الإهداء
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
أولا: العرض الجزئي
ثانيا: العرض الكلي
الفصل الثاني: العرض النسقي
أولا: العرض النسقي المنطقي (ابن سينا أبو البركات)
ثانيا: العرض النسقي الشعبي (إخوان الصفا)
الفصل الثالث: العرض الأدبي
أولا: الفلسفة الأدبية (أبو حيان)
ثانيا: الحكمة الشعبية (مسكويه)
الإهداء
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
أولا: العرض الجزئي
ثانيا: العرض الكلي
الفصل الثاني: العرض النسقي
أولا: العرض النسقي المنطقي (ابن سينا أبو البركات)
ثانيا: العرض النسقي الشعبي (إخوان الصفا)
الفصل الثالث: العرض الأدبي
أولا: الفلسفة الأدبية (أبو حيان)
ثانيا: الحكمة الشعبية (مسكويه)
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (1) العرض
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (1) العرض
الجزئي والكلي - النسقي - الأدبي
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: العرض الجزئي والعرض الكلي
أولا: العرض الجزئي
يعني العرض الجزئي عرض موضوع واحد عند أحد فلاسفة اليونان مع ذكر اسمه في العنوان في كتاب معين أو في موضوع محدد كنوع من التقديم والتعريف. وهو نوع من التأليف في الوافد عن طريق تبسيط موضوعاته ونصوصه حتى يسهل بعد ذلك تمثلها، وقد قام بذلك الفارابي.
ففي «الإبانة عن غرض أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة» للفارابي (339ه) وهو الذي قرأه ابن سينا ففهمه بعد أن قرأ الترجمة العربية للنص اليوناني أربعين مرة فلم يفهمه، مما يدل على قدرة الفارابي على العرض الواضح.
1
ولا يبدأ العرض بفعل القول ومشتقاته؛ فهذه مرحلة قد ولت، مرحلة الشرح والتلخيص والجوامع، ولكنه يتوجه إلى القصد مباشرة قصد أرسطو وقصد الفارابي حتى يتحد القصدان. والقصد هو غرض أرسطو في الكتاب أي العلة الغائية وهي التي لها الأولوية على باقي العلل الصورية، الشكل اللغوي، والمادية (مضمون الفكر وطرق الاستدلال) والفاعلة أي المؤلف نفسه. يتعامل الفارابي هنا مع العمل دون تشخيصه في صاحبه. فالعمل مستقل عن المؤلف ينتمي إلى تاريخ الحضارة الذي يعبر عن تطور الفكر البشري. فالقصد - أي الغاية - يأتي قبل الأقسام أي المادة والمضمون. ولا يكفي في ذلك الغرض الكلي للكتاب كله بل يمكن أن ينقسم إلى أغراض جزئية، غرض كل مقالة على حدة ومجموع الأغراض الجزئية تصب كلها في الغرض الكلي.
والتوجه نحو القصد والغاية والغرض ليس توجها نظريا خالصا منفصلا عن الزمان والمكان وإنما تصحيح لوهم كثير من الناس أن مضمون الكتاب مضمون ديني، يتعرض للبحث في الباري «سبحانه وتعالى»، والعقل والنفس وسائر ما يناسبها، وأن علم ما بعد الطبيعة وعلم التوحيد علم واحد. وهو غير صحيح، ولا ينطبق إلا على المقالة الحادية عشرة وهي مقالة اللام. ومما أوقع في هذا اللبس ترجمة «علم ما بعد الطبيعة» أحيانا بلفظ «الإلهيات» في قسمة الحكمة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات كما وضح ذلك في قسمة «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا.
2
ويعرض الفارابي الكتاب لحل هذا الإشكال من أجل التمييز بين علم ما بعد الطبيعة وعلم التوحيد، ابتداء من تصنيف العلوم، وهو مدخل رئيسي في فلسفته كما عرض في «إحصاء العلوم»؛ فالعلوم قسمان جزئية وكلية. الجزئية تتعرض لبعض الموجودات على حدة مثل علم الطبيعة للطبيعة، والهندسة للمقادير، والحساب للعدد، والطب للأبدان. والكلية هي التي تنظر في جميع الموجودات والمبادئ المشتركة بينها مثل الوحدة والكثرة، والتقدم والتأخر، والقوة والفعل، والتام والناقص، وما يجمعها جميعا وهو ما يسمى باسم الله جل جلاله. وهو علم واحد وإلا لكان علما جزئيا؛ ومن ثم يدخل علم البارئ باعتباره علما كليا في علم ما بعد الطبيعة باعتباره أيضا علما كليا في علم واحد، علم الوجود المطلق. وبما أنه علم أعلى من الطبيعة وفوقها فإنه يسمى علم ما بعد الطبيعة. والعلم التعاليمي أكثر تجريدا من علم ما بعد الطبيعة ولكنه لا يدخل فيه. فموضوعاته ليست طبيعية ولا من علم ما بعد الطبيعة بل من صنع الوهم مثل النقطة والخط. فالمفارقة إما بالحقيقة مثل علم ما بعد الطبيعة أو بالوهم مثل العلم التعاليمي.
3
وهو لا يتناقض مع الوهم بالتوحيد بين العلمين كما هو الحال عند بعض الشراح؛ فالعلم الإلهي داخل في علم ما بعد الطبيعة نظرا لأنه يتعرض للباري كأحد التصورات التي تجمع بين الموجودات مثل المحرك الأول والعلة الأولى والوجود المطلق. فالعلم الإلهي أحد أشكال علم ما بعد الطبيعة دون أن يتوحد العلمان.
ويعرض الفارابي الاثنتي عشرة مقالة، ويحكم على كل منها، ويربط بينها؛ فالمقالة الأولى تشبه الصدر والخطبة لأن موضوعها أقسام العلل وانتهاؤها إلى العلة الأولى. كما يبين وضوحها أو غموضها، سهولتها أو صعوبتها مثل المقالة الثانية. فيوضحها ويقيم الحجج عليها حتى يتوجه الذهن نحو الطلب. ويحول الموضوعات إلى معان ذهنية مثل المقالة الثالثة. ويحدد مستوى الموضوعات مثل المقالة الرابعة التي تفصل الألفاظ الدالة على موضوعات العلم الألفاظ المتواطئة أو المشكلة أو المشتركة اشتراكا حقيقيا كما يفعل في المنطق، وتحويله من منطق تصورات إلى منطق لغة. ويعيد بيان تقسيم العلوم النظرية إلى طبيعية ورياضية وإلهية في المقالة الخامسة لأن المنطق آلة لكل العلوم. فالعلم الإلهي جزء من العلم لأنه نظر في الهوية بالذات وليست الهوية بالعرض على عكس ما يقول الجدليون والمغالطيون. لذلك كان موضوع المقالة السادسة التمييز بين الهوية بالذات وهو الجوهر وأقسامه، المادة والصورة، وحده، والصورة غير المفارقة والصورة المفارقة. ومن الطبيعي أن تكون الصور الأفلاطونية المفارقة موضوع المقالة السابعة. ثم تتوالى المقالات بعد ذلك، الثامنة في القوة والفعل وتقدم المتقدم، والتاسعة في الواحد والكثير والغير والخلاف والضد، والعاشرة في التمييز بين مبادئ العلم وعوارضه، والحادية عشرة في مبدأ الجوهر والوجود كله وإثبات هويته وأنه عالم بالذات وحق بالذات، وفي الموجودات المفارقة وترتيبها بالنسبة إليه، وهي مقالة اللام الشهيرة التي ساعدت على تعشيق علم ما بعد الطبيعة في علم التوحيد، وأخيرا المقالة الثانية عشرة في مبادئ الطبيعيات والتعليميات.
4
ولا يذكر من الوافد بطبيعة الحال إلا أرسطو ثم الإسكندر ثم ثاسطيوس والأفلاطونية كصفة؛ فأرسطو هو صاحب الكتاب الذي يذكر في العنوان وفي الرسالة. ويذكر الإسكندر كشارح لمقالة اللام شرحا غير تام بالرغم من وهم المتأخرين أن شرحه كان تاما. هنا يبدو الفارابي أكثر دراية بشرح الإسكندر من الشراح اليونان الذين ربما أتموا شرحه. يبدو الفارابي أكثر دقة في التاريخ، ينسب العمل إلى صاحبه، ويعرف حجمه وقدره. أما ثامسطيوس فإنه شرح مقالة اللام شرحا تاما دون المقالات الأخرى نظرا لأن مقالة اللام هي التي يتحدث فيها أرسطو عن المحرك الأول، وهي أكثر المقالات إيمانية واتجاها نحو الدين، ويسهل تعشيقها في الموروث فيصبح المحرك الأول هو الباري تعالى طبقا للتشكل الكاذب. وتذكر الصور الأفلاطونية كموضوع للمقالة السابعة وليس كإضافة من الفارابي على نص أرسطو. ولا يذكر الموروث على الإطلاق الكلامي أو الفلسفي أو الفقهي؛ فالفارابي في غنى عن ذلك بقدرته على التمثل والاستيعاب ثم إعادة العرض بوضوح وثقة اعتمادا على العقل الخالص.
ثانيا: العرض الكلي
(1) عرض المذهب
ويتدرج العرض الكلي في ثلاث مراحل الأولى عرض مذهب فيلسوف بعينه مثل أرسطو عرضا مذهبيا ابتداء من مجموع أعماله كما فعل الكندي في رسالته عن «كمية كتب أرسطوطاليس، وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة».
1
فالعرض له غرضان؛ الأول حصر عدد كتب أرسطو أي عرض المؤلفات ونسقها، ومن خلالها يتم عرض المذهب. والثاني ما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة. الأول تاريخي والثاني لا تاريخي. الأول يوناني خاص، والثاني إنساني عام، وهو معرفة الحق وشوق النفوس له. الأول للتعليم والثاني لبيان الغرض.
وبطبيعة الحال يذكر أرسطو، وتذكر صفة «يوناني» لأرسطو وأسماء كتب أرسطو معربة. أو الطبيعيات فكلها مترجمة.
2
وأحيانا يوضع اللفظ المعرب أولا ثم المترجم ثانيا مثل قاطوغورياس وهو علم المقولات، الحامل والمحمول، الجوهر والعرض مع إفاضة في الشرح وضرب الأمثلة. ومثل باريارمانياس ومعناه علم التفسير، وأنالوطيقا الأولى ومعناه العكس من الرأس، وأنالوطيقا الثانية وهو المخصص باسم أفوذقطيقا ومعناه الإيضاح، وطوبيقا ومعناه المواضع أي مواضع القول، وسوفسطيقا ومعناه المنسوب إلى السوفسطائيين ومعنى السوفسطائي المتحكم، وريطوريقا ومعناه البلاغي، وبوييطيقا ومعناه الشعري. بل ما زالت الأسماء قلقة في تعريبها مثل نيقوماخوس ورسم اسمه نيقوماخس.
3
وما زال العرض ينقصه الاتساق. يبدأ بالإجابة على السؤال إحصاء كتب المنطق والطبيعيات والأخلاقيات والرياضيات ثم يبين اشتراكها جميعا في موضوع الجوهر ثم يبين امتياز البرهان القرآني وإعجازه في الرد على منكري حشر الأجساد والخلق بقياس الأولى، وبيان بلاغه حجة القرآن لغويا، ثم العودة إلى الرياضيات وأهميتها لإذكاء العلم الإنساني والإلهي في آن واحد، ثم عود إلى موضوع الكتب المنطقية والطبيعية وما بعد الطبيعة والنفسية والأخلاقية والسياسية مما يدل على التكرار.
ويبدأ المتعلم بالرياضيات بالرغم من بداية الكندي بعرض المنطقيات ثم الطبيعيات. وتشمل الرياضيات: العدد والهندسة أو المساحة والتنجيم والتأليف وهي شرط معرفة باقي كتب أرسطو على نحو برهاني وليس مجرد حفظها وروايتها. العدد والتأليف صناعتان للكمية، والهندسة والتنجيم صناعة الكيفية. وعلم العدد أول العلوم الرياضية وأساسها. يبحث في الكمية المفردة أي المنفصلة قياسا للأجزاء بعضها على البعض الآخر. وهو أساس باقي العلوم ومتقدم عليها؛ فإن لم يكن عدد لا يكون تأليف أو مساحة أو تنجيم. وعلم التأليف إيجاد نسبة عدد إلى عدد، وقرنه إليه، ومعرفة المؤتلف والمختلف، وإضافة الكمية بعضها إلى بعض. وهو يتألف من عدد ومساحة وتنجيم. وأظهر ما يكون في الأصوات وتركيب الكل والأنفس الإنسانية والهندسة علم الكيفية الثانية وهو علم المساحة العظيمة. وعلم التنجيم وهو علم الفلك، علم الكيفية المتحركة، علم هيئة الكل، وعدد أجسامه الكليات، وحركتها وكمية حركاتها، وما يعرض في ذلك من نوعه، علم هيئة الكل في الشكل والحركة بأزمانها من أجرام العالم التي لها الكون والفساد حتى يدثرها مبدعها إن شاء كما أبدعها. وهو مركب من عدد ومساحة. هذه العلوم الرياضية الأربعة هي شرط التفلسف، ومن عدمها عدم الفلسفة والعلم الإلهي معا لأنها أيضا علم الجوهر الذي لا يزول. فمن أراد تعلم الفلسفة يبدأ بالرياضيات والمنطقيات والطبيعيات وما فوق الطبيعيات ثم الأخلاقيات وسياسة النفس بالأخلاق المحمودة، وغير ذلك من العلوم مركب منها. ولكل علم مراتبه.
4
فكتب أرسطو أربعة أنواع بعد تعلم الرياضيات: المنطقيات، والطبيعيات، والثالث ما كان مستغنيا عن الطبيعيات، قائما بذاته، غير محتاج إلى الأجسام ومع ذلك يوجد مع الأجسام مواصلا لها وهي النفس وظواهرها أي الطبيعيات الصغرى، والرابع ما لا يحتاج إلى الأجسام ولا يواصلها ألبتة وهو علم ما بعد الطبيعة. وهو ما سماه ابن سينا بعد ذلك أن الموجودات قبل الكثرة، ومع الكثرة، وبعد الكثرة. الأولى المنطق، والثانية الطبيعيات، والثالثة الرياضيات. والمنطقيات ثمانية: الأول المقولات والثاني التفسير بعد أن استقر بعد ذلك إلى العبارة، والثالث العكس من الرأس وقد استقر بعد ذلك إلى التحليلات الأولى أو القياس، والرابع الإيضاح وقد استقر بعد ذلك في البرهان، والخامس المواضع والذي أصبح بعد ذلك الجدل، والسادس السفسطة، والسابع البلاغة أي الخطابة، والثامن الشعر. والطبيعيات سبعة: الخبر الطبيعي أي سمع الكيان، والثاني السماء وهو السماء والعالم، والثالث الكون والفساد، والرابع أحداث الجو والأرض الموسوم العلوي وبالقول على النهايات أي التي تتلاطم وهو «الآثار العلوية»، والخامس المعادن، والسادس النبات، والسابع الحيوان والطبيعيات الصغرى أربعة: النفس، والحس، والمحسوس، والنوم، واليقظة، وطول العمر وقصره. وما بعد الطبيعيات كتاب واحد.
وتلحق كتب الأخلاق بالنفس، ومنها الكتاب الكبير «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، وهو أحد عشر قولا، والثاني الأخلاق الصغير أقل حجما. وله أيضا عديد من الرسائل والكتب الصغيرة في موضوعات جزئية.
ثم يتحول الكندي من إحصاء الكتب إلى عرض موضوعاتها. وأولها الجوهر ومحمولاته وهو موضوع كتاب المقولات. وهو أيضا موضوع طبيعي في السماع الطبيعي. وهو أيضا موضوع ما بعد الطبيعة، الجوهر الأزلي؛ فالجوهر موضوع للعلوم الثلاثة. الجوهر والمحمول أي الموضوع والمحمول في المنطق، والجوهر والمقولات التسع في العلم الطبيعي، الكم والكيف، الطينة أي المادة والصورة، والمضاف هو الموجود مع لا طينة، والمكان والزمان تركيب جوهر مع كم، والفعل والانفعال تركيب جوهر مع كيف، والملك تركيب جوهر مع جوهر. والجوهر الثابت هو الجوهر الأول الخالي من الأعراض، موضوع العلم الثابت الحق وهو الفلسفة، وهو موضوع العلم الإلهي الذي يأتي البشر دون تكلف أو طلب أو حيلة مثل علم الرسل. وهنا ينتهي عرض الوافد اليوناني ليبدأ عرض الموروث الإسلامي بعد تعشيق الأول في الثاني، الجوهر الأول في الله جل وعلا، والفلسفة في الوحي، وعلم البشر بعلم الرسل صلوات الله عليهم بلا طلب ولا تكلف بحث ولا بحيلة رياضية أو منطق بل بإرادة الله جل وتعالى بتطهير أنفسهم وإنارتها للحق وتأييده وتسديده وإلهامه ورسالاته. لهم آيات فاصلة لهم عن غيرهم من البشر من علم الجواهر الخفية. ثم تيقن العقول أن ذلك من عند الله جل وتعالى يخضع له البشر بالطاعة والانقياد، فيضطر إلى التصديق بما تأتي به الرسل عليهم السلام. مثال ذلك جواب الرسل فيما سئلوا فيه عن الأمور الخفية التي لا يستطيع الفيلسوف أن يجيب عليها إلا بعد طول جهد وعناء البحث والتروض، وبأسلوب موجز وبين، وقريب الإحاطة بالمطلوب.
5
العلم الإنساني إذن دون العلم الإلهي ولا سبيل لإحاطته بالأشياء الحقة الثابتة مع عدم الرياضيات إلا بقدر مباشرة الحس الذي يشارك فيه الحيوان غير الناطق.
ويضرب المثل على ذلك بجموع الآيات الشهيرة من آخر سورة يس التي تحاجج ضد إنكار حشر الأجساد وكأنها جدل بين الرسول والمفكرين عندما سألوه يا محمد: من يحيي العظام وهي رميم؟ وقد استعاد القرآن السؤال في الإجابة
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، وهو ما يسمى فيما بعد في المنطق دليل الأولى؛ فالقادر على الأقل يكون قادرا على الأكثر. وجمع المتفرق أسهل من صنعه وإيداعه. بل إن الله قادر على إخراج الشيء من نقيضه، الحياة من الموت، والنار من الأخضر
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ، وبعد المثل يأتي الممثول، وبعد المقدمة تأتي النتيجة
أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ، والإجابة البديهية على ذلك
بلى وهو الخلاق العليم . وهكذا يتحول الموروث الأول إلى حجة، والنقل إلى عقل، والنص إلى منطق.
6
وتنتقل الآيات من مجرد إثبات حشر الأجساد كقضية جزئية إلى إثبات الخلق وهي القضية الكلية؛ فالخلق من لا شيء أصعب من البعث من لا شيء، والقادر على البعث أقدر على الخلق، وأقل في الزمان والجهد لأنه جل ثناؤه لا يحتاج إلى مدة لإبداعه وإخراج الأيس من الليس
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، جل ثناؤه وتعالت أسماؤه عن ظنون الكافرين.
7
وتأتي الشواهد اللغوية لإحكام الاستدلال المنطقي. إذ يستعمل في لغة العرب مخاطبة ليس أي المعدوم. وتستعمل للشيء في الوصف ما ليس له في الطبع.
8
ويظهر الأسلوب العربي المحلي في مخاطبة القارئ؛ فالرسالة موجهة إليه بإجابة على سؤاله؛ فالعرض استجابة لسؤال أي تلبية لدافع الفهم.
