على أننا لم نبحث بعد الاحتمال الآخر، وهو أن تكون اللاأخلاقية حملة على الأخلاق بوجه عام، لا على أخلاق عصر معين فحسب. وأول ما يتبادر إلى الأذهان بصدد هذا المعنى، أن الحملة على الأخلاق بوجه عام تعني العودة إلى حالة الفوضى والافتقار التام إلى التنظيم، والرجوع إلى شريعة الغاب في معاملة الناس بعضهم لبعض. ولكنا إذا كنا قد لاحظنا بصدد المعنى الأول أن اللاأخلاقية تعني البعد عن نمط أخلاقي معين، وأنها ليست دعوة إلى الفوضى المطلقة، فعلينا أن نكرر هنا ما قلناه بصدد هذا المعنى السابق، وإن يكن الدفاع في هذه الحالة أشق.
وفي وسعنا أن نقول: إن الحملة على الأخلاق بوجه عام ليست موجهة إلى محتوى هذه الأخلاق، إذ إن نقد محتوى الأخلاق بوجه عام هو أمر ينطوي على تناقض بالنسبة إلى مفكر مثل نيتشه يؤمن بالنسبية الأخلاقية؛ أعني باستحالة وجود قاعدة يمكن أن يقال عنها إنها تنتمي إلى الأخلاق في عمومها. فليست هناك إذن مبادئ أخلاقية عامة حتى تنقد، وإنما هناك نظم أخلاقية مختلفة فحسب. فما الذي يمكن أن يرمي إليه نيتشه إذن؟ إنه إذا أراد أن ينقد الأخلاق بوجه عام، فإنه ينقدها من حيث الشكل، ومن حيث الظروف المحيطة بها والممهدة لها فحسب؛ أعني أنه ينقد الحالة الذهنية التي تتملك الإنسان حين يكون أخلاقيا؛ أي حين يخضع سلوكه لمبادئ وقواعد عامة، وينقد النتائج المترتبة على هذا الإخضاع.
ولكنا لم نجب حتى الآن عن السؤال الأهم: ما هي الشواهد التي نستدل منها على احتمال وجود هذا المعنى للاأخلاقية عند نيتشه؟ إن معظم من كتبوا عن نيتشه قد أكدوا المعنى الأول؛ أعني أن اللاأخلاقية هي الخروج عن نظام أخلاقي بعينه، والقلة الباقية كان ترى نيتشه مفكرا انحلاليا يدعو إلى الفوضى المطلقة، وتلك ولا شك فئة لا ينبغي أن يعتد برأيها. على أن في تفكير نيتشه من الآراء ما نعتقد أنه يؤيد القول بأنه كان في كثير من الأحيان يعني باللاأخلاقية خروجا عن الأخلاق في عمومها، لا عن الأخلاق السائدة وحدها: «إن أحدا لم يختبر قيمة ذلك الدواء الأشهر، المسمى بالأخلاق؛ وهذا ينطوي على وضع الأخلاق موضع الشك، حسنا، إن هذا هو بعينه عملنا.»
11
فلنتأمل جيدا نقد نيتشه لفكرة الخير والشر، ولننظر فيما لهذا النقد من دلالة بصدد الرأي الذي نسعى إلى إثباته. إن نيتشه ينقد فكرة الخير والشر على أساس من النسبية؛ أعني أنه يؤكد أن ما نسميه نحن خيرا قد يكون شرا بالنسبة إلى غيرنا، وأن أحكامنا على الظاهرة الواحدة كثيرا ما تتغير، وإذن ففكرة الخير المطلق أو الشر المطلق فكرة واهمة لا مدلول لها. ولكن نقد نيتشه لفكرة الخير والشر لا يقف عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بالهجوم على فكرة المطلق في هذا الصدد، وبإثبات نسبية هذه الأحكام الأخلاقية التقويمية، وإنما هو يريد أن يقف بمعزل عن الخير والشر
Jenseits von Gut und Eöse . وتلك الفكرة الأخيرة قد احتلت عند نيتشه أهمية كبرى، وخاصة في أنضج فترات حياته؛ أعني الفترة الأخيرة. وليس أدل على ذلك من أنه ألف كتابا كاملا بهذا العنوان. فما هو مغزى هذا الموقف الجديد الذي وقفه نيتشه بمعزل عن الخير والشر؟
ليس الخير والشر لفظين لهما مضمون محدد، بل إن هذا المضمون يتباين ويختلف باختلاف النظم الأخلاقية. فمن يدعو إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر لا يعني إذن أن نتجاوز ما نسميه نحن خيرا أو شرا فحسب، لأن هذا لو كان قصده لكان معنى ذلك أن يدعو إلى ما يسميه غيرنا خيرا أو شرا؛ أعني إلى الالتزام بتقويم أخلاقي آخر.
