ألقيت بنفسي على الأريكة، وكأن حملا كبيرا انزاح عن صدري، كنت مرتاحة وخفيفة، ولم يعد يهمني شيء، ولم أعد أنظر إلى أعينهن، ولا أذكر تماما ماذا حدث أو ماذا قيل، كنت راضية عن نفسي وعما قلته، وكان ذلك يكفيني. قبل الرحيل أخذت النسوة تسلمن على «الآنسة» وحين حان دوري، صافحتها فابتسمت، فابتسمت بدوري. وقبيل أن نرحل جاءت إلي الفتاة العشرينية النحيلة التي كانت قد وبختها «الآنسة» في درس سابق، وكنت قد نسيتها تماما، احتضنتني بشدة، وقالت: «أتعلمين، أنت أول واحدة أشعر أن كلامها يقرأ ما في قلبي بدقة، أنت لطيفة حقا، أتمنى أن نظل معا.» ورحلت سريعا تاركة إياي في حالة غريبة تملكتني حتى عودتي إلى البيت، وأمي لم تعنفني هذه المرة ولم تقل شيئا.
وقبيل النوم فتحت الفيسبوك وكتبت:
أحيانا، قد تكون غير مهيأ بعد للإصلاح، لا تنزعج، تنح جانبا؛ فالوقت لم يحن بعد.
ثم خطرت لي تلك الفتاة النحيلة، وما فعلته وما قالته، تذكرت أنني لا أعرف اسمها أيضا، فكتبت:
قد يفاجئك الخير في طريق مغاير تماما للطريق الذي تسلكه، ما عليك سوى أن تتفتح وحسب.
نظرت إلى ما دونته، كنت أشعر بالرضى، واستسلمت لنوم عميق.
5
نظر إلى نفسه مليا في المرآة، ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه، شعر بالرضى والثقة. ارتدى ساعته الفضية، تناول مفاتيحه وهاتفه النوكيا من على الطاولة وخرج. كان ممتلئا بالفخر كصباح كل يوم؛ فوسامته خدمته كثيرا في السنوات القليلة الماضية، وها هي تؤمن له عملا محترما. وصحيح أنه كثيرا ما يسلخ ساعات الصباح في وحدة مقيتة بين الكتب من غير أن يدخل زبون واحد، لكن المساء مختلف كثيرا؛ فبالنسبة إليه تكفي صبية واحدة جميلة يقنعها بشراء كتاب في أن تفتح شهيته للعمل طوال اليوم، فكيف وهو يرى بوضوح آثار وسامته متبدية في عيون السيدات والآنسات، الصغيرات منهن والكبيرات على حد سواء؟ لكنه لم يكتف بهذا، بل أضاف إلى ذلك لباقته في الكلام، وحسن محاورته، مع لمسة ساحرة من ابتسامة ماكرة تجعل أي شخص لا يخرج إلا وقد ابتاع كتابين أو ثلاثة على أقل تقدير.
كما أن سياسته الجديدة في المكتبة حسنت من عمله كثيرا؛ فقد ابتدع لأول مرة نظاما جديدا في إمكانية استعارة الكتب بدلا من شرائها لمن لا يملك الثمن، مقابل مبلغ مالي بسيط، وقد زاد هذا من أرباحه، وإن كان قد سرع في تلف الكتب وضياعها؛ الأمر الذي لم يعجب صاحب المكتبة، خاصة أنه لم يدر بذلك إلا بعد ما يقارب العام.
وصحيح أنه لا يحب القراءة، وليست الكتب بالنسبة إليه سوى رأس مال عليه أن يستثمره جيدا، لكنه حين وجد نفسه مضطرا للعمل بها، فإنه تمكن ببداهته من امتلاك أسرار هذه «الصنعة» كما يحلو له أن يسميها؛ فقد حفظ أسماء الكتب ومؤلفيها، واطلع على أكثر الكتب طلبا، وأجبر نفسه على قراءة أشهرها. عرف كيف يعرض بضاعته بحيث تكون مغرية للزبون، وتعلم مداخل كل زبون ومفاتيحه، وكيف يقنعه بالشراء، وخاصة الفتيات منهم.
نامعلوم صفحہ