9
ثم يبدأ الجزء الثاني من الرسالة حتى ليبدو مكررا ولكن لبيان غرض هذه العلوم والمصنفات من أجل التفلسف وليس من أجل التعلم. فالنقل وسيلة للإبداع ومقدمة له. فإذا كان الجزء الأول قد تعرض للمادة أي الأشياء ذاتها فإن الجزء الثاني يعرض للغاية، غاية كل علم ومصنف عونا على فهمها. الأول وصف والثاني إيضاح. وأفضل فهم وتوضيح ما كان بالغاية والقصد من أجل التوجه نحو العمل والتحول من الفكر إلى السلوك، ومن الفهم إلى الفعل، بل ومن الظن إلى اليقين، ومن الثبات إلى الحركة. فعرض قاطيغورياس القول في المقولات المفردة العشرة في بدايتها مثل الجوهر والعرض، الحامل والمحمول، الجوهر الأول المحسوس والجواهر الثواني غير المحسوسة والمقولة على المحسوس، في وسطها وهي العشرة أعيان، وفي نهايتها مثل التقدم والحركة والمعية. وغرض باريامينياس أي التفسير، القضايا المقدمات للمقاييس العملية أي الجوامع، فهي إما موجبة أو سلبية أي مقدمات الأقيسة، في البداية الاسم والفعل والحرف والقول بالتعريف والخبر أو في الوسط مثل تأليف القضايا من شيئين اسم وحرف أو ثلاثة اسم وحرف وظرف زمان أو أربعة بإضافة الجهة، وفي النهاية لمعرفة أشد القضايا تناصبا أي تقابلا، الموجبة والسالبة أم الموجبة الموجبة المضادة لها، وغرض أنالوطيقا الإبانة عن الجوامع المرسلة وهي أقوال نضع منها أشياء، ويظهر منها شيء آخر لم يكن ظاهرا من قبل. وأقل تأليف للجامعة قضيتان مشتركتان في حد أوسط تظهر منهما نتيجة لم تكن ظاهرة من قبل. ولها ثلاثة أنواع من التراكيب: الأول أن يكون الحد المشترك موضوعا لأحد الطرفين محمولا للآخر، والثاني أن يكون محمولا للطرفين، والثالث أن يكون موضوعا للطرفين. فتكون الجوامع ثلاثة أنواع؛ الأول أن تكون الجوامع صادقة أبدا وهي البرهانية أو أن تكون صادقة أو كاذبة وهي الجدلية أو أن تكون كاذبة أبدا وهي السوفسطائية على الترتيب من الأشرف إلى الأخس. ومعنى أنالوطيقا النقض، وغرض أفوديقطيقي أن تعطي الجوامع البرهان ولا تحتاج أوائل البرهان إلى برهان؛ إذ هي ثابتة في العقل والحس، وغرض طوبيقي الجوامع الجدلية ومواضع القول التي توجب وجوبا آخر، والغلط الحاد فيها، والإبانة عن الأسماء الخمسة، الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، والحد. هنا يدخل الكندي مقدمة فرفوريوس في الجدل. وغرض سوفسطيقي القول على المغالطة في وضع الجوامع أي القضايا، بلا شرائط القضايا المقدمات التي تؤلف منها الجوامع، في البداية لرصد أنواع المغالطة أو في النهاية للاحتراس من الوقوع فيها. وغرض ريطوريقي القول في أنواع الأقاويل الثلاثة الإقناع في الحكومة وفي المشورة وفي الحمد والذم الجامع لهما التقريظ. وغرض بوييطيقي القول في صناعة الشعر والأوزان في كل نوع كالمدح والهجاء والمراثي.
أما الكتب الطبيعية فغرض «الخبر الطبيعي» الإبانة عن الأشياء العامة لجميع الأشياء الطبيعية، العلل والأوائل والبخت والخلاء والمكان والزمان والحركة. وغرض «السماء» هيئة الكل، وانفصال الأجرام الأولى الخمسة، أحوالها الطبيعية وعوارضها وخصائصها الذاتية والعامة وعللها. وغرض الكون والفساد القول على الكون والفساد المرسل؛ أي الإبانة عن مائية الكل والفساد الكلي، وغرض «العلوي» أي الآثار العلوية الإبانة عن علل وكون كل كائن فاسد ما بين حضيض فلك القمر إلى مركز الأرض، في الجو وعلى الأرض وما في بطنها قولا كليا عن الآثار العارضة فيها. وغرض «المعدني» الإبانة عن علل الأجرام المتكونة في باطن الأرض، كيفياتها وخواصها الذاتية والعامة ومواضعها، وغرض «النباتي» الإبانة عن علل كون النبات وكيفياته الخاصة والعامة ومواضعه. وغرضه «الحيواني» الإبانة عن علل كون الحيوان، طبائعه وخواصه الذاتية والعامة وعلل أعضائه ومواضعه وحركاته.
أما الكتب النفسانية فإن غرضه في كتاب «النفس» الإبانة عن ماهيتها وكل واحد، قواها وفصولها وعوامها وخواصها، وتفصيل حواسها وأنواعها. وغرض «الحس والمحسوس» الإبانة عن علل المحسوسات. وغرض «النوم واليقظة» الإبانة عن ماهية النوم وكيفيته وعلل الرؤيا. وغرض «طول العمر وقصره» ما يدل عليه الاسم. وغرض كتاب ما بعد الطبيعة الإبانة عن الأشياء القائمة بغير طينة أي مادة ومع الطينة الذي لا يتواصل أو يتحد معها، وتوحيد الله «جل تعالى» والإبانة عن أسمائه الحسنى، وأنه علة الكل الفاعلة والمتممة. فهو الكل وسايس الكل بتدبيره المتقن وحكمته التامة. وهنا يتم تعشيق الوافد في الموروث، تعشيق ما بعد الطبيعة في التوحيد بألفاظه ومصطلحاته.
وينتهي الكندي عرض الموضوعات بعرض أغراض الكتب الخلقية والسياسية. فغرض الأخلاق إلى نيقوماخوس بيان أخلاق النفس وسياستها بالأخلاق الفاضلة وبعدها عن الرذيلة. وقسم السياسة الخلقية إلى أنواع، الخاصة والغريبة والمدنية. وفصل الأخلاق والآلام اللاحقة بكل نوع وبيان أن السعادة هي الفضيلة، في كل أوان، وأن الفضيلة في النفس والبدن وما خرج منها. وغرض بوليطيقي أي المدني الذي كتبه إلى بعض إخوانه يشبه غرض الأخلاق ولكن مطبقا في السياسة المدنية. بل وتتداخل المقالات بينهما.
10
ويحيل الكندي إلى باقي مؤلفاته. فيحيل إلى «كتابنا الأعظم في التأليف»، عندما يعرض للتأليف من العلوم الرياضية، والذي أظهر ما يكون في الأصوات. كما يحيل إلى باقي عرضه للعلوم بوجه عام دون إحالات إلى علم أو كتاب خاص لمزيد من التفصيل.
11
وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والاحتساب على الله فهو نعم العون تتخللها العبارات الإيمانية مثل «جود الجايد بكل خير، وحسن معونته، جل وتعالى علوا كبيرا.» وتنتهي أيضا بالسؤال بالتوفيق لكل خير، والدعوة للتحصين من كل ضر، مع الحمدلة والصلاة على الرسول وآله أجمعين.
12 (2) جمع المذهبين
والمرحلة المتوسطة في العرض الكلي هو الجمع بين مذهبين مثل أفلاطون وأرسطو في منظور كلي واحد شامل. وتلك هي دلالة محاولة الفارابي «الجمع بين رأيي الحكيمين»
13
فيعرضها على طريق الإيجاز. لذلك تتميز بالوضوح والقدرة على الاختصار، والرؤية الثاقبة، والتعرف على خصائص المذهبين. وهما اختياران متكاملان وحلان على التبادل لإشكال واحد. يترك الاستطراد والدخول في مذهب كل منهما لأنه ليس المقصود.
14
وبطبيعة الحال لا يذكر إلا الوافد دون الموروث. ويأتي أرسطو في المقدمة ثم أفلاطون ثم الإسكندر ثم سقراط ثم الإسكندر الأفروديسي وأمونيوس ثم ثامسطيوس وفرفوريوس وإيرقليطوس، ومن الفرق الإسكلائيين.
15
والدافع على التأليف هو أن «أكثر أهل زماننا» قد خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه وادعوا أن الحكيمين المقدمين المبرزين اختلفا في المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي النفس والعقل وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الموضوعات المدنية، والخلقية والنطقية؛ فالبداية من الواقع وحياة الناس. وتشعب الآراء والموضوعات إسلامية صرفة، خلق العالم، والمعاد، وبعض المسائل الشرعية، واختلاف أهم فيلسوفين يونانيين في ذلك أفلاطون وأرسطو؛ فالعقلاء أولى بالاتفاق من الاختلاف. ليس الدافع إذن التوفيق أو مجرد تمرين عقلي بل وحدة المعرفة الإنسانية، واتفاق العقل والنقل، اليونان والقرآن، وحدة الحقيقة العقلية بين العقلاء مثل أفلاطون وأرسطو، وبين الحقيقة العقلية والحقيقة السمعية، فلا فرق بين الوحي والعقل، بين الشريعة والحكمة، بين وحي الأنا وعقل الآخر، ويمكن اجتماع الحضارات على حقائق إنسانية واحدة بصرف النظر عن طرق المعرفة الحقيقة واحدة والطرق إليها مختلفة. يريد الفارابي بيان أوجه الاتفاق بينهما حتى يزول الشك من قلوب الناس، وبيان أسبابه. فالفلسفة هي العلم بالموجود بما هو موجود. ومن ثم يطبق الفارابي هذا التعريف لمعرفة حقيقة آراء أفلاطون وأرسطو في ذلك، عودا إلى الأشياء ذاتها بإجماع الآراء واتفاق الحكيمين المبرزين بل وجميع العقلاء ومطابقة ذلك بالوجود؛ فالتصديق نوعان؛ اتفاق العقلاء فيما بينهم، ثم تطابق آرائهم مع الواقع. فالعقل والواقع مقياسان للحقيقة التي يعلنها الوحي عطاء وهبة.
16
وهناك احتمالات ثلاثة للاختلاف بين الحكيمين؛ الأول أن يكون حد الفلسفة غير صحيح، وهو العلم بالموجود بما هو موجود، أي وجود موضوع تتلاقى عليه الآراء، وجود حقيقة موضوعية يتفق عليها العقلاء. أما إذا كانت الفلسفة مجرد هوى أو رأي فما أكثر الأهواء والآراء، أي النسبية التي تضحي بالموضوعية، المعرفة التي تغفل الوجود حتى تبقى المعرفة وحدها مجرد شكوك وظنون دون معيار للتصديق بينها. والحد صحيح، مطابق الصناعة الفلسفة. ويتبين ذلك من إحصاء جزئيات هذه الصناعة؛ فالعلوم إما إلهية أو طبيعية أو منطقية أو رياضية أو سياسية، والفلسفة هي المستنبطة لها حتى إنه لا يوجد علم إلا وللفلسفة فيه رأي بمقدار الطاقة الإنسانية عن طريق القسمة المأثورة عن أفلاطون. ولما رأى أرسطو أن أفلاطون قد أكمل القسمة فإنه أخذ منهجا آخر هو القياس وهذبه في البرهان ليتمم القسمة؛ ومن ثم كان المنطق هو المدخل للطبيعيات والإلهيات. قصد الحكيمان إذن معرفة العالم على ما هو عليه دون زخرفة أو إغراب أو تكلف. حد الفلسفة إذن صحيح؛ إنها العلم بالموجود بما هو موجود.
والاحتمال الثاني أن يكون رأي الجميع أو الأكثرية في هذين الفيلسوفين سخيفا غير معقول ودخيل. وهو احتمال بعيد. فقد أجمع العقلاء على أن هذين الحكيمين مبرزين. وليس أقوى من شهادة الجميع على شيء واحد؛ فكما أن العقل حجة فإن إجماع العقلاء حجة، وهو إجماع عن عقل لا عن تقليد. قد يخطئ عقل واحد إذا لم يتدبر الرأي ولم يتحقق من صدقه أو أهمل في البحث مما قد يغطي ويعمي ويخيل. ولكن لا تخطئ عقول الجميع بعد اتفاقها وتأملها. لذلك اتفقت الألسنة - أي الشعوب المختلفة - على تقديم هذين الحكيمين. ويضرب بهما المثل على التفلسف، وإليهما يساق الاعتبار، وعندهما يتناهى الوصف العميق والعلوم والاستنباطات والغوص في المعاني.
والاحتمال الثالث أن يكون هناك تقصير في معرفة الظانين بأن بينهما خلافا في الأصول، وهو الاحتمال الأقرب. ولكل تقصير في الظن والنظر دوافعه وأسبابه. ويمكن القضاء على هذا الظن أو التقصير بمعرفة طرق اليقين؛ فاليقين في العلوم الطبيعية والشرعية والأخلاقية؛ ومن ثم يمكن استقراء الجزئيات التي يبدو عليها الخلاف بين الحكيمين حتى يصح الحكم بالاختلاف أو الاتفاق.
17
ويحصي الفارابي اثني عشر موضعا للاختلاف الظاهري بين أفلاطون وأرسطو ويبدده ويبين اتفاقهما فيها؛ فالحقيقة مزدوجة، ذات جانبين. أخذ كل منهما جانبا ليكمل الآخر في رؤية متكاملة متزنة متعادلة عند الفارابي وسابقة على رأي الحكيمين. أخذ كل حكيم رأيا أحادي الجانب وجمع الفارابي الرأيين الأحادي الجانب الذي يغلب على ثقافة الوافد في رؤية متكاملة تغلب على ثقافة الموروث. العقل اليوناني أحادي والوحي الإسلامي تكاملي، على النحو الآتي : (1)
لكل من الحكيمين سيرة وأفعال مختلفة مما أدى إلى أقوال متباينة لما كانت السير والأفعال والأقوال تابعة للاعتقاد. وهو منظور إسلامي، ربما كان الاختلاف بينهما أعمق في أصول الاعتقاد؛ فقد تخلى أفلاطون عن كثير من الأمور الدنيوية وحذر من غوائلها، في حين أن أرسطو تفحص فيها وامتلك وتزوج واستوزر للإسكندر. ولا خلاف في ذلك؛ فقد اعتنى أفلاطون بالسياسة، وهذب السير العادلة والعشرة الإنسية المدنية، وأبان فضائلها، وكشف عن مفاسدها بترك العشرة وإيثار العزلة، وهو ما تدرسه الشعوب حتى اليوم، ابتدأ بالنفس ثم انتهى بالجماعة، طبقا للأولويات في الأهمية؛ فالأخلاق قبل السياسة، والنفس قبل العالم. أما أرسطو فقد بدأ بالسياسة وبالعالم. ولما اطمئن إليها توجه إلى النفس والأخلاق؛ فنقطة البداية عند أفلاطون هي نقطة النهاية عند أرسطو، ونقطة النهاية عند أرسطو هي نقطة البداية عند أفلاطون. الخلاف بينهما في إدراك الأولويات طبقا لتباين القوى الطبيعية بين الحكيمين، زيادتها في أحدهما ونقصها في الآخر، وهو تصور إسلامي إيثارا للنفس على العالم، وللأخلاق على السياسة
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
أو في قول المسيح ماذا تكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟ (2)
آثر أفلاطون عدم تدوين العلوم وتأليف الكتب، وفضل إبقاءها في الصدور والعقول. ولما خشي عليها من النسيان عبر عنها بالرموز والألغاز حتى لا يطلع عليها إلا أهلها ومستحقوها، وهي طريقة «المضنون به على غير أهله»، وسبب استعمال الصوفية أيضا رموزهم وألغازهم حماية لأنفسهم وإبعادا لأهل الظاهر عنها. أما أرسطو فقد دون الكتب ورتبها وبينها وأوضحها لإيصالها للناس. والحقيقة أن هذا الاختلاف ليس كليا مطلقا؛ فعند كل من الحكيمين بعض مآثر الآخر. ألغز أرسطو وأخفى بعض علومه، وحذف كثيرا من المقدمات الضرورية في القياسات الطبيعية والإلهية والخلقية، وكان يقول الحقائق إلى المنتصف حتى يدرك الناس بعقولهم النصف الآخر. استعمل هذه الطريقة في رسائله مع الإسكندر «وكل لبيب بالإشارة يفهم». يعطي المقدمات كي يستنبط الإسكندر النتائج أو يعطي النتائج حتى يستنبط الإسكندر المقدمات. يذكر مقدمات ويستنبط منها نتيجة أخرى حتى ينبه القارئ على نتيجة القياس. يذكر الجزئيات حتى يستقريها القارئ ويصل إلى الكليات أو يعطي الكليات حتى يستنبط السامع منها الجزئيات أو يقيس عليها جزئيات أخرى قياسا تمثيليا. وقد يغمض في كلامه حتى يقوم القارئ بالإيضاح بنفسه وإعمال الجهد في العلم والتعلم. رتب الكتب ونظمها، وكأن ذلك طباع له ثم تحول عنها في رسائله، وكما وضح ذلك في رده على أفلاطون في رسالته التي يعذله فيها على تدوين العلوم وإخراجها للناس بأن ترتيبها لا يفهمه إلا من يستحقها؛ فالظاهر أن الحكيمين مختلفان. والحقيقة أن مقصودهما واحد.
18 (3)
وقدم الجوهر عند أفلاطون غير قدمه عند أرسطو؛ ففي «طيماوس» و«بوليطيا الصغير» أشرف الجواهر عند أفلاطون وأقدمها القريبة من العقل والنفس البعيدة عن الحس والمشاهدة، في حين أنها عند أرسطو في «المقولات والقياسات الشرطية» أي القياس الأشخاص والأعيان. وهو خلاف في الظاهر لأن الحكماء يفرقون بين الأقاويل والقضايا في الصناعات المختلفة. ويتكلمون على الشيء الواحد بطرق مختلفة حسب مقتضى الصناعة. جعل الحكيم أرسطو الجوهر الشخص في صناعة المنطق وفي علم الطبيعة فتصوره جوهرا محسوسا. أما الحكيم أفلاطون فقد تكلم عن الجوهر في علم ما بعد الطبيعة وفي الأقاويل الإلهية. فتصور الجوهر بسيطا باقيا لا يتحول ولا يندثر. الفرق بين الحكيمين هو فرق بين العلمين. (4)
وإذا كان أفلاطون قد آثر في توفية الحدود طريق القسمة في حين أن أرسطو آثر طريقة البرهان والتركيب؛ فالحقيقة أن الخلاف في المنهج وليس في الموضوع، في الطريقة وليس في الشيء. أفلاطون يؤثر القسمة التي هي أقرب إلى الاستنباط، والانتقال من الكلي إلى الجزئي في حين أن أرسطو يؤثر التركيب أي البرهان وهو أقرب إلى الاستقراء والانتقال من الجزئي إلى الكلي. يتبع أفلاطون الجدل النازل في حين يتبع أرسطو الجدل الصاعد. الخلاف في اتجاه الحركة نحو الموضوع والاقتراب منه من أعلى كما يفعل أفلاطون أو من أسفل كما يفعل أرسطو، من علم ما بعد الطبيعة والعلم الإلهي كما يفضل أفلاطون، أو من علم الطبيعة وعلم المنطق كما يفضل أرسطو . يستعمل أرسطو بعض القسمة كما هو الحال في القياس، ويستعمل أفلاطون بعض التركيب عندما يقسم العام إلى فصلين ذاتيين ثم كل فصل ذاتي إلى فصلين ذاتيين. القسمة تركيب مقلوب إلى أسفل كما أن التركيب قسمة مقلوبة إلى أعلى. الهدف واحد هو الوصول إلى الشيء سواء من جنسه ونوعه كما يفعل أفلاطون أو من فصله وخاصته وأعراضه كما يفعل أرسطو.
19 (5)
قيل إن أفلاطون في القياس المختلط من الضروري والوجودي جعل المقدمة الكبرى ضرورية والنتيجة وجودية لا ضرورية في قياس أتى به في «طيماوس»؛ فالوجود أفضل من الوجود، والطبيعة تشتاق إلى الأفضل دائما فينتج عن ذلك أن الطبيعة تشتاق إلى الوجود وهي مقدمة ليست ضرورية؛ فلا ضرورة في الطبيعة. في وجود الطبيعة على الأكثر في حين أن أرسطو يصرح في كتاب «القياس» أن القياس الذي تكون مقدماته مختلطة من الضروري والوجودي وتكون الكبرى ضرورية تكون النتيجة أيضا ضرورية. وهو خلاف ظاهر بين الحكيمين. والحقيقة أن هذا الخلاف يرجع إلى الشراح «الإسكلائيين» مثل أمونيوس حتى ثامسطيوس اللذين نسبا هذا القول إلى أفلاطون، لقلة تمييزهم وخلط صناعة المنطق بالعلم الطبيعي؛ فقد رأوا لزوم الحد الأول للأوسط ضروريا ولزوم الأوسط للآخر وجوديا. خلطوا بين المنطق والطبيعة، ولم يعرفوا أن القياس مؤتلف من موجبتين في الشكل الثاني. وقد لخص الإسكندر ذلك في «معنى القول على الكل» عند أرسطو ولخصه الفارابي في «أنولوطيقا»، وفرق بين الضروري القياسي والضروري البرهاني؛ ومن ثم فلا خلاف بين أفلاطون وأرسطو. كما ادعى الشراح أن أفلاطون يستعمل ضربا من القياس في الشكلين الأول والثالث الذي فيه المقدمة الصغرى سالبة في حين أن أرسطو بين في «أنالوطيقا» أنه غير منتج. وقد بين الفارابي من قبل أن الذي أتى به أفلاطون في كتاب «السياسة» وأرسطو في كتاب «السماء والعالم» ليست سوالب بل موجبات معدولة ولا تمنع القياس أن يكون منتجا. ذكر أرسطو في الفصل الخامس من كتاب «باري هرمنياس» أن الموجبة التي المحمول فيها ضد من الأضداد تكون سالبته أشد مضادة. وظن الناس أن أفلاطون يخالفه في ذلك اعتمادا على أقاويله السياسية والخلقية من أن الأعدل متوسط بين الجود والعدل، والحقيقة أن الغرضين مختلفان. فغرض أرسطو بيان معاندة الأقاويل وأنها أشد وأتم معاندة، فمن الأمور ما لا يوجد فيها مضادة ألبتة في حين أنه لا يوجد أمر إلا وله سالب معاند. غرض أفلاطون بيان المعاني السياسية ومراتبها لا معاندة الأقاويل وهو ما بينه أيضا أرسطو في «نيقوماخيا الصغير». فلا خلاف بين الحكيمين.
