمائة ألف دينار، فلا زال يجهد في عمارتها وإصلاح جسورها وقناطرها حتى بلغ خراج مصر في أيامه أربعة آلاف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وجباها ابنه خماوريه ألف ألف دينار مع وجود الرخا، حتى قيل: بيع في أيامه كل عشرة أرادب قمح بدينار، فبلغ خراج مصر في أيام الأمير محمد بن طغج الإخشيدي ألف ألف دينار، فلما قلد جوهر القائد من الغرب في أيام الخليفة المعز الفاطمي جبا خراج مصر في أيام الفاطميين ألف ألف ومائتي ألف دينار، وذلك في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وجباها في أيام الحاكم بأمر الله ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، وذلك في سنة ستين وثلاثمائة. قال المسعودي: آخر ما اعتبر في أحوال أراضي مصر فوجد حرثها ستون يوما، ومساحة أرضها مائة ألف ألف وثمانون ألف ألف فدان، وأنه لا يتم خراجها حتى يكون فيها أربعمائة ألف وثمانون ألف حراث يلزمون العمل دائما، فإذا أقيم بها ما ذكرنا تمت عمارتها وكمل خراجها، وآخر ما كان بها مائة ألف وعشرون ألف مزارع، فكان بها في الصعيد الأعلى سبعون ألفا من مزارعين، وفي أسفل الأرض خمسون ألفا من مزارعين، وقد تغيرت أرض مصر الآن تغييرا فاحشا في جميع ما كان بها من الأحوال القديمة، واختلت اختلالا فاضحا، فلذلك قل خراجها وضعف حال جندها.
رأي العلماء في بحيرة مريس
لما كان يتوقعه أمنمحعت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة من المضار التي يحدثها طغيان الفيضان، أو تترتب على نقصان الفيضان عن مناسيبه، أتم مشروعا عظيما، وذلك بأنه رأى غربي مصر واحة أراضيها زراعية «بإقليم الفيوم» ممتدة في الصحراء، وتتصل ببرزخ في ناحية يرويها النيل، وفي وسط هذه الواحة يمتد سهل فسيح فيه أرض واسعة منخفضة، تمثل واديا فيه بحيرة طبيعية «المعروفة الآن ببحيرة قارون»، وطولها أكثر من ثلاثين ميلا، فنفذ مشروعه الجليل بإنشاء بحيرة تتصل إلى هذا الفضاء، ومساحتها تضاهي 10000000 متر مربع لتدخر فيها المياه، فيستفيد منها الإقليم إذا جاء النيل شحيحا، والجانب الأيسر لها يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط، فينحدر إلى هذه البحيرة كل ما يزيد عن الحاجة في زمن الفيضان، وما تضيق به هذه المساحة ينصرف إلى بركة قارون بواسطة ترعة أعدت لذلك.
فاشتهرت هذه البحيرة وأجل مشروعها عظماء الرجال الهندسيين، وتدعى الآن بحيرة مريس، وكلمة مريس معناها باللغة المصرية القديمة بحيرة، ولما رأى هيردوت هذه البحيرة أطنب في وصفها، بالفوائد الجمة الناتجة عنها، وقال: إنها كانت تبعد عن النيل مسافة سبعة أيام، وكان عمقها خمسين باعا.
وافترض علماء الآثار نظريات كثيرة عنها، وقال المهندس لينان الذي كان من رجال الري المعدودين في عصر الخديوي إسماعيل باشا: إن بحيرة مريس هي شرقي إقليم سلسلة جبال ليبيا في جهة بجيج، بهبجور ذات التلول الممتدة قبلي حوض الغرق، وقد وافق ليبسيس العالم الأثري الألماني على هذا الرأي، ولكن العالم ماسبرو لم يؤيده، وأيدت مذهبه فيها أبحاث مصلحة الري الحديثة، وقال: لا أظن وجودا لهذه البحيرة، وقد يكون المؤرخ هيردوت لما زار مصر كان مروره بتلك الجهة في زمن الفيض الذي تكون المياه فيه متدفقة في حياض البلاد كلها، ويظنها الناظر بحرا واحدا، وتخيل الحواجز بين حياض البلاد ضفة لبحيرة دائمة، فكتب عنها ما وسعه ظنه بدون بحث ولا تحري عن الحقيقة، ولكن إذا كانت هذه البحيرة أحدثت كما وصفها الرواة، فإنها تكون من أعظم المفاخر للعقول البشرية، ومن أكبر الآثار لأعاظم الملوك في عمران البلاد وخصبها.
وإلى المباهاة والاعتراف بمزايا هذه البحيرة تكلم كثير من علماء الغرب في فوائدها، وأنها بما يترتب عليها من المنافع في توازن الري والقيام بإرواء البلاد المجاورة عند نقص الفيضان تعد أعظم شأنا في الفخر لعظماء الملوك ممن حصروا أعمالهم على تشييد الأهرامات ونحوها؛ لأن الأهرامات تدل على عظمة وسطوة فقط، ولكن إنشاء البحيرات وتمهيد السبل لإصلاحات الري أكبر فائدة وأحق بالشكران؛ لما يترتب عليها من منفعة بني الإنسان.
أعياد النيل عند قدماء المصريين
عرف من الآثار التي استكشفت أن المصريين كانوا يقيمون للنيل احتفالات تشبه الأعياد، ولم يذكر المؤرخون عنها إلا شيئا قليلا، فمن ذلك ما قاله «بلين» المؤرخ الشهير: «إن المصريين في عصره كانوا يقدمون الغذاء للتماسيح ويلبسونها بعض الثياب في وقت الفيضان ويلقونها في النيل فتبدو ألوان الثياب الناصعة في منظر بهيج يروق الناظرين.»
والذي لا شك فيه أن كل الاحتفالات الخاصة بالمهرجانات التي تقام لفيضان النيل سنويا كانت بمنزلة فريضة دينية يحترمها الناس كاحترامهم للنيل، وكان رؤساء النيل يقيمون لها الزينات المعتادة للأعياد العامة.
وجاء أيضا ما نصه: «يستقبل الشعب المصري بالفرح والسرور ظهور مياه السلسلة المقدسة فابتهاج النفوس. وفرحها بمجيء النيل أمر طبيعي، ويجب أن يعد فيضانه في مقدمة الأعياد التي بحلولها يهنئ المصريون بعضهم بعضا.»
