الحق أنني لست أدري يا سقراط كيف أرجح أحد الأمرين على الآخر ...
سقراط : ... وهكذا ترى أن من الممكن بسهولة إثارة الشك حول حقيقة الحس، ما دام هناك شك حتى فيما إذا كنا أيقاظا أو نياما، ولما كان وقتنا مقسما بالتساوي بين النوم واليقظة، فإن النفس تؤكد في كل من مجالي الوجود هذين أن الأفكار الحاضرة في أذهاننا في تلك اللحظة صحيحة، فتؤكد صحة أحدهما في أحد نصفي حياتنا، وصحة الآخر في النصف الآخر، ويكون لدينا نفس القدر من الثقة بالأمرين معا.
3
وبغض النظر عن قيمة الحجة التي يقدمها أفلاطون، والتي تناولتها المثالية من بعده وعرضتها بصور شتى، فلنلاحظ هنا - على الأقل - أن عرضه لم يكن موفقا تماما؛ إذ إنه بعد تقسيمه الحياة ب «التساوي» إلى نوم ويقظة، يفترض أن الأحلام تحتل كل هذا النصف المسمى بالنوم، ورغم أن الفارق بين ما يقول به أفلاطون وبين ما يحدث في الواقع - حيث لا يمثل النوم «نصف» وقتنا، ولا تشغل الأحلام من النوم إلا وقتا ضئيلا - فارق في الكم فحسب، فلا جدال في أن قيمة حجة الأحلام كانت تعلو كثيرا لو كان وقت الإنسان مقسما بالتساوي بين نصفين يمتلئ أحدهما بإدراكات يسميها «يقظة» والآخر بإدراكات يسميها «حلما»، غير أن المسألة - لحسن الحظ - ليست معقدة إلى هذا الحد، ولا جدال أنه حتى مع افتراض حالة الشك فإن حياة اليقظة مرجحة - كميا على الأقل - على حياة الأحلام بدرجة كبيرة.
ولو اختبرنا عن كثب هذا النقد الذي يوجه إلى الإدراك الحسي عن طريق حجة الأحلام لوجدنا أنه حتى لو صح، فلا يمكن أن يعد اعتراضا على صحة المعرفة بالحواس، فكل ما يؤدي إليه هذا النقد الذي لم يكن أفلاطون إلا الحلقة الأولى من سلسلة طويلة من موجهيه، هو أننا لا نستطيع أحيانا أن نتأكد إن كانت تجربتنا حسية أم لا، أي إن إدراكنا الحسي يصعب تمييزه بصفة قاطعة من إدراكنا غير الحسي في الأحلام، بحيث لا يستطيع المرء أن يجد معيارا دقيقا يحدد به أيهما هذا وأيهما ذاك، وبعبارة أخرى: فإذا استطعنا أن نهتدي إلى طريقة نميز بها دائما بين الإدراك الحسي وبين الأحلام، فسوف تكون مهمة هذا النقد قد انتهت، وينتهي الإشكال بالنسبة إليه، فدور هذا الوجه من حجة الأحلام ينحصر إذن في التشكيك في إمكان التفرقة بين الإدراك الحسي وإدراك الأحلام، ولكنه ليس على الإطلاق تفنيدا للإدراك الحسي ذاته، بل إنه لا يمسه على الإطلاق، ومن الممكن جدا أن يكون الإنسان مؤمنا كل الإيمان بأن الإدراك الحسي يلعب الدور الأهم في المعرفة - على عكس ما كان يعتقد أفلاطون - ويظل مع ذلك يشكو من وجود ذلك النوع الآخر من الإدراك الذي يشككنا في أصالة إدراكنا الحسي، فليس مما يحط من قدر الإدراك الحسي في ذاته أبدا أن يكون هناك نوع آخر من الإدراك يشبهه إلى حد يجعل الأمر بينهما مختلطا على ذهن الإنسان.
ولنضرب لذلك مثلا: فإذا كان لديك عدد من العملات بعضها زائف وبعضها من الذهب الخالص، دون أن يمكنك التمييز بينهما على نحو قاطع، فسوف تشك في قيمة أية واحدة منها إن حاولت تداولها، غير أن مثل هذا الشك لا يعدو أن يكون عجزا عن التفرقة بين الصحيح والمزيف، ومن المحال أن ينطوي على أي تشكيك في قيمة الذهب ذاته، بل إنك لو تمكنت من فصله من غيره على نحو قاطع - بحيث تستخرجه نقيا - فلن يعود شكك الأول منصبا عليه. •••
والوجه الأخير والأكمل لحجة الأحلام هو ذلك الذي تغدو فيه الحجة عنصرا إيجابيا مكملا للرأي المثالي في نظرية المعرفة، وهذا الوجه بدوره لا يمكن فصله بحال عن الأوجه السابقة، التي تعد في الواقع تمهيدا ضروريا؛ إذ إن حجة الأحلام إن كانت تؤدي إلى شكنا في الموضوعات الخارجية وإلى «نقد» المعرفة الحسية، فإن الخطوة الطبيعية التي تلي ذلك هي القول إيجابيا بمثالية المعرفة، والوسيلة التي تستخدم بها حجة الأحكام لإثبات مثالية المعرفة، هي القول إيجابيا بأن عالم الأحلام لا يتميز بالفعل عن عالم الواقع، فهنا يستخدم المثالي حجة الأحلام لا بوصفها تعبيرا عن مرحلة من الشك سرعان ما يتجاوزها، بل بوصفها حجة قائمة عنيدة لا يمكن التخلص منها، وتؤدي بالفعل إلى نوع من محو التفرقة بين عالم اليقظة وعالم الأحلام.
ففي فلسفة باركلي تلعب هذه الحجة دورا هاما؛ لأنها في نظره دليل «إيجابي» على إمكان وجود إدراكات لا تقابلها أجسام خارجية. «فما يحدث في الأحلام يدل على أن من الممكن أن نتأثر بجميع الأفكار التي لدينا الآن دون أن تكون هنالك أجسام تشابهها؛ وعلى ذلك فمن الواضح أن افتراض الأجسام الخارجية ليس ضروريا لإحداث أفكارنا، ما دام من المعترف به أن هذه الأفكار قد تحدث أحيانا - وربما كانت تحدث دائما - بنفس الترتيب الذي نراها به حاليا، دون وجود الأجسام الخارجية.»
4
هنا إذن تستخدم حجة الأحلام لإثبات أن «افتراض وجود الأجسام الخارجية ليس ضروريا لإحداث أفكارنا»، وهو - كما نرى - هدف يتجاوز الهدفين السابقين؛ إذ إنه ليس مجرد «شك» عابر في وجود العالم الخارجي أو نقد لدور إدراكنا الحسي في المعرفة، بل هو النتيجة الضرورية التي يستخلصها المثالي من هذه القضايا السابقة.
نامعلوم صفحہ