20 (6)
ويختلف رأيا أفلاطون وأرسطو في موضوع الإبصار؛ إذ يرى أرسطو أن الإبصار يكون بانفعال من البصر، بينما يرى أفلاطون أن الإبصار يكون بخروج شيء من البصر وملاقاة المبصر. وزاد الأئمة - أي المفسرون - الخلاف، وشنع كل فريق على الآخر. شنع أنصار أرسطو على أفلاطون؛ فالخروج لا يكون إلا للجسم هواء أو ضوءا أو نارا. وكلها موجودة بين البصر والمبصر، ولا حاجة إلى خروج من الذات إلى الموضوع فيتم التشنيع بسوء استعمال لفظ خروج. وشنع أصحاب أفلاطون «على أرسطو وحرفوا لفظ الانفصال بأنه تأثر واستحالة وتغير في الكيفية، إما في البصر أو في الجسم بين البصر والمبصر؛ فالاستحالة في العضو تكون في الحدقة إلى ما لا نهاية أو في بعضها مما يجعلها مفصلة. وإن كان في الجسم الوسيط لزم أن يكون قابلا للضدين، واحتج أصحاب أرسطو بأنه لو لم يكن الانفصال في الجسم لما أمكن للبصر أن يرى الأشياء البعيدة، واحتج أصحاب أفلاطون بإدراك القريب قبل البعيد. ولو كان الأمر على ما قاله أرسطو للزم أن تكون المسافة بين البصر والمبصر مضيئة لتحمل الألوان. ويرى الفارابي أن الأمر على التوسط وليس على التطرف والعصبية. وقد اضطر الفريقان لاستعمال لفظ الخروج أو لفظ الانفصال بالرغم من ضيق اللغة فوقعوا في التشبيه، أما ذوو العقول الصحيحة فإنهم لا يقعون في هذا التشنيع والتعصب وسوء تأويل الألفاظ.
21 (7)
ويختلف الحكيمان في أمر النفس؛ إذ يرى أرسطو في «نيقوماخيا» أن الأخلاق عادات تتغير ولا شيء منها بالطبع، ويمكن التنقل منها بالاعتياد والدربة. بينما يصرح أفلاطون في كتاب «السياسة » وفي «بوليطيقا» بأن الطبع يغلب العادة، وأن الشيوخ إذا ما طبعوا على شيء يعسر زواله عنهم، وإذا ما حاولوا ازداد فيهم تماديا. ولا يوجد خلاف في الحقيقة بين الرأيين لأن أرسطو يتكلم عن الأخلاق كما شرح الفارابي من قبل هذا الكتاب. وإن كان يتكلم عن الأخلاق كما شرح فرفوريوس فإن كلامه على القوانين الخلقية. وهو كلام كلي ومطلق عن تغير الأخلاق والعادات كما هو ملاحظ في التربية. فلا شيء فيها متعلق بالطبع لا يخضع للتغير والتبدل. أما أفلاطون فإنه ينظر إلى السياسات أيها أنفع وأيها أضر، فينظر في أحوال الفاعلين. لذلك لجأ إلى الطباع التي يسهل تنقلها عند البعض ويصعب عند البعض الآخر وكما صرح أرسطو بذلك في «نيقوماخي» الصغير. فلا خلاف بين الحكيمين إلا في ظاهر القول وعندما ينظر إلى كل قول على انفراد وإخراجه من السياق وعن مرتبة علمه. والحقيقة أن الأمر على التوسط، فمهما كانت النفس متخلقة ببعض الأخلاق ثم قامت باكتساب خلق جديد كانت الأخلاق التي معها كالأشياء الطبيعية والجديدة كالأشياء الاعتيادية ثم تحولت إلى طبيعية باكتساب خلق ثالث اعتيادي وهكذا على التوالي.
22
وهو معنى قول أفلاطون إن الأخلاق منها طبيعي ومنها مكتسب، وليست طبيعة بالحقيقة لا يمكن زوالها؛ فهو قول شنيع يناقض ظاهر اللفظ. الفارابي هنا أقرب إلى أرسطو القائل بالاكتساب والاعتياد منه إلى أفلاطون القائل بالطبع.
23 (8)
وقد أورد أرسطو في كتاب البرهان شكا، أن الذي يطلب علما إما أن يطلب ما يجهله فكيف يوقن أن ما طلبه يكون علما؟ وإما أن يطلب ما يعلمه فلا يكون طلبه علما؛ ومن ثم ينتفي العلم كما يقول الشكاك، ومن يطلب علم شيء إنما يطلب في شيء آخر ما قد وجد في نفسه محصلا، إلحاقا للمجهول بالمعلوم، وإذا كان المعلوم في النفس فما وجه الحاجة إلى المجهول الذي يحيل إليه؟ وقد بين أفلاطون في «فإذن» أن العالم تذكر معتمدا على حجج سقراط. هنا لا يختلف أرسطو عن أفلاطون، ولكن توهم الناس أن ذلك تجاوز للحد خاصة من يقولون ببقاء النفس بعد مفارقتها البدن. فقد أفرطوا في التأويل، وحرفوا الأقاويل، وأجروها مجرى البراهين مع أن أفلاطون يروي عن سقراط لتصحيح أمر خفي بعلامات ودلائل، والقياس بعلامات لا يكون برهانا كما قال أرسطو في «أنالوطيقا» الأولى والثانية. كما أفرطوا في التشنيع على مدى الخلاف بين الحكيمين، وأغفلوا قول أرسطو في كتاب «البرهان» بأن كل تعليم أو تعلم يكون عن معرفة متقدمة أو مندرجة تحت علوم كلية وهو ما يتفق مع أفلاطون. ومن البين أن نفس الطفل عاملة بالقوة، تدرك بالحواس الجزئيات، وعنها تحصل الكليات، وهي العلوم على الحقيقة التي تحصل عن قصد. وقد جرت العادة وجعلها متقدمة على الإدراك الحسي وتسمى أوائل المعارف ومبادئ البرهان، وقد بين أرسطو في كتاب «البرهان» أن «من فقد حسا فقد علما». ولما كانت المعارف تحصل في النفس بغير قصد فقد لا يتذكرها، ويتوهم أنها لم تزل في النفس، وأنها لا تعلم إلا من الحس، فإذا حصلت في النفس أصبحت النفس عاقلة، فليس العقل إلا التجارب. وكلما زادت كانت النفس أتم عقلا. فإذا ما اشتاق الإنسان إلى معرفة شيء اشتاق إلى معرفة أحواله. وما تقدمت معرفته في النفس يزول عنه الجهل والحيرة، وهذا ما قاله أفلاطون من أن التعلم تذكر، وأن التذكر تكلف العلم. وهو ما عرضه أرسطو في آخر كتاب «البرهان» وكتاب «النفس» الذي شرحه المفسرون، وهو قريب مما قاله أفلاطون في «فإذن» إلا أن بين الموضعين خلافا؛ فأرسطو يذكر ذلك عندما يريد إيضاح أمر العلم والقياس في حين أن أفلاطون يذكره عندما يريد إيضاح أمر النفس. (9)
وفي قدم العالم وحدوثه وهل له صانع وعلة فاعلة يظن البعض أن أرسطو يرى أن العالم قديم في حين يرى أفلاطون أن العالم محدث. وهو ظن قبيح مستنكر بأرسطو دعا إليه قوله في كتاب «أناطوبيقا» أنه قد توجد قضية واحدة يمكن أن يؤتي على كلا طرفيها قياس من مقدمات ذائعة؛ مثل أن العالم قديم أو ليس بقديم. وأرسطو بذلك يقرب المثال ولا يقول على جهة الاعتقاد. لم يكن غرضه في «طوبيقا» بيان أمر العالم بل بيان أمر القياسات المركبة من المقدمات الذائعة. كان أهل زمانه يتناظرون: هل العالم قديم أم محدث؟ هل اللذة خير أم شر؟ وكانوا يذكرون في كل مسألة قياسات ذائعة مشهورة. والمقدمة المشهورة فيها الصدق والكذب. كما دعاهم إلى ذلك ما ذكره أرسطو في كتاب «السماء والعالم» من أن الكل ليس له بدء زماني، فظنوا أنه يقول بقدم العالم. وهو ظن غير صحيح؛ فقد تبين في الكتب الطبيعية والإلهية أن الزمان عدد حركة الفلك. وأن ذلك الزمان حادث عن حركة الفلك. فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني. إذن هو من إبداع الباري جل جلاله دفعة واحدة بلا زمان وحركة حدثت عنه. ومن نظر في أقواله في الكتاب المعروف بأثولوجيا لم يشتبه عليه الأمر في إثبات الصانع المبدع للعالم. فقد أبدع الباري جل ثناؤه الهيولي من لا شيء وأنها تجسمت وترتبت عن الباري سبحانه وعن إرادته. كما بين في «السماع الطبيعي» أن الكل لا يمكن حدوثه بالبخت والاتفاق. ويستدل على ذلك بالنظام البديع في أجزاء العالم في كتاب «السماء والعالم». كما بين أرسطو أمر العلل وعددها، وأثبت الأسباب الفاعلة، وأن الكون هو المحرك غير المتكون والمتحرك. وهو ما بينه أفلاطون في «طيماوس» أن كل متكون يكون عن علة مكونة اضطرارا وأن المتكون لا يكون علة لذاته كما بين أرسطو في «أثولوجيا» وجود الواحد في الكثرة، وبرهن على ذلك ببراهين واضحة مما يبين أن أجزاء العالم حدثت كلها من إبداع الباري لها، وأنه عز وجل هو العلة الفاعلة الواحد الحق ومبدع كل شيء. وهو ما بينه أفلاطون في كتبه عن الربوبية مثل «طيماوس» و«بوليطيا». كما بين أرسطو في حروفه في «ما بعد الطبيعة» كيف يترقى فيها من الباري جل جلاله في حرف اللام ثم يعود إلى بيان صحة مقدماته. كيف بعد كل هذا يقال إن أرسطو يقول بنفي الصانع وبقدم العالم؟ ولأمونيوس رسالة يذكر فيها أقاويل الحكيمين في إثبات الصانع لم يذكرها الفارابي لشهرتها. وهو الطريق الأوسط دون إفراط أو تفريط، وليس لأحد من أهل المذاهب والنحل والشرائع من العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وتلخيص أمر الإبداع ما لأرسطو وأفلاطون. وليس لهم إلا قدم الطبيعة وبقاؤها، وأن في الأصل كان الماء أو التراب أو الهواء أو النار، وما يقوله اليهود والمجوس وسائر الأمم فيه استحالة وتغاير وهي أضداد الإبداع مما ينتهي إلى طرح السموات والأرض في جهنم ويؤدي إلى التلاشي المحض. لولا أنقذ الله العقول والأذهان بهذين الحكيمين وأتباعهما ممن أوضحوا أمر الإبداع بحجج مقنعة وإيجاد الشيء عن لا شيء وأن كل ما يتكون من شيء فهو فاسد. والعالم مبدع من غير شيء فحاله إلى غير شيء. وكتبهما مملوءة بشواهد الربوبية ومبادئ الطبيعة لكن الناس في حيرة ولبس. وهو ما يتفق مع الأقاويل الشرعية وأنها في غاية السداد والصواب، أن الباري جل جلاله مدبر جميع العالم، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا يفوت عنايته شيء من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن الكلية شاملة في الجزئيات، وأن كل شيء من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن العناية الكلية شائعة في الجزئيات، وأن كل شيء من أجزاء العالم وأحواله موضوع بأدق المواضيع وأتقنها.
24
كما يدل على ذلك علم التشريح ووظائف الأعضاء والأقاويل الطبيعية حتى يثبت الإتقان والإحكام وينتقل من الطبيعيات إلى البرهانيات. وهي موكولة لأصحاب الأذهان الصافية والعقول المستقيمة، والسياسات وهي موكولة إلى ذوي الآراء السديدة، والشرعيات موكولة إلى ذوي الإلهامات الروحانية. والشرعيات أعمها، وألفاظها خارجة على مقادير علوم المخاطبين الذين لا يؤاخذون بما لا يطيقون تصوره. وينتقل الفارابي من إثبات حدوث العالم إلى إثبات التنزيه ونفي الجسيمة عن الله والزمان والحركة وضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم. فطرق البراهين الخالصة لا يعرفها إلا الفلاسفة وفي مقدمتهم أفلاطون وأرسطو. أما البراهين المقنعة المستقيمة العجيبة النفع؛ فمنشؤها عند أصحاب الشرائع الذين عوضوا بالإبداع الوحي والإلهام، وهو ما يتفق مع رأيي الحكيمين ولا يتصور اختلافهما فيه.
25 (10)
ويقال إن أفلاطون يثبت الصور أي المثل بينما ينفيها أرسطو؛ إذ إن أفلاطون يوحي في كثير من أقاويله أن للموجودات صورا مجردة في عالم الإله، وربما يسميها المثل الإلهية. لا تفسد ولا تندثر مثل الموجودات الكائنة. وأرسطو في حروفه، كتاب ما بعد الطبيعة، شنع على هذه الأقاويل، وبين ما يلزمها من الشناعات لم يذكرها الفارابي لطولها ولشهرتها وعدم تكرارها كي يرجع إليها من يريد. إن غرضه فقط إيضاح الطرف الطالب الحق حتى لا يضل في الوقوف على اتفاق الحكيمين بعيدا عن الألفاظ المشككة. وربما يثبت أرسطو في كتابه «الربوبية» المعروف بأثولوجيا الصور الروحانية، وأنها موجودة في عالم الربوبية. وهي أقاويل إذا أخذت على ظواهرها لا تخلو من احتمالات ثلاثة؛ الأول أن يناقض بعضها بعضا، والثاني أن يكون بعضها منتحلا على أرسطو، والثالث أن تكون لها تأويلات على خلاف ظواهرها فتطابق وتتفق. أما احتمال تناقض أرسطو في علم الربوبية فبعيد مستنكر. واحتمال الانتحال أيضا بعيد لأنها أقوال بلغت قدرا كبيرا من الشهرة. لم يبق إذن إلا احتمال التأويل حتى يرتفع الشك وتذهب الحيرة. فلما كان الباري جل جلاله بأنيته وذاته مباينا لجميع ما سواه، أشرف وأفضل وأعلى، لا يناسبه ولا يشاكله ولا يشابه شيء حقيقة أو مجازا، فإنه أحيانا تطلق بعض الألفاظ المتواطئة لا تطلق عليه بل على غيره أو تطلق على نحو أشرف مثل حي وموجود. ومن عرف ذلك من الفلسفة وما بعد الطبيعة سهل عليه أن يفهم ما يقوله أرسطو وأفلاطون في الصور. إذا كان الله تعالى حيا موجودا وجب أن تكون عنده صور ما يريد إيجاده في ذاته، جل الله من كل اشتباه. ولما كان الله لا يتغير كانت الصور كذلك وإلا أوجد العالم على غير قصد وغاية وهو شنيع قبيح. هذا هو قصد الفلاسفة من إثبات الصور الإلهية كأشباح قائمة في أماكن أخرى خارج العالم مما يؤدي إلى القول بوجود عوالم غير متناهية مثل هذا العالم كما بين أرسطو في كتبه الطبيعية وشرحها المفسرون بوضوح. تحتاج الأقاويل الإلهية إلى تدبر شديد. قد تدعو الضرورة أحيانا إلى إطلاق الألفاظ الطبيعية والمنطقية المتواطئة مع تلك المعاني الإلهية الشريفة العالية عن جميع الأوصاف المتباينة والأمور الموجودة على نحو طبيعي؛ فمن الصعب اختراع ألفاظ أخرى سوى ما هو مستعمل منها. يكفي فقط جعل معانيها على نحو أشرف وأعلى مما نتخيله ونتصوره. (11)
وفي أمر النفس والعقل كنتيجة لموضوع الصور ذكر أفلاطون في «طيماوس» أن كل واحد منها عالم غير الآخر، وأنها عوالم متراتبة دون أن يكون لها مكان أو للباري مكان أعلى، فإن ذلك مستنكر عند المبتدئين في التفلسف، والأولى أن يكون كذلك عند المبرزين فيها؛ فالتراتب ليس في المكان بل في الشرف والفضيلة. وعالم العقل مثل عالم الجهل وعالم العلم وعالم الغيب دون حيز. والقول بإفاضة النفس على الطبيعة وإفاضة العقل على النفس يعني إفاضة الصور الكلية من العقل إلى النفس ومن النفس إلى الطبيعة للمعونة واللطف والعناية في حركة الأعلى عند الانطلاق من محبسها بمساعدة البدن الطبيعي شوقا إلى الاستراحة والرجوع إلى ذاتها. كل ذلك رموز وصور وخيالات لها معان تضيق العبارة عن التعبير عنها. لذلك تفهم عبارات الحكيمين على هذا النحو، وأن العقل كما بينه أرسطو في كتاب «النفس» وكذلك الإسكندر وغيره من الفلاسفة أشرف أجزاء النفس، وأنه عقل بالفعل، به تعرف الإلهيات، ويعرف الباري جل ثناؤه؛ فهو أقرب الموجودات إليه شرفا ولطفا وصفاء لا مكانا وموضوعا وحيزا. ثم تتلوه النفس لأنها متوسطة بين العقل والطبيعة؛ إذ لها حواس طبيعية. فهي متصلة من أعلى بالعقل الذي هو متصل بالباري عز وجل، ومتصلة من أسفل بالطبيعة وهو نفس المعنى الذي قصده أفلاطون؛ وبالتالي تزول الظنون والشكوك التي تجعل الحكيمين مختلفين وهما في الحقيقة متفقان على سبيل الألغاز والتشبيه كما صرح بذلك أرسطو في «أثولوجيا» حيث يصرح بأنه عندما يخلو بنفسه ويخلع بدنه يصير كأنه جوهر مجرد بلا جسم وأخلاقي في ذاته، علم وعالم ومعلوم، يرى ذاته في حسن وبهاء، ويعلم أنه جزء صغير من العالم الشريف، ويظل يترقى بذهنه إلى العالم الإلهي فيلمع بالنور والبهاء ما تعجز الألسن عن وصفه، والآذان عن سمعه. فإذا غشاه النور ولم يقو على النظر إليه هبط إلى عالم الفكر حتى يحجب عنه هذا النور، وتذكر أخاه إيرقليطوس حين أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة بالصعود إلى عالم العقل. وهذا يمكن إدراكه بالذهن وراء الألفاظ؛ فهي ألغاز ورموز تحتاج إلى تأويل واجتهاد على عكس ما يحدث في زمن الفارابي من دوافع العصبية وطلب العيوب والوقوع في التحريف والتبديل والعجز عن الكشف والإيضاح.
26 (12)
ويرى البعض اختلاف رأيي الحكيمين في أمر المجازاة والثواب والعقاب وذلك وهم فاسد؛ فقد صرح أرسطو بأن المكافأة واجبة في الطبيعة ويقول في رسالته إلى والدة الإسكندر حين بلغها نعيه وجزعت عليه وشكت في نفسها بأن شهود الله في أرضه هي النفس العالمة التي اتفقت على أن الإسكندر أفضل المتقدمين له آثار ممدودة في أقصى الأرض، ولن يؤتي الله أحدا ما آتاه الإسكندر من اجتباء واختيار واصطفاء من الله. ومن الناس من شهدت عليه دلائل الاختيار ومنهم من لم تشهد عليه. ويعزي أرسطو والدة الإسكندر بأنها ستكون معه في زمرة الأخيار وفي صحبة النفوس الأطهار بعد أن تقدم بنفسها القرابين في هيكل ديوس مما يبين أن أرسطو يقول بالثواب والمجازاة. أما أفلاطون فقد أودع في كتاب «السياسة» القصة الناطقة بالبعث والنشور والحكم والعدل والميزان وتوفية الثواب والعقاب على الأعمال خيرها وشرها.
