فلنضرب مثلا للتعميم الضار، الذي يستخدم تشبيها زائفا بقصد تكوين قانون شامل، بالفقرة الفلسفية التي اقتبسناها في المقدمة. إن الملاحظة التي ترتكز عليها هذه العبارة هي أن العقل يتحكم إلى حد بعيد في الأفعال البشرية؛ وبالتالي يحدد التطورات الاجتماعية تحديدا جزئيا على الأقل. ولما كان الفيلسوف يبحث عن تفسير، فإنه ينظر إلى العقل على أنه يشبه جوهرا يتحكم في خصائص الموضوعات التي تتألف منه. مثال ذلك أن جوهر الحديد يتحكم في خصائص الجسر الذي يبنى به، ولكن من الواضح أن التشبيه سيئ إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الحديد من نفس نوع المادة التي صنع منها الجسر، أما العقل فليس مادة كالأجسام البشرية، ولا يمكن أن يكون هو الحامل المادي للأفعال البشرية. وعندما أتى طاليس، الذي اشتهر في حوالي عام 600ق.م بوصفه «حكيم مليتوس» (ملطية)، بنظريته القائلة إن الماء جوهر الأشياء جميعا، كان في ذلك يقوم بتعميم زائف؛ إذ إن ملاحظة وجود الماء في كثير من المواد، كالتربة أو الكائنات العضوية الحية، قد وسعت بحيث أصبحت تقول إن الماء متضمن في كل موضوع . ومع ذلك فإن نظرية طاليس معقولة من حيث إنها تتخذ من جوهر مادي حجر البناء لكل المواد الأخرى ؛ فهي على الأقل تعميم - وإن يكن زائفا - وليست تشبيها. فما أرفع لغة طاليس بالقياس إلى الفقرة المقتبسة!
إن عيب اللغة الفضفاضة هو أنها تخلق أفكارا باطلة، وتظهر هذه الحقيقة بوضوح في تشبيه العقل بالجوهر، ولا شك أن الفيلسوف الذي كتب هذه الفقرة خليق بأن يعترض بشدة على تفسير عبارته بأنها مجرد تشبيه، وإنما هو يدعي أنه قد اهتدى إلى الجوهر الحقيقي للأشياء جميعا، ويسخر من أي تأكيد لمعنى الجوهر المادي؛ فهو يذهب إلى أن للجوهر معنى «أعمق»، لا يكون الجوهر المادي بالنسبة إليه سوى حالة خاصة. ولو ترجمنا رأيه هذا إلى لغة مفهومة، لكان معناه أن العلاقة بين حوادث الكون وبين العقل هي نفس العلاقة الموجودة بين الجسر وبين الحديد الذي صنع منه، ولكن من الواضح أن هذه المقارنة غير مقبولة، والمقارنة تثبت أن أي تفسير جاد للتشبيه يؤدي إلى خطأ منطقي؛ فقد يؤدي إطلاق اسم الجوهر على العقل إلى إثارة صور لدى السامع، غير أن الاستمرار في استخدام هذه المجموعة من الألفاظ يضلل الفيلسوف، فيجعله يقفز إلى نتائج لا يقرها المنطق. والواقع أن الأخطاء الخطيرة التي تتولد عن التشبيهات الفاسدة كانت، ولا تزال، الآفة التي يعاني منها الفيلسوف طوال العصور.
إن المغالطة التي ترتكب في هذا التشبيه إنما هي مثال نوع من الخطأ يطلق عليه اسم صبغ المجردات بصبغة جوهرية
Substantialization of abstracta
أو تجسيم المجردات؛ فالاسم المجرد، مثل «العقل»، يعامل كما لو كان يشير إلى كيان شبيه بالشيء. وتنطوي فلسفة أرسطو (384-322ق.م) على مثل كلاسيكي لهذا النوع من المغالطة، حين يعالج موضوع الصورة والمادة.
فالموضوعات الهندسية تتبدى على هيئة صورة متميزة عن المادة التي تتكون، بحيث يمكن أن تتغير الصورة مع بقاء المادة على حالها، ولكن هذه التجربة اليومية البسيطة أصبحت هي المرجع الذي كتب على أساسه فصل في الفلسفة لم يكن غموضه بأقل من انتشاره وقوة تأثيره، وما كان ليظهر إلا نتيجة لإساءة استخدام تشبيه؛ فأرسطو يقول إن صورة التمثال المقبل ينبغي أن تكون في كتلة الخشب قبل أن تنحت ، وإلا لما ظهرت فيها فيما بعد، وبالمثل يكون قوام كل صيرورة هو عملية تشكل المادة في صورة؛ وإذن فلا بد أن تكون الصورة شيئا. وواضح أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استخدام غامض للألفاظ؛ فالقول إن صورة التمثال موجودة في الخشب قبل أن يشكله النحات، يعني أن في استطاعتنا أن نحدد في داخل كتلة الخشب، أو أن «نرى» فيها سطحا مماثلا للسطح الذي ظهر في التمثال فيما بعد. وحين يقرأ المرء كتابات أرسطو، يشعر أحيانا بأنه لا يعني بالفعل إلا هذه الحقيقة الضئيلة الشأن، غير أن الفقرات الواضحة المعقولة في كتاباته تعقبها لغة غامضة، فهو يقول أشياء مثل: المرء يصنع كرة من النحاس بواسطة البرونز والكرة، عن طريق وضع الصورة في هذه المادة، ويصل إلى حد النظر إلى الصورة على أنها جوهر يوجد على الدوام بلا تغير.
