ومما لا شك فيه أن مجال الفلسفة - كما نعرفها اليوم - سيضيق كثيرا إذا حدث مثل هذا التطور؛ إذ إن معظم المسائل التي تثار اليوم في الفلسفة تتخذ من رفض الموقف الطبيعي نقطة بداية لها، ولكن سيظل للفلسفة مع ذلك مجالها الخاص، في حدود جديدة يختفي فيها التنافس القديم بينها وبين العلم، ذلك التنافس الذي جعل الفلاسفة يظنون حتى اليوم أنهم يأتون فعلا بنظريات جديدة عن العالم، وأن آراءهم تؤدي إلى تغيير فعلي في محتوى المعرفة، وسيتحدد مجال الفلسفة بوصفها مبحثا إنسانيا
humanistic
يتضمن تعميمات «مستمدة» من عدة مجالات أخرى، ومحاولة لتنظيم التجارب البشرية في شتى الميادين، واستخلاص أحكام عامة منها و«تاريخا» لتطور الفكر البشري في اجتهاداته الصائبة والباطلة ، وسجلا للانتقال التدريجي البطيء من التفكير الخرافي القديم إلى التفكير العلمي الحديث، ولسنا ندعي أن هذا تعريف أو تحديد للمجال الوحيد الذي يمكن أن يدور في نطاقه التفلسف، وكل ما في الأمر هو أن الفلسفة لو سارت في هذا الطريق فستكون فرص بقائها في عالم المستقبل أعظم كثيرا منها لو ظلت تؤكد أن الأشياء الخارجية غير موجودة، وأن أحدا لا يوقن بوجود الآخرين أو بوجود الذات، وأن أولى خطوات التفلسف هي رفض الموقف الطبيعي للإنسان.
تذييل
حجة الأحلام في نظرية المعرفة
للشكاك والمثاليين طريقة مفضلة يتبعونها كلما حاولوا تشكيك الإنسان في واقعية العالم الذي يعيش فيه، وإثبات مثالية هذا العالم، هذه الطريقة هي الالتجاء إلى أمثلة من «الحالات الشاذة» التي تطرأ على إدراك الإنسان ومعرفته الواقعية لهذا العالم، وعن طريق هذه الحالات الشاذة يهتدون إلى الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها النقد الشكي أو المثالي، وذلك عن طريق استدلال يسير دائما - مع بعض الاختلاف في التفاصيل - على النحو الآتي:
إذا كان لديك إدراك شاذ مثل أ أو ب أو ج ... فما الذي يضمن ألا يكون كل إدراك لديك من نفس النمط؟
وهكذا نجد الشكاك والمثاليين يتخذون نقطة بدايتهم من تعديد أمثلة لحالات في الإدراك كحالة «انكسار العصا في الماء» أو «ازدواج الإبصار» أو الهلوسة ... إلخ، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة المبدأ العام الذي يخضع له هذا النوع من الاستدلال، وهو المبدأ القائل: إن شذوذ - أو حتى خطأ - الإدراك في بعض حالاته يبرر الشك فيه كله أو تفسيره بطريقة مضادة للطريقة الواقعية «المألوفة»، فلزام على كل باحث في نظرية المعرفة أن يواجه هذه الحجج الأساسية، ويكون أمامه إما أن يقتنع بها، وينتهي إلى النتائج التي استخلصها منها الشكاك أو المثاليون، وإما أن يناقشها من حيث تفاصيلها ومن حيث مبدؤها العام الذي ترتكز عليه، وعندئذ يكون في ذلك أيضا مناقشة للاستنتاجات الشكية والمثالية ذاتها.
والهدف من هذا المقال هو مناقشة حجة مألوفة من أمثلة «حالات الشذوذ» التي أشرنا إليها من قبل، هي حجة الأحلام، وأول ما يتبادر إلى الذهن أن الحلم ظاهرة مألوفة إلى أبعد حد، وأن من الخطأ بالتالي إدراجها ضمن حالات الشذوذ، ولكن الواقع أن الحلم مألوف من حيث هو ظاهرة نفسية، أما من حيث هو طريقة من طرق الإدراك - على نحو ما يستخدمه الفلاسفة في حجتهم هذه - فهو حالة شاذة بالقياس إلى ما اصطلحنا على تسميته بإدراكنا في «حياة اليقظة».
فلنتتبع إذن أمثلة لتلك الحجة التي يهيب فيها الفيلسوف بإدراكنا في الحلم لكي يؤكد أن كل إدراك لنا - بوجه عام - مشكوك فيه، أو أنه ذو طابع ذاتي، لا يتناول «عالما موضوعيا» على نحو ما نعتقد في «واقعيتنا الساذجة»، وليس هدفنا هنا هو أن نقدم بحثا «استقرائيا» شاملا لطريقة عرض الفلاسفة لهذه الحجة، بل سنختار بعضا من أوضح الأمثلة على سبيل النماذج فحسب؛ لكي ننتهي آخر الأمر إلى إصدار حكم على قيمة هذه الحجة بوصفها جزءا من الاستدلال الشكي أو المثالي في نظرية المعرفة.
نامعلوم صفحہ