بعد هذا العرض التفصيلي لأوجه الاتفاق بين رأيي الحكيمين لا يأخذ بأحد العناد الصراح ومتابعة الظنون الفاسدة والأوهام المدخولة واكتساب الوزر بما ينسب إلى هؤلاء الأفاضل مما هم براء وعنه بمعزل.
ويلاحظ على هذه المحاولة: (1)
ليس «الجمع بين رأيي الحكيمين» توفيقا بين متضادين وجمعا بين متناقضين، بل رؤية كلية لرأيين جزئيين، ليس جمعا بعديا صاعدا، بل هو جمع استنباطي نازل. فالحقيقة مكتملة في ذهن الفارابي أولا قبل أن تشد إليها الرأيين المتصارعين. الجمع رد البعدي إلى الهيكلي، والجزئي إلى الكلي السابق عليه. قد لا يكون الجزئي متطابقا مع أفلاطون أو أرسطو ولكن الفارابي ركبه وصوره وتخيله حتى يسهل جمعهما في الكلي في الذهن؛ فالجمع تركيب وبنية أكثر منه ضما لأجزاء متباعدة قد تتفق وقد تختلف. (2)
التقابل بين الحكيمين ليس على الإطلاق وإلا لما كان الجمع ممكنا بل هو تقابل نسبي. عند أرسطو بعض أفلاطون وعند أفلاطون بعض أرسطو فيما اختلفا فيه طبقا لأسطورة «أندروجينوس». كل ذكر به بعض الأنثى، وكل أنثى بها بعض الذكر. الخلاف كمي وليس كيفيا، في الدرجة وليس في النوع. يكون التقريب أحيانا من أرسطو إلى أفلاطون، وأحيانا من أفلاطون إلى أرسطو دون وجود وسط حسابي متناسب بينهما. الغالب هو قراءة أرسطو قراءة أفلاطونية أكثر من قراءة أفلاطون قراءة أرسطية، مما يدل على تفضيل أفلاطون على أرسطو طبقا للفلسفة الإشراقية عند الفارابي، ويدل على ذلك نسبة كتاب أثولوجيا لأرسطو حتى يكون أكثر قربا من أفلاطون في موضوع قدم العالم وحدوثه. يصحح الفارابي رأي أحدهما بالآخر حتى يصل إلى حد التوسط بينهما مثل تصحيح قول أفلاطون في أن العالم تذكر بإخضاعه إلى القياس المنطقي عند أرسطو. (3)
الاختلاف بين الحكيمين ليس في القصد والغاية والهدف والحقيقة، بل في طرق التعبير ووسائل الإيضاح. الاتفاق في المضمون والخلاف في الشكل. الاتفاق في الجوهر والاختلاف في العرض. الخلاف موجود ولا يمكن إنكاره، وهو في نفس الوقت لا يمكن إبقاؤه بل حله. الاختلاف بين الحكيمين في الظاهر وليس في الباطن، في القول وليس في المعنى، في الصياغة وليس في الشيء، والتفرقة بين الظاهر والباطن بين اللفظ والمعنى رؤية إسلامية. (4)
الخلاف بين الحكيمين خلاف في الجهة وليس في الشيء مثل حديث أرسطو عن الجوهر والمحسوس في علم الطبيعة وحديث أفلاطون عن الجوهر العقلي في علم ما بعد الطبيعة. الخلاف بين الحكيمين في الموقف، الأعلى والأدنى، الثابت والمتحول، القديم والحديث، الاستنباط والاستقراء، الجدل النازل والجدل الصاعد، الصوري والمادي، العام والخاص، التحليل والتركيب. وهما طريقان وموقفان ومنهجان متكاملان وليسا على التبادل أو متناقضين. (5)
يرجع الخلاف أحيانا إلى الشراح «الإسكلائيين» وليس إلى أفلاطون أو أرسطو ذاتيهما مثل انتحال أمونيوس وثامسطيوس أن القياس المختلط من الضروري والوجودي. إذا كانت المقدمة الكبرى ضرورية كانت النتيجة وجودية لا ضرورية ونسبة ذلك إلى أفلاطون. وضع المقارنة بين الحكيمين مع الطبيعيين الأوائل في إطار أعم في تاريخ الفلسفة اليونانية، بل ومع سائر الملل والنحل مثل اليهودية والمجوسية خاصة في موضوع قدم العالم وحدوثه. (6)
يزداد الخلاف بالتعصب والتشنيع من كل فريق على الآخر، فالخلاف ليس فقط في الرأي بل يتحول إلى تحزب وتعصب وأهواء بشر وخصام وتشويه كل فريق لرأي الآخر، وانعدام العقل المستقيم والرأي السديد والميل إلى الحق والإنصاف عند الأكثرين. يكون الخلاف بسبب التطرف إلى أقصى حد وأخذ الحد الأقصى لكل فريق مع أن الأمور على التوسط إلى أدنى حد. الحقيقة وسط بين طرفين مثل نظرية الإبصار التي تقوم على الرأيين معا، شعاع من العين إلى الموضوع كما يقول أفلاطون في مقابل شعاع من الموضوع إلى العين كما يقول أرسطو. قد لا يكون هناك خلاف في الرأي بين الحكيمين مثل القول بأن العلم تذكر ولكن المؤولين يدفعون ذلك إلى أقصى حد إلى درجة التشنيع وتصحيح ذلك بأن أفلاطون يروي عن سقراط ولا يعبر عن رأيه الخاص. (7)
يرجع الخلاف إلى سوء استعمال الألفاظ وإلى ضيق العبارات كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة؛ مثل استعمال لفظ خروج وانفعال في نظرية الإبصار بين أفلاطون أو أرسطو، ولما استحال وضع ألفاظ جديدة غير المستعمل منها يكفي فقط إبراز معانيها على نحو أشرف وأعلى مما نتخيله ونتصوره. (8)
يلجأ الفارابي إلى نصوص الحكيمين في كتبهم المختلفة فلعل الخلاف فيها وسوء تأويلها أو تضاربها كما يفعل المفسر في حل التعارض بين الآيات. يرجع الخلاف إلى إخراج القول من السياق وعدم معرفة موضعه ومرتبته في العلم ويحل بإرجاعه إلى سياقه وموضعه وعلمه. (9)
سهولة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو نظرا لنسبة أثولوجيا لأرسطو مما جعله أكثر دينية في موضوع خلق العالم ومتفقا مع أرسطو بالرغم من وضع احتمال انتحاله ثم استبعاده، على عكس ابن رشد الذي يؤكد على الانتحال. تظهر نظرية الفيض كأحد آليات الجمع بين رأيي الحكيمين في الصلة بين العقل والنفس والطبيعة وفيض الأعلى على الأدنى نزولا، وشوق الأدنى إلى الأعلى صعودا. (10)
ما ثبت في النهاية ليس التوفيق بين رأيي الحكيمين بل صحة التصور الإسلامي خاصة حدوث العالم واتفاق الحكيمين مع التصور الإسلامي، وبالتالي اتفاق العقل مع النقل، وهو نوع من الكلام الفلسفي الجديد ببيان اتفاق الوافد والموروث. ومن ثم نثبت صحة الأقاويل الشرعية من خلال الجمع بين رأيي الحكيمين. ويصبح التصور الإسلامي هو الضامن لاتفاق الحكيمين. ينتهي الفارابي من موضوع الخلاف بين الحكيمين مثل قدم العالم وحدوثه إلى التصور الكلي الديني للعالم بحيث يشمل النبوة والمعاد وليس فقط خلق العالم، والتحول من الخطاب العقلي الواضح إلى الخطاب الرمزي المضنون به على غير أهله.
والمقدمة إيمانية فلسفية خالصة. فبعد البسملة الحمدلة لواهب العقل ومبدعه، ومصور الكل ومخترعه. يكفي به إحسانه القديم وأفضاله، والصلاة على سيد الأنبياء محمد وآله. فالجو الديني الإيماني هو المدخل العام للجمع بين المذهبين. وتنتهي بعض الفقرات التمهيدية للاحق «بمشيئة الله وحسن توفيقه» أو بعبارة «الله أعلم»، وينهي بالحمدلة والصلاة على النبي خير الخلق وعلى الطاهرين من عشيرته والطيبين من ذريته.
27 (3) ضم المذهبين في تصور ثالث
وهي أعلى مرحلة في العرض الكلي، ضم المذهبين؛ أفلاطون وأرسطو، في تصور ثالث كلي شامل يجمع بينهما وكأنه قمة المثلث المتساوي الساقين أو قاعدته. مثال ذلك ثلاثية الفارابي «تحصيل السعادة»، «فلسفة أفلاطون»، «فلسفة أرسطو». فالجمع بين أفلاطون وأرسطو، وهما من الوافد، لا يتأتى إلا بطرف ثالث «تحصيل السعادة» من الموروث. النظرية العامة المتكاملة والتصور الشامل من الموروث، والمذهبان الجزئيان، أفلاطون وأرسطو من الوافد.
28
فبعد أن بين الفارابي الفلسفة عرض تاريخها، وبعد أن اكتشف بنيتها أرخ لها عند اليونانيين؛ فالتاريخ يتلو البنية، والبنية سابقة على التاريخ.
29
وما دامت البنية موجودة فإنه يمكن استئناف تاريخها عند شعوب أخرى غير اليونانيين وفي ثقافات أخرى غير اليونانية.
والعنوان خادع لأن موضوعها أقرب إلى المعرفة منه إلى الأخلاق، والصلة بين المعرفة والوجود المنطق والميتافيزيقيا، عالم الأذهان وعالم الأعيان. وهو التصور النظري الذي يمكن ضم أفلاطون وأرسطو فيه. فأفلاطون أقرب إلى عالم الأذهان، وأرسطو أقرب إلى عالم الأعيان. وربما اتبع الفارابي الترتيب التاريخي، أفلاطون قبل أرسطو أو كان التقدم في الشرف وليس في الزمان، تفضيل أفلاطون على أرسطو. (أ) تحصيل السعادة
وهو التصور الجامع للفلسفتين، أفلاطون وأرسطو أي الجانب العملي الأخلاقي وليس الجانب النظري الفلسفي، في العمل يلتقي النظر، وفي وحدة السلوك تلتقي الآراء المتعارضة، وهو درس في أصول الفقه القديم، وحدة العمل وتعدد النظر. والعنوان خادع فموضوعه أقرب إلى «إحصاء العلوم منه إلى التنبيه على سبيل السعادة». هو ضم للمعارف الفلسفية كلها، الرياضيات والطبيعيات والعلم المدني دون المنطق؛ لأن المنطق يكتفي بالعرض النسقي العقلي لهذه العلوم. وإذا كان «التنبيه على سبيل السعادة» هو انتقال من المنطق إلى الأخلاق فإن «تحصيل السعادة» هو انتقال من الأخلاق إلى السياسة، من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية أي إلى العلم المدني الذي برع الفارابي في تأسيسه.
30
ويبدو أنه متقدم في التأليف نظرا لغلبة أسلوب الكندي عليه، والحديث عن العلل الأربعة ببراهين لم، وهل، وماذا، ولماذا، كما يفعل الكندي في براهين اللمية والهلية. وهناك كثير من التكرار والإسهاب والإضافة والعودة إلى نفس الفكرة وكأن غاية العرض الشرح والتوضيح إلى أقصى حد. والعرض واضح لكن ينقصه التركيز.
وبطبيعة الحال لا يظهر إلا الوافد. فالعرض الكلي للوافد وليس للموروث، وإن كان الموروث هو الأساس اللاشعوري في عرض الوافد مثل الحديث عن الإقناع والتخييل والإمام والتشريع. ويأتي أفلاطون في المقدمة مع الإحالة إلى «أطيماوس» قبل أرسطو ثم أرقليطس. ويذكر اليونانيون ثم العرب ثم الكلدانيون (أهل العراق) وأهل مصر والسريانيون والقدماء.
31
ويظهر أفلاطون في النهاية وليس في البداية بمناسبة تأديب الصبيان ومحاكاة المعقولات للمحسوسات في «طيماوس» وشرائط تعلم الفلسفة في «السياسة»، وصورة انطفاء النار تدريجيا عند هرقليطس التي يضرب بها أفلاطون المثل على تبخر الفضائل تدريجيا إن لم تتم ممارستها عمليا، وأفلاطون وأرسطو ممثلا الفلسفة اليونانية. ولا يظهر الموروث إلا في تحليل لفظ إمام في لغة العرب.
ويبدأ بقانون عام للإنسانية كلها وهي أن الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى. وهي أربعة أجناس: الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والصناعات العملية بالرغم من صعوبة التفرقة بين النظرية والفكرية. الفضائل الفكرية والصناعات العملية أكثرها إسهابا. وهي متداخلة يصعب التمييز بينها بحدود فاصلة لأنها تترتب فيما بينها في علاقة الرئيس بالمرءوس، والشارط بالمشروط، أعلاها النظرية ثم الفكرية ثم الخلقية ثم العملية في النهاية التي تتراوح بين الفضائل والصناعات.
الفضائل النظرية أولا هي العلوم وغايتها القصوى معرفة الموجودات معرفة عقلية. وهي نوعان؛ العلوم الأولى التي تحصل مباشرة دون توسط، والعلوم التأملية التي تحصل عن تأمل وفحص واستنباط وتعلم وتعليم العلوم الأولى هي مقدمات العلوم الثانية المجهولة التي تصبح معلومة بعد الفحص والاستنباط فتصبح نتائجا.
وغاية طلب العلم حصول اليقين، كله أو بعضه وإلا فالظن والإقناع. قد يحصل تخيل فيه أو ضلال فيظن معرفته. وربما عرضت فيه حيرة إذا تكافأ النفي والإثبات. وسبب ذلك اختلاف طريق المعرفة تبعا لتباين موضوعاتها؛ ومن ثم اختلاف تصوراتها وآرائها. قد يتم اختيار طريق في موضوع غير ملائم والوصول إلى اعتقاد غير سليم، وكلها طرق صناعية تحتاج إلى علامات وفصول للتمييز بينها وإن تكون القرائح العملية المفطورة بالطبع قادرة على إعطاء صناعة تعطي علم هذه الإدراكات إذا كانت الفطرة غير كافية في تمييز هذه الطرق، والتيقن بشروط وأحوال المقدمات الأولى وترتيبها حتى يتم التوصل إلى الحق نفسه واليقين فيه أو بشروط وأحوال وترتيب آخر يوقع في الضلال أو الحيرة أو بشروط وأحوال وترتيب ثالث يؤدي لا إلى الحق نفسه بل إلى خياله ومثاله. فإذا تم التعرف على طرق المعرفة سهل بعد ذلك التعرف على موضوعات المعرفة إما بالتعلم والفحص الذاتي أو بتعليم الآخرين لنا، بالدراية أو بالرواية، بالرأي أو بالأثر كما يقول القدماء.
والمعلومات الأول في كل جنس من الموجودات فيه الأحوال والشروط التي تؤدي إلى الحق اليقيني، تكون مبادئ التعليم له . وإذا كانت للأنواع التي يحتوي عليها الجنس تكون مبادئ الوجود. فمبادئ التعليم هي نفسها مبادئ الوجود، وكأن الفارابي هنا يوحد بين الاثنين. وتسمى براهين تلك المعلومات براهين «لم» الشيء إذا كانت تعطي أسباب العلم بالإضافة إلى «هل» الشيء موجود. وتكون مبادئ العلم هي مبادئ الوجود. فإن لم تكن أسبابا له تمايزت مبادئ العلم عن مبادئ الوجود، وتكون البراهين حول «هل» و«أن» وليس براهين «لم» الشيء. فالسبب هو الذي يوحد بين المعرفة والوجود وكان الفارابي هنا يضع أسس التفكير العلمي.
ومبادئ الوجود هي العلل الأربعة: ماذا وهي العلة المادية، بماذا وهي العلة الفاعلة، كيف وهي العلة الصورية، ولماذا وهي العلة الغائية. ومن أجناس الوجود ما يمتنع أن تكون له مبادئ علمه فقط وكأن الله هو الموجود الوحيد الذي لا تتوحد مبادئ العلم فيه مع موضوع العلم. ومن الموجودات ما تكون له العلل الأربعة كلها، ومنها ما تكون له ثلاثة فقط دون المادة. فمبادئ الوجود ثلاثة على الأقل الصورية والفاعلة والغائية من أجل ضم الموجودات العقلية.
وكل علم يهدف إلى أن يجعل الموجودات معقولة تقصد أولا اليقين بوجود جميع ما يحتوي عليه الجنس، ويهدف إلى علم مبادئ الوجود إذا كانت البداية مبادئ التعليم ثم اليقين بمبادئ الوجود وعددها، مثل الأسباب الأربعة، كلها أو بعضها، ثم مبادئ المبادئ حتى الانتهاء إلى أبعد مبدأ لهذا الجنس وهو المبدأ الأقصى دون تخطيه إلى مبدأ جنس آخر. فإذا كانت مبادئ العلم هي مبادئ الوجود كانت علله. وإن لم تكن كذلك كانت فيها خفية غير معلومة متأخرة عن مبادئ الوجود. فالوجود عند الفارابي سابق على المعرفة.
ويؤدي هذا الترتيب إلى لزم النتيجة من المقدمات، المقدمات مبادئ التعليم والنتيجة مبادئ الموجودات. الأولى أسباب العلم بالثانية والثانية أسباب لوجود الأشياء في الخارج على النحو الآتي:
فترتقي المعرفة من الموجودات إلى مبادئ الموجودات إلى مبادئ العلوم. وبالرغم من أن الجدل صاعد من المحسوس إلى المعقول إلا أن الموجودات متأخرة عن المبادئ، والمبادئ أقدم من الموجودات في الجدل النازل . ومبدأ المبادئ أقدمها جميعا الذي يكشف عن مبادئ مجهولة أدنى منه وتنبع منه ويمكن معرفتها منه استنباطا. فالمعرفة صاعدة من الموجودات إلى المبادئ، ونازلة من مبدأ المبادئ إلى المبادئ الأدنى، وهو العلم بالمبادئ الأربعة؛ فهو علم استقرائي واستنباطي في نفس الوقت، وكذلك العلم بالواحد والكثير. فإذا كان العلم هو استنباط المجهول من المعلوم؛ فإن هذا الاستنباط يكون استقراء حين يكون المجهول مبادئ الموجود والمعلوم الموجودات أو استقراء عندما يكون المجهول مبادئ الموجود والمعلوم مبدأ المبادئ، المبدأ الأقصى. وقد يعطي المبدأ الأول علما بمبدأ آخر أقدم منه. فيعطي علما بوجوده وبسبب وجوده.
وأول أجناس الموجودات هو الأبعد عن الحيرة والاضطراب في الذهن وهي الرياضيات، الأعداد والأعظام؛ إذ تعطي الأعداد التقدير، وكيفية التقدير في الأعظام التي تعطي الأشكال والأوضاع وجودة الترتيب وإتقان التأليف وحسن النظام. ويكون ترتيب علوم التعاليم كالآتي:
وفي الرياضيات تكون مبادئ التعليم هي نفسها مبادئ الوجود. وتجمع براهينها بين الاثنين. وتقتصر على المبادئ الثلاثة؛ لأنها خالية من المادة. ويتم الانتقال من هذه العلوم نزولا من الأعداد إلى الحيل؛ لأن العدد هو أصل العلوم، وهو ما يتفق مع ما عرضه الفارابي من قبل في «إحصاء العلوم» مما يدل على أن العرض يقوم على التأليف. ويسمى هذا النزول الارتقاء، أي التقدم من الأصل إلى الفرع، ومن الأساس إلى المؤسس. فهو ارتقاء نازل، ابتداء من البسيط إلى المركب، ومن الواضح إلى الأقل وضوحا، ومن النظري إلى العملي. وهذا هو معنى التقديم والتأخير في إحصاء العلوم الذي لا يعني مجرد رصد كمي بل ترتيب كيفي في نسق للأولويات. وكل علم متقدم على الذي يليه ومتأخر على الذي يسبقه.
