الفصل الثامن عشر
نابوليون وقواده
كان نابوليون ينظر إلى الجيش كما ينظر الصانع العالم إلى آلة عظيمة يقتضي تركيبها تدقيقا شديدا وفكرا سديدا، ولذلك كان يفكر في كل ما قل وجل من أموره، حتى انتقاء الخيل وشراء المئونة اللازمة لها كما تدلنا رسائله المدهشة، وليس بنا حاجة إلى القول أن اختيار قواده كان له الشأن الأكبر؛ لأنهم القطع الرئيسية التي تتركب منها تلك الآلة العظيمة.
ولم يكن في وسع نابوليون منذ مائة وعشرين سنة أن يختار قواده من الضباط الذين قضوا سنوات عديدة في درس القواعد العسكرية؛ لأن التعليم العسكري لم يكن شيئا مذكورا في ذاك الوقت، والفضل في كثير من القواعد الحربية الباقية حتى اليوم يرجع إلى نابوليون نفسه، وما كانت عظمة هذا البطل الذي لم تحط مثله أصلاب البشر قائمة ببسالته وانتصاراته فقط، بل كانت تقوم بها وبنظاماته ومبتكراته وعبقريته العجيبة الشاملة، وعليه فإن نابوليون لم يكن له مندوحة - وتلك حالة التعليم العسكري في زمانه - من أخذ أولئك القواد الذين خلد التاريخ ذكرهم من صميم جيشه، أي أفراد الشعب الذين قاتلوا في سبيل الدفاع عن حريتهم وحرية وطنهم وصدوا دول أوروبا التي هبت لإذلالهم. وكان نابوليون قوي الفراسة صادق النظر في الرجال، فاستطاع أن يقدر قدر كل واحد من الذين خدموا تحت إمرته، وعرف نوع الخدمة التي كان يمكنه أن يتفوق فيها، مثلا أنه رأى مورات فأدرك أنه خير رجل يقود كوكبات الفرسان ويقدم لها المثل الأعلى بنخوته وحميته وشجاعته، وقرأ على جبين ناي أنه الرجل الذي يطير إلى الحمام في صدر المشاة، وما أخطأ ظنه، فإن ناي كان يسحر رجاله بالقدوة الجميلة وهو الذي أخذ بندقية في معركة واترلو وصاح: «تعالوا انظروا كيف يموت مارشال من مارشالية فرنسا ...» وهو الذي قال فيه نابوليون: «ما هذا رجل، إن هو إلا أسد من الأسود.»
وليس لدينا مجال كاف لنذكر ما أبداه كل قائد من القواد العظام، فحسبنا أن نذكر مع مورات وناي بسيير وسول ولان وسوشيه وبرتييه ودافو وجوفيون سان سير وأوجيرو وجونو وماكدونالد ومسينا ولازال وكولنكور، فهؤلاء وعدة من الأبطال كانوا أسودا لا تقهر، ولكن نابوليون كان يخضعهم بنظرة وهو في ذروة مجده الحربي.
وذكر نابوليون خطة سلوكه مع قواده قال: «كنت أحر الرأس البارد وأبرد الرأس الحار»، أو بعبارة أخرى أنه كان يكسر من حدة الحديد ويثيرها حماسة البليد مراعاة لمقتضى الحال، وهي خطة بسيطة في ذاتها، ولكن تنفيذها مع قواد نابوليون كان يقتضي عقلا كعقل نابوليون.
وكان من مزايا الرجل أن يزن حسنات كل قائد، فإذا رجحت سيئاته حاول أن يصلحه بحذق وبراعة. فمن الحوادث المعدودة من هذا الطراز أنه شرع يوما في تعنيف ضابط في رتبة كولونل؛ لأن جنوده أضروا بمصالح إحدى الدساكر، فشق على الضابط أن يسمع الكلام المر من قائده وأراد أن يتنصل، فقال له نابوليون همسا: «أنا صدقتك فاسكت»، وفي اليوم التالي دعا نابوليون الكولونل وقال له: «كن مستريح الفكر؛ فقد كنت أعنف في شخصك بعض الجنرالية الذين كانوا بجانبك، ولو وجهت إليهم التعنيف مباشرة لأوقفتهم في موقف يستحقون فيه التحقير أو ما هو أبلغ منه ...»
وإذا اتفق أنه جرح في حديثه قائدا كبيرا، حاول بعد الحديث أن يضمد جرحه، فمن ذلك أنه انتقد انتقادا شديدا على الجنرال مارمون بعض الأعمال الحربية في معركة واجرام، فسخط مارمون من هذا الكلام وعاد إلى منزله كسير القلب شديد الكرب، فما وصل حتى جاءه رسول إمبراطوري يحمل إليه البشرى بترقيته إلى رتبة مارشال.
ولما أخذ العدو بلدة مونترو سنة 1814 رأى نابوليون أن تأخر المارشال فيكتور كان السبب في ضياعها وأصدر إليه إذنا في ترك الجيش ، ومعلوم أن هذا الإذن لم يكن له من معنى إلا سخط الإمبراطور عليه، فجاء المارشال فيكتور وعيناه مغرورقتان بالدموع، فقابله نابوليون وهو يتميز من الغيظ وعيره بالخطأ الذي ارتكبه واستحق من أجله الإبعاد عن الجيش، فلم يتمالك المارشال أن رفع صوته وأكد إخلاصه وذكر خدماته في إيطاليا، فسكن غضب نابوليون لذكر تلك الخدمات ثم صافحه قائلا: «لا بأس، ابق في الجيش يا فيكتور، ولكني لا أستطيع أن أعيد إليك فيلقك بعد أن عقدت لواءه لجيرار، وإنما يمكنني أن أوليك قيادة فرقتين من الحرس، فاذهب واستلم قيادتهما ولا تذكر بعد اليوم شيئا مما جرى.»
ولو شئنا أن نذكر ما لدينا من هذا الطراز لاستغرق مجالا واسعا وتجاوز بنا الغاية المقصودة في هذا الكتاب، فحسبنا أن نقول - ومذكرات مارمون (الذي خان نابوليون في أواخر عهده) خير شاهد - إن نابوليون كان في معظم الأوقات يجرح باليمين ويداوي بالشمال. ومما قاله الخصوم في تفسير هذا السلوك الحميد: «إن مصلحته الخاصة وقلة الرجال الأكفاء حملتا نابوليون على مداراة رجاله»، وهو تفسير لا يذهب بفضل نابوليون ولا يحط في قدر سلوكه، بل هو يدل على حسن سياسته وأصالة رأيه، وليس بمنكر على الرجل أن يفعل الخير ويحسن الصنع؛ لأنه يتفق مع مصلحته أو لأن مصلحته كانت تدفعه إليه، فإنما الأمور بنتائجها لا بأسبابها، وكل من يقبح مثل هذا المنهج يكون مثله مثل من يطعن على رجل ينقذ آخر من الغرق؛ لأنه أراد الحصول على وسام الإنقاذ أو مكافأة أخرى.
نامعلوم صفحہ