قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: دعاني يحيى بن خالد فدخلت عليه، وكان عنده الفضل وجعفر ولداه فقال لي: أصبحت اليوم مهموما فأردت الصبوح لأتسلى، فغن صوتا لعلي أرتاح إليه فغنيته:
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفهم
وأرجلهم إلا لأعواد منبر
فسر وأمر لي بمائة ألف درهم، وأمر لي كل واحد من ولديه بمثل هذا المبلغ، فحملت المال وانصرفت.
كرم يحيى بن خالد
من مكارمه أن الرشيد لما نكب البرامكة واستأصل شأفتهم، حرم على الشعراء أن يرثوهم، وأمر بالمؤاخذة على ذلك، فاجتاز بعض الحرس ببعض الخربات، فرأى إنسانا واقفا وفي يده رقعة فيها شعر يتضمن رثاء البرامكة وهو ينشده ويبكي، فأخذه الحرس وأتى به إلى الرشيد وقص عليه الصورة، فاستحضره الرشيد وسأله عن ذلك فاعترف به، فقال له الرشيد: أما سمعت تحريمي إرثائهم لأفعلن بك وأصنعن؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذا أذنت لي في حكاية حالي حكيتها ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: قل، قال: إني كنت من أصغر كتاب يحيى بن خالد وأرقهم حالا، فقال لي: أريد أن تضيفني في دارك يوما، فقلت: يا مولانا أنا دون ذلك، وداري لا تصلح لهذا، قال: لا بد من ذلك، قلت: فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أصلح شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك، قال: كم أمهلك؟ قلت: سنة، قال: كثير، قلت: فشهورا، قال نعم، فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت الأسباب أعلمت الوزير بذلك: فقال: نحن غدا عندك، فمضيت وتهيأت في الطعام والشراب وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غد ومعه ابناه جعفر والفضل وعدة يسيرة من خواص أتباعه، فنزل عن دابته ونزل ولداه جعفر والفضل ومن معه وقال: يا فلان أنا جائع فعجل لي بشيء، فقال لي الفضل ابنه: الوزير يحب الفراريج المشوية فعجل منها ما حضر، فدخلت وأحضرت شيئا، فأكل الوزير ثم قام يتمشى في الدار وقال: يا فلان فرجنا في دارك، فقلت: يا مولانا هذه هي داري ليس لي غيرها، قال: بلى لك غيرها، قلت: والله لا أملك سواها، فقال: هاتوا بناء، فلما حضر قال له: افتح في هذا الحائط بابا، فمضى ليفتح فقلت: يا مولانا كيف يجوز أن يفتح باب إلى بيوت الجيران والله أوصى بحفظ الجار، قال: لا بأس في ذلك، ثم فتح الباب، فقام الوزير وأبناؤه فدخلوا فيه وأنا معهم فخرجوا منه إلى بستان حسن كثير الأشجار والماء يتدفق فيه وبه من المقاصير والمساكن ما يروق كل ناظر، وفيه من الآلات والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: هذا المنزل وجميع ما فيه لك، فقبلت يده ودعوت له وتحققت الفضة، فإذا هو من يوم حادثني في أمر الدعوة قد أرسل واشترى الأملاك المجاورة لي وعمرها دارا حسنة، ونقل إليها من كل شيء وأنا لا أعلم، وكنت أرى العمارة وأحسبها لبعض الجيران، فقال لابنه جعفر: يا بني هذا منزل وعمال، فالمادة من أين تكون له؟ قال جعفر: قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها وسأكتب له بذلك كتابا، فالتفت إلى ابنه الفضل وقال له: يا بني فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الذي ينفق؟ قال الفضل: علي عشرة آلاف دينار أحملها إليه، فقال: عجلا له ما قلتما، فكتب لي جعفر بالضيعة وحمل الفضل إلي المال، فأثريت وارتفعت حالي وكسبت بعد ذلك معه مالا طائلا أنا أتقلب فيه إلى اليوم، فوالله يا أمير المؤمنين ما أجد فرصة أتمكن فيها من الثناء عليهم والدعاء لهم إلا انتهزتها مكافأة لهم على إحسانهم ولن أقدر على مكافأته، فإن كنت قاتلي على ذلك فافعل ما بدا لك، فرق الرشيد لذلك وأطلقه وأذن لجميع الناس في رثائهم.
رثاء امرأة لجعفر
قال أبو زيد الرياحي: كنت جالسا عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أفكر في زوال ملكه وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة لها هيئة حسنة، فوقفت على جعفر وبكت واحترقت وتكلمت فأبلغت وقالت: أما والله لئن أصبحت للناس آية لقد بلغت الغاية، ولئن زال ملكك وخانك دهرك ولم يطل به عمرك فلقد كنت المغبوط الناعم بالا، يحسن بك الملك فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك، فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزيئة الذي لا يستعاض بغيرك، والسلام عليك، وداع غير قال ولا ناس لذكرك ثم أنشأت تقول:
نامعلوم صفحہ