أما الموجودات التي لها مبادئ أربعة فهي الموجودات الطبيعية التي لها مبادئ طبيعية التي لا تكون معقولة إلا في المواد. وتعتمد على بعض مبادئ علم التعاليم الصالحة في معرفة الموجودات الطبيعية مثل أجناس الأجسام المحسوسة مثل الأجسام السماوية والعناصر الأربعة، الأرض والماء والهواء والنار، وما شابهها من بخار وأجسام حجرية ومعدنية على سطح الأرض وفي باطنها ثم النبات والحيوان غير الناطق ومعرفة مبادئها القريبة والبعيدة. ومبادئ التعليم في الطبيعيات غير مبادئ الوجود على عكس الرياضيات، ويتم الانتقال فقط من الأولى إلى الثانية صعودا مع أن مبادئ التعليم متأخرة عن مبادئ الوجود؛ لأن مبادئ الوجود هي أسباب الموجودات والتعاليم في آن واحد. المبادئ القريبة كانت مبادئ التعاليم ثم الانتقال منها إلى مبادئ المبادئ إلى أقصى المبادئ صعودا أو إلى أقرب المبادئ نزولا.
ويتم النظر في الأجسام المحسوسة وأجناسها وأنواعها وفي الأجسام السماوية ومبادئ وجودهها حتى الوصول إلى مبادئ لا طبيعية تكشف عن موجودات أكمل وجودا من الطبيعة والأشياء الطبيعية. ليست أجساما ولا في أجسام مما يستدعي وجود علم آخر هو ما بعد الطبيعة وهو علم وسط بين الطبيعيات والرياضيات؛ فالطبيعيات وما بعد الطبيعة كلاهما يرد إلى الرياضيات. وواضح هنا غياب المنطق كعلم، ربما لأنه آلة لكل العلوم، كما أنه من الواضح ارتباط ما بعد الطبيعة بالطبيعة وكأنهما علم واحد؛ فعلم ما بعد الطبيعة هو علم الطبيعة مقلوبا إلى أعلى، وعلم الطبيعة هو علم ما بعد الطبيعة مقلوبا إلى أسفل. وقد ضم الفارابي العلم الطبيعي والعلم الإلهي في علم واحد في «إحصاء العلوم».
وبعد فحص مبادئ الوجود للحيوان يتم اكتشاف النفس ومعرفة المبادئ النفسانية والارتقاء منها إلى الحيوان الناطق. وإذا تم النظر في هذه المبادئ يتم اكتشاف العقل. مما يدعو إلى اكتشاف مبادئ غير جسمانية مثل التي عرفت من قبل في النظر إلى الأجسام السماوية. ثم يتم الانتقال من النفس والعقل ومبادئهما إلى الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كون الإنسان، والمبادئ الطبيعية في الإنسان وفي التعليم غير كافية لأن يصل الإنسان بها إلى الكمال، وأنه بحاجة إلى مبادئ نطقية عقلية لا هي التعاليم ولا هي ما بعد الطبيعة ولا هي الطبيعة. هي أيضا مبادئ الموجودات التي يسعى إليها الإنسان ليبلغ الكمال. ولما تفاوتت مراتب الكمال لا يستطيع الإنسان أن يبلغ أقصاها بمفرده فيحتاج إلى معاونة أناس كثيرين طبقا لفطرة الإنسان وحاجته إلى التعاون. لذلك يسمى الحيوان الإنسي والإنسان المدني مما يحتاج إلى نظر آخر وعلم آخر يفرض هذه المبادئ العقلية وأفعال الإنسان وملكاته التي يسعى بها نحو الكمال فيتأسس العلم الإنساني والعلم المدني.
ويبدأ العلم بالنظر في الموجودات مثل النظر في ما بعد الطبيعة وفي الطبيعة ويعتمد على مبادئ التعليم التي تتفق معه حتى الانتهاء إلى موجودات لا تكفيها هذه المبادئ وفي حاجة إلى مبدأ أول لجميع الموجودات وهو أكمل المبادئ وأتمها. ثم تتفاوت الموجودات صادرة منه على مراتب أقرب منه أو أبعد عنه. وهذا هو النظر الإلهي في الموجودات. فإن المبدأ الأول ليس جسما ولا في جسم. كل الطرق تؤدي إلى المبدأ الأول، في علم التعاليم إلى مبدأ العدد، ومن الطبيعيات إلى مبدأ الموجودات، ومن علم ما بعد الطبيعة إلى مبدأ المبادئ، ومن العلم الإنساني، النفس والعقل، والعلم المدني، التعاون الإنساني إلى مبدأ الكمال.
ثم يتم الفحص في العلم الإنساني والغرض الذي من أجله كون الإنسان وهو الكمال الذي يبلغه، ووسائل تحقيقه. وهي الميزات والفضائل والحسنات وما يبعد عنه مثل الشرور والنقائص والسيئات. وهذا هو العلم المدني الذي ينال به أهل المدن السعادة بمقدار فطرة كل فرد. فاجتماع المدنيين مثل اجتماع الأجسام، ولا فرق بين اجتماع المدن والأمم واجتماع العالم. وكما أن في العالم مبدأ واحدا ثم مبادئ أخرى تتلوه على الترتيب وموجودات من تلك المبادئ متراتبة أخرى من أعلى إلى أسفل، فكذلك الترتيب في الأمة أو المدينة، مبدأ أول تلوه مبادئ آخر. مدني أول يتلوه مدنيون آخرون. ويماثل آخر المبادئ النظرية آخر المدنيين في المدينة والإنسانية. كما يتقابل نظام الموجودات في العالم مع نظيره نظام المدنيين في المدينة أو الأمة. هذا هو الكمال النظري ويتضمن علم الأجناس الأربعة التي يتم بها تحصيل السعادة القصوى لأهل المدن والأمم ولنظام العالم. فهو علم واحد في الحقيقة العلم النظري وعلم الموجودات والعلم المدني، لا فرق بين العقل والطبيعة والمجتمع.
لقد أعطت العلوم النظرية هذه الأشياء موجودة بالفعل، لا فرق بين العقل والوجود، بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، فإذا حدث عدم تقابل بين الاثنين نشأت الحاجة إلى علم آخر غير العلم النظري. فالأشياء المعقولة من حيث هي كذلك خالصة عن الأحوال والأعراض وموجودة خارج النفس، واحدة بالعدد، لا تتبدل ولا تتغير في حين أن الواحدة بالنوع تتبدل وتحتاج إلى الأحوال والأعراض إذا كانت خارج النفس كما هو الحال في المعقولات الطبيعية الواحدة بالنوع وفي المعقولات الإرادية. كل ما يوجد بالإرادة لا يمكن أن يوجد أو يعلم إلا بالأعراض والأحوال المقترنة بها. وهي توجد واحدة بالعدد بل بالنوع أو الجنس. لذلك تتبدل عليها، تزداد وتنقص وتتركب طبقا لقوانين على مدة طويلة تتبدل وتتغير أيضا. وما لا تخضع لقانون فإنها تتبدل على نحو دائم في مدة قصيرة وعلى حسب ما يريد الفاعل. وربما لا يحصل منه شيء أصلا بسبب المتضادات العاشقة له، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو إرادي عن إرادات آخرين وليس فقط طبقا لاختلاف الأزمنة والأمكنة مثل الأشياء الطبيعية، وهكذا الإنسان. فإنه في عالم الأعيان، ويتبدل طبقا للزمان والمكان في الأحوال والأعراض. والمعقول من ذلك كله معقول واحد. وكذلك الأشياء الإرادية مثل العفة واليسار لها معان معقولة إرادية تختلف باختلاف الزمان والمكان والأمم ساعة بساعة أو يوما بيوم أو شهرا بشهر أو سنة بسنة أو حقبة بحقبة أو أحقابا بأحقاب. فالتغير له إيقاع سريع وإيقاع بطيء تتطلب معرفة الأعراض والأحوال المتبدلة في عالم الأعيان المدة المعلومة قصيرة كانت أم طويلة. والمكان المحدد من المعمورة صغيرا كان أم كبيرا يشترك فيها إنسان واحد أو طائفة في مدينة أو مدينة أو أمة أو المعمورة كلها.
والفضيلة الفكرية المدنية يستنبط منها ما هو أنفع في غاية فاضلة مشتركة لأمم أو أمة أو مدينة منها. ما يبقى مدة طويلة ومنها ما يبقى مدة قصيرة. وما يستنبط لكل الأمم مدة طويلة هو الأقدر على وضع النواميس. وما يستنبط في مدة قصيرة هي أصناف التدبيرات الجزئية الزمنية عند الأمم أو الأمة أو المدينة. وما دون ذلك لطائفة في مدينة أو منزل في طائفة فإنها تكون فضيلة منزلية أو جهادية في مدة قصيرة أو طويلة. وقد تنقسم الفضيلة إلى أجزاء صغار، صناعة أو عرض حادث أو حرفة أو غاية خاصة أو لغيره فتكون مشورية. قد تجتمع في إنسان واحد وقد تفترق وكلما كانت هذه الفضائل الفكرية أكمل رياسة وأعظم قوة كانت الفضائل الخلقية المقترنة بها أشد رياسة وأعظم قوة كذلك.
والفضائل الخلقية ثالثا تقتصر على جزء المدينة إما في المجاهدة أي الحرب أو المال أي الاقتصاد أو في جزء آخر قبل أن تتحول إلى صناعات عملية الإنسان أو لمنزل مدة قصيرة أو طويلة. والفضيلة الكاملة هي أعظمها قوة أو مجموع الفضائل كلها عند الناس والمنازل والمدن والأمم جميعا وهي الفضيلة الرئيسية التي تتقدم على جميع الفضائل مثل فضيلة صاحب الجيش الذي تتوافر فيه القوة الفكرية التي يستنبط بها الأنفع والأجمل المشترك بين المجاهدين مثل الشجاعة والمشتركة بين مكتسبي الأموال، وكذلك تترتب الصناعات وفي مقدمتها الصناعة الرئيسية وهي أقواها. وتحت فضيلة قيادة الجيوش هناك فضائل وصناعات أخرى. كما أن دون فضيلة اكتساب الأموال هناك فضائل وصناعات خادمة لها، وما هو أنفع وأجمل وكذلك الغايات الفاضلة إما أن يكون في المشهور أو عند ملة أو في الحقيقة. ومن الواضح أن الفضيلة الرئيسية تكون تابعة للفضيلة النظرية للتمييز بين معقوليتها والأعراض المقترنة بها. كما أن الفضيلة الخلقية تكون تابعة للفضيلة الفكرية حتى يمكن استنباط الأدنى من الأعلى، والعملية من الخلقية، الخلقية من الفكرية، والفكرية من النظرية.
والفضائل إما بالطبع أو بالإرادة. والفضائل الطبيعية أشبه بالملكات في الحيوانات غير الناطقة؛ كالشجاعة في الأسد. وقد يكون الأمر كذلك في الإنسان إلا أنها عنده أيضا إرادية. فالإنسان يسلك بالطبيعة وبالإرادة في الفضائل الخلقية العظمى مثل الملوك والخدم، كلاهما ملك أو خادم بالطبيعة والإرادة، وكذلك فضائل المدن والأمم، ويتم تحصيلها بطريقتين، التعليم والتأديب. التعليم لإيجاد الفضائل الفكرية والنظرية والتأديب لإيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العملية. التعليم بالقبول والتحصيل، والتأديب بترويض العزائم وعشق الفضائل.
والعلوم النظرية إما أن يعلمها الأئمة والملوك وأما من يحفظونها ويعلمونها لغيرهم ابتداء من المقدمات الأول والمعلوم الأول في كل جنس من العلوم النظرية، ثم أصناف أحوال المقدمات وترتيبها بعد تقوية نفوس الأحداث وترويضهم طبقا لطبائعهم الإنسانية، ثم استعمال الطرق المنطقية. ويتعلمون من الصبي كما قال أفلاطون مع سائر الآداب حتى يبلغ أشده، ثم يعين الملوك منهم ابتداء من الرياسات الجزئية ارتقاء إلى الرياسات الكلية.
32
ولا يقتصر التعليم على ما توجبه الآراء المشتركة أي العادات والأعراف. ويمكن تعلم الأشياء النظرية بالطرق الإقناعية وطريق التخيل، وهي الأمور التي لا يعقلها الإنسان إلا بعد أن يعقل الكثير، وهي المبادئ القصوى والمبادئ غير الجسمانية التي لا تفهم العامة إلا مثالاتها، وتمكن في نفوسهم بطريق الإقناعات، وما تتميز فيه أمة عن أمة، ومدينة عن مدينة، وطائفة عن طائفة إلى أن يحصلوا على الفضائل النظرية.
ثم تأتي الفضائل أو الصناعات العملية رابعا مرتبطة بالفضائل الخلقية ثالثا عن طريق التعلم والتدريب؛ إذ يتعود الناس عليها بطريقتين؛ إحداهما الأقاويل الإقناعية والانفعالية التي تمكن في النفس هذه الأفعال والملكات حتى تنهض العزائم طوعا نحو أفعالها وما تعطيه هذه الملكات من قدرة على الصنائع المنطقية. والثاني طريق الإكراه مع المتمردين العاصين من أهل المدن والأمم الذين لا ينهضون إلى الصواب طوعا أو بالأقاويل أو من تعاصى منهم عن العلوم النظرية والقادر على فضيلة الملك أو صناعة استعمال الفضائل الجزئية يكون قادرا على تأديب أهل الفضائل والصنائع في الأمم. وأهل المدن طائفتان، من يتأدب طوعا أو من يتأدب كرها. والملك مؤدب الأمم ومعلمها مثل رب المنزل ومعلم الصبيان والأحداث إما بالرفق والإقناع أو بالكره والجبر. الماهية واحدة في أصناف الناس، إنما التفاضل في القلة والكثرة وعظم القوة وصغرها على تأديب الأمم على تأديب الصبيان والأحداث وأهل المنازل، وقوة المقومين والمؤدبين وهم الملوك، وقوة ما يستعمل للتأديب من المهن طوعا أو كرها، والقوة على جودة التدبير في قود الجيوش واستعمال آلات الحرب والناس في مغالبة الأمم والمدن الذين لا ينقادون لأعمال السعادة التي بها كمال الإنسان حسب رتبته في الوجود.
ويحتاج الملك إلى العلوم النظرية المعقولة التي حصلت معرفتها ببراهين يقينية والتماس الطرق الإقناعية في كل منها أو التخييلية بالمثالات. وهي مشتركة بين جميع الأمم والمدن. كما يحتاج إلى إحصاء أفعال الفضائل والصنائع العملية الجزئية وطرقها الإقناعية؛ لأنها في العزائم والأقاويل الانفعالية والخلقية التي تخشع منها النفوس. وقد يستعملها الملوك المضادون والمشاكسون. فتحصل العلوم الثلاثة الأولى النظرية والفكرية والخلقية تنفيذا لغرض الرئيس الأول في الأمم والمدن.
ثم ينظر في أصناف الأمم، أمة أمة وطباعها المشتركة من الملكات والأفعال الإنسانية واشتراكهم في الطبيعة الإنسانية التي تعمهم، وخصائص كل أمة التي تنفرد بها وما يستعمل معها من طرق الإقناع.
فالعلوم الحاصلة أربعة؛ الفضيلة النظرية التي تحصل بها الموجودات معقولة ببراهين يقينية أو بأعيانها عن طرق إقناعية أو مثالات تلك المعقولات والتصديق بها بالطرق الإقناعية وتطبيقها على كل أمة، وما تسعد به أو قد تشقى به أخرى. وما يستعمل في إقناع أمة قد لا يستعمل في إقناع أخرى. وذلك كله تنفيذ لغرض الرئيس والذي يفرض سلطته في تأديب الأمم مثل الطوائف؛ ففي كل منها فضيلة جزئية وأخرى فكرية لجودة استعمال الجيوش. وقد ينتقل التفويض إلى وحدات أصغر حتى الأفراد حسب فضائلهم الفكرية.
وأول هذه العلوم العلم الذي يعطي الموجودات معقولة ببراهين يقينية سواء بأعيانها منتفع بها أو بتخييلها ليسهل تعليم جهود الأمم وأهل المدن؛ فمنها الخاصة ومنها العامة. والعامة لا يقدرون إلا على ما يوجبه الرأي المشترك، والخاصة هم الذين يعرفون الأمور النظرية بمقدمات برهانية. والخاصة والعامة ليست قسمة حرفية، فيصبح كل متخصص في حرفة من الخاصة بل هو العمق في فهم العلم، والعامي كل من لم تكن له رياسة ولا صناعة ترشحه الرياسة أو يخدم بها المدينة، ومن ظن بنفسه أن له صناعة يصلح أن يتقلد بها رياسة أو حال رياسة مثل ذوي الأحساب وكثير من ذوي اليسار. وأدخل في الخصوص كل من كانت صناعته تؤهله أن يتقلد بها رياسة. فمقياس التمييز بين الخاصة والعامة هو درجة الأهلية للرياسة. أخص الخواص هو الرئيس الأول البعيد عن الرأي المشترك، ومن تقلد رياسة مدينة قصد بها تتميم الرئيس الأول وخدمته. وهو المؤهل للحصول على العلم ببراهين يقينية في حين يقتصر العامة أي الجمهور على البراهين الإقناعية والتخيلات. وهو أقدم العلوم وأكملها رياسة، وهو العلم النظري الأول وسائر العلوم خادمة له، الثاني والثالث المستنبطان منه.
وتتحول الفضائل والصناعات العملية إلى فلسفة في التاريخ عندما يبين الفارابي انتقالها في الأمم القديمة من أمة إلى أمة في خمس مراحل؛ فقد بدأت عند الكلدانيين وهم أهل العراق ثم صارت إلى أهل مصر ثم إلى اليونانيين ثم إلى السريانيين ثم إلى العرب؛ فالكلدانيون أقدم من المصريين، والعرب آخر من حملوا العلوم وليس المسلمون طبقا للتصور القومي للعلم. والشرق القديم، الصين، والهند، وفارس لا وجود له. ولو شاء أحد الاستمرار بعد الفارابي الآن لتحدث عن فترة الغرب الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم، واحتمال فترة سابعة في الشرق.
أما التدوين فهو فقط ثلاث مراحل، من اللسان اليوناني إلى اللسان السرياني إلى اللسان العربي، وكأن البابليين لم يدونوا علومهم ولا المصريين القدماء.
كان اليونانيون يسمون هذه العلوم والفضائل والصناعات الحكمة على الإطلاق أو الحكمة العظمى، ويسمون اقتناءها العلم وملكتها الفلسفة؛ فالفلسفة وسيلة للعلم، والعلم غاية الفلسفة. وتعني إيثار الحكمة العظمى ومحبتها. ويسمون المقتني لها فيلسوفا، ويصفون المحب للحكمة والمؤثر لها، وتتضمن بالقوة جميع الفضائل، ويسمونها علما أو علوما وأم العلوم وحكمة الحكم وصناعة الصناعات وفضيلة الفضائل. وتقال الحكمة على الحذق والإتقان في صناعة لدرجة الإعجاز في الحكمة البشرية. ويقال على الحاذق حكيم في تلك الصناعة، وكذلك النافذ الرؤية والحديث فيها قد يسمى حكيما، إلا أن الحكمة على الإطلاق هي هذا العلم وملكته.
