infrastructure
الذي يجعل الفيلسوف مثاليا. وصحيح أن نوع التركيب الأدنى الذي يقول به قد لا يلقى موافقة من الجميع، ولكن المهم في الأمر هو أنه يحاول الإتيان بتعليل للتفكير الميتافيزيقي المثالي، ويرده إلى أصل ذي طابع عملي، بل إن هذا الطابع العملي يتخذ في بعض الأحيان صبغة اجتماعية طبقية، كما هي الحال في تعليله للمذهب الأخلاقي عند «كانت» (الفصل الرابع؛ وانظر أيضا الفصل السابع عشر).
على أن في الكتاب، دون شك، عناصر أخرى سلبية لا يمكن أن تقرها الفلسفات العلمية التي تسير في اتجاه مستقل عن الوضعية المنطقية. ومن هذه العناصر: (1)
تأكيده المفرط للتفسير النفسي للفلسفة، ولا سيما في الفصول الأولى من الكتاب؛ فهو يجعل للنظرة النفسية أهمية كبرى في تفسير أخطاء المذاهب الميتافيزيقية، ويذهب إلى أن هذه الأخطاء ترد كلها إلى عناصر نفسية معينة ، مثل سعي الفلاسفة إلى اليقين، وهو نوع من التماس «الأمان» في الحقائق اليقينية، وغير ذلك من العناصر النفسية التي عددها المؤلف في الفصلين الثاني والثالث من كتابه.
ومع اعترافنا بأن لهذا التفسير النفسي للأخطاء الفلسفية أهميته (وقد سبق أن أبدى به فيلسوف مثل نيتشه اهتماما كبيرا، وجعله محورا لكثير من آرائه في تاريخ الفلسفة وطبيعة مشكلاتها)، فمن الواجب أن نتذكر أن هناك عناصر أخرى ينبغي أن تضاف إليه، قد يكون من أهمها العنصر التاريخي والاجتماعي، الذي لم يبد المؤلف به إلا اهتماما ضئيلا. ونستطيع أن نضرب مثلا واحدا لقصور هذا التعليل بما حاول المؤلف أن يفسر به أخطاء ديكارت الميتافيزيقية؛ فهو في الفصل الثالث يبدي دهشته من وقوع رياضي كبير مثل ديكارت في أخطاء استدلالية واضحة، مثل «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ومثل الاستدلال على وجود العالم من كون الله صادقا. ويعلل ذلك بأن البحث عن اليقين النفسي يعمي بصيرة المفكر، ولكن مثل هذا التعليل، حتى لو صح، ناقص، ولا بد أن تكمله تعليلات تاريخية توضح موقف ديكارت في عصر لم تكن آثار العصور الوسطى قد زالت فيها بعد، وبقاء كثير من الرواسب اللاهوتية في أذهان مفكري ذلك العصر، وكيف أن ديكارت عرف المصير الذي لقيه عالم مثل جاليليو على أيدي رجال اللاهوت واتعظ به ... إلخ. وبالاختصار، فالتعليل النفسي للأخطاء الفلسفية لا يمثل إلا عنصرا واحدا ينبغي أن يكتمل بعناصر أخرى، ومن المؤكد أن المؤلف كان مبالغا حين قال: «إن دراسته (أي العامل النفسي) خليقة بأن تلقي على معنى المذاهب الفلسفية ضوءا أعظم مما تلقيه عليها كل محاولات التحليل المنطقي لهذه المذاهب.» (2)
يتحمس مؤلف الكتاب لرأيه في الطبيعة الاحتمالية للمعرفة، وفي أن قضايانا المعرفية كلها «ترجيحات»، فيذهب إلى حد تطبيق هذا الرأي على مشكلة وجود العالم الفيزيائي، ويؤكد أن هذا الوجود أمر مرجح فحسب، وأنه ناتج عن استقراء، وأن احتمال تحول الواقع إلى حلم قائم على الدوام، ويحول بيننا وبين تأكيد ذلك الواقع على نحو مطلق. ولست أود أن أدخل في نقاش حول هذا الرأي، الذي أعتقد أنني قدمت له تفنيدا مفصلا في موضع آخر.
1
ويكفي أن أشير إلى نتيجة هذا التفنيد، وهي أن الاعتقاد بأن الحلم أو الوهم أو خداع المعرفة شامل، هو اعتقاد متناقض مع نفسه، وهو مستحيل فلسفيا؛ لأن الحلم لا يعرف بوصفه حلما إلا لوجود واقع في مقابله، ولأن الخداع لا يكون خداعا إلا لأننا نقيسه على أساس معرفة صحيحة لا بد أن تكون موجودة إلى جانبه. والحقيقة التي أود أن أسجلها في هذا الصدد هي أن رأي المؤلف القائل إن وجود العالم الفيزيائي أمر مرجح، أو له درجة كبيرة من الاحتمال، ينطوي ضمنا على عناصر مثالية لا تقل قوة عن تلك التي كرس معظم الكتاب لمحاربتها. (3)
وأخيرا، فأخشى أن أقول إن الهدف العام للمؤلف، وهو أن تسترشد الفلسفة على الدوام بنتائج العلم، يؤدي إلى القضاء على الفلسفة، على الرغم من أن الغرض منه هو إرساؤها على دعائم أمتن من تلك التي ارتكزت عليها المذاهب التأملية التقليدية؛ فهذا الهدف يؤدي إلى وقوف الفلسفة موقف الانتظار أمام العلم؛ إذ تتلقى ما يقدمه لها العلم من حلول، وتكتفي بتسجيلها بأسلوبها الخاص فحسب. وما دام العلم في تطور ونمو مستمر، فإن نفس النتائج العلمية التي اعتقد المؤلف أنها تكون حلولا إيجابية لأقدم المشكلات الفلسفية، سوف تصبح عتيقة يوما ما، ويتعين على الفلسفة أن تنتظر في مذلة ما يقدمه إليها العلم من حلول جديدة.
وقد يكون هذا الموقف أفضل من مكابرة بعض الاتجاهات الفلسفية التقليدية وتعديها على ميادين ينبغي أن تترك فيها الكلمة الأخيرة للعلم، ولكن من المؤكد أن ما ستأتي به الفلسفة لو طبق البرنامج الذي يقترحه المؤلف لن يكون «حلولا» لمشكلاتها، بل سيكون تفنينا وصياغة فلسفية لبعض النتائج العلمية، وهي مهمة تترك الفلسفة في مركز ثانوي على الدوام، ولا تدع لها أية فرصة للمبادرة الخلاقة.
نامعلوم صفحہ