وجاء في أنشودة النيل المكتوبة في ورقة أنسطاسي البردية ما نصه: «أيها الفيضان المبارك، قدمت لك القرابين والذبائح، وأقيمت لك الأعياد العظيمة، وذبحت لك الطيور، واقتنصت لتحيتك الغزلان من الجبال، وأعدت لك النار الطاهرة، وقدم لك البخور والنعم السماوية والعجول والثيران، فتقبلها هدية شكر واعتراف بفضلك.»
وجاء ذكر أعياد النيل في مائدة للقرابين محفوظة في متحف فلورانس، ويرجع تاريخها إلى ملوك الأسر الثلاث الأولى.
وقال ماسبرو في هذا الموضوع: «عندما يصل الماء المقدس إلى جدران مدينة «سين» يقدم الكهنة أو الحاكم أو أحد نوابه ثورا أو بطا، ويلقيه في الماء في حرز من البردي مختوم عليه، ويكتب في الحرز الأمر الملكي الخاص بنظام الفيضان، ومتى ترأس الملك نفس هذا الاحتفال نقشوا في الصحراء وسجلوا هذا الحادث تذكارا تاريخيا، وإذا تغيب الملك عن الاحتفال ناب عنه الكهنة باحتفال عظيم، حاملين تمثال المعبود سائرين به على ضفاف النيل والجسور مرتلين الأناشيد.»
من المستندات الرسمية الباقية عندنا الآن شواهد السلاسل الثلاث، ويرجع تاريخها إلى عهد الملوك رعمسيس الثاني، ومنفتاح ابنه، ورعمسيس الثالث، وهي تنقسم إلى جملة أجزاء، فبعد مقدمة رعمسيس الثاني تقرأ أنشودة النيل وخطاب الملك بالتهليل للمعبود، ثم القرار الذي يحدد تاريخ الأعياد، ويلحق به كشف القرابين، وملخص ترجمته كالآتي:
في السنة الأولى والشهر الثالث من فصل الحصاد، واليوم العاشر في عهد المنير الشمس الملك القادر المحبوب من الحق، صاحب التيجان حاكم مصر المنتصر على البلاد الجبلية، حورس الذهبي المديد العمر المبارك، ملك الوجهين البحري والقبلي، رعمسيس المحبوب من آمون أبو الآلهة، الذي يمنحهم الحياة والبقاء والقوة كالشمس إلى الأبد، فليحي الإله الطيب النيل الذي يحيي النفوس بجوهره والثروة بثمراته، أنت أيها الوحيد الذي تظهر من نفسك ولا يعرف أحد ما تحويه، والكل يفرح بظهورك من مخبئك، فيك تربى الأسماك العديدة، ومنك تفيض الخيرات على مصر، فأنت خلقت لأجلنا، ويسر بك الناس، والمعبود «نون» متى قدم له القرابين أهالي البلاد، واتحدوا معه في فرح التحية بقدوم النيل المضيء، فخيراته على البلاد تستفيض من صنع يديه وتتدفق ببركاته.
وقد أمر الملك بتقديم القرابين لأبيه آمون رع ملك الآلهة مرتين في السنة؛ في زمن مياه السلسلة المقدسة وفي مكانه المكرم الذي لم تكن قبله مياه ، حياة وسلام وقوة.
فتقدم القرابين في اليوم الأول من شهر سايت، وفي الخامس عشر من شهر توت، وفي الثالث من فصل الفيضان والخامس من شهر أبيب كضريبة سنوية.
ويلقى في النيل عجل أبيض وثلاث إوزات وهدايا ثمينة (لا بنت عذراء كما يزعمون)، ثم الكتاب الشامل لتفصيلات المهرجان، وأنواع الهدايا للإله آمون رع ملك الآلهة ورب مدينة طيبة.
ومهما اختلف المؤرخون في تواريخ أعياد النيل ونماذج احتفالاتها فلا تخرج عباراتهم عن قول واحد، وهو بذل جهدهم في مظاهر الأفراح عند مبادئ الفيضان، وإلى ذلك أشار العالم الأثري «دي روجيه»؛ إذ قال: «في اليوم الخامس عشر من شهر توت جاء فيضان النيل في سلسلة، وفي 15 أبيب صعد النيل فقدمت القرابين والهدايا للمعبود «حعبي»، وفي ذاك اليوم كانوا يلقون له ميثاقا مكتوبا من ديوان الملك، فيقبل النيل هذا العهد ولا يتخلف عن وعوده فيمنح مواهبه أرض عبيده المؤمنين .»
وفي نتيجة «مدينة هابو» تاريخ أعياد يحتفلون بها، ويظهر أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون في يوم 30 من شهر كيحك بعيد الصليب، قال «بروكش باشا»: إنهم كانوا يحتفلون بهذا العيد في جملة مدائن مثل أدفو ودندرة وإسنا.
وكانوا يجعلون لمقياس النيل عيدا خاصا، فيحمل مقياس النيل في معبد سيرابيس.
وروى «سنيك» الفيلسوف الروماني أن المصريين في عهد الرومان كانوا يلقون في نهر بيلاق القرابين، ويلقي الحكام بعدها هداياهم من الذهب وأنواع الحلي.
ولا زال تقليد الاحتفال بأعياد النيل باقيا إلى يومنا هذا، ولا نعثر على نص مصري يؤيد ما نسب إلى قدماء المصريين عن تقديمهم ذبيحة بشرية في حفلة فيضان، أو لأجل أن يجود النيل على البلاد بفيضه السنوي.
ويظهر أن منشأ هذه الخرافة قصة رواها «بلوتارك»، المؤرخ اليوناني وتناقلها عنه غيره من قومه، ومن الرومان ومن العرب؛ إذ قال: «اعتمادا على وحي أجيبتوس ملك مصر قدم ابنته قربانا للنيل ليخفف غضب الآلهة، وأنه بعد فقد ابنته ألقى بنفسه في النيل.»
فهذا القول هو أصل الاعتقاد بتقديم فتاة عذراء قربانا للنيل المعبود كل سنة، ويكفي أن البداهة الذوقية تكذب هذا الزعم، بعد العلم الراسخ بما كان للمصريين من القدح المعلى في المدنية ورقة الشعور وسمو العواطف حتى مع الحيوانات العجم، فبالأولى تشمئز سجيتهم عن إلقاء فلذة كبد من أكبادهم في مجرى المياه المتلاطم الأمواج، التي لا تبقي شيئا من إرهاق النفوس واختطاف الأرواح من أجسادها، ولم يكن هناك أقل نسبة عقلية بين اقتراف هذا الجرم وانخداع النيل بارتكابه.