وإذا انفردت العلوم النظرية ولم تتحول إلى قوة على استعمالها في غيرها كانت فلسفة ناقصة. والفيلسوف الكامل على الإطلاق هو الذي تحصل له هذه العلوم النظرية وتكون له القوة على استعمالها في غيرها. ولا فرق بين الفيلسوف والرئيس الأول. فمن لديه القوة على استعمال ما تحتوي عليه النظرية واحد، يجعل الأمور معقولة وإرادية. وكلما كانت قوته أعظم كانت فلسفته أكمل. والكامل على الإطلاق هو الذي حصلت له الفضائل النظرية والعلمية ببصيرة يقينية، وكانت له القدرة على إيجادها في جميع الأمم والمدن ببراهين يقينية وبطرق إقناعية بل وتخييلية طوعا أو كرها. وهو الفيلسوف على الإطلاق، الرئيس الأول. والتعليم يلتئم بشيئين؛ تفهيمه وإقامة معناه في النفس، ثم التصديق به. وتفهيم الشيء على ضربين؛ أن يعقل ذاته أو أن يتخيل مثاله الذي يحاكيه. ويكون التصديق بطريقين، البرهان اليقيني أو الإقناع. ومتى حصل علم الموجودات وعقلت معانيها ووقع التصديق بها على البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات فلسفة. ومتى تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها وقع التصديق بها بالطرق الإقناعية تسمى ملكة. وإذا استعملت فيها الطرق الإقناعية سميت الملكة المشتملة عليها الفلسفة الذائعة المشهورة والبترائية. فالملكة محاكية للفلسفة. وكلاهما يشتملان على موضوعات وبأعيانها، ويعطيان المبادئ القصوى للموجودات، علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات، والغاية القصوى للإنسان وهي السعادة القصوى، والغاية القصوى لكل واحد من الموجودات. وما تعطيه الفلسفة معقولا أو متصورا تعطيه الملكة متخيلا. وما تعطيه الفلسفة مبرهنا تعطيه الملكة مقنعا. تعطي الفلسفة ذات المبدأ الأول وذوات المبادئ الثواني غير الجسمانية التي هي المبادئ القصوى معقولات. وتخيله الملة بمثالاتها المأخوذة من المبادئ الجسمانية، وتحاكيها بنظائرها من المبادئ المدنية، وتحاكي الأفعال الإلهية بأفعال المبادئ المدنية، وتحاكي أفعال القوى والمبادئ الطبيعية بنظائرها من القوى والملكات والصناعات الإرادية. وقد فعل ذلك أفلاطون في «الطيماوس»، عندما حاكي المعقولات بنظائرها الحسية، وأصناف السعادات القصوى، وهي غايات أفعال الفضائل الإنسانية بنظائرها من الخيرات، حاكي السعادات بنظائرها من السعادات، ومراتب الوجود بنظائرها من المراتب الكائنة في الزمان. وكل ما تعطيه الفلسفة بالبراهين اليقينية تعطيه الملة بالإقناعات. والفلسفة تتقدم على الملة بالزمان. فالإنسان نشأ فيلسوفا قبل أن يتحول إلى ملي.
وكما تحولت الفضائل النظرية والعملية إلى فلسفة، ثم تحولت الفلسفة إلى فلسفة في التاريخ، تتحول الفلسفة أيضا إلى فلسفة في القانون والتشريع. فإذا وجدت بالفعل معقولات الأشياء الإرادية التي تعطيها الفلسفة العملية وتوفرت فيها الشروط يمكن تحويلها إلى نواميس. فواضع النواميس هو الذي له القدرة على أن يستخرج بجودة فكره شرائطه التي يصبح بها موجودا بالفعل تنال به السعادة القصوى ويكون هو الفيلسوف الرئيسي أو الرئيس الفيلسوف. فشرط التشريع هو الفلسفة. والفلسفة إن لم تتحول إلى تشريع تكون ناقصة بل يصفها الفارابي بأنها باطلة. فمن اقتنى الفضائل دون أن تكون له القدرة على إيجادها على العموم وليس على الخصوص، وأن يستخرج المعقولات الإرادية أحوالها وشرائطها بحيث تكون موجودة بالفعل يكون ناقصا؛ فالفضيلة الفكرية شرط التحول إلى الفضيلة العملية. والفضيلة العملية لا توجد إلا بشرط الفضيلة الفكرية. ويتطلب ذلك أيضا القدرة على جودة الإقناع والتخييل.
الإمام والفيلسوف والمشرع - أي واضع النواميس - معنى واحد إلا أن الفيلسوف يدل على الفضيلة النظرية والفيلسوف الكامل هو الذي يصل بها إلى كمالها الأخير، فيصبح واضع القواميس الذي يتضمن جودة المعرفة بشرائط المعقولات العملية والقوة على استخراجها وإيجادها في الأمم والمدن. والملك يفيد التسلط والاقتدار، والاقتدار التام ينبع من الداخل وليس من الخارج، وهو ما يتطلب قوة المعرفة والفكرة والفضيلة والصناعة وإلا نقصت قدرته. وإن كان قادرا على الخيرات دون السعادة القصوى كان ناقصا، لذلك صار الملك على الإطلاق هو الفيلسوف واضع النواميس. والإمام في لغة العرب يدل على المؤتم به والمستقبل، أما المتقبل كما له أو المتقبل غرضه. فإن لم يكن متقبلا لجميع الأفعال والفضائل والصناعات لم يكن متقبلا على الإطلاق، وإن لم يوجد غرض يلتمس حصوله بشيء من الأفعال والفضائل والصناعات سوى غرضه كانت صناعته وفضيلته وفكرته وعلمه أعظم الصناعات والفضائل والأفكار والعلوم، ولا يمكن ذلك دون العلوم النظرية والفضائل الفكرية عند الفيلسوف.
الفيلسوف والرئيس الأول والملك وواضع النواميس والإمام إذن معنى واحد. وهي مترادفات على التبادل عند جمهور اللغويين، تدل على معنى واحد. ومتى حصلت هذه الأشياء النظرية التي برهنت في العلوم النظرية، وتخيلت في نفوس الجمهور، ووقع التصديق بها، وحصلت الأشياء العملية بشرائطها، وتمكن وجودها من النفوس واستولت عليها وصارت عزائم تنهضهم نحو أفعال أخرى ؛ فقد تحققت الفضائل النظرية والعملية بأعيانها وببصيرة يقينية إذا كانت في نفس واضع النواميس. وإذا كانت في نفوس الجمهور فهي ملكة عن تخيل وإقناع. وهي عند واضع النواميس الفيلسوف ليست مخيلات أو مقنعات بالنسبة له بل يقينية، بل هو الذي اخترعها لتتمكن من نفوس الجمهور على أنها تخييل وإقناع لغيره. له فلسفة ولغيره ملكة. فهو الفيلسوف بالحقيقة.
أما الفلسفة البتراء وفيلسوف الزور والبهرج فيلسوف الباطل فهو الذي يشرع قبل أن يتعلم العلوم أو أن يتعلم العلوم دون أن يكون موطأ لها. التشريع في النظر أهلية واستعداد وفطرة. وهي الشروط التي ذكرها أفلاطون في كتاب «السياسة»، أن يكون جيد الفهم والتصور للشيء، حفوظا وصبورا على الكد، محبا للصدق وأهله، والعدل وأهله، غير جموح ولا لجوج في أهوائه، غير شره على المأكول والمشروب، وتهون عليه الشهوات والدرهم والدينار، كبير النفس عما يشين عند الناس، وربما سهل الانقياد للخير والعدل، وعسر الانقياد للشر والجور، قوي العزيمة على الشيء الصواب، ربي على نواميس وعادات ما فطر عليه، صحيح الاعتقاد لآراء الملة التي نشأ عليها، متمسكا بالأفعال الفاضلة التي في ملته، غير مخل بكلها أو معظمها، متمسكا بالفضائل غير المنحلة بالأفعال الجميلة، وإلا كان فيلسوف زور وبهرج وباطل.
الفيلسوف الباطل هو الذي تحصل له العلوم النظرية دون كمالها الأخير ودون تحقيقها بكل إمكانياتها. هو الذي لم يشعر بفرض الفلسفة فيحصل على النظري دون العملي، وعلى المعرفي دون الأخلاقي. وظن أن السعادة ما ظنه الجمهور، خيرات فطلبها، قد يناله وقد لا يناله، والفيلسوف البهرج هو الذي يتعلم العلوم النظرية دون تزويرها ولكنها لم تتحول لديه إلى أفعال فاضلة أو الجميلة بحسب الملة بل تابع هواه وشهواته في كل شيء، والفيلسوف المزور هو الذي تعلم العلوم النظرية من غير أن يكون معدا بالطبع نحوها وهو أقل من الباطل والمزور لأن الباطل والمزور على الأقل حصل كل منهما على العلوم النظرية دون أن تتحول عنده إلى فضائل أو اضمحلت عندها تدريجيا لكبر السن فتنطفئ علومهما أشد من انطفاء نار أرقليطس الذي يذكره أفلاطون لأن طباع الأول وعادة الثاني يقهران ما تعلماه في شبابهما ويثقلان عليه ما قد احتملا الكد فيه فيهملانه، فتضيع الثمرة وإن حدث الغرس. أما المزور فهو الذي لا تتوافر فيه الأهلية على العلوم النظرية منذ البداية. والفيلسوف الحق هو الذي جمع بين الفضائل الفطرية والفكرية والخلقية والعملية سواء انتفع به الناس أو كمل في ذاته. فالملك والإمام بماهيته وصناعته وليس بقبول الناس له. كما أن الطبيب طبيب حتى دون علاج للمرضى، فالقمة قائمة سواء وجدت القاعدة أم لم توجد. إلى هذا الحد بلغ استقلال الرياسة عند الفارابي حتى غياب المرءوسين. وتنتهي الرسالة بالحمدلة والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
33
ويلاحظ على تحصيل السعادة الآتي: (1)
إن البنية في «تحصيل السعادة» التي أراد الفارابي ضم أفلاطون وأرسطو فيها هي بنية أفلاطونية إشراقية وليست بنية محايدة. والفارابي أفلاطوني النزعة. فكان ضم المذهبين في تصور ثالث غير متعادل منذ البداية لصالح أفلاطون أكثر منه لصالح أرسطو. (2)
يوحد الفارابي بين المنطق والوجود، بين الميتافيزيقا والطبيعة، بين النظر والعمل، والرياضيات شرط العلوم كلها كما عرض في «إحصاء العلوم». (3)
الفلسفة إعادة إنتاج كل شيء وليست مجرد غاية في ذاتها. هي أداة للمعرفة الشاملة، علم العلوم، فضيلة الفضائل، صناعة الصناعات. الفلسفة ليست حرفة يحذقها الحرفي بل أداة تعرف بها كل العلوم والصناعات. (4)
يظهر الموروث عن بعد، وبطريق ضمني غير مباشر مثل التركيز على الفطرة والطبيعة والاستعداد، والتوحيد بين الجميل والخير والنافع، وضرورة التشريع للمجتمع، وتحول الطبيعة إلى إرادة، وجعل الفضائل فطرية وبالاختيار. (5)
الفلسفة أعلى من الدين، والحقيقة أكمل من الملة. الفلسفة يقين في حين أن الملة تعتمد على الإقناع أو التخييل. الفلسفة الخاصة والملة العامة، وهو ما ظهر عند ابن سينا وابن رشد بعد ذلك. (6)
تحويل الفلسفة النظرية إلى فلسفة في الأخلاق والسياسة والاجتماع والقانون والتاريخ الفلسفة ليست فقط مرتبطة بالفرد ولكنها أساس المنازل والطوائف والمدن والأمم والمعمورة كلها، وتنوعها بحسب اختلاف الزمان والمكان. (7)
الوقوع في التصور الهرمي للعالم في ثنائية الرئيس والمرءوس ، الإمام والمأموم، الملك والرعية، والتوحيد في الرئيس أو الإمام أو الملك أو الفيلسوف كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، والتركيز على الحرب والاقتصاد، والجهاد والمال، ودور الرئيس في تأديب الأمم طوعا أو كرها، بل وإمكانية استقلال الرئيس عن الدولة، والإمام عن المأمومين، والملك عن الرعية. (ب) فلسفة أفلاطون
واسم الكتاب «فلسفة أفلاطون وأجزاؤها، ومراتب أجزائها، من أولها إلى آخرها». وهو الجزء الثاني من الثلاثية، الضلع الأول في المثلث المتساوي الأضلاع أو الساقين. ويتضمن العنوان منهج التأليف أي التحليل، تحليل فلسفة أفلاطون إلى أجزائها ثم التركيب في «مراتب أجزائها». وكلاهما من حيث بنية المذهب. أما من حيث المسار والتاريخ فإن الفارابي يريد معرفة البداية والنهاية، الأول والآخر أي حركة المذهب وتطوره؛ فالغاية إذن رباعية. التعرف على فلسفة أفلاطون بنية وتاريخا، البنية تحليلا وتركيبا، والتاريخ بداية ونهاية. وهي نفس البنية للجزء الثالث «فلسفة أرسطوطاليس».
وقد حتم هذا المنهج التعرف على فلسفة أفلاطون من خلال أعماله أي المحاورات التي بلغت حوالي الثلاثين مما يدحض الرأي الشائع أن أفلاطون لم يترجم لأسباب دينية أو أن المسلمين اهتموا بترجمة أرسطو أكثر مما اهتموا بترجمة أفلاطون. ولما كانت أسماء المحاورات أسماء أعلام إلا أن الغالب على استعمالها أسماء المحاورات أي المؤلفات.
34
أما أسماء الإعلام فمن الطبيعي أن يأتي في المقدمة سقراط ثم أفلاطون.
35
ويترجم أفلاطون كل اسم محاورة ترجمة حرفية مع أنه اسم علم، اسم محاور سقراط في الغالب.
36
ومن أجل وصف مسار المذهب، بداية ونهاية تبدأ كل فقرة باسترجاع مضمون الفقرة السابقة حتى تطول الجملة للتذكير بما فات ثم يأتي موضوع الفقرة الجديدة. ولما كانت كل فقرة عرضا لمحاورة بدأ التذكير بمواضيع المحاورات السابقة قبل البداية بعرض موضوع المحاورة الجديدة حتى يظهر كيف كون أفلاطون فلسفته خطوة خطوة، من الأول إلى الآخر.
ربما قرأ الفارابي أفلاطون قراءة أرسطية بالبحث عن الفلسفة كعلم بالموجودات، العلم بالموجود من حيث هو موجود، ابتداء من كتب المنطق واستعراضها لعل فيها العلم المطلوب، بداية بعلم اللسان. ويشمل المقولات والعبارة والقياس والبرهان ثم علوم الشعر والخطابة والسفسطة والجدل، بداية بمنطق اليقين ونهاية بمنطق الظن. فقراءة أفلاطون قراءة أرسطية، وربما قراءة أرسطو قراءة أفلاطونية في «فلسفة أرسطوطاليس» تجعل ضمهما في فلسفة الفارابي ممكنا.
وبهذا العرض يمحى الفرق بين فلسفة الفارابي وفلسفة أفلاطون وربما فلسفة أرسطو بين «تحصيل السعادة» و«فلسفة أفلاطون» و«فلسفة أرسطو». هي فلسفة واحدة يتم عرضها ثلاث مرات، الأولى ابتداء من الفارابي إلى أفلاطون وأرسطو، والثانية ابتداء من أفلاطون إلى الفارابي وأرسطو، والثالثة ابتداء من أرسطو إلى الفارابي وأفلاطون. البداية واحدة والنهاية واحدة.
37
والغالب على أفعال القول «فحص» أي تتبع مسار فكر أفلاطون أمام موضوعاته. أحيانا يكون الفعل مسبوقا بفعل آخر مثل «ابتدأ وفحص». ثم يأتي فعل «بين» وأحيانا «بان» مما يدل على أن البيان نتيجة الفحص، وأحيانا يأتي البيان والفحص في صيغة شرطية «لما بين ... فحص» من أجل الربط بين الموضوعات وتسلسلها من البداية إلى النهاية. وغالبا ما يتم الربط بحرف العطف «ثم». وتتراوح الأفعال الأخرى بين ذكر، نظر، أعطى، شرع ... إلخ.
ولا يقارن الفارابي بين أفلاطون وأرسطو لما كانا هما الضلعان المتساويان في مثلث «تحصيل السعادة» الذي يحيل إلى أفلاطون وأرسطو. فقد كتبت «فلسفة أفلاطون» منعزلة عن «فلسفة أرسطو» وكأنها مذهب قائم بذاته ودون إحالة إلى الساق الثاني.
38
وغاية فلسفة أفلاطون البحث عن كمال الإنسان من حيث هو إنسان. وهي نفس غاية فلسفة أرسطو، الفضائل الخلقية الأربعة: النظرية والفكرية والخلقية والعملية. وهل كمال الإنسان أن يكون تام الأعضاء جميل الوجه، ناعم البشرة أو أن يكون ذا حسب ونسب في عشيرته، كثير من الأصدقاء والمحبين أو أن يكون ذا يسار أو معظما ممجدا ذا رئاسة على طائفة أو مدينة؟ قد تكون السعادة في غير ذلك كله أو قد تكون في بعضها دون البعض الآخر أو قد تكون السعادة كذلك في أحد مستوياتها الأولى دون السعادة الكاملة. وتبين أن السعادة علم وسيرة كما عرض في كتاب «القيبيادس» أي الدستور الأول، المعروف بكتاب الإنسان السعادة نظر وعمل، فكر وحياة، عقل وسيرة ، سقراط نموذجا.
وتبدأ هذه السعادة بالعلم بجوهر موجود من الموجودات كلها، وهو أحد كمالات الإنسان وأعظم غاياته وكما عرض في كتاب «طائطيطوس» الذي يعني الإرادي. وموضوع المحاورة في الحقيقة هو العلم. ثم تساءل عن السعادة التي هي بالحقيقة، وإلى أي علم تنتسب، وبأي ملكة ترتبط، وبأي فعل تتحقق. وتبين أنها السيرة الفاضلة، وكما عرض لذلك في «فيلبص» وتعني حبيب. ثم تساءل: هل يمكن أن يحصل للإنسان علم الموجودات كما يريد أو أن الأمر كما يقول أفرو طاغورس الشاك باستحالة هذا العلم أو حصوله نسبيا متوقفا على كل فرد واعتقاده وليس علما واحدا عاما للجميع؟ وأجاب بأن العلم الذي عرض في «تائطيطوس» ممكن، وهو من الكمال الإنساني وليس الذي يقوله أفروطاغورس في محاورة تحمل اسمه. ثم تساءل هل يحصل هذا العلم باتفاق أو عن تعليم وتعلم أو أن العلم والتعلم مستحيل كما قال مانن الذي زعم أن التعلم باطل ولا يوصل إلى علم، أم أن الإنسان، يعلم بالطبع والاتفاق وربما لا يعلم ما يجهل لا بفحص ولا بتعلم واستنباط، ويظل مجهولا؟ وأجاب بأن هذا العلم يحصل بقوة صناعية يكون بها الفحص ممكنا في كتاب «مانن». ثم أخذ يستقرئ الصنائع المشهورة عند أهل المدن والأمم، بما يوجد في الفحص البياني عن الموجودات، وهي صناعة قياسية قد تعطي العلم والسيرة، ولكنها صناعة غير كافية كما عرض لذلك في «أوتفرون».
39
ويستعرض الفارابي العلوم عند أفلاطون قارئا إياه من خلال إحصاء العلوم. هل هذا العلم المطلوب هو علم اللسان، فإذا أحاط الإنسان بالأسماء الدالة على المعاني حسب الجمهور وعرفها عند أهل الاختصاص فقد أحاط علما بجوهر الأشياء؟ وقد عرض أفلاطون ذلك في محاورة «اقراطلس»، وربما توجها لا شعوريا من الموروث
وعلم آدم الأسماء كلها . هل هو الشعر؟ وهل صناعة الشعر قادرة على أن تحيط علما بالموجودات أو أن روايته قادرة على الوقوف على معانيه التي تحيل إلى الموجودات الطبيعية والسير المطلوبة أي العلوم الطبيعية والعلوم اللإنسانية؟ وهل التأدب بالأشعار وأن يقوم الإنسان بنفسه بتنفيذ وصاياه كاف لأن يصير الإنسان فاضلا؟ وكم مقدار من الشعر قادر على إعطاء المعرفة وما مقدار الشعر في المعارف الإنسانية؟ واضح أن الإجابة بالنفي وأن الشعر لا يؤدي إلى هذا العلم أصلا بل بعيد عنه غاية البعد. وقد عرض أفلاطون لذلك في محاورة «أين».
ويتكرر نفس السؤال بالنسبة للخطابة. هل صناعة الخطابة أو الرأي الخطبي قادر على النظر في الموجودات ويعطي العلم المطلوب والسيرة الكاملة؟ وما المقدار اللازم منها وما مقدار ما تعطيه الخطابة من العلم؟ والإجابة أيضا بالنفي في محاورة «جورجيس». هل الصناعة السفسطائية هي التي تعطي هذا العلم؟ والإجابة كالعادة بالنفي بالرغم من غناء هذه الصناعة. وقد عرض أفلاطون لذلك في محاورة «سوفسطس» و«أوتوذيمس». فغرض السوفسطائي لا يؤدي إلى العلم المطلوب ولا ينظر في أمور الموجودات. السوفسطائي أقرب إلى اللعب منه إلى العلم. ولا يؤدي إلى علم نافع في نظر أو في عمل. ولا تفرق صناعة الجدل عن صناعة السفسطة في أنه ليس طريقا للعلم أو أن فيه كفاية بالرغم من غناه. إذن يحتاج هذا العلم إلى قوة أخرى مضافة إلى قوة الارتياض الجدلي حتى يحصل ذلك العلم وهو ما عرضه أفلاطون في محاورة «برمنيدس».