وهكذا أصبحت استعارة لفظية أصلا لمبحث فلسفي يسمى بالأنطولوجيا، ويفترض أنه يبحث في الأسس النهائية للوجود. والواقع أن عبارة «الأسس النهائية للوجود» هي ذاتها استعارة لفظية. وليغتفر لي القارئ لو استخدمت اللغة الميتافيزيقية دون مزيد من التفسير، واكتفيت بأن أضيف القول بأن الصورة والمادة عند أرسطو أساسان نهائيان للوجود، من هذا النوع؛ فالصورة في نظره وجود بالفعل، والمادة وجود بالقوة؛ لأن المادة تقبل اتخاذ صور كثيرة متباينة. وفضلا عن ذلك فإنه يرى أن العلاقة بين الصورة والمادة كامنة من وراء كثير من العلاقات الأخرى؛ فالفلك الأعلى والأدنى، والعناصر الرفيعة والدنيا، في نظام الكون، وكذلك النفس والجسم، والذكر والأنثى، يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الصورة والمادة. ومن الواضح أن أرسطو يعتقد أن هذه العلاقات الأخرى يمكن تفسيرها عن طريق مقارنتها، على نحو متعسف، بالعلاقة الأساسية بين الصورة والمادة. وهكذا فإن التفسير الحرفي للتشبيه يقدم تفسيرا وهميا، يؤدي عن طريق الاستخدام غير النقدي لصورة لفظية، إلى إدراج عدة ظواهر مختلفة تحت فئة واحدة .
وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث ، ولكننا لو قسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي؛ أعني هروبا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان نفس المبادئ التي يطبقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل من هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرا ذا نزعة نظرية قطعية، يرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق.
والواقع أن معلومات أرسطو عن تركيب الكون، أو عن الوظيفة البيولوجية للذكر والأنثى، لم تكن تكفي لإقامة تعميم؛ فقد كانت معارفه الفلكية مرتبطة بالنظام الذي يتخذ من الأرض مركزا للكون، كما أن معرفته لعملية التناسل لم تكن تشمل ما يعد حقيقة أولية بالنسبة إلى علم البيولوجيا الحديث؛ فهو لم يعرف أن الحيوان المنوي للذكر وبويضة الأنثى يتحدان لتكوين فرد جديد. وإذا لم يكن من حق أحد أن يلومه على عدم معرفة نتائج لم يكن من الممكن كشفيا بدون التلسكوب أو الميكروسكوب، فإن مما يعاب عليه أنه قد تصور، دون أن تتوافر لديه معلومات كافية، أن التشبيهات الهزيلة تكون تفسيرا؛ فهو في حديثه عن التناسل مثلا يقول: إن الذكر يقتصر على طبع صورة على الجوهر البيولوجي للأنثى. غير أن هذا التعبير الغامض، الذي هو مضلل حتى بوصفه مجازا، لا يمكن أن يعد الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى طرق أسلم في التفكير. ولقد كانت بالفعل عائقا في وجه نمو الفلسفة العلمية، بدلا من أن تمهد لها الطريق بالتدريج؛ فميتافيزيقا أرسطو كان لها تأثيرها في الفكر طوال ألفي عام، وما زالت تلقى إعجاب كثير من الفلاسفة حتى اليوم .
ومن الصحيح أن مؤرخي الفلسفة المحدثين يستبيحون لأنفسهم من آن لآخر توجيه انتقادات في سياق التبجيل المعتاد لأرسطو، زاعمين أنهم يميزون بين استبصاراته الفلسفية وبين تلك الأجزاء التي يعدونها - داخل مذهبه - ناتجة عن قصور المعرفة في عصره، غير أن ما يقدم إلينا على أنه استبصار فلسفي هو في أغلب الأحيان ثرثرة لفظية فارغة تملأ بمعان لم تخطر للمفكر نفسه على بال؛ فالعلاقة بين المادة والصورة يمكن التعبير عنها في تشبيهات متعددة، ولكنها لا تقدم تفسيرا. ومن هنا فإن تأويل آراء الفيلسوف بطريقة الدفاع والتبرير ليس هو وسيلة التغلب على الأخطاء المتأصلة فيه، وليس مما يساعد على تقدم البحث الفلسفي أن نضفي على أخطاء كبار المفكرين معاني تبلغ من التحريف حدا تغدو معه هذه الأخطاء تخمينات تنبئية، بآراء لم تتوافر للناس المواد والوسائل التي تعين على إثباتها، إلا في عصور متأخرة. ولقد كان تاريخ الفلسفة خليقا بأن يحرز تقدما أعظم بكثير لو لم يكن أولئك الذين يتخذون منه موضوعا لأبحاثهم قد أخروا مساره إلى هذا الحد.
نامعلوم صفحہ