أما ذكر عروس النيل بلفظة «ربيت» المشار إليها في ورقة «هريس البردية»، فيكفي في إثبات أنه خرافة وخطأ أن لفظة «ربيت» هو علم على أحد أشكال النيل المؤنثة، وليس علما على عروس كانت تلقى في النيل كما زعم بعض المؤرخين، والقول باستمرار العادة بالهدايا الذهبية والطيور والحيوانات لا ضرر منه، وغاية ما يلتمس به العذر هو التفاؤل بأن يكون الفيضان سخيا على مجموع الخلائق يجود بأهم ما تشتاقه النفوس.
في العصور الوسطى
استمر المصريون على ما ألفوه من عادات الأعياد ورسوم الحفلات، ولم يغيروا حفاوتهم بها مع ما طرأ على ترتيباتها من التفاوت في الرونق، والأوضاع ومظاهر الزينة، فهي كانت عرفية ووراثية وقومية ودينية إلى أن جاء الفتح الإسلامي بمصر، فمحا كثيرا من العادات، ولا تزال بعض آثارها باقية إلى يومنا هذا، وفي كثير من المتاحف بالمدائن الشهيرة بعض بقاياها الدالة على ما كان للنيل من المكانة في النفوس، والنيل من حيث هو منبع الفيض والخيرات يبقى بمكانته العمرانية في أرفع مراتب التجلة والاحترام، فهو كما تقدم كأنه انتزع من مساحات الصحراء كميات وافرة كانت مجدبة، فألبسها حلة الرغد والسخاء، وجعل القاطنين بها أغنياء بعد الفقر، وذوي سعة ويسار بعد أن كانوا في حضيض الفاقة والضنك.
ولا زال الاحتفال بمهرجان النيل متبعا في نوعيته إلى الآن، فكأن المصريين في محافظتهم على تقاليد آبائهم افترضوا على حكامهم احترام تقاليدهم وعقيدتهم في النيل المقدس.
وكان من عقيدتهم في عهد الفراعنة أن دمعة المعبودة إزيس تنزل في النيل وتسبب فيضانه، فبقيت هذه العقيدة إلى العصر المسيحي، وظن الأقباط أن النيل يفيض بنقطة إلهية تنزل من السماء، ونجد في النتيجة السنوية القبطية أنه قبل انقلاب الشمس في الصيف بأربعة أيام؛ أي في اليوم الحادي عشر من شهر بئونة يحتفل بعيد ليلة النقطة السماوية، التي تطهر الهواء وترفع الطاعون عن الأرض، ويقول البعض: إن جبرائيل رئيس الملائكة يصلي قبل ذلك بثلاثة أيام ويدعو حتى تفيض مياه النيل، فيسجد ويتوسل إلى ربه بأن يفيض النيل وينزل إلى الأرض المطر والندى، ويحمل في يديه سيفا لطرد الشيطان، وإليه فيما يقولون يرجع فضل نزول النقطة الإلهية.
فالأقباط حافظوا على تقليدهم القديم حتى أتت النصرانية، وجعلوا يوم نزول النقطة عيدا، وقد جاء في بعض النصوص ذكر النقطة السماوية وليلة موج الدموع، وأن قصة قتال جبرائيل رئيس الملائكة للشيطان تشبه كثيرا قصة حورس المنتقم لأبيه من ست، وأبيه أزوريس رمز الأرض السوداء المخصبة، وست رمز الصحراء المجدبة.
ومتى حان وقت نزول النقطة يتوالى الفيضان، ويرتفع إلى درجته المعلومة، ومن العادات المألوفة إلى اليوم أن بعض الناس اتخذوا المناداة للتبشير بمبادئ الفيضان في أوائله سببا للارتزاق، بما يسديه إليهم الناس عند هذه البشرى، فيهنئ بعضهم بعضا بحلول موسم النيل، كالتهاني المألوفة في الأعياد السنوية.
ثم يأتي عيد زواج النيل والاحتفال بقطع الخليج، والقول بزواج النيل مبني على تلك القصة الخرافية، قصة إلقاء فتاة في النيل، تلك الفتاة التي استبدل بها إلى عهد قريب تمثال من الخشب يحلى بملابس ويزين بالقصب ونحوه، وأما الاحتفال بالنيل وإلقاء النقود ونحوها في مجراه فهذا على سبيل التفاؤل كما تقدم، ومن التماثيل الموجودة في متحف اللوفر تمثال رمزي يمثل النسر من صنع مدينة الإسكندرية، وهو يشبه أحد تماثيل النيل المحفوظة إلى الآن بمتحف الفاتيكان في رومة.
في العصور الحديثة
نقل المقريزي في خططه عن ابن الحكم
1
من أخبار مصر أنه في سنة 23 بعد الهجرة، لما افتتحها عمرو بن العاص جاء إليه الأقباط وقالوا: إن للنيل سنة لا يجري إلا بها، قال: وما هي؟ فقالوا: إذا خلت اثنتا عشرة ليلة من شهر بئونة من الشهور القبطية عمدنا إلى جارية بكر مليحة نأخذها من أبويها غصبا، ونجعل عليها الحلي والحلل، ثم نلقيها في بحر النيل في مكان معلوم عندنا، فلما سمع كلامهم قال: هذا لا يكون في الإسلام أبدا، فأقام أهل مصر أربعة أشهر بئونة وأبيب ومسرى وتوت لم يزد فيها النيل لا كثيرا ولا قليلا، ولما رأوا ذلك هموا بالجلاء عنها، ولما رأى عمرو بن العاص منهم ذلك، كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وصل إليه ذلك الكتاب وعلم ما فيه كتب بطاقة وأرسلها إلى عمرو بن العاص، وأمره أن يلقيها في نهر النيل، فلما وصلت إليه تلك البطاقة فتحها فإذا مكتوب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عمر بن الخطاب إلى نيل مصر المبارك، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله تعالى هو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك.
فلما وقف عمرو بن العاص رضي الله عنه على ما في البطاقة ألقاها في بحر النيل قبل عيد الصليب بيوم واحد، وعيد الصليب يكون في السابع عشر من شهر توت، فأجرى الله تعالى النيل في تلك الليلة ست عشرة ذراعا في دفعة واحدة.
