والجديد الذي أتى به نيتشه في نظريته عن العود الأبدي، هو أنه أكسب التحول صفة الوجود، بحيث لم يعد يقول بتحول دائم يسري دون أن تكون له أية هوية مع ذاته، بل أصبح التغير يرجع إلى ذاته على الدوام. فهو تحول خالد تصطبغ كل مراحله بصبغة الأبدية؛ فلكل مرحلة من مراحل التغير الدائم ثبات أزلي، وإن كان مخالفا لذلك الثبات الذي قال به أنصار الوجود المطلق. وهكذا جمع نيتشه في فكرة العود الأبدي بين نزعتين متعارضتين: الحاجة إلى المتناهي والمتحدد عينيا، والحاجة إلى اللامتناهي، وإلى العلو؛ ذلك لأن الفكرة تتضمن محتوى متناهيا، وظواهر محددة في صورها وأشكالها، هي ظواهر هذا العالم العيني الذي نعيش فيه، ثم تكسبها صفة التكرار الأبدي إلى ما لا نهاية، فتجعل لها نوعا من الحدود والأبدية، وتعلو بها على مجال الفناء، مع أنها هي ذاتها صورة فانية؛ ومن هنا كان قول نيتشه: «إن عودة كل شيء هي أكبر تقريب ممكن لعالم الصيرورة من عالم الوجود.»
وأما عن النتائج الأخلاقية والنفسية لفكرة العود الأبدي، فإنها في واقع الأمر أهم ما كان يبرر هذه الفكرة في نظر نيتشه: (1)
فنيتشه يؤكد أن كل مدنية حاربت هذا العالم الأرضي أو ركزت آمالها على عالم آخر أعلى منه مآلها إلى الزوال. فلزام علينا اليوم أن نتعلق بالعالم الذي نحيا فيه، وأن نوجه أفكارنا نحو هذه الحياة. وإذا كانت النزعة إلى التقديس ضرورية بالنسبة إلى البشر، فإن فلسفة نيتشه تحاول أن ترضي هذه النزعة بدورها، حين تمجد هذا العالم الذي نعيش فيه، وتضفي عليه صفة الأبدية والخلود.
فالعود الأبدي هو إذن خير تعبير عن خلود هذه الحياة، وخلود كل لحظة من لحظاتها. فهو قمة الإيجاب
Bejahung
في نظرتنا للحياة، بينما كانت دعوات الخلود السابقة ترتبط دائما بالنزعة الزاهدة إلى إنكار الحياة. (2)
ولكن قد يعترض المرء قائلا إن هذا الخلود لا يطمئن الفرد كل الاطمئنان، ما دام المدى بين هذه الحياة والحياة التي تليها عظيم البعد، وما دامت حياة الفرد لن تعود إلى الظهور إلا بعد دورة كاملة من دورات الكون. ولكن نيتشه يؤكد أن الفترة الواقعة بين خمود الوعي وعودة ظهوره لا تقاس بزمن، بل هي كوميض البرق، ما دام الوعي الذي يحس بالزمن ويقيسه مختفيا خلالها. ومعنى ذلك أن الميلاد الجديد، بالنسبة إلينا، يتلو الممات مباشرة، دون أن تفصلهما أية ثغرة.
وإذن ففكرة العود الأبدي تخلص الإنسان من خشية الموت، الذي هو أخطر ما يتهدد الإنسان خلال حياته، بل إن من شأن العود الأبدي أن ينفي الموت أصلا؛ فكل موت نسبي، وعقب كل موت حياة، بل إن الموت لا يعود إلا مرحلة معينة من مراحل حياة أبدية تتكرر على الدوام. وليس للخلود هنا درجات أو مراتب، وإنما تدوم نفس الحياة للجميع. (3)
والفضيلة الجديدة التي تدعو إليها فكرة العود الأبدي هي «حب المصير
amor foti »؛ ففيها قبول للحياة، لا عن استسلام وإنما عن حب لكل أحوالها وتقلباتها، وإقبال على كل ما في الحياة من آلام ومتاعب؛ إذ إنها خالدة بدورها. وفي هذه الصفة خير معيار للتفرقة بين نفوس الأبطال ونفوس الخائرين؛ فسوف تبعث نظرية نيتشه هذه فيمن يحتقر الحياة وينصرف عنها يأسا قاتلا؛ لأن تلك الحياة - ومعها احتقاره لها - هي التي ستعود أبدا. أما من يتمسك بالحياة ويقبل عليها فسوف يزداد بها تعلقا؛ إذ إن الحياة بكل عناصرها المحببة إلى نفسه ستتكرر دواما. وبهذا يرد نيتشه على النقد القائل إن فكرة العود الأبدي تبعث اليأس في النفوس، والاستسلام العاجز؛ إذ إن هذا الشعور لن ينتاب إلا ضعاف النفوس فحسب. فمن يخشى الحياة ستبلغ خشيته لها أقصى مداها. أما من ينظر إليها نظرة إيجابية فسوف يبلغ حبه لها غايته. (4)
نامعلوم صفحہ