الباب الثاني
نتائج الفلسفة العلمية
الفصل السابع
أصل الفلسفة الجديدة
إننا لا نملك إزاء الخطأ إلا أن نطالب بتفسير نفسي، أما الصواب فيقتضي تحليلا منطقيا. ولقد كان تاريخ الفلسفة التأملية النظرية قصة لأخطاء أناس وجهوا أسئلة لم يتمكنوا من الإجابة عنها؛ ولذا فليس من الممكن تفسير الإجابات التي أصروا، رغم ذلك، على تقديمها إلا على أساس دوافع نفسية.
أما تاريخ الفلسفة العلمية فهو قصة تطور مشكلات، والمشكلات لا تحل عن طريق تعميمات غامضة، أو أوصاف براقة للعلاقة بين الإنسان والعالم، بل عن طريق ممارسة العمل الفني المتخصص، مثل هذا العمل يتم في العلوم. والحق أن من الواجب تتبع تطور المشكلات من خلال تاريخ العلوم كل على حدة؛ ذلك لأن أقصى ما فعلته المذاهب الفلسفية هو التفكير في مرحلة المعرفة العلمية السائدة في عصرها، غير أنها لم تسهم بشيء في تطور العلم. فالتطوير المنطقي للمشكلات من عمل العالم؛ إذ إن تحليله الفني، وإن كان يوجه في كثير من الأحيان نحو تفاصيل صغيرة، ونادرا ما يجري لأغراض فلسفية، قد أدى إلى زيادة فهم المشكلة إلى أن أصبحت المعرفة الفنية بمضي الوقت، من الاكتمال بحيث تسمح بالإجابة على الأسئلة الفلسفية.
إن العمل العلمي عمل جماعي، وقد يسهم الأفراد في حل مشكلة معينة بدور كبير أو صغير، ولكن هذا الدور يظل على الدوام ضئيلا بالقياس إلى مقدار الجهد الذي بذلته الجماعة في المشكلة. صحيح أن هناك رياضيين وفيزيائيين وبيولوجيين عظاما، غير أن أعظمهم ما كانوا ليتمكنوا من القيام بأعمالهم لو لم تكن الأجيال السابقة قد مهدت لهم الطريق، أو لم يكن معاصروهم قد ساعدوهم؛ فمقدار العمل الفني اللازم لحل مشكلة ما، يتجاوز قدرات العالم الفرد. وهذا لا يصدق فقط على الأبحاث التي تنطوي على ملاحظات وتجارب شاقة، بل يصدق أيضا على البناء المنطقي والرياضي لأية نظرية. والواقع أن الطابع الاجتماعي للعمل العلمي إنما هو مصدر قوته؛ إذ إن موارد الجماعة تكمل القدرة المحدودة للفرد، وتصحيحات الزملاء تصوب أخطاء الفرد، فتكون عقول الأفراد الكثيرين، فيما يسهم به كل منها من نصيب في البحث، أشبه بعقل جماعي فوق الفردي، يستطيع الاهتداء إلى إجابات لا يمكن أن يتوصل إليها فرد واحد.
هذه الاعتبارات ربما كانت تفسر السبب في اتباعي في الباب الثاني من هذا الكتاب خطة تختلف عن تلك التي اتبعتها في الباب الأول؛ فقد كانت فصول الباب الأول تتركز حول المصادر النفسية للخطأ، أما فصول الباب الثاني فتتركز حول المشكلات؛ وعلى ذلك فقد كان لزاما علي، لكي أقدم عرضا كاملا من الوجهة التاريخية، أن أتعقب اتجاهات التطور حتى أعود بها إلى العصور القديمة. ومع ذلك فإن تقديم عرض موجز للعصور القديمة يكفي لتحقيق أغراض هذا الكتاب ؛ إذ إن التطورات الأساسية التي تهم الفيلسوف تبدأ بالقرن التاسع عشر.
والحق أن تاريخ العلم في القرن التاسع عشر يضع أمام أنظار الفيلسوف آفاقا هائلة؛ ذلك لأنه يجمع، إلى وفرة الكشوف الفنية، تحليلا منطقيا زاخرا، وقد نشأت على أساس العلم الجديد فلسفة جديدة. هذه الفلسفة الجديدة بدأت بوصفها ناتجا ثانويا للبحث العلمي؛ ذلك لأن العالم الرياضي أو الفيزيائي أو البيولوجي الذي كان يريد حل المشكلات الفنية لعلمه، كان يجد نفسه عاجزا عن الاهتداء إلى حل ما لم يجب أولا عن أسئلة فلسفية معينة تتميز بطابع أعم. ولقد كان من حسن حظه أنه استطاع البحث عن هذه الإجابة دون أن يثقل كاهله الاهتمام بمذهب فلسفي معين، فتمكن من أن يجد لكل مشكلة إجابة تتعلق بالمشكلة ذاتها، دون أن يعبأ بالجمع بين الإجابات من أجل تكوين مذهب فلسفي متناسق، ولم يكن يهمه أن يكون من الممكن استخلاص نتائجه من مذهب عام معين يحمل اسما خلدته سجلات تاريخ الفلسفة. وهكذا فإنه لما كانت القوة الوحيدة الدافعة له هي منطق المشكلات ذاتها، فقد توصل إلى إجابات لم يكن لها نظير في تاريخ الفلسفة.
وهدف هذا الكتاب هو جمع هذه النتائج، وعرضها بكل ما يجمع بينها من علاقات متبادلة. وعن طريق تكوين مركب عام للإجابات العلمية على الأسئلة الفلسفية، ترسم معالم فلسفة جديدة، أو مذهب فلسفي، لا بمعنى الخلق التأملي لذهن يتخيل، بل بمعنى الكل المنظم الذي لا يمكن التوصل إليه إلا نتيجة لعمل جماعي.
نامعلوم صفحہ