وروى بعض السائحين بمصر في القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد الميلاد أن المصريين استبدلوا بالفتاة البكر عروسا من الخشب يلقونها في النيل، وهذه الآثار باقية من العهد القديم، وإليك وصف الاحتفال:
يتألف الموكب من حاكم البلد وطوائف عديدة من الأقباط والعلماء والأعيان ورجال الدين والبطرك، وفريق من رجال الإكليروس، وتتبعهم الموسيقى وخلفها الجماهير يصفقون ويترنمون بالأناشيد، ثم يلقون العروس في النيل وقت فتح الخليج.
ثم اتبع الأقباط عادة أخرى في الاحتفال في عيد الشهداء الواقع في بشنس، فكانوا يلقون في النيل أصبع أحد أجدادهم موضوعا في علبة كما رواه المقريزي، وذكر أن السلطان قلاوون حاكم مصر أبطل هذه العادة سنة 702ه.
ولما أتى بونابرت مصر ترأس حفلة النيل باعتباره أكبر حاكم للبلاد. ولا يزال المصريون يحتفلون بوفاء النيل، ويقيمون الأفراح في كل الجهات احتفالا به، فيكون بالرونق والزينات عيدا مشهودا.
وروى المؤرخون اليونانيون أنه كان لكل إقليم من الأقاليم المصرية القديمة آلهة خاصة، إلا أن جميع القدماء أجمعوا على تقديم فرائض خاصة للنيل، وكان لفيضانه العجيب احتفال سنوي كعيد يبتهج به جميع أفراد الشعب.
وكان من عقائد القدماء أن لكل شيء روحا وحياة وإرادة وشخصية سامية من هبات المعبود الأعلى، وأن النيل يشفي من الأمراض، وأن الأقباط والمسلمين، وإن كانوا أبطلوا الاعتقاد بألوهية النيل، لكنهم لا يزالون يصفونه بقولهم النيل المبارك، وفي زمن فيضانه كان البطرك يذهب إلى النيل مصحوبا بحاشيته إلى مصر العتيقة، ويلقي في النيل صليبا من الفضة، وكان الترك يحتفلون به رسميا، ومتى انتهى الاحتفال كانت الجماهير تلقي في النيل الحبوب والثمار والسكر والخبز والدراهم، ويغتسل الأطفال في مياه النيل، وبعض الناس يغتسلون أيضا بأول ماء يمر في الخليج طلبا للشفاء وإزالة العقم.
وكان من المتبع قبل اليوم المحدد لجعله يوم وفاء النيل أن يضعوا في مصر العتيقة تمثالين كبيرين عليهما أنوار مركبة على منصة من الخشب مسندة على مراكب، وهذان التمثالان يمثلان رجلا وامرأة ويسميان العروسين.
وكان من عادتهم صنع عروس أخرى من الطين ويلقونها في النيل يوم الفيضان.
وقال هيردوت: «إن المصريين كانوا يكرهون ذبح الحيوانات، فمعقول جدا أن يترفعوا عن إزهاق الأرواح التي قيل: إنهم يقدمونها كقربان وضحية طلبا لوفاء النيل.»
وليلاحظ أن كل أمة يدخل عليها دين جديد ينشر عنها خرافات كثيرة، وإذا تأملنا رواية ابن الحكم والناقلين عنه كالمقريزي وغيره، يتضح لنا أنها خرافة مخترعة، نعم، إن ابن الحكم نقل هذه الرواية عن اليونان، كما نقل غيره أكاذيب أخرى في كتاب عنوانه «الأنهار»، نسبوه إلى «بلوارك»، ودونوا به أن أحد ملوك مصر لما أبطأ فيضان النيل في بعض السنين ألقى ابنته فيه بأمر الآلهة، واشتهر في الروايات أن الاحتفال يمثل «زواج النيل الذي هو أزوريس بأرض مصر التي تمثل إزيس»، فالمرجع في كل الروايات إلى تصور خيالي ليس إلا.
رسوم النيل في الآثار المصرية
قد اطلع القارئ على تفصيلات وافية، تبين أن حياة الشعب المصري تتوقف على تحسين أحوال الري وانتظامه؛ ليكون من فيض النيل الخير الشامل، وإغداق الثروة ورواج الأحوال التجارية، وقد نقش اسم النيل في جميع المعابد دلالة على أن القدماء كانوا يعتبرونه إلها يمنح الحياة والسعادة، وجاء في الفصل 146 من كتاب الموتى «أن الآلهة تشترك في إسداء نعمه»، ونقشوه في بعض المعابد كتمثال إنسان واقف يحمل القرابين ويهبها بسخاء لجميع الخلائق من إنسان وحيوان.
وفي كثير من الأمكنة ترى رسوم الاحتفالات بوفاء النيل، لا سيما في معابد أدفو ودندرة، وهناك ترى النيل مارا بأدراج السلم، خارجا من ناووسه كما يخرج كل سنة من مجراه؛ لزينة الدنيا وخصب الأودية وتدبيج وجه الأرض بالنباتات المتنوعة التي تستفيد منها الناس الغذاء والحاصلات المتنوعة ويقتنون الثروة، فكأن أرض مصر مستودعات للنفائس الكونية بأنواعها، تجوز منها على كل البقاع بما تحتاجه.
وهناك أيضا رسم آخر يمثل النيل خارجا من سلم «كما يخرج من مجراه»؛ ليملأ الأرض بالحبوب معبرا عن إعطاء الآلهة الحياة والهناء؛ لأن من نباتات النيل تتقدم حياة الحيوانات والإنسان والطيور، إلخ.
وكأن النيل يخاطب البلاد بلسان حاله، بأنه مصدر رخائها وينبوع حياتها، وأنه يجود بخيراته على كل من تقلهم أي أرض سرى إليها فيضه، فيمنحها نعما مزيدة وخيرات متجددة، ويؤدي للآلهة المحترمة كل شعائر الإجلال والتقديس.
فالنيل بهذا الاعتبار من المعبودات الثانوية، بدليل أنهم كانوا يرسمونه دائما في المعابد بالجزء الأسفل، وأنه كخادم يهيئ جميع الأشياء الجيدة والقرابين التي يقدمها للأرض ومن عليها.
ووجد في تمثال محفوظ بالمتحف البريطاني بالجزء المصري نقوش تمثل الملك ششنق، وحوله العبارة الآتية: «يقول حعبي: النيل ابن الآلهة ومصدر النمو الذي يفيض على الوجهين القبلي والبحري بخيراته المتدفقة فتسعد بها الحياة، وتنكشف الشدائد، وتنصب منه المياه على الجبلين والحوضين كيف يشاء، ويعود متى أراد بعد أن يملأ المدائن والقرى بالمؤن والحاصلات الزراعية.»
