إيضاحات مبدئية
تعريفات:
أعني بالموقف الطبيعي نظرة الإنسان العادي إلى العالم الخارجي؛ إذ ينسب إلى هذا العالم - بما فيه من «أشياء» - وجودا مستقلا عن ذاته، ولست أعتقد أن صفة «الاستمرار في الوجود» من الصفات الضرورية للأشياء تبعا لهذا الموقف؛ إذ إن شعاع الضوء الذي يظهر في لمح البصر ثم يختفي، يمكن مع ذلك أن يعد «خارجيا»، رغم كونه غير مستمر، وإذن فصفة الاستقلال في الأشياء أهم من وجهة نظر الموقف الطبيعي، وهذه الصفة «يجوز» أن تتضمن كون الشيء ذا وجود دائم؛ إذ إن المفروض في الشيء المستقل أن يظل غير متأثر بالتغيرات الذاتية، وهذا الموقف هو الذي تطلق عليه اللغة الإنجليزية اسم
Common Sense
ويسمى في الفلسفة على التخصيص باسم «الواقعية الساذجة»، وهي تسمية ليست دقيقة كل الدقة، كما سنرى فيما بعد.
وأعني بالمثالية كل مذهب يعارض الموقف الطبيعي في نظرته إلى العالم الخارجي بإنكار استقلال هذا العالم أو التشكيك فيه، ويلاحظ على هذا المعنى أنه أوسع من المعنى الفلسفي المألوف؛ إذ إن فيلسوفا تجريبيا مثل هيوم يعد بهذا المعنى ذات نزعة مثالية، في حين يكون من الصعب - في ضوء كثير من التصنيفات الفلسفية المألوفة - إدراجه ضمن المثاليين، كما يلاحظ عليه أنه معنى سلبي، وهي صفة ربما كانت تحل كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالبحث عن طابع مشترك يجمع بين المذاهب المثالية ذات الاتجاهات المختلفة؛ إذ يتضح آخر الأمر أن العنصر الأساسي الذي يمكن أن يقال: إنه مشترك بين كل هذه الاتجاهات، هو عنصر المعارضة التامة لموقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، كما يلاحظ أخيرا أن التعارض بين المثالية وبين الموقف الطبيعي أشد من التعارض المألوف بين المثالية والواقعية؛ إذ إن بعض المذاهب «الواقعية» - كالواقعية النقدية - تقف من مشكلة العالم الخارجي موقفا لا يختلف كثيرا عن الموقف المثالي.
هدف البحث
يرمي هذا البحث إلى الدفاع عن موقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، وذلك في الحدود الخاصة التي تكون مجال هذا الموقف، ووسيلة بلوغ هذا الهدف سلبية في الأغلب؛ إذ سنحاول إيضاح الخلط الذي وقعت فيه المثالية في هذا الميدان الرئيسي من ميادين نظرية المعرفة، وسنبين كيف تعجز المثالية عن إجابة الأسئلة التي تثيرها؛ إذ تعجز عن إيجاد تفرقة سليمة بين الظواهر الموضوعية والظواهر الذاتية، وعن تفسير خارجية العالم، بحيث تبدو في نهاية الأمر مجرد تفسير بلغة مختلفة للعالم الفعلي كما يقول به الموقف الطبيعي.
مجال البحث
يمثل هذا البحث في واقع الأمر إعادة تقويم فلسفية لمشكلة المعرفة، ولما كان الاهتمام يتركز فيه على المشكلة ذاتها، فقد كان من العبث أن تحرص على استيعاب مختلف الاتجاهات الفلسفية الفرعية التي أدلت بآراء في هذا الموضوع، ومن هنا فقد اكتفينا بالاتجاهات الرئيسية التي تأثرت بها المذاهب الفرعية؛ حتى نستطيع أن نتبين معالم المشكلة التي نعالجها دون أن يضيع الخيط الرئيسي لها بين التفاصيل العديدة، وهكذا تغنينا - مثلا - دراسة نظرية المعرفة عند هيوم (بالنسبة إلى أغراض هذا البحث) عن دراستها عند الوضعيين المحدثين، أو دراسة كانت عن دراسة الكانتيين المحدثين أو مختلف اتجاهات أصحاب مذهب الظواهر. حقا إن كثيرا من التفاصيل المفيدة ستضيع عندئذ، غير أن ضياع التفاصيل سيعوضه التركيز على المشكلة في أطرافها الرئيسية، وهكذا استمدت الأمثلة التي ضربت في الجانب الأكبر من هذا البحث مما يمكن أن يسمى ب «العصر الذهبي لنظرية المعرفة»، وهو العصر الذي يمتد من ديكارت إلى كانت وشوبنهور، والذي ظهرت فيه آراء يمكن أن تعد بحق ممثلة للاتجاهات الفلسفية «الرئيسية» في هذا الميدان.
نامعلوم صفحہ