إن البرهان لا بد أن يسبقه بحث رياضي؛ فحساب الاحتمالات مركب على صورة نظام للبديهيات، مشابه لهندسة إقليدس. وهذا التركيب يوضح أن جميع بديهيات الاحتمالات هي نظريات رياضية خالصة، وبالتالي أحكام تحليلية، وذلك إذا ما قبلنا التفسير الترددي لفكرة الاحتمال، والنقطة الوحيدة التي يتدخل فيها مبدأ غير تحليلي هي التأكد من درجة الاحتمال عن طريق استدلال استقرائي؛ فنحن نجد ترددا نسبيا معينا لسلسلة من الحوادث الملاحظة، ونفترض أن نفس التردد سوف يسري كما هو تقريبا على بقية السلسلة هذا هو المبدأ التركيبي الوحيد الذي يبنى عليه تطبيق حساب الاحتمالات.
ولهذه النتيجة أهمية عظمى، فمن الممكن التعبير عن الصور المتعددة للاستقراء، وضمنها المنهج الفرضي الاستنباطي، من خلال مناهج استنباطية، مع إضافة الاستقراء التعدادي وحده. وإن منهج البديهيات ليقدم إلينا الدليل على أن جميع أشكال الاستقراء يمكن أن ترد إلى استقراء تعدادي؛ أي إن الرياضي في عصرنا يثبت ما كان هيوم يأخذه قضية مسلما بصحتها.
وقد تبدو هذه النتيجة مثيرة للدهشة، لأن منهج وضع فروض تفسيرية، أو الإثبات غير المباشر، يبدو مختلفا إلى حد بعيد عن الاستقراء التعدادي البسيط، ولكن لما كان من الممكن تصور جميع أشكال الإثبات غير المباشر على أنها استدلالات يسري عليها الحساب الرياضي للاحتمالات، فإن هذه الاستدلالات متضمنة في نتيجة البحث الخاص بمنهج البديهيات. وفي استطاعة نظام البديهيات أن يتحكم، بقوة الاستنباط، في أبعد تطبيقات الاستدلالات الاحتمالية، مثلما يستطيع المهندس أن يتحكم في قذيفة بعيدة بالموجات اللاسلكية، بل إن نفس التراكيب الاستدلالية المتشابكة التي يستخدمها ضابط المباحث أو العالم، يمكن تفسيرها على أساس البديهيات. والسبب الوحيد الذي يجعل هذه التراكيب أعلى من الاستقراء التعدادي البسيط، هو أنها تنطوي على قدر كبير من المنطق الاستنباطي - غير أن مضمونها الاستنباطي يمكن أن يوصف على نحو جامع مانع بأنه شبكة من الاستقراءات من النوع التعدادي.
ولأضرب مثلا أوضح به كيف يمكن الجمع بين الاستقراءات التعدادية في شبكة معقدة؛ فقد ظل الأوروبيون قرونا طويلة لا يعرفون إلا الإوز الأبيض وحده، واستدلوا من ذلك على أن الإوز في العالم كله أبيض. وفي ذات يوم كشفت إوزة سوداء في أستراليا، وهكذا اتضح أن الاستدلال الاستقرائي قد أدى إلى نتيجة باطلة. فهل كان من الممكن تجنب هذا الخطأ؟ من الأمور الواقعة أن الأنواع الأخرى من الطيور تتنوع ألوان أفرادها إلى حد بعيد. وعلى ذلك فقد كان من واجب المنطقي أن يعترض على الاستدلال بالحجة القائلة أنه إذا كان اللون يختلف في أفراد الأنواع الأخرى، فقد يختلف أيضا بين أفراد الإوز . ويدل هذا المثل على أن من الممكن تصحيح استقراء باستقراء آخر. والواقع أن جميع الاستدلالات الاستقرائية تقريبا لا يتم كل منها بمعزل عن الأخريات، وإنما تتم داخل شبكة قوامها كثير من الاستقراءات. وقد أنبأني عالم بيولوجي ذات مرة أنه أجرى تجارب على وراثة تغير بيولوجي مصطنع في أجيال متعددة، وتأكد تبعا لذلك من أنه تغير أصيل. وعندما سألته عن عدد الأجيال التي أجرى عليها الاختبار، قال إنه اختبر خمسين جيلا من الذباب. مثل هذا العدد قد يبدو قليلا في نظر الخبير الإحصائي للتأمينات، الذي اعتاد التعامل مع ملايين الحالات قبل القيام باستدلال استقرائي. ولكن ما هو العدد الكبير؟ من المستحيل تقديم الإجابة إلا على أساس استقراءات أخرى، تنبئنا بما ينبغي أن يكون عليه العدد الكبير لكي نستطيع أن نتوقع استمرار تردد ملاحظ فبالنسبة إلى اختبار متعلق بالوراثة، نجد أن خمسين جيلا عدد كبير. وعندما يجري طبيب على مريضه اختبار فاسرمان
Wassermann ،
1
لكي يتأكد من إصابته أو عدم إصابته بمرض الزهري، فإنه لا يقوم إلا بملاحظة واحدة، وعلى ذلك فإن العدد «واحد» يكون في هذه الحالة عددا كبيرا لإجراء استدلال استقرائي. والدليل على ذلك مستمد من الاستدلالات الاستقرائية الأخرى، التي أثبتت أنه إذا كان الاختبار الواحد إيجابيا أو سلبيا، فإن كل الاختبارات التالية (التي تجرى على الشخص نفسه) ستكون مثله. فعندما أقول أن جميع الاستدلالات الاستقرائية يمكن أن ترد إلى استقراء تعدادي، أعنى أن من الممكن التعبير عنها بشبكة من الاستقراءات البسيطة من هذا النوع. ومن الممكن أن تكون الطريقة التي تجمع بها هذه الاستدلالات الأولية تركيبا أعقد بكثير من ذلك الذي استخدم في الأمثلة السابقة.
ولما كان من الممكن إرجاع جميع الاستدلالات الاستقرائية إلى استقراء تعدادي، فإن كل ما هو مطلوب لجعل الاستدلالات الاستقرائية مشروعة هو تبرير الاستقراء التعدادي. ويكون هذا التبرير ممكنا عندما ندرك أن النتائج الاستقرائية لا يدعي أنها أحكام صحيحة، وإنما تقال على أنها ترجيحات
فحسب.
فعندما نحصي التردد النسبي لحادث ما، نجمد أن النسبة المئوية التي نتوصل إليها تختلف تبعا لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن إحصاءات المواليد تدل على أن 49٪ من كل ألف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52٪ بين 5000 مولود، ويمثلون 51٪ بين 10000 مولود، فلنفرض مؤقتا أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الأمر إلى نسبة مئوية ثابتة - وهي ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد - فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالتسمية إلى هذه النسبة المئوية النهائية؟ إن أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر إلى القيمة الأخيرة التي وصلنا إليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فإذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل، فسوف نصححه، ولكن إذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية، فلا بد أن نصل بمضي الوقت إلى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء إلى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث، إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الإطلاق، أي إذا كانت السلسلة تتجه صوب حد.
نامعلوم صفحہ