فعمرك الله من ماجد
ووقيت كل الردى والحذر
جود ملك
قيل: إن الملك خسرو بن برويز كان يحب أكل السمك وكان يوما جالسا في المنظرة وشيرين عنده فجاءه صياد وعنده سمكة كبيرة، وأهداها لخسرو ووضعها بين يديه، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت شيرين : بئس ما صنعت، فقال الملك: لم؟ فقالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر قال: قد أعطاني مثل عطية الصياد، قال: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات الأمر، فقالت شيرين: أنا أدبر هذا الحال، فقال: وكيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له: هذه السمكة ذكر هي أم أنثى؟ فإن قال: ذكر، فقل: إنما طلبت أنثى، وإن قال: أنثى، فقل: إنما طلبت ذكرا، فنودي الصياد فعاد، وكان الصياد ذا ذكاء وفطنة، فقال له خسرو: هذه السمكة ذكر أم أنثى، فقبل الصياد الأرض وقال له: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى، فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم؛ فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على عنقه وهم بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد، فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه والملك وشيرين ينظران إليه، فقالت شيرين لخسرو: أرأيت خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد، فألقى عن كاهله وانحنى على الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه غلام من غلمان الملك، فحرد خسرو من ذلك وقال: صدقت يا شيرين، ثم أمر بإعادة الصياد وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه في مكانه، فقبل الصياد الأرض، وقال: أطال الله بقاءك أيها الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على وجهه صورة الملك وعلى الوجه الآخر اسم الملك، فخيشت أن يأتي أحد بغير علم يضع عليه قدميه فيكون ذلك استخفافا باسم الملك وأكون أنا المؤاخذ بهذا، فعجب خسرو من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر له بأربعة آلاف درهم، فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم، وأمر خسرو مناديا ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء، فإنه من تدبر برأيهن خسر درهمه.
الوفاء والفضل والمعروف عند بعض الكرماء
بينما كان عمر بن الخطاب جالسا في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإهابة، وهو في القضايا يحكم بين الرعايا، إذ أقبل عليه شاب من أحسن الشباب، نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشباب أيضا، وقد جذباه وسحباه، وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبياه، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فقالا: يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن رذائله، معروف بفضائله، ربانا صغارا، وأولادنا مننا غزارا، كما قيل في المعنى:
لنا والد لو كان للناس مثله
أب آخر أغناهم بالمناقب
فخرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقتطف يانع أثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب، فنسألك القصاص عما جناه، والحكم فيه بما أمرك الله، فنظر عمر إلى الشاب، وقال له: قد سمعت فما الجواب، والغلام مع ذلك ثابت الجنان، خال عن الاستيحاش، فخلع ثياب الهلع ونزع لباس الجزع، فتبسم عن مثل الجمان وتكلم بأفصح لسان وحيا بكلمات حسان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا فيما أدعياه وصدقا فيما نطقا وأخبرا بما جرى وعبرا عم طرا، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك، اعلم أني عريم من العرب العرباء نبت في منازل البادية وصحبت أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها نياق إلي حبيبات علي عزيزات بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فدنت النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولتها بمشفرها، فطردتها عن تلك الحديقة فإذا شيخ قد ظهر، وتسور الحائط وزفر، وفي يده اليمنى حجر، يتمادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذاك الحجر فأصابه فقتله وأباده، فلما رأيت الفحل سقط إلى جنبه وانقلب، وتوقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به، فكان سبب حتفه ولقي سوء منقلبه، المرء مقتول بما قتل به، بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعت هاربا من مكاني، فلم أكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني، وأحضراني كما تراني، قال عمر: وقد اعترفت، بما اقترفت، ويعذر الخلاص ووجب القصاص، ولات حين مناص، فقال الشاب سمعا وطوعا لما حكم الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخ صغير كان له أب خبير، خصه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخدت لذلك مدفنا، ووضعته فيه ولا يعلم بذلك أحد إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب، وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن انتظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيا بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام، فأطرق عمر ساعة ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه، والعود إلى مكانه، فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال هذا يكفلني، وهو الذي يضمنني، فقال عمر: أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام؟ قال: نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام، فرضي الشابان بضمان أبي ذر، وانتظراه ذلك القدر، فلما انقضت مدة الإمهال وكان وقتها يزول أو زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر، والخصم ينتظر، فقال: أين الغريم يا أبا ذر وكيف يرجع من قد فر؟ فلا تبرح من مكاننا، حتى تفي بضماننا، فقال أبو ذر: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان، وأسلمت لنفسي وبالله المستعان، فقال عمر: والله إن تأخر الغلام لأفعلن في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام، فهملت عبرات الحاضرين، وأرفضت زفرات الناظرين، وعظم الضجيج وتزايد الكلام، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية، لكف الأذية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون تلهفا لما مر، ويصيحون تأسفا على أبي ذر، إذ أقبل الغلام، ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم سلام ، ووجهه يتهلل مشرقا، ويتكلل عرقا، وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخوالي، وأطلعتهم على مكان مالهم وأموالي ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر الأغر، فعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه، فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى رحمه الطالب وعفاه وتحققت أن الموت إذا حضر لم ينج منه احتراس، وبادرت كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس، فقال أبو ذر: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام ولم أعلم من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنه نظر إلى من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده إذ ليس في القصد من بأس، كي لا يقال ذهب الفضل من الناس، فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين قد وهبنا لهذا الغلام دم أبينا فلتبدل وحشته بإيناس، كي لا يقال ذهب المعروف من الناس، فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وعجب من صدقه ووفائه واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثناء وتمثل بهذا البيت:
من يصنع الخير لم يعدم جوائزه
نامعلوم صفحہ