VO ، وجلست إلى جانبه تناجيه بلغة الهيام.
والظاهر أن حافظا لم يرق له نوع الإدام الذي يستعمل «مازة»، فنادى الخادم وأمره بإحضار حمامتين ناضجتين من أحد المطاعم، فجاءه بهما وكان قد أعطاه جنيها، فقدم الخادم إليه بقيته وهي تسعة وثمانون قرشا صاغا، فأشار حافظ بيده وقال له: «أبق الباقي معك؛ فهو لك.»
وما رأت الراقصة ذلك الكرم الحاتمي النادر المثال حتى أخذت تعد نفسها بالهيل والهيلمان والمصوغات النادرة والأصفر الرنان، جاهلة أنها إن كانت ريحا فقد لقيت إعصارا.
ولما لعبت الخمر برأس الراقصة المشار إليها أخرج حافظ من جيبه حافظة من الجلد الثمين وأخرج منها عشرات من أوراق البنك الأهلي قائلا لها: انظري كم من مئات الجنيهات في هذه الحافظة! وإنني لم أرك إياها لأظهر لك أنني غني جدا، ولكن لأعتذر لك عن الحضور هذا المساء إلى القهوة؛ لأن عندي أعمالا مهمة تعوقني عن الذهاب إليها، ولكن ثقي أن حبك ثابت في فؤادي وأنني لن أرضى سواك بديلا.
والحقيقة أن جيب حافظ كان قد فرغ من المال، فأتى هذه الحيلة للخلاص من إنفاق عدة جنيهات في قهوة الرقص التي تشتغل فيها تلك الراقصة، وما كانت الأوراق المالية التي أظهرها إلا من الأوراق التي يصدرها البنك الأهلي مبصومة بختم فيه كلمة «لاغ»؛ لأن هذه الأوراق يوزعها على الصيارف والبنوك المالية للمضاهاة عليها عند اللزوم، ولا أعرف كيف حصل حافظ عليها ومن أين جاء بها هذا الشيطان؟ غير أن تلك الأوراق البائرة التي لا ثمن لها قد أدهشت الراقصة وحملتها على الاعتقاد بأن حافظا قارون زمانه وحاتم عصره وأوانه، فأجابته إلى ما طلب ببشاشة وابتسام.
ولما حانت الساعة التي يجب على الراقصة أن تخرج فيها إلى القهوة قال لها إنه يخشى أن تعلق بسواه، ولذلك هو يطلب منها عربونا على المودة والهيام لا سيما وأن في عزمه أن يتزوج منها، فحصل بهذه الواسطة على سوارين ذهبيين كانا يزينان أحد معصميها.
ذهبت الراقصة إلى قهوتها وهي تهجس بذكر حافظ وغناه والأوراق المالية التي معه، وذهب حافظ إلى حيث ثمن السوارين عند أحد الخبراء، فرأى أن ثمنهما لا يعادل ما أنفقه في ليلة واحدة على تلك الراقصة، فلم يرض بهما وعول على نزع بقية الحلي والمصوغات، ولذلك عاد في اليوم الثاني إلى منزل الراقصة عند الأصيل في عربة فاخرة استأجرها لسبك احتياله من العربات التي لا نمرة عليها ليوهم تلك الفتاة المسكينة أنها عربته، وأمر الحوذي أن يبقى بالانتظار، فاستقبلته ربة الدار بما يليق بقدره الرفيع من التجلة والإكرام، وأخذت تبالغ في احترامه وهي تظن بأنها تعمل على خداعه، متخيلة «أن في القبة شيخا»، وما درت من هو حافظ نجيب؟
وقبل أن تغرب الشمس قال حافظ للراقصة إنني أريد أن أشتري لك بعض الهدايا من أكبر المحال التجارية، وأرجو ألا تردي رجائي وأن تسرعي الآن بارتداء ملابسك لنذهب معا، فشكرت له الراقصة هذه العناية شكرا جزيلا ودعت له دعاء طويلا.
ولكيلا نضيع على القارئ الكريم وقته بالتفاصيل التي لا فائدة منها، نختصر من القول على أن حافظا أركب الراقصة معه تلك العربة الفاخرة فتاهت به عجبا ودلالا، ثم أوقف العربة في أول شارع الموسكي عند محل
La belle jardiniére ، الذي أسسه الخواجا أساياس لبيع فاخر الأقمشة وأنواع الهدايا، ثم قلد الوارثين والأغنياء في كلامه ومساومته ودلاله حتى ظن صاحبنا أن هذا الزبون الكريم خير من ألف زبون، خصوصا وأن حافظا لم يقتر في ثمن ما مالت إليه الراقصة الحسناء.
نامعلوم صفحہ