من الواضح، تبعا لما قلناه عن معنى الجمل، أن السؤال لا معنى له. فهو من قبيل الأسئلة القائلة أن الأشياء جميعا، وضمنها أجسامنا، أصبح حجمها عشرة أضعاف ما كان عليه عندما نمنا مساء أمس، فليس ثمة فارق يمكن تحقيقه بين حالتي الشخص، وإذا افترضنا أن لديه عقلا في إحدى الحالتين، فينبغي أن نسلم بأن لديه عقلا في الحالة الأخرى؛ فالعقل لا ينفصل عن حالة معينة للتنظيم الجسمي، ويترتب على ذلك أن العقل والتنظيم النفسي الذي هو من نوع معين هما شيء واحد.
ونستطيع أيضا أن نقول إن لفظ «العقل» هو اختصار يعبر عن حالة جسمية تدل على أنواع معينة من الاستجابات. أما الاعتقاد بأن العقل أكثر من ذلك، فيذكرنا بالرجل الذي كانت لديه سيارة قوتها 130 حصانا وأحس بخيبة أمل شديدة عندما فك محرك السيارة ولم يجد المائة والثلاثين حصانا؛ فالاعتقاد بالوجود المستقل للعقل هو مغالطة تنشأ عن سوء فهم الألفاظ المجردة. ذلك لأن اللفظ المجرد يمكن ترجمته إلى عدد كبير من الألفاظ العينية، والموضوع الذي يسدل عليه ليس إلا مجموع كل الموضوعات العينية المتعلقة به. وإذن فمسألة وجود العقل هي مسألة استخدام صحيح للألفاظ، وليست مسألة وقائع.
على أن القول بالوجود المستقل للعقل هو عصب المذهب المتعالي، فهذا المذهب ينظر إلى الظواهر العقلية (أو الذهنية) على أنها مظاهر لوجود غير فيزيائي، ولا توجد إلا خطوة واحدة بين هذا التفسير وبين الاعتقاد بحقيقة أعلى، تكون الأشياء المنظورة مجرد ظلال لها. غير أن مشكلة العقل والجسم لا تعد مشكلة فلسفية إلا لأن صياغتها المعتادة تعاني من صعوبات لغوية، أدت بالفيلسوف إلى الوقوع في ورطة منطقية شديدة. فاللغة التي نصف بها الظواهر الذهنية والانفعالية لم تصنع لهذا الغرض، وهي لا تحقق هذا الغرض إلا باستخدام تراكيب منطقية معقدة إلى حد ما. فلغة الحياة اليومية - وهي اللغة التي نستخدمها في الأوصاف النفسية - قد ارتبطت في نموها بالموضوعات العينية المحيطة بنا، وهي لا تسمح إلا بوصف غير مباشر للظواهر النفسية أنها لغة منبه، بالمعنى الذي أوضحناه من قبل. فنحن نقول مثلا إن لدينا صورة لشجرة في ذهننا، غير أن كلمتي «صورة» و«شجرة»، في معنييهما الأصليين، تشيران إلى موضوعات عينية، ولا يمكن أن تعبرا عما نعنيه إلا بطريق غير مباشر. ولو شئنا أن نأتي بصيغة أدق لهذه الفكرة نفسها لوجب أن نقول أن جسمنا في حالة من ذلك النوع الذي ينجم لو أن الأشعة الضوئية المنبعثة عن شجرة وصلت إلى أعيننا، وإن لم تكن توجد في هذه الحالة الخاصة شجرة ولا أشعة ضوئية. فليس في لغتنا ألفاظ تشير مباشرة إلى الحالات الجسمية، وعلينا أن نستخدم وصفا غير مباشر من خلال الموضوعات الخارجية.
إن من الواجب ترجمة التقارير النفسية بدقة قبل أن يصبح من الممكن الإجابة على الأسئلة الفلسفية المتعلقة بالعقل، ولو أغفلت هذه القاعدة، لأدى ذلك إلى إثارة مشكلات وهمية. مثال ذلك أن يقال إننا لا نرى حالاتنا الجسمية، ولكنا نرى شجرة في حلم، على الرغم من عدم وجود شجرة. ولكن لا يوجد منطقي يزعم أننا نرى حالة جسمية. فكلمة «يرى» قد نحتت على نحو من شأنه أن تشير إلى موضوعات فيزيائية خارجية، وكل ما يقول به المنطقي هو أن الجملة الكاملة «أنا أرى شجرة» معادلة للجملة «جسمي في حالة فسيولوجية»، ولدى المنطق الحديث من الوسائل ما يمكنه من معالجة هذا النوع من المعادلات.
