كذلك فإن هذا الأصل يعلل تلك الحقيقة النفسية، وأعني بها أن «كانت» لم يدرك نقطة الضعف في البناء المنطقي الذي كان يريد أن يبرر به المعرفة التركيبية القبلية؛ ذلك لأن الغرض الذي يحدد مقدما، هو الذي يعمي الفيلسوف عن إدراك المسلمات التي أدخلها ضمنا في فلسفته. ولكي أوضح نقدي هذا، فسوف أناقش الآن الجزء الثاني من نظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية، وهو الجزء الذي حاول فيه الإجابة عن السؤال: «كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟»
لقد ذهب «كانت» إلى أنه يستطيع تفسير حدوث المعرفة القبلية التركيبية بواسطة نظرية تبين أن المبادئ القبلية شروط ضرورية للتجربة؛ فهو يرى أن الملاحظة وحدها لا تأتينا بمعرفة، وأن من الواجب تنظيم الملاحظات وترتيبها قبل أن يتسنى لها أن تصبح معرفة. وهو يعتقد أن تنظيم المعرفة يتوقف على استخدام مبادئ معينة، كالبديهيات الهندسية، ومبدأي العلية وبقاء المادة، وهي مبادئ كامنة في الذهن البشري، نستخدمها مبادئ تنظيمية عند تشييدنا للعلم. وهكذا يخلص من ذلك إلى أنها ذات صحة ضرورية؛ لأن العلم يكون بدونها مستحيلا. وهو يسمي هذا البرهان باسم الاستنباط الترنسندنتالي للمعرفة التركيبية القبلية.
وينبغي أن نعترف بأن تفسير «كانت» للمعرفة التركيبية القبلية أرفع بكثير من تحليل أفلاطون لهذا الموضوع؛ ذلك لأن أفلاطون يفترض، من أجل تفسير قدرة العقل على معرفة الطبيعة، وجود عالم من الأشياء المثالية التي يدركها العقل، والتي تتحكم على نحو ما في الأشياء الفعلية، أما «كانت» فلا نجد عنده مثل هذه النزعة الصوفية، وإنما تقول حجته إن للعقل معرفة بالعالم الفيزيائي؛ لأنه يشكل الصورة التي نشيدها للعالم الفيزيائي؛ فالمعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى أصل ذاتي، وهي شرط يفرضه الذهن البشري على المعرفة البشرية من أعلى.
وسأضرب مثلا بسيطا أوضح به تفسير «كانت»؛ فالشخص الذي يلبس نظارة زرقاء يرى كل الأشياء زرقاء، غير أنه لو كان قد ولد بهذه النظارة، لنظر إلى الزرقة على أنها صفة ضرورية في الأشياء جميعا، ولكان لا بد من مضي بعض الوقت قبل أن يكتشف أنه هو، أو على الأصح نظارته، الذي يضفي الزرقة على العالم. فالمبادئ التركيبية القبلية للفيزياء والرياضة هي النظارة الزرقاء التي نرى من خلالها العالم؛ ومن هنا فليس لنا أن ندهش حين نجد كل تجربة تدعمها؛ لأننا لا نستطيع أن نكتسب تجربة بدونها.
3
هذا المثل لا يرجع إلى «كانت»، بل إنه يبدو في الواقع غريبا عن روح مؤلف تلك الكتب الغامضة التي تحفل بأفكار مجردة مصوغة بلغة معقدة، تجعل القارئ متعطشا إلى أمثلة عينية ملموسة. ولو كان «كانت» قد اعتاد شرح أفكاره باللغة الواضحة البسيطة التي يستخدمها العالم، لجاز أن يكتشف عندئذ أن استنباطه الترنسندنتالي ذو قيمة مشكوك فيها، ولأدرك أن حجته، إذا ما امتدت أبعد من ذلك، تؤدي إلى تحليل من النوع الآتي:
هب أن من الصحيح أنه لا توجد تجربة تستطيع تكذيب المبادئ القبلية، فمعنى ذلك أن أية ملاحظات نقوم بها يمكن على الدوام أن تفسر أو ترتب بطريقة تتفق وهذه المبادئ. مثال ذلك أنه لو كانت النتائج التي نتوصل إليها من قياس زوايا مثلث، تتناقض مع النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث، لعزونا الفوارق إلى أخطاء في الملاحظة، ولأدخلنا «تصحيحات» على المقادير التي قيست بحيث تتفق مع النظرية الهندسية، أما إذا استطاع الفيلسوف أن يثبت أن هذا الإجراء ممكن دائما بالنسبة إلى جميع المبادئ القبلية، لتبين أن هذه المبادئ فارغة؛ وبالتالي تحليلية، وفي هذه الحالة لا تكون هذه المبادئ شروطا تقيد التجارب الممكنة، ولا تنبئنا بشيء عن خصائص العالم الفيزيائي. وبالفعل حاول «هنري بوانكاريه» أن يمتد بنظرية «كانت » في هذا الاتجاه، وذلك فيما أسماه بالمذهب الاصطلاحي؛ فهو ينظر إلى هندسة إقليدس على أنها اصطلاح متعارف عليه؛ أي على أنها قاعدة نفرضها باختيارنا على النظام الذي نرتب به تجاربنا. وسوف نوضح في الفصل الثامن ما في هذه النظرية من قصور. ولكي نضرب مثلا لمعنى المذهب الاصطلاحي في مجال غير مجال الهندسة، فلنتأمل القضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على 99 ينبغي أن تكتب بثلاثة أرقام على الأقل. هذه القضية لا تصدق إلا على النظام العشري، وهي تخفق في حالة الطرق الأخرى للتدوين، كالنظام الاثني عشري عند البابليين، الذي استخدم العدد 12 أساسا لنظامه العددي. فالنظام العشري اصطلاح نستخدمه في طريقتنا الخاصة في تدوين الأرقام، ونحن نستطيع أن نثبت أن جميع الأعداد يمكن أن تكتب بهذه الطريقة في التدوين؛ وعلى ذلك فالقضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على 99 ينبغي أن تكتب بثلاثة أرقام على الأقل، هي قضية تحليلية عندما تشير إلى هذا النظام. فإذا أردنا أن نفسر فلسفة «كانت» بأنها مذهب اصطلاحي، لكان علينا أن نبرهن على أن مبادئ كانت يمكن التمسك بها إزاء كل التجارب الممكنة.
