وعلى أية حال، فإن وجود مثل هذا الاستعداد المعنوي لدى ديكارت واضح كل الوضوح في موقفه النهائي في مشكلة العالم الخارجي، الذي لم يعترف به ديكارت - كما لاحظنا من قبل - إلا بعد ارتكازه على الإيمان ب «الصدق الإلهي»، وهو أساس يدخل - في واقع الأمر - في باب المواقف المعنوية العملية أكثر مما يدخل في باب الحجج العقلية.
أما فلسفة باركلي، فإنها تحفل بالبراهين على القضية التي نحاول إثباتها، ومن هنا كنا نستطيع أن نعدها حالة نموذجية في الفلسفة المثالية بوجه عام.
ففي كتاب «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» يوضح باركلي الفارق بينه وبين سائر المؤمنين بالمسيحية، من خلال فكرته القائلة إن الله يدرك صور الأشياء وإنها توجد فيه، فيقول: «إن الناس يعتقدون عادة أن الله يدرك أو يعرف جميع الأشياء؛ لأنهم يؤمنون بوجود الله، أما أنا فأستنتج وجود الله مباشرة وبالضرورة؛ لأن كل الأشياء المحسوسة ينبغي أن تدرك بواسطته.»
3
في هذا النص يصور باركلي الأمر كما لو كانت فكرة الله في فلسفته نتيجة لوجوب وجود كائن يدرك الأشياء المحسوسة حين تغيب عن إدراكنا، حتى يحفظ لها دوام بقائها، أي كما لو كان الموقف المعنوي - الذي ينتمي إليه الإيمان بفكرة الله وما يرتبط بها من مواقف أخلاقية - «نتيجة» للرأي النظري الذي قال به باركلي بشأن وجود الأشياء الذي لا يمكن أن يكون إلا كونها مدركة. وفي رأيي أن عرض باركلي لفلسفته على هذا النحو مضلل إلى حد بعيد؛ إذ إن آراءه النظرية التي تربط وجود الأشياء بكونها مدركة، كانت هي ذاتها نتيجة لآرائه الأخلاقية والدينية ولموقفه المعنوي بوجه عام، وليس من العسير على الإطلاق الإتيان بأمثلة متعددة من كتابات باركلي تثبت أن التسلسل الصحيح لتفكيره بدأ من الموقف المعنوي - ولا سيما الديني وما يرتبط به من أخلاق - إلى التفكير النظري المثالي لا العكس.
ففي تصدير كتاب «مبادئ المعرفة البشرية»، يحدد باركلي الغرض من كتابه هذا قائلا: إن ما ورد فيه من الآراء مفيد «وخاصة لأولئك الذين تساورهم روح الشك، أو يحتاجون إلى برهان على وجود الله ولا ماديته، أو الخلود الطبيعي للنفس.»
4
وإذن فالهدف الذي وضعه باركلي لنفسه من كتابه الرئيسي هذا ينتمي في الأساس إلى المجال الديني، وهو القضاء على الشك في وجود الله ولا ماديته وخلود النفس، ويبدو منذ بداية الكتاب أن باركلي كان يريد أن يجعل لفكرة الله دورا مستمرا، فمهد الطريق لذلك بفكرة «وجود الشيء هو كونه مدركا»، بما تنطوي عليه من ضرورة الإدراك الإلهي المستمر.
وكثيرا ما كان باركلي يؤكد الارتباط بين «الإلحاد» وبين فكرة وجود الجوهر المادي (وكأن الاعتقاد السائد في الموقف الطبيعي بوجود مثل هذا الجوهر يؤدي بدوره إلى الإلحاد!) فإذا كان الملحدون في رأيه يجدون في هذه الفكرة عونا كبيرا، أليس لنا أن نشك في أن الأصل في نقد «الأسقف» باركلي لفكرة وجود العالم الخارجي بصورته المعروفة في الموقف الطبيعي كان راجعا إلى دوافع منتمية إلى المجال المعنوي، لا إلى المجال الفلسفي بالمعنى الدقيق؟ ويزداد موقف باركلي وضوحا حين يقول: «عندما يرى أصحاب المبادئ الأفضل أن أعداء الدين يولون مثل هذا الاهتمام الكبير للمادة غير المفكرة ... فلا شك في أنهم يطربون؛ إذ يرونهم قد حرموا من سندهم الأكبر وطردوا من تلك القلعة الوحيدة التي ما كان يتسنى للأبيقوريين وأنصار هبز وأمثالهم أن يستندوا إلى حجة واحدة بدونها.»
5
نامعلوم صفحہ