بعد عشر دقائق أو يزيد من الصمت قام والد نور إلى غرفته ثم خرج منها وهو يحمل مبلغا من المال، اتجه ناحية نور فوقف من فوره، قال: «يا ولد، ما درسناك وصرفنا عليك حتى آخر شيء تعمل فينا الذي عملته، تحب أن ترجع لبيتك أهلا وسهلا، لكن وحدك، وإذا ما رفضت فتفضل هذا المبلغ لتدبرا أموركما، لكن لا ترني وجهك مرة أخرى.» حملق نور في أبيه وانفجر قائلا: هل تطردني من البيت؟ - تحمل نتيجة أفعالك، أما بيتك فهو مفتوح لك في أي وقت. - يعني أترك زوجتي؟ هل هذا ما تريد؟ - ... - تعرف عليها على الأقل، قابلها. - ... - ليتني لم أعد ولم أركم أبدا، ونقودك هذه لا أحتاجها.
ثم صرخ بأعلى صوته: «رندة، رندة.» خرجت مسرعة، سحبها من يدها بقوة وأخرج الحقائب، وصفق الباب وغادر.
على قارعة الطريق وقفا مع حقائبهما في برد شباط الشديد، وقد سيطر الغضب على نور ومنع عنه التفكير، كان يلتفت يمينا وشمالا وهو يضرب بيديه مرة على رأسه ومرة على فخذيه في حالة ذهول، ثم تهاوى جالسا على الرصيف وقد غابت عنه تماما أية قدرة على التفكير. تقدمت رندة ووقفت عند مقدمة الشارع، وبحركات واثقة أوقفت سيارة أجرة، تحدثت مع السائق، فتح لها الباب الخلفي وقاما بإدخال الحقائب. كان نور يراقبها بذهول: ماذا تفعل؟ وهل تعرف أين تذهب؟ اقتربت منه بابتسامة حانية، مدت يدها له، ومثل طفل تاه عن أمه طويلا سلمها يده ونفسه فقادته إلى السيارة وانطلقوا.
انطلقت السيارة من حي السبيل باتجاه أحياء حلب القديمة وصولا إلى الجامع الكبير حيث توقفت. حاسبته رندة، وأنزلا الحقائب واتجها إلى ساحات الجامع.
جلس نور بجانب الحقائب، وظلت رندة واقفة شابكة يديها إلى صدرها، ودمعة إجلال التمعت في عينيها وهي ترى الجامع الأموي للمرة الأولى. كانت مثل عاشق يرى معشوقه بعد طول غياب، يمتع نظره بكل جزء منه، يتفحصه بحب وإجلال وشوق، ساق الحب خطواتها نحو معشوقها للتوغل فيه وسبر أركان جماله ركنا ركنا، كانت مأخوذة تماما بأرضيته المرصوفة بالبلاط الرخامي ذي اللونين الأصفر والأسود والذي يتوزع بأشكال هندسية جميلة. مشت حتى قبتي الوضوء اللتين التف حولهما بعض الرجال، والكثير من الأطفال يدورون ويلعبون، وطيور الحمام تشرب ما تطاير من مائها المتلألئ تحت أشعة الشمس الخجولة. اقتربت أكثر، جثت على ركبتيها، خلعت معطفها الجلدي، ورفعت كمي بلوزتها الصوفية حتى مرفقيها وشرعت بالوضوء، نزلت المياه شديدة البرودة على يديها، ارتعش جسدها لحظة، فملأت كفيها وارتشفت رشفات منه، غسلت وجهها ومرفقيها ومسحت على شعرها بعناية، كانت تؤمن أن كل قطرة منه مباركة طاهرة ومطهرة. أنهت وضوءها وشربت مجددا من هذا الماء المبارك، هذا العنصر العجيب الذي تجود به الطبيعة، ليهب لنا الحياة. وفي هذه الساحات الطاهرة رأت الحياة في أسمى مظاهرها، امتزج الماء الطاهر بلحمها ودمها، فالتذت روحها، واطمأن قلبها، وسكنت نفسها، وشعرت بالقوة التي ستعينها على ما سيأتي من أحداث، ثم استوت واقفة واستدارت وإذا ببعض الأعين ترمقها وكأنما ارتكبت جرما، من هذه المرأة الحاسرة الرأس التي تجرأت على الوضوء في مكان مخصص للرجال؟! ابتسمت لهم، ارتدت معطفها وسارت باتجاه الأروقة. كانت الفوانيس النحاسية المدلاة من السقف قد أضيئت؛ فقد شارفت الشمس على المغيب. كم شخصا عمل على إنشاء هذه الأقواس والزخارف والفوانيس؟ وكم مر ناس من هنا من غابر الأزمان؟ يموت الإنسان ويبقى الحجر، ويظل شاهدا على كل من حمله ونقله ورفعه، وعلى كل من مر بقربه. كانت تؤمن أن للأماكن ذاكرتها الخاصة، ولا يزيدها القدم إلا عراقة وحكمة؛ فهي تختزل كل الناس والأحداث وكل ما كان يقال من صلوات وأدعية ومناجاة، ولو استطاع الإنسان الوصول إلى ذاكرة الحجر لرأى عجبا! دارت الأفكار هذه في رأسها وهي تمرر يدها على الجدران، توقفت عند لوحة خط كتب عليها: «إذ نادى ربه نداء خفيا.» مكتوبة بخط الثلث الذي تعرفه جيدا، لماذا يكون النداء خفيا؟ ولماذا إذن يرفع كثير من الأئمة أصواتهم بالدعاء حتى كأن بعضهم يصرخ صراخا؟
أحست بيد تربت على كتفها، استدارت فوجدت سيدة قد غزت التجاعيد وجهها المغطى نصفه وهي تحمل بيدها رداء ترابي اللون، قالت: «ألا تريدين أن تدخلي الجامع وتزوري مقام سيدنا زكريا؟» ابتسمت رندة وقالت: «بالطبع أريد.» قالت السيدة: «استديري يا بنتي أساعدك على لبسه.» انصاعت رندة للطيبة في وجه العجوز واستدارت لها، فوضعت السيدة الرداء على كتفيها، وقامت رندة بإدخال يديها في الأكمام، فوصل الرداء إلى ما قبل كاحلها بقليل، وقامت السيدة برفع القلنسوة المثبتة بالرداء على رأس رندة التي أدخلت شعرها فيه جيدا ثم قالت للسيدة بفرح: «ها! كيف أبدو؟» أجابت: «مثل حوريات الجنة!» التمعت عينا رندة، فلم تتوقع جوابها. شكرتها، واتجهت نحو الجامع.
كان نور ما يزال تحت تأثير الصدمة جالسا في ساحة الجامع بجوار حقائبه يستعيد ما مر معه في بيت والده، كيف يمكن أن يكونوا بهذه القسوة؟ أين نذهب الآن؟ أنعود إلى ألمانيا؟ وهل بقي معنا نقود أصلا للسفر؟ ماذا ستفكر رندة بي الآن؟ لكن لحظة، أين رندة؟ بالله عليها ماذا تفعل؟ وقف باحثا عنها في ساحات الجامع فلم يجدها، زاد غضبه وأخذ يذرع المكان جيئة وذهابا، عليها أن تكون أكثر شعورا بالمسئولية، كيف تتركني وتمضي وحدها؟ بعد دقائق أحسها نور دهرا عادت رندة، كانت ترتدي رداء عجيبا يغطي رأسها فلم يعرفها، ولما اقتربت كانت مبتسمة، وكان نور غاضبا، كيف يمكن لها أن تتركني وتنسى مصيبتنا لتمارس هواياتها السياحية؟ وما إن اقتربت أكثر ومن غير أن يسمح لها بكلمة انفجر في وجهها تعنيفا وصراخا. وفي محاولة منها لتهدئته قالت: «أنت تبالغ.» لكن ما زادته هذه الكلمة إلا غضبا وحنقا فما كان منه إلا أن انفجر بغضبه وإحباطه وخيباته كلها عليها وصفعها على وجهها صفعة أوقعتها أرضا! •••
شهقت فزعا وأغلقت وجهي بيدي، هل يعقل هذا؟ جدو نور باتزانه وطيبته فعل ذلك؟ حين سمع شهقتي قال: «نعم أعلم كم كنت قاسيا، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أضرب فيها إنسانا، فضلا عن الإنسانة الأجمل التي أحببتها واخترتها. عندها أخذت رندة تبكي، رندة الجميلة كانت تبكي على الأرض، وقد آلمتها بنفسي، بيدي هذه، كان إحساسي بالندم لا يوصف، عندها توجه إلينا بعض المصلين ممن شاهد ما فعلت وأخذوا يدفعونني بعيدا عنها، ولم يتركوني إلا بعد توسلاتها لهم. من يومها انكسر شيء ما في قلب رندة، ولم تجد جميع محاولاتي نفعا في إصلاحه.»
