85

نداء الحقیقت

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

اصناف

إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.

تتحدث القصيدة في أبياتها الستة الأولى عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته الاسم، نعمة منها وهدية، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار، هنا نبلغ قمة الفعل الشعري؛ فالبيت السادس يقول: «وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام»، ويشير هذا إلى أن الأسماء هي التي «تحضر» الأشياء وتمدها بالوجود والثبات.

وفي الأبيات الستة الأخيرة يحدثنا الشاعر عن تجربة مختلفة، فهو لم يحمل معه شيئا من بعيد، وإنما رجع من رحلته الطيبة ومعه شيء قريب: جوهرة ثرية رقيقة، ما الذي نفهمه من هذه الجوهرة؟ ربما كانت هي الجوهرة التي تظهر وجود الشاعر نفسه، ولكن ربة القدر تفتش في نبعها فلا تجد لها اسما، لقد استطاعت قبل ذلك أن تجد لكل موجود اسما، فما الذي يعجزها الآن عن العثور على اسم لهذه الجوهرة؟ أتكون شيئا لا وجود له؟ ولكنها جوهرة، والجوهرة شيء غال ونفيس، موجود من نوع متميز، وحين تغيب الكلمة تختفي الجوهرة وتفلت من يدي الشاعر، هذا الغياب يشير إلى وظيفة أخرى للكلمة، إلى أسلوب آخر من أساليب وجودها؛ فهي لا تقتصر على إضفاء الاسم على الموجودات، وليست مجرد يد تمتد بالاسم إلى ما نتصور وجوده، بل هي قبل كل شيء ذلك الذي يهب الوجود ويضفي الكينونة.

تنتهي القصيدة بهذين البيتين:

فتعلمت وقلبي محزون هذا الزهد:

إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.

فكيف نفهم هذه النهاية؟ ما الذي يزهد فيه الشاعر أو يصد عنه؟ وما الذي تعلمه هنا من جديد؟ إنه شيء يتعلق بالرأي الذي كان يؤمن به من قبل عن العلاقة بين الشيء والكلمة، لقد تعلم الآن أن يتخلى عن هذا الرأي السابق، والتخلي ينطوي في نفس الوقت على وعد، فالكلمة تبدو له الآن في ثوب جديد: إنها هي التي تضفي على الشيء وجوده وتحافظ عليه.

عرف الشاعر أنه حارس الكلمة ومدبرها، وإذا كانت تجربته قد انتهت بالإخفاق، إذا كانت ربة القدر قد عجزت عن العثور على كلمة تسمي بها تجربته الجديدة، فيجب ألا نفهم من هذا أنها تجربة سلبية خالصة، أو أنه خرج منها فاقدا كل كنوزه، لقد تعلم الزهد والصد والتخلي عن عقيدته السابقة، ولكنه تعلم شيئا لم يكن يعلمه عن سلطان الكلمة وقدرتها، والأسى الذي يشعر به على ما فقده وضاع منه، يحمل في طياته وعدا بما يدخره المستقبل من حضور الغائب واقتراب البعيد، ولعل هذا الإحساس بالأسى أن يكون هو المسيطر على هيدجر نفسه، فهو الإحساس «بزمن المحنة» الذي عبر عنه هلدرلين ببيته المعروف: «لم الشعراء في الزمن الضنين؟» حين افتقد أولئك الذين يؤسسون بالكلمة «ما يبقى»، وإذا كان الوجود قد احتجب عنا نوره، فإن التفكير في هذا الاحتجاب والإحساس العميق به يمكن أن يكونا إيذانا بظهوره ووعدا بحضوره، وموقف هيدجر من الميتافيزيقا يوضح ما نقول، فتاريخها في رأيه هو زمن نسيان الوجود، وطبيعي أن تفكير هيدجر لا يلغي هذا الزمن ببساطة، وإنما يحاول أن يشعرنا بغياب الوجود عنه، وبأننا نعيش في زمن لم يفكر بعد في هذا الغياب تفكيرا أصيلا، حتى يمهد لإمكان التحول الذي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بموعده.

ما علاقة هذا بحديث هيدجر عن اللغة؟

ما شأنه بما يقوله عن قدرة الكلمة؟

نامعلوم صفحہ