نداء الحقیقت
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
اصناف
يختلف هيدجر من غيره من الفلاسفة، وقراءتنا له تحتم علينا أن تكون مختلفة عن قراءتنا لهم، إنه ينتمي لذلك الجيل الطليعي والثوري الذي رأى النور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وصمم على أن يشق لنفسه طريقا جديدا ويبدأ بنفسه ولنفسه بداية جديدة تحطم الأشكال التقليدية السائدة وتدعو لمراجعة ما مضى وإعادة النظر في كل ما وصل إليها، وإذا أردنا أن نبحث له عن شبيه من جيله في ميادين أخرى للحياة العقلية والروحية، ألح علينا تشبيهه بكافكا وجويس في الأدب القصصي والروائي، وبيكاسو في الرسم والتصوير، ورلكة وفاليري في الشعر، لقد أكدت جهود هيدجر كلها - ربما أكثر مما فعلته الفلسفة في مسارها الطويل - أن الفكر في جوهره «حدث يتحقق»، ولا بد للقارئ أن يحققه في نفسه وبعيد تحقيقه معه أو ضده إذا شاء؛ فالفكر طريق - كما علمنا أفلاطون من قبل - وهو بهذا المفهوم لا يريد التوصل إلى نتائج أو إجابات نهائية ولا حتى مؤقتة، وإنما هو - كما قلت - طريق يقطعه المفكر والقارئ الذي يفكر معه ويصر مثله على جدية السؤال، حتى لو كان سؤالا واحدا وكلفهما طرحه ومحاولة الإجابة عليه عمرهما كله.
من هنا يصبح أول ما يطالبنا به الفكر والمفكر هو أن «نتحول» لا أن نفكر وحسب، وأن تتحول كذلك علاقتنا بالوجود والحقيقة، لا أن نكتفي بترديد كلمات الفيلسوف واجترار لغته وعباراته ومصطلحاته المنحوتة الشائكة كما فعل أكثر الذين فسروه «من خارجه» ولم يكلفوا أنفسهم مشقة تحقيق فكره وتجربة أسئلته ومعايشة قضاياه قبل الاتفاق أو الاختلاف معه، ولعل مقالة هيدجر الرائعة التي تجدها في هذا الكتاب، وهي نظرية أفلاطون عن الحقيقة، أن تكون أوضح تعبير عن هذا التحول الذي ينبغي أن يصيب الإنسان بكليته عندما يسير على طريق الفكر ويتحقق به (راجع الهامش السابق عن التحول).
ربما أمكننا القول بأن طريق هيدجر قد توغل به في ثلاث مناطق أساسية بذل كل جهده في استيعابها قبل أن يبذل بعد ذلك غاية جهده في استبعادها أو الابتعاد عنها، فقد بدأ حياته بدراسة اللاهوت قبل أن يقطع دراسته له «وهو موجع للقلب» - كما سيعبر عن ذلك في مرحلة متأخرة من حياته! - ومع ذلك يبقى فكره في صميمه وفي أعمق أعماقه فكرا دينيا، لا سيما في مرحلة «الرجعة» إلى الوجود نفسه الذي سنقف عندها بعد قليل.
وهو قد استوعب فلسفة الظاهريات «الفينومينولوجيا» لأستاذه هسرل بعد أن جذبته إلى حد السحر بها، وتعلم منها المران على «رؤية الماهيات»، وقدرها قبل ذلك كفلسفة منطقية ومعرفية تريد أن تكون علما دقيقا محكما، وقدم في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» تحليلات ظاهراتية قيمة وباقية لأنطولوجيا الوجود الإنساني التي سماها بالأنطولوجيا (أي علم الوجود) الأساسية، الأمر الذي أساء أستاذه فهمه - كما هو معروف - بل أثار استياءه إلى حد القول بأن تلميذه قد حول الفينومينوجيا إلى أنثروبولوجيا، وأن الأنطولوجيا عنده منصبة على منطقة التاريخ أو التاريخي وحدها، ولم يقدر الأستاذ أن تلك الأنطولوجيا الأساسية كانت مجرد معبر لتأسيس أنطولوجيا الوجود ذاته.
ومع أن هيدجر قد تخلى عن الظاهريات عندما أصبحت في مرحلته المتأخرة مثالية ذاتية متعالية، وأعلن ابتعاده القاطع عنها، إلا أنه ظل في الحقيقة ظاهراتيا في منهج بحثه وأسلوب طرحه «الفينومينولوجي» للسؤال بغير افتراضات مسبقة من أي نوع، وبغير اكتراث بسلطة التراث الفلسفي الذي سيطالب بعد ذلك بتحطيمه، أو بالأحرى تجاوزه (راجع اعترافه عن علاقته بالظاهريات في مقاله طريقي إلى الفينومينولوجيا 1963م بالإضافة إلى الهامش السابق عن نهاية الفلسفة).
