54

نداء الحقیقت

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

اصناف

الذي يجعله يعيش في مواقف الانتظار والرجاء، والتطلع والرغبة ...

الموجود-الإنساني الأصيل وغير الأصيل إذا يتزمن كلاهما بالمستقبل، والتزمن بالمستقبل قد يكون أصيلا أو غير أصيل، ولكن يصدق في الحالين تعبير «السبق للذات»

108

أو الاستباق الذي يتميز به تواجد الموجود-الإنساني المتواجد، وكل تزمن يشمل الانبثاقات الزمنية الثلاثة التي ذكرناها، وقد عرفنا مما سبق أن الفهم والتأثر الوجداني والكلام كلها «وجودات» متزمنة أو يدخل الزمان في نسيج تركيبها، فما صلة هذا بما نحن بصدده من الحديث عن الوجود الأصيل وغير الأصيل؟

لنبدأ بالتزمن الأصيل للفهم الذي ينطلق - كما عرفنا - من المستقبل، ويتخذ صورة استباق الموجود-الإنساني لنفسه نحو إمكاناته التي لم تتحقق بعد، هذا الاستباق الذي يتم كما رأينا «بالتصميم»، يحتاج إلى الزمن الحاضر الذي يقع فيه اختيار «القرار» على موقف معين، في هذا التصميم وبهذا القرار يسترد الحاضر من التشتت والاستغراق في الموجودات القريبة التي ينشغل بها الموجود- الإنساني، ولا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ يضم الحاضر نفسه إلى مكانه الذي يتحد فيه بما سيكون (المستقبل) وما قد كان (الانقضاء)، هذا الحاضر الأصيل الذي يوضع في مكانه من الزمانية الأصيلة هو الذي نسميه «اللحظة»،

109

وليست اللحظة «نقطة آن» في مجرى تتابع زمني داخل العالم، وإنما هي أسلوب انفتاح الموجود-الإنساني على ما يقابله ويواجهه، أو بالأحرى على ما يتيح له مقابلته ومواجهته، ويتوقف هذا بطبيعة الحال على أسلوبه المتميز في الوجود، على قدرته على أن يكون هو ذاته.

أما التزمن غير الأصيل للفهم فيقابله - في انبثاقه الحاضر - الإحضار، ومعنى الإحضار أن الوجود-الإنساني - أو إمكانية الوجود - لا يفهم ذاته إلا من خلال ما ينشغل به وما يكون حاضرا أمامه، على حين أن التزمن الأصيل مرتبط بالمستقبل ولا يضيع نفسه أو يشتتها فيما ينشغل به.

بقيت الانبثاقة الثالثة للزمن، وقد تبين مما قلناه عن الفهم الأصيل أن الموجود-الإنساني يحتفظ بما كانه أو انقضى منه أثناء الاستباق.

هنا يلمس هيدجر مسألة الهوية (أي هوية الذات مع ذاتها) التي يكثر حولها الجدل في الفكر المعاصر، فالموجود-الإنساني يسترد نفسه في أثناء هذا الاستباق ويعود من جديد إلى الإمكانية الحقة لوجوده؛ ولهذا يصف الانقضاء الأصيل بأنه تكرار (وهو مصطلح نعرفه من كيركجورد الذي أنشأ حوله قصة فلسفية مؤثرة شائقة، وإن اختلف مدلوله عند المفكرين اختلافا كبيرا) فإذا اقتصر الموجود-الإنساني على اكتساب إمكانياته من تعامله مع الموجودات المنشغل بها، نسي ما كانه وما يحدد له ما يمكن أن يكونه، فالنسيان حالة ناقصة من أحوال تزمن الانقضاء أو ما قد كان، حين يكون هذا التزمن غير أصيل، وفي حياتنا اليومية شواهد كثيرة على تنكر الإنسان لماضيه ومحاولته إسدال ستر من التجاهل والنسيان عليه حين يكون بصدد التخطيط لمستقبله (أو الشروع له كما يقول هيدجر)! وهو بهذا الأسلوب ينغلق على نفسه، وينخدع فيها، ويتهرب منها، وفي الأدب المحلي والعالمي شواهد عديدة تقدم لنا شخصيات تهربت من شبح ماضيها وحاولت أن ترتفع إلى قمة الطموح والمجد فهوت في وادي الآلام والموت (وتحضرني الآن بداية ونهاية لنجيب محفوظ، والأحمر والأسود لستندال، والبطة الوحشية لإبسن) وهذا هو موقف عدم التصميم الذي يقع على طرفي نقيض من موقف التصميم الذي ذكرناه.

نامعلوم صفحہ