ذلك لأن الخير والشر قيمتان يمكن أن تتضمنا محتويات متباينة، وقد يكون محتواهما في أخلاق معينة مضادا تماما لمحتواهما في أخلاق أخرى، ولكن هذا المحتوى سيظل مع ذلك يسمى خيرا أو شرا . على أن نيتشه لا يدعو إلى تجاوز خير أو شر معين، بل يستخدم تعبيرا شاملا، هو «بمعزل عن الخير والشر» بوجه عام. ومعنى ذلك أنه يرمي إلى الاستقلال، لا عن مضمون معين لهذه القيم، بل عن مبدأ التقويم من خلالها بوجه عام.
فدعوة نيتشه إلى الوقوف بمعزل عن الخير والشر، لا بد أن تعني استقلالا عن الأخلاق بوجه عام، لا عن أخلاق معينة؛ أي إنها دعوة إلى الكف عن تقدير الأمور من خلال قيمتي الخير والشر، أيا كان مضمونهما، واستبدال وسيلة أخرى لتقدير الأمور بهما؛ أما هذه الوسيلة التي سوف تحل محل القيم القديمة، فهي - كما ينبغي أن نتوقع - الحياة. ولنشرح رأي نيتشه في هذا الصدد بمزيد من الإيضاح، فنضرب له مثلا مألوفا؛ فمن المعروف أن العلم يحاول أن يستبدل بالنظرة الكيفية إلى الأمور، نظرة أخرى كمية؛ أعني أنه بينما تهتدي حواسنا إلى كيوف في كل شيء، فتصفه بأنه أبيض، أو خفيف، أو حلو الطعم ... إلخ، يحاول العلم أن يستبدل بكل هذا نظرة أخرى كمية، ويرجع كل هذا الاختلاف في الكيف إلى الاختلاف في النسب والمقادير فحسب. ولا جدال في أن نظرته هذه أدق وأبسط؛ إذ بينما ينطوي العالم، منظورا إليه من جهة الكيف، على كثرة هائلة وتنوع عظيم، فإنه من ناحية الكم يغدو أكثر تجانسا، وأبسط تركيبا. فعلى أي نحو يعلل العلم تقيدنا بالنظرة الكيفية؟ إنه يعلل ذلك بأن هذه النظرة تضفي على العالم من التنوع والجدة ما يجعله ملائما لمزاجنا وتركيبنا الخاص؛ فالكيف إذن مرتبط بالمنظور الإنساني في صورته الخشنة، صورة الحواس والحياة اليومية. أما إذا استبدل بهذا المنظور آخر أدق، لاختفى عالم الكيف وحل محله عالم الكم.
ومن خلال هذا المثل يمكننا أن نفهم ما يرمي إليه نيتشه من نقده للأخلاق بوجه عام، ومن استقلاله عن تقويماتها. فتأمل الأمور وتقديرها من خلال قيمتي الخير والشر، هما عنده أشبه بالنظر إلى الأشياء من جهة الكيف. والحق أن القيم بوجه عام هي كيوف معنوية نشكل بها الأشياء والأفعال ونضفي على كل منها طابعا خاصا، بحيث تتكون في نهاية الأمر صورة متنوعة ملائمة للحياة. ولكنا إذا نظرنا إلى الأمر بمزيد من الدقة - على نحو ما يفعل العالم في مجاله الخاص - لوجدنا أن هذه الكيوف المعنوية ترتد كلها إلى مبدأ واحد متجانس، يختلف في الدرجة فحسب، هو الحياة. فبدلا من أن نقوم الأفعال من خلال الخير والشر، كما فعلت الأخلاق «بوجه عام»، علينا أن ننظر إليها من خلال مدى تحقيقها للحياة، بحيث يحل محل الخير ذلك الفعل الذي يعلي من الحياة ويزيدها ثراء، ومحل الشر ذلك الفعل الذي ينكر الحياة ويزيدها هزالا. فإذا تأملنا الأمور كلها من خلال مدى تحقق الحياة فيها، فلا شك في أن نظرتنا هذه ستكون أقرب إلى النظرة الكمية في العلم، ما دامت الاختلافات هنا في الدرجة فحسب.
نامعلوم صفحہ