نزعة فکر یورپی
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
اصناف
على أننا لم نسعد بهذا وحده، فإنهم قد حملوا إلينا شهادة ناطقة، وأورثونا تراثا حيا دائما، غير أنه يخرج عن طوق مستطاعنا أن نورث أولادنا ذلك التراث كما تسلمناه من يد آبائنا؛ فإنه لن يمر من بين أيدينا غير مدخول بتحوير أو تغيير.
إن هذا التراث لهو «اللغة» التي علمنا إياها آباؤنا مذ كنا في المهد أطفالا، على أنهم قد نالوا من اللغة، على غير علم منهم، بالتغيير والتبديل، غيروا اللهجة والكلمات والجمل التي تلقوها عمن سبقهم؛ إذ ركزوا في تلك الكلمات والجمل طرق الكلام التي شاعت خلال سنيهم، وأدمجوا فيها روح عصرهم، ومزجوها بفكراته وخيالياته. وتلك الجمل الممسوسة بأثر الطرق الكلامية الخاصة بهم قد ورثناها منذ الطفولة، فكانت المادة التي تكونت منها عقولنا، وكأنها صدفة محبوكة الأطراف لا بد من أن تسبك أفكارنا على نموذجها، أو هي الأداة التي نعدم بدونها طرقا للتعبير عما يخالج أنفسنا من الفكر أو الخيال.
من لغتهم، ومن جملهم المركبة، وأمثالهم الجارية على ألسنتهم، عرفنا كيف نفرق بين ما هو خطير مفيد ، وبين ما هو تافه حقير، ومنها استمدت عقولنا مختلف الموضوعات التي تشغل أفكارنا، والآمال التي تجيش في صدورنا، والمبادئ التي نعكف عليها، والوسائل التي نتخذها في الحياة هاديا ومرشدا. ولا ريبة في أن مجمل هذه الأشياء قد ورثوها هم عن غيرهم، غير أن ما أمدتهم به قواهم العاقلة من ضروب الفوارق العقلية الدقيقة، ورفاهة إحساساتهم، وعريض آمالهم، جماعها أثر تأثيرا عظيما في جوهر اللغة؛ إذ إنهم بما أضافوا وما بدلوا، قد استغلوا ما في عنصر اللغة من مطاوعات اللين والمرونة، وما زالوا يعالجونها حتى جعلوها أكثر تكافؤا مع ما تتطلب حاجاتهم، ومقتضيات حياتهم.
لقد ورثنا اللغة مدخولة بما حور فيها آباؤنا، فورثنا معها روح الجيل الماضي؛ تلك الروح التي تسوقنا كرها إلى مناحي من التفكير بعينها، وترغمنا على أن نلزمها، وتضع في طريقنا من الصعاب ما يجعل جنوحنا إلى غيرها متعذرا، اللهم إلا إذا تدرجنا في تنكبها تدرجا، وابتعدنا عنها متخطين حواجزها خفية متسللين، حتى نستطيع أن ننبه في كامن نفوسنا نزعة إلى فكرات لم تكن لتدر في خلدنا، وأذواق لم نألفها، وإحساسات لم تعتدها مشاعرنا.
يعكف الكثير منا على الأفكار الموروثة، وعلى مناحي التفكير المفطورين عليها، الرسيسة في أخلاقهم منذ الطفولة. وقد يستعين البعض بتعلم اللغات الأجنبية أو بالهجرة ابتغاء العيش في ممالك قاصية عن موطنهم، على بلوغ درجة من الرقي يسهل معها أن يستوعبوا أساليب جديدة للبحث والتفكير، على أن القليل منا هم الذين يفوزون بإبراز شيء من الفكرات المبتكرة المخدرة، فيكسرون بذلك صدفة اللغة المحبوكة أطرافها على التعبيرات المتداولة، فينحتون كلمات جديدة وتعبيرات مستحدثة لأنفسهم، يصوغون فيها فكرات أزمانهم المندفعة في سماء العقول اندفاع السيارات في الفلك المرسوم، ويحددون بها روح زمانهم ليبرزوها في صورة تكاد تتخيلها أمامك تمثالا منحوتا.
والمصطلحات اللغوية لا تلبث أن تستعمل مرة حتى تذيع، حتى إنك لا ترجع النظر كرة إلى الماضي جيلا واحدا إلا لترى مقدار ارتقاء الفكرات والأذواق، ممثلا فيما دخل على اللغة وأساليبها من التغير البين.
من هنا نجد أن كاتب هذه السطور وقارئيها، الذين يرجعون بذاكرتهم إلى أواسط القرن التاسع عشر، والذين أمدهم تعليمهم وتثقيفهم بتلك الفكرات التي ذاعت منذ جيل من الزمان، هم وحدهم الذين في طوقهم أن يفخروا بأن لهم أكبر قسط من العلم بما وقع في الشطر الأعظم من هذا القرن، وبالمستحدثات التي أنتجها، والفكرات التي مهد لها سبيل الذيوع والانتشار.
وما غرضي من كتابي هذا إلا الوصول إلى هذه النتيجة؛ أريد أن أنتشل به من هوة النسيان السحيقة تلك الأشياء التي يلوح لي أنها ميراثنا الخفي، وأن ألقي شعاعا من النور على تلك الحياة الفكرية التي تكاد تختتم صفحتها باختتام عصر من أزهر عصور الدنيا بالعلم، وأكثرها نصرة له. سوف أبذل جهدي في أن أتعقب خطى تلك الحياة الفكرية، وأن أستعين بكل ضروب المعلومات التي أقع عليها في مدونات غيري من الكتاب والباحثين على إبرازها في صورة أكثر تلاؤما، وأشد تكافؤا، بحيث تعطي الذين يتبعون رأيا ما من الآراء الخاصة بوجهة النظر التي نظر بها في ذلك العصر إلى عالم المادة والحياة، فكرة عامة تريهم كيف كان أثر القرن التاسع عشر في تبديلهم عقليا وروحيا.
كذلك لم يكن من قصدي أن أكتب تاريخا ألم فيه بمختلف التغيرات السياسية الظاهرة، أو تقدم الإنتاجية الصناعية. أما التغيرات السياسية الظاهرة فقد تصبح أطوع قيادا لأولادنا منا. وأما الإنتاجية الصناعية فتلك أشياء سرعان ما تنسى، وقد تندمج وتنمحي فيما سوف ينتج المستقبل من مخترعات ووسائل، فلا يكون ما نرى منها في زماننا إلا ممهدات لما سوف يعقبها.
كذلك لست أريد أن أكتب تاريخا للمعرفة والعلم، ولا قصة الأدب والفن؛ فإن هذه الأشياء إن كانت بذاتها نتاج الحياة الكامنة، بل إن كانت تلك الحياة تتضمنها، فإنا لن نلجأ إلى بحثها إلا كوسائل لتمحيص النتائج التي قد نصل إليها. أما ما سوف يستغرق أكبر قسط من عنايتي، فتلك الآمال والغايات الحية الشاعرة التي تحدث أية حركة ارتقائية، سواء أفي السياسة أم في الاجتماع، إن وقعت عليها. أما إذا لم أقع عليها فأنصرف إلى الكلام في النتائج التي أبرزتها حياتنا الداخلية الكامنة، والأساليب التي انتشرت بها المعرفة، أو طبق بها العلم، والمبادئ التي تختفي وراء صور الأدب والنقد، أو ذلك الكنز الروحي الدفين الذي يعمد الشعر والفن والحركات الدينية إلى كشف خفياته والإبانة عن أسراره.
نامعلوم صفحہ