فكأن هذه النقوش تصف مزايا النيل التي امتاز بها واديه في الخصب والرخاء، وجعلته مصداق قول القائلين بأن النيل أبو الآلهة والبشر، وإذا كانت جميع الكائنات تستمد حياتها من مصدر إلهي، فالنيل هو أكبر المظاهر الباهرة لهذا المصدر الأسمى.
رسم النيلين؛ نيل الوجه البحري «إلى اليمين»، ونيل الوجه القبلي «إلى اليسار»، وهما يحملان علامة الاتحاد وعليهما اسم مليكنا المعظم فؤاد الأول باللغتين المصرية القديمة والعربية.
أنشودة النيل لقدماء المصريين
من لوازم الفطرة الراقية ابتكار الأناشيد في المناسبات التي ترتاح النفوس فيها إلى الترنم بما يستطاب لأجلها، افتخارا واستلذاذا واستبقاء لحسن الأحدوثة، فيتداول الناس الأناشيد كلما تجددت الذكرى للاحتفالات، والنيل عند قدماء المصريين قد اختصوه بما ألفوا من مظاهر الأفراح ودلائل المسرات عند فيضانه ومواسم أعياده، وقد خصوه بأناشيد رائعة تعرب عن شدة شعورهم، ومن بينها الأنشودة التي نمقها في عصره الشاعر المصري القديم، ووجدت مكتوبة في لوحتين على الورق البردي، معروفتين بورقتي ساليير وأنسطاسي، وهما من مجموعة الأوراق البردية المحتفظ بها إلى الآن في المتحف البريطاني، وترجمها العالمان الأثريان الشهيران ماسبرو وجبس، وهما اللذان نقلاها من الشعر المصري القديم، وترجمتها إلى العربية نظما من الرجز:
1
نسدي إلى النيل سلاما عاطرا
لأنه قد جاءنا مباكرا
اليوم عيد النيل في بشراه
فكلنا تسرنا لقياه
النيل يحيي فيضه بلاده
وهي له تلازم العباده
منظره يروق للأبصار
وسره معجزة الأفكار
النيل يأتينا من الظلمات
ليملأ الأكوان بالخيرات
يروي نداه أنضر الحدائق
وينبت الأرزاق للخلائق
كأنه يأتي من السماء
ليمنح الحياة للأحياء
يحيي موات الأرض في النواحي
كأنه من عاملي فتاح
يجود بالخير «لسب» محسنا
كما «لنبرا» قد أقر الأعينا
2
النيل رب السمك المحبوب
يأتي به من عالم الغيوب
ويخصب النبات في الغيطان
والزهر والريحان في البستان
ينبت قمحا وشعيرا جيدا
ولن يصد النيل عنه أحدا
بالنيل ينجو من شقاء الدهر
كل فقير من أهالي مصر
في نعمة النيل لهذا الوادي
سعادة الحكام والأفراد
والبطء في الفيض يضر الخلقا
ويغضب الرب الرحيم حقا
3
فيوضه تأتيه من أتوم
فنجتني من خيره المقسوم
وتنتفي أوهام كل خائف
بالنيل فهو مصدر اللطائف
4
كأنك الخالق للأشياء
ومانح الضعاف بالنعماء
ومن نداك نمنح القربانا
فلا نخاف بعده هوانا
كل غني منك يرجو نعمته
ويمنح المحتاج منها رحمته
فأنت للغني والفقير
ملجأ كل الخير والتيسير
5
أنت رئيس سفن الحياة
تسري بها لساحل النجاة
أسرار مجراك علينا خفيت
لكن مزاياك لدينا عظمت
فلست محتاجا إلى قربان
ولست تخشى خدع الإنسان
6
ولست محتاجا إلى مكان
فأنت رب الفيض والإحسان
يلقاك بالتصفيق عند اللقيا
مستبشرين كل من في الدنيا
فأنت تحيي مهجة الظمآن
وحارس الملوك والتيجان
7
منك المعونات على الدوام
مقرونة بالحمد والإعظام
وأمرك المطاع في البلدان
تقبله النفوس بالإذعان
وتملأ القلوب حبا صادقا
وتجعل الكون بشكر ناطقا
أولاد «سبك» منك في أفراح
وأهل «نيق» بك في انشراح
كأنما دائرة الموجود
أمام مجراك من الجنود
يغني العباد عن شقاء الجهد
فيضك إذ يأتي بكل رغد
8
يضيء منك الماء حين يبدو
بعد الظلام وهو ما تود
لم تتخذ فيما ترى أعوانا
ولم تدع لحاكم سلطانا
فأنت روح الكل في الوجود
أنعم بفيض النيل من مقصود
9
تأتي وتمضي طبق ما تريد
وكم تطيع ربها العبيد
وكل ثوب من هموم ماضية
تنزعه بشرى التلاقي الزاهية
فأنت للسقام نعم البلسم
ومنك للجميع تصفو الأنعم
تجيب بالفيض رجاء الأمة
وتصطفيها بعميم الرحمة
يحوي ثراك أنفس المعادن
فتكثر الأموال في الخزائن
لكن بالقمح حياة الناس
وليس بالأموال في القرطاس
10
في عيدك الصغار والكبار
تطربها الطبول والمزمار
ويستطاب الأنس والسرور
ويتباهى بالصفا الجمهور
فأنت حقا زينة البلاد
ومصدر الخيرات والإسعاد
11
وكلما جئت إلى العواصم
أسديت فيها أعظم المغانم
فيفرح الغني والفقير
إن لم يعق فيوضك التأخير
وهكذا مسرة الأقوام
يحبونها في سائر الأعوام
12
نهدي إليك الطيب والعجولا
وكل قربان نرى مقبولا
ونوقد النيران والبخورا
ونملأ الدنيا بها سرورا
تخرج من «بتيو» وتأتي طيبه
كمستهام زائر حبيبه
وكل ما يحويه سر النيل
لم نكتشف منه سوى القليل
13
مصر تعد النيل ربا ساميا
فاجعل لنا بالفيض حظا ناميا
واجعل بني النيل على سواهم
يرقون شأنا رغم من عاداهم
آمين ، آمين، آمين
وكان قدماء المصريين باعتيادهم الترنم بهذه الأنشودة، يعتنون بتوقيعها على أوضاع الآلات الموسيقية؛ ليكون لوقعها في النفوس طرب النشوة الموسيقية والانشراح القولي، ولا زلنا إلى العصر الحالي نتلقى من عوام المنادين الذين يطوفون وحولهم الغلمان في الأزقة والحواري ما هو بلا شك صدى متتابع، من ترديد هذه النغمات أيام الفيضان.
