ولكن هذا معناه أن الله يخدعنا، وهو أمر مخالف لطبيعته، فلا بد أن يكون هناك بالفعل جوهر ممتد يوجد في العالم، له كل ما نعرفه عنه من خصائص.»
وإذن فديكارت لا يقنع بأن العالم الخارجي موجود؛ لأنه حقيقة مدركة، بل يريد «برهانا» على وجوده، ويستمد هذا البرهان بطريقة غير مباشرة من فكرة الكوجيتو، وهو لا يعترف بوجود هذا العالم إلا على أساس ذلك البرهان الذي يسير فيه شوطا طويلا: من الشك إلى الكوجيتو إلى وجود الله ومنه إلى وجود العالم، ولو لم يوجد الإله الكامل الذي يرتكز عليه الاعتقاد بوجود العالم لما منعنا شيء من الاعتقاد بأن المسألة كلها خداع، والواقع أن مشكلة ديكارت - من أساسها - لم تكن مشكلة عدم اعتراف بوجود العالم الخارجي كما هي الحال لدى كثير من المثاليين التالين، وإنما مشكلة جعل ذلك الوجود مقيدا بشرط الإتيان ببرهان عليه، وترك ذلك العالم معلقا أو موضوعا بين قوسين إلى أن يستطيع العودة إليه عن طريق وسائط أخرى، والسؤال الذي ينبغي ألا يكف المرء عن ترديده في هذه الحالة هو: أليس وجود العالم في غنى عن البرهان؛ لأنه أسبق من البرهان؟ وهل تعد طريقة البرهان العقلي أفضل طريقة للتأكد من هذا الوجود؟ ولو فرضنا أنه ظهرت حجة تزعزع هذا البرهان أو تقضي عليه، فهل يعني ذلك أن اعتقادنا بوجود العالم الخارجي وسلوكنا فيه سيظل معطلا حتى يتم «إصلاح» البرهان أو إبداله؟
فإذا انتقلنا إلى هيوم لوجدناه يعبر عن نفس الفكرة العامة تعبيرا مختلفا إلى حد ما: فعنده أن الإيمان «الطبيعي» بوجود الأشياء وجودا مستمرا ومستقلا عن الذهن هو إيمان لا يقوم على أساس فلسفي، ولا يرتكز على العقل مطلقا، ويحدد هيوم لنفسه مهمة تحليل هذا الإيمان من الوجهة الفلسفية، وإثبات مدى الخطأ العقلي فيه، ويدرك هيوم بكل وضوح أن فكرة وجود الأشياء وجودا متميزا مستمرا هي فكرة بعيدة تماما عن العقل، وأنها لا بد ناتجة عن ملكة أخرى غير الفهم،
2
ولكنه يصر على أن يختبر هذه الفكرة في ضوء العقل، ليثبت أوجه الخطأ فيها، أي إن تلك التجربة التي تمارسها البشرية كلها، وتؤكد صحتها في تصرفاتها العملية، تجربة غير موثوق منها طالما أن التحليل العقلي لا يدعمها.
وكما قلنا من قبل، فليست مهمتنا هنا هي بحث الحجج العقلية التي يرتكز عليها هيوم أو غيره في هذا الصدد، وإنما هي البحث فيما إذا كان وجود العالم الخارجي مشكلة تخضع للحجج العقلية وتحسمها هذه الحجج أصلا، وفي فلسفة هيوم أوضح مثل لحالة المفكر الذي يشك في اعتقادنا بوجود العالم الخارجي بأسره على أساس أن هذا الاعتقاد لا يرتكز على حجج عقلية، وهو لا يثق بتجربة الناس المباشرة في هذا الميدان، ولا يبحث في احتمال كون الاستدلال العقلي غير مثمر في هذا الميدان الذي لا يؤلف معرفة مستمدة، بل تجربة مباشرة أصلية تستمد منها معارف أخرى فيما بعد، وهو يطلب برهانا ودليلا على شيء لا مجال فيه للبرهان؛ لأنه أساس كل معرفة وموقف فكري أو عملي لنا، وبعبارة أخرى: فهيوم وأمثاله من الفلاسفة ذوي الاتجاهات المثالية يبحثون عن «أسباب» لظاهرة لا تحتاج إلى تقديم «أسباب»؛ لأنها قائمة قبل كل تبرير، ولقد روى هيوم عن نفسه أنه كان أحيانا يغادر غرفة مكتبه ويختلط بالآخرين لكي يتأكد من أنهم - ومعهم العالم الخارجي - موجودون بالفعل! وهذه القصة تدل على مدى سيطرة الرغبة في الحصول على براهين عقلية على تفكيره في هذه المسألة، ولكن الأبلغ دلالة من ذلك، هو أن هذه البراهين لم تكن توصله إلى شيء وهو قابع في غرفته، وكان الحل الذي يعيد إليه ثقته بوجود العالم هو أن يطل على الناس أو يختلط بهم، أي أن يمارس تجربة إدراك العالم الخارجي بالفعل، ولا جدال في أن هذه التجربة كانت أقوى إقناعا له - في هذه اللحظات - من جميع الحجج العقلية، ومع ذلك فهل توصل هيوم إلى استخلاص الدلالة الحقيقية لقصته هذه؟!
وينبغي أن يلاحظ أن الرأي الذي نقول به ليس رأيا شاذا وسط إجماع عام من الفلاسفة على الرأي المضاد، بل إن في وسعنا أن نجد تأييدا له لدى بعض الفلاسفة، ففي رسالة إسبينوز لرقم 56 إلى «هوجو بوكسل
Hugo Boxel » يقول: «من الصحيح تماما أننا كثيرا ما نسلك في العالم بالتخمين، ولكن من غير الصحيح أننا نمضي في تأملاتنا بالتخمين، فنحن مضطرون في الحياة المعتادة إلى السير وفقا لما هو مرجح، أما في تأملاتنا النظرية فإن غايتنا هي الحقيقة، وإن المرء ليهلك جوعا وعطشا إذا رفض أن يشرب ويأكل إلا بعد أن يثبت إثباتا كاملا أن المأكل والمشرب نافعان، والأمر ليس كذلك في الفكر.»
3
كذلك يحذرنا شوبنهور من الإفراط في الاعتماد على البرهان، مؤكدا وجود حقائق لا تنفع فيها المعرفة البرهانية، فيتحدث عن وجود خطأ قديم يقول: «إن كل ما يبرهن عليه هو وحده الصحيح صحة مطلقة، ولكن كل برهان أو دليل يقتضي - على العكس من ذلك - حقيقة غير مبرهن عليها ...» وإذن فالحقيقة المباشرة تفضل على الحقيقة المقررة بالبرهان مثلما يفضل ماء النبع على ماء المضخات ... فالأحكام المستمدة من الإدراك مباشرة والمبنية عليه - من دون أي برهان - لا الأحكام المبرهن عليها أو أدلتها، هي التي تكون للعلم بمثابة الشمس للعالم؛ إذ ينبع منها كل ضوء،
نامعلوم صفحہ