وسكت قليلا والحزن باد على وجهه المجهد، أحسست أنه كبر فجأة عشرة أعوام. كان مستغرقا في التفكير وهو يعبث بفنجان القهوة الفارغ، فلم أشأ أن ألح عليه بإكمال ما حدث، فالتزمت الصمت، ومرت دقائق قبل أن يتنهد أخيرا ثم يقول: «لقد مر على ذلك وقت طويل يا سماء، وقت طويل.» قلت: «أعتذر منك جدو، فإن كان تذكر الماضي يؤلمك فلست مضطرا للإكمال وسأنصرف في الحال.» ابتسم وقال: «كلا كلا؛ فالزمن يعالج أصعب الجروح، تذكري ذلك جيدا. كنت فقط أفكر كيف أن قناعات الإنسان وقيمه ومشاعره تتبدل مع تقدم الإنسان في العمر، هذا مذهل حقا! إن على الإنسان ألا يتشبث بأفكاره كثيرا، عليه ألا يخسر ما هو أهم من أجلها، ألا يرتكب حماقات لإثباتها؛ لأنه سيدرك آجلا تفاهة طريقته في التعلق بها. إنها الحكمة يا عزيزتي ولكنها للأسف تأتي متأخرة.» قطبت جبيني فلم أجد رابطا بين كلامه وبين ما حدثني عنه، هل يقصد أنه وجد أن حبه لرندة كان سخيفا؟ يبدو هذا قاسيا جدا! سألته على الفور: «هل تعني أنك لم تعد تؤمن بقيمة الحب؟» فضحك جدو نور وقال: «تعجبني فيك ثورة الحماسة في قلبك، أنا لم أقصد على الإطلاق ما قلته، إنما أعني غضبي في ذلك الوقت ونقمتي على أهلي وشعوري الكبير بالمصيبة التي أوقعوني فيها حين تركونا بلا مأوى أنا وزوجتي، هذا الغضب الذي أعماني وجعلني أخسر كثيرا، لكنني الآن لا ألومهم، بل ألوم نفسي، كان علي أن أتوقع الأسوأ. أما الحب يا سماء فلم ولن أندم عليه يوما.»
ثم حدثني كيف تدبر أمره مع زوجته في مسألة السكن فقد اضطرا للبقاء في بيت ابن خالته أسبوعا، ثم انتقلا إلى السكن مع أصدقائه الشباب، وأخبرني عن مدى صعوبة ذلك خاصة مع وجود رندة، ثم تمكن بصعوبة من تدبير غرفة لها في السكن الجامعي مع طالبتين، فيما بقي هو مع رفاقه. وهكذا افترقا، وطال ذلك أشهرا حتى وجد عملا في تدريس دروس خصوصية لبعض الطلاب، فتمكن من استئجار غرفة في بيت عربي قديم مع سيدة تعيش مع حفيدتها، وقد مكثا عندها سنتين ونصفا تقريبا، ثم قال: «في الحقيقة لم أكن مستعدا للحياة الحقيقية في ذلك الوقت، كنت شابا مدللا مرفها من قبل أهلي، كنت آخذ لقمتي من مال والدي، ثم وجدت نفسي فجأة أتحمل مسئولية كاملة لتأمين أبسط متطلبات الحياة لي ولزوجتي، المسألة كلها تقع علي وحدي فلم أكن مستعدا بعد. بدأت أصارع الحياة متأخرا جدا، لم أكن أحمل هم نفسي حتى أحمل هم غيري، الأشياء التي تعلمتها في تلك السنوات الأولى بعد عودتي تفوق كل ما تعلمته في حياتي. إن على المرء أن يخوض غمار الحياة مبكرا، لا أن ينتظر حتى تغمره أمواجها وتغرقه، عليه أن يكون مستعدا وسباحا ماهرا ليواجه الحياة بشجاعة، لكنني للأسف لم أفعل. كنت دائم التذمر والشكوى، وكانت رندة هادئة وادعة لم تصرخ في وجهي مطلقا. لقد تحملت تقلبات مزاجي كثيرا، لكنني لم أدرك ذلك إلا متأخرا جدا.» وسكت قليلا وقال: «أعتقد أن عليك العودة إلى بيتك، كما أنه لدي موعد بعد قليل.»
نامعلوم صفحہ