ومن أولئك المنادين من يقتصر فيما يلقيه على غلمانه بأناشيد مختصرة ونغمات مقتضبة، ومنهم من يجعل كلماته على نسق السجع المرصع الذي طرأ عليه التحريف العامي في النطق والتلحين، بما لا يخرج في معناه عن القول الآتي: إنك أيها النيل المبارك صاحب القوة العظيمة، ومنك تتدفق الكنوز وتفيض الخيرات على أرض مصر، بارك الله في فيضانك وأدامك متدفقا بالخير والبركة على البلاد والأودية والبساتين والمزارع، يشكر نعماءك الإنس والحيوان والطيور في أوكارها، والحيتان في أغوارها.
فإذا كانت عبادة النيل بصفته إلها، كما كان يمجده به قدماء المصريين في حفلاتهم ومعابدهم، فمقابلته بالتحية والبشاشة والفرح والسرور عند مبادئ أشهر فيضانه آثار باقية من العواطف القومية لدى الأمة المصرية، بصرف النظر عن اختلاف المعتقدات والتطورات العصرية.
الشعر العربي في مدح النيل
علم القراء أن النيل من أجل المواهب الإلهية على هذه البلاد، وأن هذه الهبة الأبدية لم تستطع أيدي التغلب الدولي بخسه حقه من الكرامة والاحترام، فهو ينبوع الحياة للأرض ومن عليها، فمع تعاقب الدول في الاستعمار والتملك، بقي النيل متساميا على كل قوة، يمنح البلاد من الرخاء والسعادة ما يشجعها على معاصرة الجبابرة، ومكافحة طوارئ الدهور، حتى إن اليونان والرومان لم يجحدوا ما للنيل من القوة الفعالة في المزايا العمرانية التي اختصت بها تربة الأراضي المصرية، وأتى العرب بعدهم فأجادوا وأبدعوا في وصف النيل والتحدث بمواهبه، وتقديرا لما أبرزوه من آيات البلاغة في هذا المضمار، نثبت المقتطفات من قصائد مطولة تناقلتها التواريخ العربية، كالمقريزي وغيره ومنها قوله:
كأن النيل ذو فهم ولب
لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه
ويمضي حين يستغنون عنه
قال المسعودي في تاريخه : قال بعض الشعراء يصف مصر:
مصر ومصر شأنها عجيب
ونيلها يجري به الجنوب
قيل في مصر عدة قصائد ومقطعات في كل سنة، منها ما قاله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:
لم لا أهيم بمصر
وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى
من مائها إن تدفق
وفي المعنى للشيخ زين الدين عمر بن الوردي:
ديار مصر هي الدنيا وساكنها
هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها
مصر مقدمة والشرح للنيل
وأبدع منه ما قيل في المعنى أيضا لابن سلام:
لعمرك ما مصر بمصر وإنما
هي الجنة العليا لمن يتذكر
وأولادها الولدان من نسل آدم
وروضتها الفردوس والنيل كوثر
وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري في المعنى:
ما مثل مصر في زمان ربيعها
بصفاء ماء واعتدال نسيم
أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها
لما نظرت إلى جمال وسيم
لمصر فضل باهر
لعيشها الرغد النضر
في كل سفح تلتقي
ماء الحياة والخضر
ولابن الصايغ الحنفي في المعنى وأجاد:
أرض بمصر فتلك أرض
من كل فن بها فنون
ونيلها العذب ذاك بحر
ما نظرت مثله العيون
وغيره في المعنى:
النيل قال وقوله
إذ قال مل مسامعي
في غيظ من طلب العلا
عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا
أقلعتها بأصابعي
وللشريف العقيلي في المعنى:
أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني
لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لحياتها
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروسا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
ولولا خشية الإطالة لذكرنا من هذا نبذا كثيرة، ومن أراد الإكثار من ذلك فليراجع تاريخ «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور»، فقد ذكر من ذلك عدة مقطعات عند وفاء النيل في كل سنة من كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف جمال الدين أبي المحاسن يوسف ابن المرحوم تغري بردي الأتابكي.
عبادة النيل
المعبود أزوريس هو النيل - النيل السمائي والنيل المائي - النيل على شكل إنسان
معلوم أن قدماء المصريين كانوا على جانب عظيم من التعلق بمعتقداتهم الدينية، وكانوا يجعلون لكل شيء عظيم النفع إلها خاصا يقدمون إليه عبادتهم في أوقات يحددونها؛ لما اشتهر عندهم من خواص هذا الشيء، فكانوا يقيمون للنيل العبادات المتعددة في أوائل الفيضان، وفي عيد الصليب وغيره مما مر بنا إيضاحه.
وقد استعمل المؤرخون اليونان والرومان حد التطرف ومنتهى الغلو فيما تكلموا به عن معتقدات وعبادات المصريين، مع كونهم لم يعرفوا لغة البلاد الحقيقة التي تمكنهم من الوصول إلى سر هذه العقائد والعبادات، ونشروا في مؤلفاتهم افتراء شنيعا على المصريين وقالوا: إن عبادتهم كانت قاصرة على الأصنام، حتى قال بوسييه في كتابه «خطاب في التاريخ العالمي، الجزء الثالث»: «كان كل شيء إلها في مصر ما عدا الله تعالى.» ولا ينبغي أن تأخذنا الدهشة لهذا الافتراء الصادر عن جهالة قائليه، فإن الزائر للمتحف عندما يشاهد الآثار الموجودة، ويرى تماثيل الآلهة ونحوها يعتقد أن لتلك الطائفة في معتقداتها أسرارا باهرة وآدابا سامية، فما كانوا يعظمون آلهتهم وملوكهم إلا لاعتقادهم فيها الوسيلة والزلفى لدى الله، الذي هو الإله الأكبر الذي تدين الكائنات لعظمة قدرته.
ولم يكن اشتغال الشعب المصري بالإبداع في الرموز والتصاوير إلا من باب التوسع في الفراسة الذهنية، والتفنن الذوقي في انتفاء ما يعتقدون به نوال القربى لدى هذه الآلهة الثانوية.
وقد قال إكليمندس الإسكندري الذي جاء مصر في عصور الاضمحلال لديانة القدماء الحقيقية: إنهم كانوا يصورون آلهتهم بمنظر وحش يتمرغ على بساط من أرجوان، وإنهم كانوا يقدمون للنيل في مواسم الفيضان ونحوه عبادة خاصة باعتبار أنه المصدر الأقوى لحياتهم الزراعية والعمرانية.