40
ثم توجه أفلاطون بنفس السؤال إلى الصنائع العملية المشهورة علمية أو نظرية لعل أحدها أو الأفعال الناتجة منها مقدار الضروري منها يعطي العلم المطلوب. فهذه الصنائع لا تهدف إلى الكمال الأقصى بل الأمور الناقصة الضرورية والمربحة. وكلاهما يفيد معنى واحدا عند الجمهور، الضروري مربح والمربح ضروري، وقد عرض أفلاطون لذلك في محاورة «القيبيادس الثاني». ثم عرض بعد ذلك الأمور الناقصة في الحقيقة والمربحة في الحقيقة والأرباح الفاضلة في الحقيقة. وتبين أن لا شيء منها يعتبر من الصنائع المشهورة، وأن ما يحتاجه الجمهور منها هو النافع والمربح فقط وليس النافع والمريح على الحقيقة. وقد خصص لذلك أفلاطون محاورة «أبرخس». ثم تساءل إلى أي حد يمكن الحصول على العلم المطلوب عن طريق أهل الرياء والمغالطين وما يقصدون به من الحيل. ويعني الجمهور بهذه الصناعة الجلد والرجلة أي الرجولة وغبطة الإنسان بها. وكتب لذلك أفلاطون محاورتي «أفيس» و«السوفسطائي». ويعني بهما أفلاطون «هيبياس الأصغر» و«هيبياس الأكبر» على اسم سوفسطائيين. وهي صناعة لا تؤدي إلى العلم ولا إلى السيرة المطلوبة. ثم فحص أفلاطون سير أصحاب اللذات وهل تبلغ الكمال المطلوب. وفرق بين اللذة التي يطلبها الجمهور واللذة بالحقيقة، وأن الأولى لا تؤدي إلى الثانية. وقد عرض ذلك في كتاب «اللذة» المنسوب إلى سقراط.
وبعد استبعاد كل هذه الصنائع التي لا تؤدي إلى العلم المطلوب ولا إلى السيرة الفاضلة انتهى إلى أن الفلسفة هي هذا العلم الذي يحقق هذين الغرضين. وعرض لذلك في محاورة «ثيجس» التي تعني التجربة ثم بين في محاورة «أرسطا» أن الفلسفة ليست فقط الأشياء الفاضلة بل أيضا النافعة في الحقيقة، ونافعة ضرورية في الإنسانية. أما الصناعة التي تعطي السيرة الفاضلة فهي الصناعة الملكية والمدنية أي الفلسفة السياسية. لذلك كان الفيلسوف والملك شخصا واحدا، بمهنة واحدة وقوة واحدة.
ثم يعرض الفارابي محاورات أفلاطون عن الفضائل مثل العفة والشجاعة، والمحبة والصداقة، والعشق. فبحث عن العفة المشهورة في المدن والعفة بالحقيقة، والعفيف بالظن والعفيف يقينا. وعرض لذلك في «خرميدس». ثم عرض الشجاعة في المشهور عند أهل المدن والشجاعة في الحقيقة وبين الفرق بينهما في «لاخس». ثم عرض المحبة والصداقة، وميز بين معناها عند الجمهور ومعناها في الحقيقة دون ذكر الاسم المحاورة وهي «ليسيس». ثم أراد أن يعرف كيف يصبح الإنسان فيلسوفا وأن يبلغ الأمور الفاضلة وأن يكون مستوليا على نفسه ولا يفكر في غيره مستهترا به. لذلك عرض موضوع العشق، ماهيته وجنسه. فالاستهتار منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، وكل منهما كذلك عند الجمهور ظنا أو في الحقيقة يقينا. والإفراط في الإغراء وسوسة وجنون، وهما مذمومان في الظن الأول، ولكن في الحقيقة قد يكونان بالأشياء الإلهية لدرجة الإخبار بالمستقبل، وقد يكون تملك محبة الخير وإيثار الفضائل في المساجد والهياكل. وقد يكون شعرا وجنونا بأشياء روحانية. فهذا كله محمود. ثم أدى ذلك إلى فحص النفس لمعرفة الاستهتار والإغراق والعشق والجنون والوسواس، الإنساني المذموم فيه، والإلهي المحمود منه. الإنساني المذموم الجنون البهيمي والاستهتار بالأشياء الإلهية، والجنون الربعي، والوسواس الثوري، والجنون والوسواس التيسي. وميز بين الاستهتار البهيمي والاستهتار بالأشياء الإلهية، وبحث أصناف الوسوسة والاستهتار بالأشياء الفاضلة التي يقال إنها إلهية. وبين أن الفلسفة والمدنية والكمال لا يتم نيلها ونفس الإنسان مستهترة. ثم بين عن طريق الفلسفة طريق القسمة والترتيب أي التحليل والتركيب، وأن طريقا التعليم طريقان، الخطابة والجدل، مشافهة ومخاطبة أو كتابة، وميزة كل منهما، وما ينقص الكتابة عن المشافهة في التعليم وما تتميز به المشافهة على الكتابة طبقا للتقليد الشرقي الشفاهي. وقد سبقت المشافهة الكتابة وعرض ذلك في محاورة «فادروس».
41
ثم ينتقل الفارابي من الفلسفة الأخلاقية إلى الفلسفة الاجتماعية، ومن الفرد إلى المدينة لما تبين له أن هذه الصناعة وهي الفلسفة ليست من الصنائع المشهورة ولا السير الفاشلة مشهورة في الأمم والمدن، وأنه يصعب على الفيلسوف والملك الكامل تطبيق أفعاله في المدن في زمانه حيث الاستهتار، فبدأ بالفحص عن آراء الآباء وأهل المدينة والأمة دون تقليدها الالتماس الحق والفاضل فيها. وعرض ذلك في «أقريطن» أو «اعتذار سقراط».
ثم تساءل: هل ينبغي للإنسان أن يؤثر السلامة والحياة مع الجهل والسيرة القبيحة والأفعال السيئة؟ هل هناك فرق بين هذه الحياة والحياة البهيمية؟ هل هناك فرق بين الحياة والموت؟ وأجاب عن ذلك في احتجاج سقراط على أهل «أثينية» و«فاذن». وبين أن إيثار الموت على هذه الحياة البهيمية بل ما هو أشر منها أفضل. والحيوان لا يستطيع أن يتغير إلى ما هو أفضل في حين أن الإنسان الذي يصبح حيوانا أشر من الحيوان الذي لا يستطيع إلا أن يكون حيوانا. لذلك فضل سقراط الموت لأنه لا يستطيع أن يعيش مع آراء كاذبة وسيرة قبيحة. فإذا شارك الإنسان حياة الأمم والمدن لم تكن حياته حياة إنسان. وإذا انعزل عنهم عاش عيشة نكدة ولا يكون أمامه إما الهلاك أو الحرمان من الكمال. لذلك يحتاج الإنسان إلى مدينة أو أمة غير المدن والأمم الموجودة في ذلك الزمان يسودها العدل والخير بالحقيقة، فما يسود في المدن والأمم الأرضية هو الجور. هذه المدن والأمم المثالية ينال فيها الناس السعادة ويحصلون على المهنة الملكية، الفلسفة والأخلاق. الفلاسفة في القمة ويتلوهم سائر أهل المراتب. ثم تصل الأمم المضادة للمدينة الفاضلة وسيرة كل منها وأسباب التحول من الفاضلة إلى المضادة أي أسباب انهيار الأمم وسقوط المدن. وعرض ذلك في «السياسة».
42
فلما كملت هذه المدينة بالقول عرض في «طيماوس» الموجودات الإلهية والطبيعية معقولة ومعلومة وترتيب باقي العلوم. ثم عرض في «النواميس» السير الفاضلة لأهل المدينة حتى يجمعوا بين العلوم النظرية والفضائل العملية. وبين رتبة الرياسة في «كريتاس» الذي بين فيه كيف يربي سقراط ولده جمعا بين «طيماوس» و«النواميس». وتحصل هذه المدينة بالفعل بوضع نواميس لها كما عرض في «أبينمس» ثم عرض كيفية تعليم أهل المدن والأمم وتأديبهم واختيار طريق سقراط أو تراسوماخس. وبين لقومه ما هم فيه من جهل. وطريق تراسوماخس تأديب الأحداث وتعليم الجمهور. وكان لسقراط القدرة على الفحص العلمي عن العدل والمحبة وباقي الفضائل دون القدرة على تأديب الأحداث والجمهور. أما الفيلسوف الملك وواضع النواميس فله القدرة على الطريقين معا. طريق سقراط طريق الخواص. وطريق تراسوماخس طريق الأحداث والجمهور. ثم فحص مراتب الملوك والفلاسفة والأفاضل في نفوس المدينة ومقومات عظمتهم وعظمة الملوك في «منكسانس» إذ لم يشر إلى ذلك أحد من القدماء.
ثم يشير الفارابي إلى «رسائل» أفلاطون التي ذكر فيها جمهور أهل المدن والأمم في زمانه وبين الخطر العظيم الذي يتعرض للإنسان الكامل الفاضل وضرورة تحويلهم إلى الحق والسير الفاضلة أو الاقتراب منها، بين في «الرسائل» كيف تنقضي سير الأمم والنواميس الفاسدة التي في المدن وكيفية الابتعاد عنها وإصلاح السير تطبيقا على أهل أثينية، قوم أفلاطون وسيرهم. وبالرغم من أن «فلسفة أفلاطون» لا تبدأ بالبسملة من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو المالك إلا أنها تنتهي بالحمدلة والصلاة على النبي محمد وآله الطاهرين.
43
ويمكن إجمال الملاحظات التالية: (1)
تحتاج «فلسفة أفلاطون» إلى نسق كلي يضم المحاورات كلها بدلا من الانتقال من واحدة إلى أخرى كما هو الحال في نسق أرسطو، المنطق والطبيعيات وما بعد الطبيعة. هناك نسق ضمني وهو الانتقال من الفرد إلى المدينة أو من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية. (2)
يعطي الفارابي قراءة فارابية لأفلاطون حتى يمكن شد ساق المثلث إلى القاعدة التي يشد إليها الضلع الثاني «فلسفة أرسطو»؛ ومن ثم يتوحد الفارابي مع أفلاطون وأرسطو حتى يمكن ضم المذهبين إلى تصور واحد؛ إرجاع تفرق الوافد وتجزئته إلى وحدة الموروث وتكامله.
44 (3)
يظهر الموروث على نحو ضمني مثل البداية بعلم اللسان كما فعل الفارابي من قبل في «إحصاء العلوم» وكما هو مصرح به في أصل الموروث
وعلم آدم الأسماء كلها
والشعر العربي، والتفرقة بين الخاصة والعامة، وذكر المساجد مع الهياكل، والحديث عن الأشياء الإلهية، وتفضيل الشفاهي على المكتوب كما هو معروف في رواية الشعر والقرآن والحديث. وقد يكون هذا التعظيم والتبجيل والتقدير لسقراط، علما وسيرة، لأنه نبي اليونان دفاعا عن النبوة والأنبياء
منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصص عليك ،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . (ج) فلسفة أرسطو
واسم الكتاب «فلسفة أرسطوطاليس وأجزاء فلسفته، ومراتب أجزائها، والموضع الذي منه ابتدأ وإليه انتهي». يشمل عرض المذهب إذن أربعة جوانب:
أجزاؤه ومراتبها تحليلا ثم تركيبا، عناصر ثم بنية، ثم نقطة البداية ونقطة النهاية أي تطور المذهب من منطلقاته ومقدماته الأولى حتى غاياته ومقاصده الأخيرة. الجانبان الأولان بنية المذهب، والجانبان الأخيران تطور المذهب.
45
ويقوم الكتاب على رؤية مركبة. الفارابي قارئا أرسطو قارئا أفلاطون رائيا الموضوع. وبالرغم من التباين في الرأي بين أفلاطون وأرسطو، بين المثال والواقع، إلا أن الفارابي يقرأ أرسطو قراءة أفلاطونية حتى يتم ضم المذهبين إلى مذهب الفارابي الإشراقي.
وبالكتاب بعض التكرار نظرا لأن العرض أحيانا يكون للكتب وأحيانا لموضوعاتها. فأسماء الكتب مشتقة من موضوعاتها. ولا يختلف الفارابي في فلسفة أرسطو عما عرضه الكندي من قبل في «كمية كتب أرسطو» إلا أن الكندي كان أكثر صراحة في أنه يبدأ بعرض أعمال أرسطو طريقا إلى فلسفته في حين أن الفارابي يعرض فلسفة أرسطو من خلال أعماله. يقوم الفارابي في عرضه لفلسفة أرسطو بتوضيحها لدرجة التبسيط وإيضاح ما اعتاص عليه حتى أصبحت فلسفة سطحية لا عمق فيها.
46
وبطبيعة الحال لا يذكر إلا الوافد دون الموروث. ولا يذكر من الوافد إلا أرسطو ثم أفلاطن وعلى نحو قليل.
47
ولا تظهر أفعال القول. فالعرض قد تجاوز الشرح والتلخيص. بل تظهر أفعال الشعور المعرفي في الزمنين الماضي وهو الأكثر مثل أراد، وجد، أخذ، ابتدأ، أردف، أتى، بين، ألزم، شرع، ابتدأ، تأمل، فحص، أمعن، تلمس، علم، ميز، عرف، سمى، أكمل، أو في المضارع مثل يرى. وهي أفعال تدل على المعرفة والرؤية والبيان والتوضيح والتأمل والفحص، وفي نفس الوقت تدل على البداية والنهاية ووصف مسار الفكر.
ويحدث التقابل بين الأنا والآخر في ذكر أسماء بعض الكتب المنطقية مرة باليونانية ومرة بالعربية مثل قاطيغورياس باليونانية والمقولات بالعربية بداية بالتعريب من الآخر ثم الترجمة من الأنا، أنالوطيقا باليونانية التحليل بالعكس بالعربية، طوبيقا وهو المواضع. وأحيانا بداية بترجمة الأنا ونهاية بتعريب الآخر مثل العبارة بالعربية وبرمانياس باليونانية. وأحيانا تذكر الترجمات العربية وحدها دون التعريب اليوناني مثل الحكمة، الجدل، الرياضة، المنطق، الطبيعة، ما بعد الطبيعة، التبكيتات، المكابرة، البهت، الجوهر، العرض، المادة والصورة، القوة والفعل، العلل المادية والصورية والفاعلة والغائية، الحركة والسكون، السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد، الآثار العلوية، النفس، العقل، النبات، الحيوان، النوم واليقظة، طول العمر وقصره، الحس والمحسوس، الشباب والهرم، الصحة والمرض، وأحيانا يذكر التعريب اليوناني والنقل العربي في آن واحد مثل أنالوطيقا الثانية. وأحيانا يتحول اللفظ المعرب إلى لفظ عربي، ويستمر كذلك ويصبح من الألفاظ الدخيلة مثل السوفسطائية وأقل منها لفظ أسطقس وجمعه أسطقسات.
48
ويبدأ العرض ببيان اتفاق أفلاطون وأرسطو فيما يتعلق بكمال الإنسان. ولما كان الموضوع غير بين بنفسه أو ببرهان يقيني فقد بدأ أرسطو بما بدأ به أفلاطون وهو أن المطالب التي يتشوق إليها الإنسان أربعة؛ سلامة الأبدان، وسلامة الحواس، وسلامة القدرة على معرفة تمييز الأشياء التي بها السلامة، وسلامة القوة على السعي لتحقيق هذه السلامة. تلك هي المعرفة الضرورية وهذا هو السعي سواء كان سعي الإنسان بمفرده أو بالتعاون مع آخرين، سواء كان بفعل أو بقول. وكلاهما نافع وضروري. هنا يبدأ أرسطو من البدن وليس من العقل، من الواقع وليس من المثال.
ثم وجد أرسطو أن النفس متشوقة إلى الوقوف على أسباب الأشياء المحسوسة والأمور المشاهدة في السماء والأرض، ما يراه في نفسه وفي العالم
وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ،
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ، وسمع هاجسا في النفس يتجاوز هذه المطالب الأربعة، يفرح به ويلتذ كلما كان علمه به أيقن وأوثق، وكان ما وجده أكمل وأعظم. وهكذا يصبح أرسطو إشراقيا مثل الفارابي ويدرك الإنسان أن ما أدركه يعطيه فضلا وجمالا ونبلا وجلالة دون غيره من الناس. فالإشراق فردي وليس عاما. وحصل له فضل وكمال ليس عند غيره، ووقع له تجل ونبل يعجب به ويستعجب غيابه عند الناس أو يراه كرامة له خاصة إذا كان مستعصي الفهم عند الجميع الذين قد يرون أن هذا العلم غير ضروري، بل فضلا زائدا على النافع الضروري وإن كانوا يرونه جلالا ونبلا. فينقسم العلم عندهم إلى قسمين. علم نافع في سلامة الأبدان وعلم يتشوق لذاته. الأول علم عملي والثاني علم نظري، فالعمل يسبق النظر، والنظر يتجاوز العمل. ويستعمل الناس الحواس لإدراك المطالب الأربعة أو فيما لا نفع مباشرة فيه مثل النظر إلى التماثيل وشم الراوئح الطيبة وسماع الأصوات الجميلة أي الأعمال الفنية، اللذة من أجل اللذة. فالإدراك الحسي مؤشر أيضا على أن المعرفة قد تكون للمعرفة. وهناك معارف أخرى خارجة عن المعارف الحسية الأربعة يتشوق الإنسان إليها مثل الخرافات والأحاديث وأخبار الناس والأمم ينال فيها الإنسان اللذة والراحة وكذلك النظر إلى المحاكين وسماع الأقاويل والأشعار. وقد تكون نافعة في الإدراكات الأربعة عرضا لا قصدا.
49
وهناك معارف نشأت مع الإنسان وكأنها فطرت معه وحصلت له بالطبع وزائدة على ما تدركه الحواس، يلجأ إليها لاستكمال المعارف الحسية. فهي كافية للحواس وغير كافية لمعارف أخرى وتحتاج إلى تأمل وروية واستشارة الآخرين أي التجربة المشتركة. ربما تسبب الحيرة بين النفع والضرر، وربما تنكشف على أنها مجرد وهم. بعضها أوثق من بعض. فإذا صادف صاحبها اليقين وصل إلى الكمال. وهذا حال الإنسان في العلوم العملية.
المدركات إذن في العلوم العملية ثلاث؛ المدركات بالحواس، والمدركات بالمعرفة الأولى الزائدة على الحواس، والمدركات بالفحص والتأمل والروية والعلوم النظرية أيضا التي تجري على نفس المنوال. الأولى تسمى المحسوسات، والثانية تسمى المقدمات، والثالثة النتائج، ولا يمكن للإنسان استنباط الأشياء النافعة دون معرفة غاية السعي، مثل غاية سلامة الأبدان وسلامة الحواس كل منهما غاية الآخر، وكلاهما سلامة نافعة، وربما أحدهما غاية والآخر وسيلة. فلا قوام للبدن دون الحواس، ولا قوام للحواس دون البدن، وهو وقوع في الدور. وربما يكون كلاهما وسيلة لكمال الفطرة كغاية. وقد تكون الفطرة أي الطبيعة وسيلة للإرادة والاختيار. إذن تتسلسل الوسائل وتتسلسل الغايات. كل وسيلة لها غاية، وهذه تكون وسيلة لغاية أخرى حتى الوصول إلى غاية الغايات صعودا من الأدنى إلى الأعلى، من الصبا والحداثة إلى البلوغ والنضج؛ فالمعارف ترتقي بترقي الأعمار.
