ولنحاول الآن ترتيب الأفكار المتسلسلة التي يفسر بها باركلي خارجية العالم في ضوء مذهبه المثالي.
فهناك صور للحس وصور للخيال، الثانية أبعثها بإرادتي، والأولى تأتي من مصدر خارج عني لا أملك التحكم فيه، ويؤكد باركلي - وهو تأكيد له أهميته الكبرى - أن «التمييز بين الحقائق الواقعة والخيالات يظل في مذهبه أقوى ما يكون.»
6
فصور الحس لها مصدر غير إرادة ذهننا التلقائية، وهذا المصدر الآخر في نظره هو الله الذي يبعث فينا هذه الصور، وينظمها في شكل قوانين الطبيعة، ولنلاحظ - في هذا الصدد - أن النوع الآخر من الصور - وهو الصور الخيالية - يفترض أن له مصدرا إنسانيا خالصا، وربما كان في هذا - من وجهة نظر المفكرين اللاهوتيين من أمثال باركلي - نوعا من الحد من القدرة الإلهية؛ إذ إن هذه القدرة تمارس على فئة معينة من الصور، هي الصور الحسية، أما الفئة الأخرى فللإنسان وحده حق التحكم فيه، وإنه لمن الصعب - إذا بدأت الإرادة الإلهية تتدخل في هذا المجال - أن نوقف هذا التدخل عند حد، لا سيما إذا كان القول بهذا التدخل مبنيا على أساس الاعتقاد بلا نهائية قدرة هذه الإرادة، وعلى أية حال، فهذه مجرد ملاحظة فرعية على محاولة باركلي الاحتفاظ بالتمييز بين صور الحس وصور الخيال في إطار مذهبه.
والذي يهمنا من هذا كله، هو أن باركلي اعترف بوجود اختلاف أساسي في الطبيعة بين صور الحس وصور المخيلة التي ترجع إلى إرادة الإنسان، وأكد أن النوع الأول من الصور ينبغي أن يكون راجعا إلى مصدر خارج عن الإنسان، وإلى هذا الحد ينبغي أن نسجل تسلسل التفكير هذا على باركلي؛ إذ إننا نرى من الضروري الاحتفاظ بهذا النصف الأول من استدلاله، أما النصف الثاني فيسهل الاعتراض عليه، وبعبارة أخرى، فقد حاول باركلي أن يثبت أن هذا المصدر الآخر هو الله، على أساس أن كيفيات الأشياء لا تدركها إلا روح، والروح البشرية وحدها عاجزة عن ضمان استقلال الأشياء، فلا بد أن روحا إلهية هي التي تدركها وتضمن استقلالها، فإذا أمكن تفنيد هذا النصف الثاني من الحجة، فسيظل النصف الأول قائما، أي سيظل من الضروري الاعتراف بمصدر للمدركات الحسية خارج عن الإنسان، ولكنه ليس الروح الإلهية في الوقت ذاته.
فلو كان ذهن الإنسان أو حسه هو المصدر الوحيد للاعتقاد بوجود الأشياء الخارجية لكان معنى ذلك أن الأشياء تخلق دائما من جديد، فإذا أغمضت عيني انتهى الشيء المرئي، وإذا فتحتها عاد ثانية إلى الوجود؛ ولذا يحرص باركلي على تفسير عبارة: «إن وجود الأشياء هو كونها مدركة» بأنها لا تعني أن الأشياء توجد بفضل إدراكنا «نحن»؛ إذ قد تدركها روح أخرى حين لا ندركها نحن، فما يقصده «بالإدراك» ليس هنا ذهنا خاصا بعينه، وإنما «جميع الأذهان على الإطلاق».
7
والذهن الإلهي - بوجه خاص - الذي يدركها في كل الحالات التي لا ندركها نحن فيها، وبهذا يظل استمرار وجودها مضمونا، وبهذا المعنى - أي بمعنى وجود روح متميزة عن تلك التي تدرك الأشياء، وهي التي تبعث فينا صور تلك الأشياء - يمكن أن تعد الأشياء «خارجية»، كذلك يمكن أن تسمى الموضوعات الحسية «مستقلة عن الذهن، بمعنى أنها موجودة في ذهن آخر».
8
ولنتساءل هنا: ما معنى قول باركلي: إن الأشياء توجد في الذهن الإلهي عندما لا تكون مدركة في أذهاننا البشرية، وبأية صورة توجد هذه المدركات في الذهن الإلهي، وما علاقتها به؟ هناك احتمالان لا ثالث لهما في هذا الصدد: فإما أن تكون هذه المدركات مستقلة عن الذهن الإلهي بدوره، وهذا احتمال لا يعقل من وجهة نظر تفكير باركلي؛ إذ إن الاستقلال عن الذهن الإلهي يبرر - بالأحرى - الاستقلال عن الذهن البشري، وتغدو فكرة الذهن الإلهي في هذه الحالة إضافة زائدة لا داعي لها، والاحتمال الثاني هو ألا تكون مستقلة عن هذا الذهن، بل إنه يبعثها بإرادته، ويلاحظ على هذا التفسير الأخير أنه يتعارض - إلى حد ما - مع فكرة الإدراك الإلهي المستمر، الذي يضمن استمرار وجود الأشياء، فإذا كانت هذه الأفكار تنبعث تلقائيا من الذهن الإلهي، فالأرجح أن يكون إدراكه لها في هذه الحالة متقطعا غير مستمر، وذلك حسب تلقائية الذهن الإلهي ذاته، وهذا يتنافى مع ضرورة الإدراك المستمر، بل مع الانتظام والاطراد المفروض أن تتصف به قوانين الطبيعة.
نامعلوم صفحہ