62

نداء الحقیقت

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

اصناف

128

فبالتصميم يرجع الموجود الإنساني إلى وجوده الذاتي الأصيل؛ وما دامت الحقيقة تقوم في الموجود الإنساني، وما دام الحق - أي الانفتاح أو التفتح الأصيل - هو أسلوب وجود الموجود الإنساني، فلا بد أن نخلص من هذا إلى أن التصميم هو الحقيقة الأصيلة للوجود، وإذا عقد الموجود الإنساني العزم على الحياة المصممة، فقد وجد نفسه في الحقيقة الأصيلة.

قلنا إن هيدجر تناول مشكلة الحقيقة لأول مرة في كتاب «الوجود والزمان»، ثم توسع فيها بعد ذلك في دراسات ومحاضرات مختلفة، ولقد بدأ بحثه، كما رأينا، بالنظر في المفهوم التقليدي للحقيقة، وأرجع هذا المفهوم القائم على فكرة التطابق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل إلى تكوين الموجود الإنساني المتميز قبل كل شيء بالقدرة على الكشف والانفتاح على نفسه وعلى العالم، والقول بأن الموجود الإنساني «يكون في الحقيقة» لا يعني أن هناك حقائق تغرسها فيه قوى خارجية عنه، بل معناه أنه وجود-في-العالم منفتح بصورة دائمة على عالمه وكل ما يتصل به، ولا شك أن هذا الفهم الجديد للإنسان قد تجلى في فهم جديد مثله للحقيقة، وإذا كان هيدجر قد عزز رؤيته الجديدة بالتفسير الذي قدمه لبعض نصوص المفكرين اليونان المبكرين (أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز) إلى جانب تأويلاته لبعض نصوص أفلاطون وأرسططاليس، فلم يكن هذا مسألة عرضية، ولم يكن لونا من ألوان التأريخ الفلسفي، أو ضربا من ضروب الحذلقة اللغوية، لقد كان من الطبيعي أن يدخل في حوار مع أولئك الذين أسسوا الميتافيزيقا وأرسوا مناهج التفلسف وصاغوا مشكلاته التي لم تزل ملزمة للأجيال، وكان من الطبيعي أن يجد لديهم الأفكار التي كانت بمثابة العلامات على الطريق، ولا يملك أحد أن يغفلها أو يتنصل من واجب التفكير فيها.

وأخيرا فقد كان البحث في وجود الإنسان في «الوجود والزمان» مجرد تمهيد للسؤال الأساسي الذي لم يكف هيدجر عن إلقائه والتنبيه إليه، وهو السؤال عن معنى الوجود، ولهذا كان من الطبيعي أن يتناول مشكلة الحقيقة في نفس الكتاب بصورة مؤقتة، وأن يرجع إلى هذا الشطر الثاني من نواة تفكيره في بحوثه التالية، ولقد فعل هذا بوجه خاص في رسالته عن «ماهية الحقيقة» التي يتعين علينا الآن أن ننظر فيها لنرى ما أضافه إليها من جديد. (4-1) ماهية الحقيقة

كانت «ماهية الحقيقة» محاضرة ألقاها هيدجر في خريف وشتاء سنة 1930م في مدن ألمانية مختلفة، ثم أعاد النظر فيها وأضاف إليها الملحوظة الختامية قبل نشرها سنة 1943م، وإذا تذكرنا أن كتابه الأساسي «الوجود والزمان» قد ظهر سنة 1927م، وأن محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا?» قد صدرت سنة 1929م، أمكننا القول بأن «ماهية الحقيقة» هي أول عمل فلسفي بالمعنى الكامل يظهر بعدهما، ولعلنا لا نتورط في المبالغة إذا قلنا إنها من أهم أعماله الفلسفية.

والرسالة - كما سترى بنفسك! - من أصعب نصوص هذا الفيلسوف الذي يتهم دائما بالغموض والتعقيد والإسراف في نحت كلمات واشتقاقات غريبة على لغته نفسها! ولا شك أن الترجمة - بكل ضروراتها ومخاطرها - قد تزيدها غموضا على غموض، وقد لا تنجح في تذليل وعورة النص الذي يتسم بالكثافة والدقة والتركيز والإحكام، أضف إلى هذا أن الرسالة نفسها تمثل آخر مرحلة وصل إليها تصور الحقيقة عند الفيلسوف؛ ولهذا لم أجد بأسا من المقارنة بينه وبين تصوره السابق في «الوجود والزمان» أو تصوره اللاحق في رسالته عن «النزعة الإنسانية» وغيرها من دراساته ومحاضراته.

كان هيدجر في «الوجود والزمان»

129

قد عرض التصور التقليدي للحقيقة، وهو الذي يذهب إلى أن مكان الحقيقة هو الحكم، وأن ماهيتها هي التطابق بين هذا الحكم والشيء، ولكنه أكد - كما رأينا - أن هاتين القضيتين لا تمثلان الوضع الميتافيزيقي النهائي للمشكلة على نحو ما عرضها كبار الفلسفة الكلاسيكيين صراحة أو ضمنا في أعمالهم، كما أخذ يلح منذ ذلك الحين على أن المشكلة ما تزال في حاجة إلى المزيد من الشرح والتوضيح، وهي مهمة أخذ بها نفسه في الرسالة التي تجدها الآن بين يديك.

كان «الوجود والزمان» قد مهد الطريق وبين معالمه، ولكنه وقف عند مرحلة معينة حددتها خطة الكتاب وبنيته، ووصل إلى نتائج تعد من منظور هذه الرسالة نتائج مرحلية، حتى ليمكن القول إن الفيلسوف نفسه قد تجاوزها ورد بعضها أو تراجع عنه.

نامعلوم صفحہ