وهناك مشكلة وهمية أخرى يؤدي إليها السؤال: إذا وقعت أشعة ضوئية على العين البشرية ونقلت التأثيرات العصبية من الشبكة إلى المخ، فكيف وأين تتحول التأثيرات إلى إحساس باللون الأزرق؟ هذا السؤال مبني على فرض سابق باطل. فالتأثيرات لا تتحول إلى إحساس في أي مكان، بل إن الشخص الذي يكون في هذه الحالة يرى اللون الأزرق، غير أن اللون الأزق ليس في المخ أو في أي مكان آخر من الجسم. فرؤية اللون الأزرق ليست إلا طريقة غير مباشرة في وصف حالة جسمية. وهذه الحالة هي الناتج السببي للأشعة الضوئية وما يليها من تأثيرات عصبية، ولكن ليس هناك ناتج سببي يمثل لونا أزرق.
ولكي نضرب مثلا يوضح هذه العلاقات المنطقية، نفرض أن شخصا أخذ مبلغ 2000 جنيه أوراقا مالية إلى بنك وفتح حسابا. فهو الآن يملك ألفي جنيه على شكل حساب في البنك. فأين هذه الألفا جنيه؟ إنها لا تتألف من أوراق مالية؛ إذ إن الأوراق الأصلية تداولتها خلال هذا الوقت أيد كثيرة، وربما لم يعد البنك يملك معظمها. ولكن هناك ناتجا سببيا لها هو الأرقام المسجلة في دفاتر البنك إلى جوار اسم ذلك الرجل، غير أن الأرقام المسجلة على الورق ليست جنيهات، وهي لا تنتمي إلى الرجل وإنما إلى البنك، الذي يملك الدفاتر. وإذن فأين الألفا جنيه التي يملكها الرجل؟ إنها «أشياء غير ملموسة تنتهي إلى مجال آخر من مجالات الواقع.» ولكنها تبدو ناتجا عن أوراق الجنيهات الأصلية، التي كانت أشياء ملموسة. فكيف يمكن أن يكون شيء غير ملموس ناتجا سببيا لشيء ملموس ؟ إن كل شخص يستطيع أن يدرك في هذه الحالة أن السؤال لا معنى له. وأنه ناتج عن خلط في طريقة الكلام. فهناك حالة قوامها أرقام مكتوبة في دفاتر البنك، نتجت سببيا عن انتقال أوراق الجنيهات من يدي الرجل إلى يدي صراف البنك، هذه الحالة تميزها على نحو غير مباشر عبارة «الرجل يملك 2000 جنيه». غير أن هذه الجنيهات الألفين لا تدين بوجودها إلا لطريقة معينة في الكلام. أما في حالة الإدراكات الحسية، فما أكثر الفلاسفة الذين تساءلوا أسئلة من هذا النوع، مدافعين عن الرأي القائل إن هناك مشكلات لا تقبل الحل، وتعلو على فهم العقل البشري. مثل هذه الآفات الفلسفية لا يمكن شفاؤها إلا بدرس في المنطق.
وإذن، فلا يتعين علينا أن نتخلى عن الفهم الوظيفي للمعرفة عندما يكون الأمر متعلقا بمعرفة الظواهر النفسية. فكون الجهاز الجسمي يستطيع أن يتكلم عن ذاته ليس أمرا أغرب من كون آلة التصوير ذاتها تستطيع أن تصور عن طريق مرآة. والواقع أن حالة التخلف التي كان يتصف بها المنطق التقليدي هي السبب الرئيسي للخلط العجيب الذي عولجت به هذه المشكلات في الفلسفة التقليدية. وتلك إحدى النقاط التي استعانت فيها الفلسفة العلمية بالمنطق الحديث في سعيها إلى الوضوح والتحليل العلمي. وعن طريق هذه المناهج أمكن وضع نظرية في المعرفة حلت محل المبحث الذي يحمل نفس الاسم، والذي ادعت مذاهب الفلسفة التأملية أنها شيدته.
على أنني لم أعرض إلا الخطوط العامة لنظرية المعرفة هذه، أما إذا شاء القارئ، أن يدرس هذا الموضوع بمزيد من العمق، فلا بد لي أن أحيله على المؤلفات الموجودة؛ فقد اتضح للمنطقي أن بناء نظرية مفصلة للمعرفة ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى قدر كبير من العمل الفني المتخصص. والواقع أن نظامنا الحالي في المعرفة إنما هو مزيج غريب من اللغات، أي من اللغة الفيزيائية، واللغة الذاتية، واللغة المباشرة، واللغة البعدية. ومن الواجب دراسة الارتباط والعلاقة المتبادلة بين هذه اللغات، بمساعدة الأسلوب الفني للمنطق الرمزي، الذي يشتمل على تعبيرات عن علاقات الاحتمال. وإن دارس الفلسفة الذي يحضر برنامجا دراسيا حديثا في نظرية المعرفة، ليشعر عادة بالدهشة إذ يجد أمامه صيغا منطقية تحل محل اللغة المجازية التي تستخدمها المذاهب التأملية. غير أن وجود هذه الصيغ يدل على أن الفلسفة قد انتقلت أخيرا من مرحلة التأمل إلى مرحلة العلم.
الفصل السابع عشر
طبيعة علم الأخلاق
نامعلوم صفحہ