وقد عثر على حجر يرجع تاريخه إلى الأسرة الرابعة، منسوب لابنة الملك خوفو تكلمت فيه عن عبادة المصريين للنيل، ولم تعلم لنا منه الأماكن التي كانت معدة لهذا التعبد، وذكرت عبادته في مدينة ممفيس.
وكان بيت النيل «ولعله منبعه» يدعى في المدن الأخرى باللغة المصرية القديمة «باحعبي»، وأشهر هذه المدن تسمى «هاحعبي»؛ أي قصر النيل، وعلم مما اكتشف أخيرا على حجر من السرابيوم أن هذه المدينة هي مدينة هليوبوليس.
ووجد منقوشا على مائدة للقرابين محفوظة اليوم في متحف فلورانس، ويرجع تاريخها إلى الأسرة الثالثة عبارات ببيان الاحتفالات الدينية التي يقيمها المصريون إكراما للنيل المبارك، وأن عبادته يرجع تاريخها إلى العصور الأولى، وكان عند قدماء المصريين معدودا من الآلهة الثانوية.
والحقيقة أن القيام بالعبادات للنيل كان عاما بأنحاء القطر، ولم يكن مختصا بجهة دون أخرى، وفقط كانت بعض البلاد تمتاز بفخامة معابدها ومبانيها، ونقشوا فيها احتفالات النيل مثل معابد الكرنك وأدفو ودندرة ومدينة هابو.
وكان النيل يمثل في هذه المعابد على شكل إله طبيعي، ويعبدونه باعتقادهم فيه الأقدمية والدهرية.
وكانوا يمثلونه بصفته إلها مقدسا «حعبي»، ويلقبونه إله الخصب والأب المربي، على شكل رجل في ربعان الشباب ممتلئ سمنا ونشاطا، كرجل مترف غني من العظماء، يعلق على تمثاله حليا في الصدر يشبه ثدي المرأة، وبطنه مطوية من الشحم، وفخذاه ثابتتان مدورتان أشبه منظر بالغادة الحسناء، ونقشت فوقه هذه الكلمات باللغة المصرية القديمة: «عنخ، أوزا، سنب»، ومعناها الحياة والصحة والقوة. وهكذا كان المصريون يمثلون رسم رجالهم الأغنياء العظماء.
ومن تماثيل النيل ما هو مختلف اللون؛ فبعضها أحمر وبعضها أزرق يحمل على رأسه النباتين البردي واللوطس، رمزا إلى الوجهين القبلي والبحري، وبعض هذه التماثيل مرسوم على جدارن معبد سيتي الأول بأبيدوس ومعابد أدفو ودندرة؛ لأن عبادة النيل كانت منتشرة في جميع الأقاليم كما تقدم.
وترى بالمتحف المصري بالطبقة السفلى الغربية تمثالين لنيل الوجه القبلي ولنيل الوجه البحري، حاملين الأسماك والطيور والأزهار؛ ليقدماها هدية للملك، وكثيرا ما يمثل النيل في كتاب الموتى بصفته الرمزية، وقد نقش على صفحة سلسلة أن النيل هو أبو الآلهة، وأنه خرج من نفسه.
ومن الغريب أن قدماء المصريين شيدوا معابد كثيرة لآلهتهم، ولم يقيموا معبدا للنيل، بل نقرأ اسمه منقوشا على جدران المعابد وقواعد المسلات، وكان له فيها رجال يتخصصون لخدمته.
وروى هيردوت أنه كان من عاداتهم انتشال جثة من يموت غريقا أو يبتلعه تمساح ودفنها بالإكرام والتعظيم.
وكانوا يعتقدون أن النيل المؤله يقيم في جزيرة بيجا، وأن خزانته «منبعه» موجود هناك، وكانوا يعتقدون أنه آت من نون، وهو الفضاء الأول الموجود، وإنما ليس له ابتداء، وأن الإله حعبي يتحد مع إزيس في ضمانة البقاء الأبدي له، ولهذا اعتادوا أن يجعلوا اليد اليسرى لمن يموت في ست لفائف، ويرسمون عليها اسم النيل والمعبودة إزيس، وفي بعض المدارس اللاهوتية أن النيل «حعبي باتحاده مع إزيس زوجة المعبود أزوريس» هو الفيضان الذي يخصب أرض مصر.
واعتقد قدماء المصريين أن الدار الآخرة تشبه الحياة الدنيا، وأنه يوجد بها نيل كنيل مصر، واعتقدوا أن جنتهم واد منحصر بين جبلين يفصلهما نهر تمر فيه سفينة الشمس، وأن مياهه تمر من الغرب إلى الشمال حتى منتصف المسافة، وتنزل في المجرى ذاته من الشمال إلى الغرب، وأن إزيس بكت زوجها أزوريس في هذا النهر، ولما نزلت فيه مدامعها تفجرت مياهه وسببت هذا الفيضان الأرضي، وكانت المياه السماوية تحوط الجنة ، والشمس تطوف حول مجرى هذه المياه التي تغطي هذه الدنيا تماما وتفصلها عن السماء.
ومتى اختفت الشمس في الأفق تمر سفينتها في المياه السماوية، وأن سفينة الشمس تمر بالليل في وادي الأموات، ودعوا النيل الشهير «الجندي»، وأن الأموات في الدار الآخرة تمر في سفينة الإله رع.
ومن هذا يتبين للقارئ أنه لم يكن عندهم سوى نيلين؛ النيل السماوي، والنيل الأرضي، وهو نيل مصر.
آلهة الأنهر - ثالوث بيلاق - العجل أبيس وسيرابيس - قصص خرافية عن النيل - ما أشيع عن النيل
كما اعتقد المصريون في النيل مزايا الألوهية، ولقبوه أنه أبو الآلهة، وأنه الإله حعبي، كانت لهم أيضا آلهة أخرى لأنهار كثيرة ورءوسها على أشكال أكباش وآلهة الشلال وثالوث بيلاق.
فمنها أزوريس إله مندس، وخونسو إله الشلال، و«حرشافيتو» إله مدينة هيراكليوبوليس الكبرى، وكل منهم هيأ قسما من النيل في دائرة المنطقة المسماة باسمه لتستمد بمعوناته وفيوضاته حظها من الخصب والرخاء.
