فهؤلاء هم المشهورون من أهل الحكمة بمصر في ذلك الزمان. وأما زماننا هذا فقد دثر منها كل علم وامحي رسمه، وجهل اسمه، ولم يبق إلا رعاع وغثاء وجهلة دهماء، وعامة عمياء، وجلهم أهل رعانة ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوة عليه وتلطف فيه وهداية إليه، لما في أخلاقهم من الملق والسياسة التي أربو فيها على كل من تقدم وتأخر، وخصوا بالإفراط فيها دون جميع الأمم، حتى صار أمرهم في ذلك مشهورا، والمثل بهم مضروبا.
وفي خبثهم ومكرهم يقول أبو النواس:
محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب
[ولا تثبوا وثب السفاة فتركبوا ... على حد] حامي الظهر غير ركوب
فإن يك باقي إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب
وأما حال المنتسبين إلى العلم منهم فأنا ذاكر منها ما وقفت عليه، وكشفت بالمحنة عنه. كنت في أول جلوسي بها شديد العناية بكتب جالينوس وبقراط، باحثا عن مشكلها، فاحصا عن مستغلقها، فحرصت كل الحرص، وجهدت كل الجهد على أن أجد من أهل هذه الصناعة من أستفيد منه وأستزيد بمذاكرته وأقدح خاطري بمفاوضته، فلم أجد غير قوم طبع الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم، وطمس أفهامهم، وحال بين الحكمة وبينهم، فكانوا وإياي، كما قال الشاعر:
قوم إذا جالستهم ... صدئت بقربهم العقول
لا يفهموني قولهم ... ويدق عنهم ما أقول
صفحہ 31