أما عن المنطقة الثالثة والأخيرة التي استوعبها على أكمل وجه وأندره فهي منطقة تاريخ الفلسفة الغربية (ولم يبلغ إلى علمي أنه شغل في أي وقت من حياته بالفلسفة الشرقية، ربما باستثناء واحد هو اطلاعه على الفلسفة البوذية لطائفة الزن تحت تأثير الأستاذ الياباني الذي دخل في حوار معه نشر في كتابه على الطريق إلى اللغة - وهكذا ظل هيدجر أوروبيا مركزيا في دراسته للفلسفة، وألمانيا خالصا في اختياره للشعراء الذين قام بتفسيرهم أو تأويلهم لصالح فكره!) لقد أتاح له طريق حياته - كما يتبين من اللوحة المنشورة في نهاية هذا الكتاب - أن يتغلغل في دراسة هذا التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه، وأن يقدم تفسيرات ربما يؤخذ عليها أنها «هيدجرية» محضة، وأنها لوت في معظم الأحيان أعناق النصوص وفتشت فيها وتحتها ووراءها - بعيون هيرمينوطيقية نافذة! - لكي تنطق بفلسفة هيدجر نفسه عن الوجود والحقيقة! ولكن لا شك في أن ظل مقيدا بتاريخ الفلسفة وتاريخ الميتافيزيقا على الرغم من دعوته المتأخرة - كما رأينا - إلى تحطيم هذا التاريخ أو تجاوزه نحو التفكير في الوجود نفسه، وعلى الرغم من تأكيده المستمر بأن نيتشه - الذي وصفه بأنه أشد الأفلاطونيين تطرفا! - يمثل مع ماركس فصل الختام في هذا التاريخ الذي بدأ بدايته الحقيقة - التي لم يتم التنبه لها أبدا - مع الفلاسفة قبل سقراط، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا إنه هو نفسه - أي هيدجر - وليس ماركس ونيتشه فقط، إنما يعبر عن نهايته أو عن آخر فصوله وأشدها ثورية وعدمية .
7
لا شك في أن القارئ سيتأثر بتحليلات هيدجر للزمان والموت والقلق والهم - التي لخصناها في الفصل الأول من هذا الكتاب - تأثرا وجدانيا لا أبالغ إذا وصفته بأنه «وجودي»، وأهمية هذه التحليلات لا تأتي فحسب من أصالة البحث في «وجودات» أو «مقولات» أنطولوجياه الأساسية، وإنما تأتي من تعبيرها الصريح عن تجربة هيدجر الشخصية القاتمة بالوجود، وتعبيرها المضمر في الوقت نفسه عن روح العصر الذي وضع فيه كتاب الوجود والزمان (1927م)، ولعل هذه العلاقة التي تربط تحليلات هيدجر للزمان بروح العصر والتاريخ الواقعي الذي كتبت فيه أن تكون - كما يرى سيلفيو فييتا
8 - هي مفتاح القضية الشائكة عن هيدجر والسياسة وموقفه من دولة الرايخ الثالث النازية في الفترة الممتدة من سنة 1933م إلى سنة 1934م، وهي الفترة التي سقط فيها - كما سبق القول - ضحية الوعي الكاذب والوهم الزائف في تلك الدولة التي لم يعرف تاريخ البشرية مثيلا لها في البربرية والهمجية والوحشية.
ومع أنني أبعد ما أكون عن تبرير هذه السقطة أو الاعتذار عنها بالضعف البشري أو بالوقوع في براثن الوهم والنقص والخطأ الذي لا يبرأ منه إنسان، فإنني أرى من الضروري أن توضع القضية الشائكة (التي ازداد حولها الجدل واللغط والتجني في السنوات الأخيرة إلى حد الخلط الظالم بين الشخص والنص في وقت يعلمنا فيه النقد الجديد أن نفصل بينهما حتى لو أدى بنا الحال - كما فعل بعضهم - إلى الصراخ بإعلان موت المؤلف والتاريخ ليخلص لنا العمل نقيا من كل شائبة) أقول: أرى من الضروري أن توضع القضية في حجمها الصحيح وفي السياق التاريخي - الذي يبدو أن الفيلسوف كان في غيبوبة عن الوعي به! - والذي يلقي عليها الضوء دون أن يسوغ الخطأ الجسيم أو يهون من فداحته.
نامعلوم صفحہ