أما الإجابة الثالثة فتتعلق بتاريخ المجرات. والمجرة مجموعة مؤلفة من مئات الملايين من النجوم؛ فشمسنا ومجموعتها الكوكبية تنتمي إلى المجرة التي نرى محيطها في السماء ليلا، ونطلق عليه اسم درب التبانة
Milky way . وهناك مجرات أخرى توجد في السدم الحلزونية، وهي تبعد عن مجرتنا ملايين السنين الضوئية، ويفصلها فضاء هائل عنا وعن بعضها البعض. وتدل الملاحظات المطيافية التي كان هبل
Hubble
أول من قام بها، على أن جميع المجرات تقريبا تبتعد عنا بسرعة هائلة، بحيث تزداد السرعة كلما كان السديم الحلزوني أبعد عن مجموعتنا. فإذا افترضنا أن كل مجرة كانت تتحرك على الدوام في مسارها بسرعة واحدة، فإننا نستطيع أن نحسب من أين أتت. وتدل الأرقام على أن جميع المجرات كانت، منذ حوالي ألفى مليون سنة، متجاورة في مكان واحد، وكانت تكون على الأرجح كرة غازية هائلة ذات حرارة شديدة الارتفاع.
ولا شك أن ظهور الرقم «ألفي مليون سنة» في كل هذه الحسابات هو أمر ملفت للنظر إلى أبعد حد؛ إذ يبدو أن بداية كوننا، وشمسنا، وأرضنا، كانت منذ حوالي ألفى مليون سنة. ويظهر في مجال الفلك تطور يشير إلى وجود بداية مشتركة في عهد سحيق، تشهد بها أرقام علم الطيف وعلم الجيولوجيا، بل إن قطع الشهب، التي تصل إلى أرضنا في طريقها عبر الكون، تدل على نفس التاريخ منطبعا على مادتها، وذلك على أساس انحلال مادتها الإشعاعية. وإذن فقد كانت هناك، في قديم الزمان، كرة غازية متوهجة هائلة، هي الأميبا التي انبثق منها الكون. على هذا النحو تبدأ قصة التطور.
فهل هذا كل ما يمكننا أن نسأل عنه؟ لقد تتبع العلم تاريخ الكون إلى وقت يرجع إلى الوراء ألفي مليون سنة، فما الذي كان هناك قبل هذا التاريخ؟ وهل يحق لنا أن نتساءل عن كيفية ظهور الكرة الغازية الأولى إلى الوجود؟
إن من يسأل هذا السؤال يكون قد دخل أرض الفلسفة، والعالم الذي يحاول الإجابة عن هذا السؤال يتحول إلى فيلسوف؛ لذلك أود أن أوضح ما ينبغي أن يجيب به الفيلسوف الحديث.
لقد أجاب الفلاسفة التأمليون على هذا السؤال بابتداع مذهب في نشأة الكون كان يضع الخيال محل العلم؛ أن يفترض فعلا للخلق من لا شيء. وهي إجابة لا تعدو أن تكون تعبيرا عن الجهل بالموضوع، مختبئا خلف قناع لا يصعب استشفاف ما وراءه. أما إذا مضينا أبعد من ذلك، وبنينا هذه الإجابة على أساس أننا سنظل إلى الأبد جاهلين، فإننا نكون بذلك قد نسبنا إلى أنفسنا - متنكرين في ثياب التواضع - قدرة كاملة على استباق التطورات العلمية المقبلة.
أما الفيلسوف الحديث فيتخذ موقفا مغايرا؛ فهو يأبى تقديم إجابة قاطعة تؤدي إلى إعفاء العالم من مسئوليته، وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يوضح ما الذي يمكنه أن يوجهه من الأسئلة ذات المعنى، ويضع الخطوط العامة لعدة إجابات ممكنة، تاركا للعالم مهمة تحديد الإجابة الصحيحة في يوم ما. والواقع أن الفيزياء الحديثة قدمت مواد كثيرة تفيد في هذه المهمة المنطقية، وسوف تهتدي إلى وسائل لحلول أخرى، إذا اتضح أن الإجابات الممكنة المعروفة حاليا غير كافية.
إن السؤال عن كيفية تولد المادة من لا شيء، أو البحث عن علة أولى، علة الحادث الأول، أو الكون في مجموعه، ليس سؤالا ذا معنى؛ ذلك لأن التفسير على أساس العلل أو الأسباب يعني الإشارة إلى حادث سابق يرتبط بالحادث اللاحق من خلال قوانين عامة؛ فلو كان ثمة حادث أول، لما كان له سبب، ولما كان هناك معنى لطلب تفسير له، ولكن ليس من الضروري أن يكون هناك حادث أول؛ ففي استطاعتنا أن نتخيل أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث أسبق، وأن الزمان ليست له بداية. ففكرة لا نهائية الزمان، في كلا الاتجاهين، لا تثير صعوبات أمام الذهن؛ إذ إننا نعلم أن سلسلة الأعداد لا نهاية لها، وأن لكل عدد عددا أكبر منه، ولو أدرجنا الأعداد السلبية، لم تكن لسلسلة الأعداد بداية بالمثل؛ إذ إن لكل عدد عددا أصغر منه . وقد عالجت الرياضيات بنجاح السلاسل اللانهائية، التي لا توجد لها بداية ولا نهاية، ولم تجد فيها شيئا ممتنعا. أما الاعتراض بأن من الضروري وجود حادث أول، أي بداية في الزمان، فيعبر عن موقف الذهن غير المدرب. فالمنطق لا ينبئنا بأي شيء عن تركيب الزمان، وهو يمدنا بوسائل معالجة السلاسل اللامتناهية التي ليست لها بداية ، مثلما يمدنا بوسائل معالجة السلاسل المتناهية التي لها بداية. فإذا كانت الشواهد العلمية تؤيد القول بزمان لا نهائي، صادر عن اللانهائية وصادر إلى اللانهائية، فليس للمنطق اعتراض على ذلك.
نامعلوم صفحہ