قال هيردوت: كان أهالي مندس يكرمون كثيرا جنس المعز، وإذا ماتت واحدة من فصيلتها أقاموا لها حدادا في كل إقليم، ولفظة مندس كلمة مصرية قديمة معناها تيس، وكان مرشافيتو معبود هيراكليوبوليس الكبرى ومعبود النيل أيضا، وثالوث بيلاق هو خونسو وأتوكيت وساتيت، وخونسو كلمة مصرية قديمة معناها رئيس البنائين، وأتوكيت معناها الحاضنة، وساتيت معناها رامية السهام.
وثالوث بيلاق يرجع تاريخه إلى أقدم العصور، وكان خنوم أحد الآلهة المعبودين في ذلك الإقليم يرسم في جهة برأس كبش وفي غيرها برأس آدمي، واسمه القديم توم، وفي عصر البطالسة صاروا ينطقونه بلفظ خنوم ومعناه جمع.
فتاح إله مدينة ممفيس محنط الجسم، والأصل بالمتحف المصري.
وقد شبهوا فتاح إله مدينة ممفيس بالنيل، وأنه يشبه أزوريس في كونه كالشمس الليلية، وأنه الإله الأول.
والعجل أبيس من آلهة النيل أيضا، وقال رولين: قد أذاعوا عن العجل أبيس أنه يجمع بين الحيوانات، وشيدوا له المعابد وكانوا يقدمون له فروض الإكرام، فإذا مات يحزن له جميع المصريين ويقيمون المآتم، ثم يبحثون عمن يختارون بديلا منه بعلامات خاصة، ويميزونه بغرة بيضاء في جبهته على شكل الهلال، وعلى ظهره رسم صقر وعلى لسانه رسم جعل «جعران»، فمتى عثروا على من تتوفر فيه هذه الصفات انتخبوه، وبدلت أتراحهم أفراحا.
العجل أبيس، الأصل بالمتحف المصري.
وقال بلوتارك: إن العجل أبيس هو الصورة الحية لأزوريس، ولا يتجاوز عمره 25 سنة، فمتى بلغ هذا السن أماتوه وألقوه في النيل بكل إجلال واحترام، ودفنوه في السرابيوم، وبموته يصبح أزوريس، وكلمة سرابيوم مأخوذة من اسم «أسر حعبي» الذي حرفه اليونان إلى لفظة سيرابيس.
وترجع عبادة العجل «أبيس» إلى أقدم العصور التاريخية، وقد ذكرت في شاهد لابنة الملك خوفو من الأسرة الرابعة، وكانت عبادته أكثر انتشارا في عهد الأسر الثلاثة الأولى، لا سيما في عهد البطالسة، وقد وصف إكليمندس الإسكندري والقديس أغسطينوس جمال هذا الإله، وقالا: إنهم شيدوا له معبدا فخما اشتهر بمعبد السرابيوم، الذي كان إحدى عجائب الإسكندرية في عهد البطالسة.
وجميع الرسوم والتماثيل تمثل لعقولنا مقدار عظمتهم العصرية، وعنايتهم بأن تبقى آثارهم مدى الأجيال، تتنبأ عنها الشعوب متمدحة بعظمة النيل وإعظامهم له؛ لأن كل دولة احتلت مصر سواء في العصور القديمة أو الحديثة تعترف بما للنيل من الأيادي البيضاء الخالدة في أعناق كل من شملتهم سعة واديهم المبارك.
ذكر شيء من فضائل النيل
قال المقريزي: أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، في حديث المعراج، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار؛ نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.»
وقد ذكر اسم النيل في التوراة «يور»: «تخرج من النيل البقرات التي رآها فرعون في الحلم.» (سفر التكوين، الفصل 41، الأعداد 1-3)، «أمر فرعون أن يلقى في النيل أبناء العبرانيين الذكور.» (سفر الخروج 1-122)، «ألقي موسى في النيل في سبت من الخيزران والتقطته ابنة فرعون.» (سفر الخروج، الفصل الثاني، الأعداد 3-6)، «أخذ ماء من النيل وألقاها في الأرض فتحولت إلى دم.» (سفر الخروج، الفصل الرابع، العدد التاسع)، «أخرج موسى من النيل الضفادع التي أتلفت أراضي مصر.» (سفر الخروج، الفصل الثامن، الأعداد 5-13.)
وذكر الأنبياء اسم النيل في كتاب العهد القديم، (أشعيا الفصل 11 العدد 6)، «مياه النيل مياه البحر»، ويصف أرميا مجرى النيل في (الفصل 46 الأعداد 7-8)، وقال ناعوم في (الفصل الثالث، العدد الثامن): «كان هذا البحر سوا لمدينة طيبة ...» إلخ، وفي التوراة: «وخلق فردوسا في عدن، وجعل الإنسان فيه، وأخرج منه نهران فقسمهما أربعة أجزاء فجيحون المحيط بأرض حويلا وسيحون المحيط بأرض كوش، وهو نيل مصر، ودجلة الآخذ إلى العراق والفرات.» وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: «نيل مصر سيد الأنهار، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله عز وجل أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.»
وعن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأل كعب الأحبار: «هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرا؟» قال: «أي والذي فلق البحر لموسى، إني لأجده في كتاب الله أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين، يوحي عند جريته أن الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله له، ثم يوحي إليه بعد ذلك يا نيل غر حميدا.»
وعن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه قال: «أربعة أنهار من الجنة، وضعها الله في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة، وجيحان نهر اللبن في الجنة.»
وقال المسعودي: «نهر النيل من سادات الأنهار، وأشراف البحار؛ لأنه يخرج من الجنة على ما ورد به خبر الشريعة.»
وقد قالت العرب: إن النيل إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والآبار، وإذا غاض زادت، فزيادته من غيضها، وغيضه من زيادتها. وليس في أنهار الدنيا نهر يسمى بحرا غير نيل مصر لكبره واستبحاره.
وقال ابن قتيبة في كتابه غريب الحديث: وفي حديثه عليه السلام: «نهران مؤمنان ونهران كافران؛ أما المؤمنان فالنيل والفرات، وأما الكافران فدجلة ونهر بلخ.» إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه؛ لأنهما يفيضان على الأرض ويسقيان الحرث والشجر بلا تعب في ذلك ولا مئونة، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين؛ لأنهما لا يفيضان على الأرض ولا يسقيان شيئا إلا قليلا، وذلك القليل بتعب ومئونة، فهذان في الخير والنفع كالمؤمنين، وهذان في قلة الخير والنفع كالكافرين.
نامعلوم صفحہ