غير أننا لا نستطيع تقديم برهان كهذا، بل إنه لو كانت المبادئ القبلية تركيبية، كما اعتقد «كانت»، لكان مثل هذا البرهان مستحيلا؛ ذلك لأن كلمة «تركيبية» تعني أننا نستطيع تصور تجارب تناقض المبادئ القبلية. وإذا كان في استطاعتنا أن نتخيل تجارب كهذه، فليس لنا أن نستبعد إمكان مجيء يوم تكون لنا فيه مثل هذه التجارب بالفعل. على أن «كانت» قد يرد بقوله إن مثل هذه الحالة لا يمكن أن تحدث؛ لأن المبادئ شروط ضرورية للتجربة، أو بعبارة أخرى، لأن التجربة بوصفها نسقا منظما من الملاحظات، لن تكون في الحالة المذكورة ممكنة. ولكن كيف يعرف أن التجربة ستكون دائما ممكنة؟ إن «كانت» لا يملك دليلا على أننا لن نصل أبدا إلى مجموع من الملاحظات لا يمكن تنظيمه في إطار مبادئه الأولية، ويجعل التجربة - أعني التجربة بالمعنى الكانتي على الأقل - مستحيلة. ولو عبرنا عن هذه المسألة من خلال المثال السابق، لقلنا إن هذه الحالة يمكن أن تحدث لو لم تكن في العالم الفيزيائي أشعة ضوئية لها طول الموجة المناظرة للأزرق، فعندئذ لا يرى الرجل ذو النظارة الزرقاء شيئا. ولو حدثت الحالة المناظرة في العلم، أعني إذا أصبحت التجربة من النوع الذي يقول به «كانت» مستحيلة، لاتضح أن مبادئ «كانت» لا تسري على العالم الفيزيائي. ولما كان مثل هذا التفنيد ممكنا، فلا يمكن أن تسمى المبادئ قبلية. وهكذا فإن المصادرة القائلة إن التجربة في إطار المبادئ القبلية ينبغي أن تكون ممكنة، هي المقدمة التي لم يبرهن عليها «كانت»، والتي يرتكز عليها مذهبه، ويدلنا عدم تصريحه بالمقدمة التي يرتكز عليها، على أن البحث عن اليقين جعله يغفل نواحي القصور في حجته.
على أنني لا أود أن أظهر بمظهر عدم الاحترام نحو فيلسوف عصر التنوير. فنحن نستطيع أن نثير هذا الاعتراض؛ لأننا رأينا الفيزياء تدخل مرحلة ينهار فيها إطار المعرفة الكانتية، ولم تعد الفيزياء في أيامنا هذه تعترف ببديهيات الهندسة الإقليدية، ومبدأي العلية والجوهر. ونحن نعلم أن الرياضة تحليلية، وأن جميع تطبيقات الرياضة على الواقع الفيزيائي، وضمنها الهندسة الفيزيائية، لها صحة تجريبية، ويمكن أن تصححها التجارب اللاحقة؛ أي إننا نعلم، بعبارة أخرى، أنه لا توجد معرفة تركيبية قبلية، غير أننا لم نكتسب هذه المعرفة إلا في الوقت الحالي، بعد أن تم تجاوز فيزياء نيوتن وهندسة إقليدس. وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء إمكان انهيار نسق علمي عندما يكون ذلك النسق في أوجه، أما بعد أن يصبح هذا الانهيار حقيقة واقعة، فما أسهل الإشارة إليه!
لقد جعلتنا هذه التجربة من الحكمة بحيث نتوقع انهيار أي نسق. ومع ذلك فإنها لم تثبط همتنا؛ فقد أثبتت الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانتية، وأن الذهن البشري ليس قائمة متحجرة من المقولات يكدس العقل في داخلها كل التجارب، بل إن مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها، ويمكن تكييفها مع عالم أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن. وإنا لنأمل أن يكون لأذهاننا، في أي موقف في المستقبل، من المرونة ما يتيح لها الإتيان بوسائل للتنظيم المنطقي تستطيع أن تعالج مادة الملاحظة المعطاة، ولكن هذا مجرد أمل، وليس اعتقادا نزعم أن لدينا دليلا فلسفيا عليه. ففي استطاعتنا الآن أن نستغني عن اليقين، ولكن كان لا بد من السير في طريق طويل قبل أن نصل إلى موقف من المعرفة متحرر على هذا النحو. وكان من الضروري أن يهدم البحث عن اليقين نفسه في المذاهب الفلسفية الماضية قبل أن نتمكن من تصور مفهوم للمعرفة يستغني عن جميع ادعاءات الحقيقة المطلقة.
نامعلوم صفحہ