وتترقى المعارف الأربعة الأولى سلامة الحواس والأبدان إلى المعارف الثانية الطبيعية والإرادية وإلى معارف تتشوق إليها النفس تخوفا من الإفراط في الشهوات شوقا نحو الأكمل وهي المعارف الخلقية. وهو تشوق إلى علم إنساني، إلى ما ينبغي أن يكون. هو علم أخص بالإنسان لأن المدركات الحسية الأربعة الأولى يشارك فيها الإنسان والحيوان، وليس للحيوان تشوق إلى فكر وأسباب في السماء والأرض أو تعجب من أشياء يود التعرف على أسبابها، في حين أن الإنسان له ذلك، وقد يكون أكمل من إنسان بمعرفة جوهره متجاوزا أعراضه. صحيح تتشوق النفوس إلى أن تعلم النافع الضروري، وما زاد عن ذلك يكون فضلا في العلم. فإذا ما تشوقت النفس إلى هذا الفضل هل يكون تعديا وتجاوزا بل وآفة تلحق بالطبع ينبغي التخلص منها أو ربما إتمامها؟ هذا كله موضع حيرة وتشعب ظنون وموضع تأمل. فما الحجة عليه واختلاف الناظرين كثير ؟ وإن اختار الإنسان عشوائيا فإن ذلك يعني تقصيره عن رتبة الوجود. وإذا ترقى الإنسان في المعارف من المعارف الحسية إلى الطبيعية إلى الاختيارية فهل لها كلها أدوات وآلات مثل الحواس والإرادة؟ وإذا أفرطت الإرادة فكيف الحكم عليها، بالطبيعة السابقة عليها أم بإرادة تالية لها؟ وهذا ما يدعو الإنسان إلى الفحص والتأمل في جوهره وكماله الأخير. كيف يصير إنسانا وماهيته إنسانية ووجوده حتى يكون سعيه نحوه من تلقاء نفسه؟
الفعل الإنساني هو غايته سواء الفعل الفردي أو فعل المدينة. ولا يمكن معرفة غرض الجزء دون معرفة غرض الكل. كما لا يعرف غرض الأعراض دون معرفة غرض الجوهر. ولما كان الإنسان جزءا من العالم فإن معرفة غرض العالم يساعد على معرفة غرضه. فالإنسان جزء ضروري في العالم، وغرضه الأقصى هو الغرض الأقصى للعالم؛ فمعرفة غرض واحد تؤدي إلى معرفة غرض الآخر. وإذا كان في الإنسان طبيعة وإرادة فإن في العالم أيضا طبيعة وإرادة يكون موضوعا للفحص الطبيعي وهي الطبيعيات والفحص الإرادي وهي الإنسانيات، موضوع السير الفاضلة والأفعال الجميلة التي تبعد الإنسان عن الرذائل والسيئات والأفعال القبيحة. ولما كانت الأشياء بالطبيعة والفطرة تتقدم بالزمان الأشياء بالإرادة والاختيار تقدمت الطبيعيات على الإنسانيات وإن كانت الغاية في كليهما علم اليقين.
50
بعد هذه المقدمة النظرية عن أقسام العلوم بعرض الفارابي أرسطو في نسقه الثلاثي، المنطق الذي به يحصل اليقين باعتباره آلة للعلم، والطبيعيات ثم الإنسانيات. وتلحق الأخلاقيات بالنفس والعقل،
51
ولا تكاد تذكر ما بعد الطبيعة إلا في عبارة واحدة باعتبارها فحصا في الموجودات على غير النظر الطبيعي، فما بعد الطبيعة طبيعيات مقذوفة إلى أعلى، ومدفوعة إلى أقصى حدودها إلى درجة نفيها وسلبها المنطق أصغر أجزاء الفلسفة والطبيعيات أكبرها والإنسانيات أوسطها؛ فالعلوم ثلاثة: المنطق، والعلم الطبيعي، والعلم الإرادي.
المنطق هو العلم المؤدي إلى اليقين وطرق الإقناع والتخييل ووسائل البرهان وأنواع المخاطبات، ومراتب الجمهور وأي مرتبة أقدر على أنواع الخطاب، وغياب اليقين في المغالطات أي اليقين السالب. وسمى أرسطو هذه الصناعة المنطق لأنها تقوم بالجزء الناطق من النفس وتسير به نحو اليقين والنافع من أنحاء التعليم، وكيفية النطق باللسان والمخاطبة التي تقع فيها المغالطة لتجنبها. ولما كان العلمان الطبيعي والإرادي علما واحدا بالجنس قدم المنطق عليهما فأحصي أولا أصناف الموجودات التي منها المقدمات، وكيف تدل الألفاظ المشهورة عند الجميع عليها واستنادها إلى المحسوس والمعقول وحصرها في عشرة أجناس هي نفسها أجناس الموضوعات الطبيعية والإرادية. ثم عرف صناعة المنطق وكيفية تأليف المقدمات وتركيب القضايا وأنواعها ونتائجها من حيث الصدق والكذب وجهاتها الاضطرارية والممكنة والمستحيلة، وأنواعها من حيث الإيجاب والسلب، الوجودية والشرطية وهو ما عرضه في كتاب «العبارة». ثم عرض كيفية تأليف المقدمات واقترانها وأنواع الاقترانات؛ الاضطرارية والوجودية والممكنة. ومتى تكون صادقة أو كاذبة، وأنواع تعليمها ومخاطبتها إيجابا أم سلبا، وعرض ذلك في أنالوطيقا أي التحليل بالعكس، ثم عرض بعد ذلك إلى اليقين وكيفية حصوله وأنواعه في العلل الأربعة استعارة من الطبيعيات إلى المنطق، وشرائط اليقين، وهو اسم رسالة منطقية للفارابي في التأليف، مواردها وصورها، أسبابها ومبادؤها.
52
وقد سمى أرسطو هذه الصناعة أيضا باسم الحكمة دون غيرها. وكل صناعة أخرى سميت حكمة مجازا، كما تسمى أجزاء الصناعة كلها وكل أنواع الصنائع النظرية حكمة. ويدخل في ذلك كيفية استعمال المقدمات الأول وطرق المخاطبة النظرية وأنواع الصناعات النظرية، والملكات النفسية التي تتم بها هذه الصناعة النظرية، ما هو بالطبع منها وما هو بالإرادة. وقد تم عرض ذلك في «أنالوطيقا الثانية».
ثم ينتقل الفارابي من عرض منطق اليقين، المقولات، والعبارة، والقياس والبرهان إلى عرض منطق الظن، الجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر. فصناعة «طوبيقا» أو «المواضع» الهدف منها الارتياض على جودة الأقيسة والبراهين والدقة في الصناعة النظرية اعتمادا على السؤال والجواب، ربما من منطق الأصوليين. ثم تأتي صناعة لتؤمن من الوقوع في الغلط والبقاء على الحق واستعمال البراهين، اعتمادا أيضا على السؤال والجواب وهي صناعة السوفسطائية أي المغالطة. غرضها ستة أشياء: أولا التبكيت، ثانيا التحيير، ثالثا مكابرة الذهن وسياسته، رابعا إلزام العي في القول والمخاطبة، خامسا إلزام الهذر في المخاطبة، سادسا الإسكات وحظره من القول أصلا . فالتبكيت الإلزام بنقيض الوضع أي إيقاع الخصم في التناقض، والتحيير هو وضعه في حيرة بين اعتقادين متناقضين فإذا لزم أحدهما لم يلزمه الآخر أو يتساوى القولان فيصعب الاختيار بينهما، والبهت أو المكابرة هو دفع الأشياء الظاهرة بالتشكك فيها حتى البينة بنفسها حتى ينتفي التعليم أصلا، والشك في شهادة الحواس والمشهور والاستقراء من أجل العوق عن الفحص. فهذه العناصر الثلاثة الأولى هيئات نفسانية رديئة تحصل من الصناعة السوفسطائية. أما الثلاثة الباقية فإنما هي عقل في اللسان لا في الفكر. فالعي في المخاطبة إما أن يكون على الإطلاق بالطبع أو العادة وإما في لسان الأمة التي بها يخاطب. وقد يكون العي إما على الإطلاق في الأشياء التي تضيق العبارة عن التعبير عنها أو يصعب فهمها وإما في اللسان الذي يخص أمة ولزوم الحال من فهم العبارة المشتركة عند الجميع بين المتخاطبين. وإلزام الهذر هو أن تنقص العبارة أو أن تزيد فيلزم المحال في المعنى. وأما الإسكات فهو أخس الأفعال السوفسطائية ويكون عن تخويف أو تخجيل أو انفعال. ووضع أرسطو كل هذا الارتياض في «سوفسطيقا» ليخلص من المنطق من انحرافه عن الحق واليقين لأن الجدل قد يكون خادما للحق والعلم اليقيني.
ثم أعطى أرسطو بعد ذلك القوى والصنائع التي بها يكون للإنسان القوة على تعليم من ليس سبيله علم المنطق أو علم اليقين. وهم طائفتان الأولى ليس لها بالطبع تلك الملكات النفسانية، والثانية لها بالطبع تلك الملكات إلا أنها فسدت باعتياد أفعال أخرى. فأعطى أرسطو لذلك صناعة يقتدر بها الإنسان إقناع الجمهور بالأشياء النظرية والعملية التي جرت العادة على الاكتفاء فيها بالأمور الجزئية والمعاملات الإنسانية المشتركة والتي يكون بها تعاونهم على السعي نحو الغاية التي من أجلها وجد الإنسان. وهي صناعة تخييل الأمور التي تبينت ببراهين يقينية. والمحاكاة ضرب من تعليم الجمهور لكثير من الأشياء النظرية الصعبة لتحصل في نفوسهم رسوما بمثالاتها، ولا تفهم إلا في مناسباتها لأن فهمها في ذواتها عسير إلا على من لديه القدرة على إدراك الأمور النظرية وهنا يجمل الفارابي الخطابة والشعر معا دون تفصيل. وبالتالي ينتهي عرض أرسطو للقوة المنطقية.
53
ثم يعرض الفارابي بعد ذلك أجزاء العلم الطبيعي وهي نفس موضوعات كتاب «المقولات» في المنطق على مستوى الحس وليس على مستوى العقل مما يدل على وحدة العقل والطبيعة. يشهد الحس بكثرتها. وكثرتها على ضربين: كثرتها في المكان بشهادة الحس، وكثرتها في الحس لدرجة التضاد. الأولى في الموضوع والثانية في الذات من خلال المحسوسات. فيصبح الموضوع حالة للحس. سمي الموضوع الجوهر، والموضوع المدرك من خلال الحواس الأعراض مثل الموضوع والمحمول. وتتعاقب الأعراض على الحواس وتصبح تسعة: الكيف، والكم، والزمان والمكان، والجهة، والإضافة، والفعل، والانفعال، والملكية. والأعراض إما ذاتية وهي الجواهر الأولى أو عرضية وهي الجواهر الثانية. عرف أرسطو ذلك على نحو طبيعي وليس بإرادة الإنسان. الجوهر ما به ماهية الشيء وأعرضه الذاتية مقوماته الأولى، ثم وجد أرسطو أقاويل تعاند ذلك، تنكر الوجود والتغير وتعاند شهادة الحواس وتنفي الكثرة، ربما يقصد الفارابي بارمنيدس وكل المدرسة الفيثاغورثية الأفلاطونية دون أن يشير إليها. وبين أنها مغالطات. يقوم العلم الطبيعي إذن على مقدمات بينة، ويستعمل الطرق الجدلية للتمييز بينها وبين المغالطات حتى لا تبقى إلا الأقاويل العلمية. وهنا يتدخل المنطق كآلة لفحص الأقاويل الطبيعية عند السابقين على أرسطو دون ذكرهم. ويعطي العلم الطبيعي الأصول الكلية، وهي أشبه بالقضايا والمقدمات والمبادئ العامة البرهانية وإن كان الفحص فيها بطرق جدلية.
فالجوهر ممتد في كل الجهات، ما له طول وعرض وعمق بشهادة الحواس، فهو جوهر جسمي، وله مبدآن: المادة والصورة، الأول بالقوة والثاني بالفعل. والمبدأ الذي ينقل بالقوة إلى ما بالفعل هو المبدأ الفاعل. ولما كانت الحركة لا تكون إلا نحو غاية ظهر المبدأ الرابع وهو الغاية؛ ومن ثم كانت المبادئ أربعة: المادة والماهية والفاعل والغاية. ثم عرف الطبيعة الجسم والجوهر الجسماني الممتد إلى الاتجاهات كلها وأعراضه، وأنه غير مركب، وأن أقدم أبعاده هي الطول والعرض والعمق. وكل جوهر جسماني ممتد لا إلى ما لا نهاية في العظم. ثم فحص الحركة وأنها في زمان، وبين أن الزمان هو عدد الحركة. ثم فحص المكان، هل هو جوهر أم عرض. ثم فحص الخلاء وهل الحركة في حاجة إليه، وانتهى إلى عدم وجود الخلاء. وبين حركة الأجسام عن بعضها بالتماس، وفصل أنواع الحركة الطولية والمستديرة، النقلة والاستحالة حتى الانتهاء إلى المحرك الأول الذي لا يتحرك، ليس له جسم ولا في جسم أو مادة. وهو موضوع فحص خارج النظر الطبيعي، ويعني ما بعد الطبيعة.
54
وهذا ما عرضه أرسطو في «السماع الطبيعي» يعرضه الفارابي بإسهاب.
ثم انتقل إلى موضوع آخر الجسم المتحرك باستدارة المحيط بالأجسام الأخرى، لا خلاء به، وبه أجسام أخرى متحركة. وهذا الجسم هو العالم، وبه أقدم الأجسام التي بها تلتئم باقي الأجسام. حركاتها مستديرة في مكانين أول ووسط. وهي ثلاثة أنواع، والعناصر التي تلتئم منها الأجسام خمسة، أربعة منها الأسطقسات. وتعرض أرسطو لذلك في «السماء والعالم».
ثم عرض هذه الأسطقسات الأربعة كمواد متعاقبة تتكون منها الأجسام في عالم الكون والفساد. ثم فحص النمو والاضمحلال، وتماس الأجسام، والفعل والانفعال في الكيفيات المحسوسة، والتركيب والاختلاط والامتزاج. ثم فحص الأسطقسات في حد ذاتها لمعرفة هل هي قديمة لا متناهية وهل هي بالقوة أم بالفعل. فوجد أنها أربعة متناهية بالفعل. وفحص هل هي متكونة من واحد أو من ثلاثة ووجوه التكوين؟ وهل تحتاج في تكوينها إلى مبدأ فاعل خارجي أم هي أسباب فاعلة سماوية؟ وهل هي أجسام فاسدة أم باقية؟ ثم بحث عن الغاية من التكون والفساد، وهل الفساد مستمر يعود مرارا كثيرة. وعرض ذلك في كتاب «الكون والفساد».
ثم بحث هل هذه الأسطقسات متضادة في ماهيتها وقواها؟ فهي متجاورة متفاعلة. لكل منها غايته وقوته. فالأسطقسات متفاوتة فيما بينها من حيث الفعل والانفعال. وكيف يكون التجاور، بمماسة قطع صغار أم بجملة الأجسام من الوسط والفوق، وهما ضربا التجاور؟ وتختلف الأجسام السماوية فيما بينها وتتفاوت في قوة التماس فيما بينها بين الإفراط والنقص. وهي أمور تتفق مع المشاهدة. وهي خالية من الأضداد ومنفردة بماهيتها. لذلك سميت الأجرام. سمي المجاور للأجسام السماوية النار وهي غير النار الأرضية، وفوقه الجسم الطافي الذي يتحرق بها أي الهواء، ثم سمي الذي دونه الماء والأرض. والاختلاط بين اثنين مثل الأرض والماء. ثم بين أنواع الاختلاط وكيف أن المختلطة تظل قائمة بنفسها وتتم بلا نهاية وتتغلب أحد العناصر عليه. فما غلب عليه الهواء يسمى هوائيا، وما غلب عليه الماء يسمى مائيا وهكذا. ثم بين الأعراض الحادثة في الأخلاط. هل وجودها من أجل أنفسها أم من أجل غيرها لاكتمال الموجود أم لكليهما؟ وقد عرض أرسطو ذلك في المقالات الثلاث الأولى من «الآثار العلوية». ثم نظر في الأجسام المركبة من الأسطقسات طبقا للتشابه والاختلاف. أو التشابه إما أن يكون بين جسمين مختلفي الأجزاء مثل الأسطقسات أو بين جسم وجزء من أجسام العالم. وفحص الحالة الأولى وكيفياتها وقواها في المقالة الرابعة.
55
ثم نظر في الأشياء المتشابهة الأجزاء المكونة من الأسطقسات مثل الحجارة والأجسام الحجرية. فحص الأرض وأجزاءها وأصناف الأبخرة: المائي، والناري، والهوائي، والدخاني بسبب الحرارة الغريزية في باطن الأرض. فالحار والبارد قوتان فاعلتان للأجسام المتشابهة الأجزاء. وسبب البخارات تحت الأرض الأجسام السماوية وما جاور الأرض من أسطقسات. ثم بين أصناف التغيرات على الأجزاء الأرضية المختلفة التي منها تحدث الحجرية والمعدنية في عمق الأرض وعلى سطحها، فأحصاها وفصل أنواعها ووصف ماهيتها والمبادئ الفاعلة فيها وغايتها المستمدة من غاية العالم كله. وقد عرض أرسطو ذلك في كتاب «المعادن».
ثم فحص الأجسام المختلفة الأجزاء. وابتدأ «بالنبات» قبل «الحيوان» اعتمادا على الحس والمشاهدة فأحصاها، وذكر غاية كل عضو، وفحص كل نوع، مادته وعلته الفاعلة وأعراضه. ثم انتقل إلى الحيوان بنفس الطريقة، إحصاء الأعضاء بناء على الحس والمشاهدة وأغراضها وأفعالها.
56
ثم وجد «النفس» ضمن المبادئ الطبيعية التي لم تكن كافية لمعرفة النبات والحيوان بعد أن عرف المبادئ الطبيعية وغايتها. وبان أن الأجسام الطبيعية ضربان، الطبيعة أي ماهية كل جوهر طبيعي وما به يتجوهر. والثاني مبدأ يتجوهر بالطبيعة، أقرب إلى الصورة منه إلى المادة وهي «النفس». ثم فحص قواها ومبادءها. النفس ماهية الجوهر الطبيعي. وهي التي يحصل بها الجوهر النفساني أي القابل للحياة. وتجتمع فيه ثلاثة مبادئ: المادة، والصورة والغاية. ينطبق عليها ما ينطبق على الأجسام الطبيعية. فالنفس واحد وكثير في نفس الوقت. وعرف القوى النفسانية ووجد بعضها خادما وبعضها مخدوما، بعضها رئيسا وبعضها مرءوسا، بعضها آلة وبعضها غاية، بعضها مادة وبعضها صورة لها. أول قواها التغذي وما بها من حرارة وبرودة يشارك فيها النبات والحيوان والإنسان دون استكمال القوى الأخرى من نمو وتوليد كما هو الحال عند ابن سينا. ثم فحص الصحة والمرض في كتاب «الصحة والمرض». وأعمار النفس في «الشباب والهرم»، وطول العمر وقصره دون الإحالة إلى اسم الكتاب، والحياة والموت، والحس والمحسوس في كتاب «الحس والمحسوس». والنفس النباتية قوة متوسطة بين الأجسام الحجرية أي المعادن والحيوان. ثم فحص بعد ذلك أصناف الحركات وأمكنة الحيوان التي يسعى إليها لطلب الغذاء وأزمنة غذائه القصيرة والطويلة؛ وذلك في كتاب «حركات الحيوان المكانية» وربما هو «أجزاء الحيوان». ثم فحص النوم واليقظة والرؤيا والمنامات المنذرة، أسبابها ومبادءها. ووجد أن الأمر يحتاج إلى مبادئ أخرى أعلى من المبادئ الطبيعية ودون الإحالة إلى كتاب «النوم واليقظة». ثم فحص الحفظ والذكر والنسيان والتذكر دون الإحالة إلى «التذكر والنسيان». وهي كلها قوى مشتركة بين الحيوان وهي ما يعرف بالطبيعيات الصغرى.
57
ولما فحص هذه القوى في الإنسان وجد أنها لا تكفي في فهم النفس الإنسانية؛ لأنها معدة لأفعال أقوى وأزيد مما في الحيوان. فوجد في الإنسان النطق أو العقل أو المبادئ والقوى العقلية. فبحث في العقل، طبيعته وماهيته وقواه، وأنه ماهية الإنسان، وهو مبدأ فاعل، وغاية الطبيعة. نسبته إلى النفس كنسبة النفس إلى الطبيعة. وكما أن الجوهر الطبيعي ضربان: مادة وصورة، طبيعة وماهية، جوهر ومبدأ التجوهر، كذلك النفس ضربان؛ مادة وهي النفس، وصورة وهو العقل، قوة ومبدأ. الأولى خادم للثانية، والثانية رئيسة للأولى، لذلك فحص أفعال القوة العقلية وأفعال العقل. والعقل هو ما يتجوهر به الإنسان. وهو عقل كامل ما زال بالقوة في حاجة إلى أن يتحول إلى عقل بالفعل.
والعقل الذي يوجد بالفعل في الأشياء الطبيعية هو العقل العملي أو المشيئة والاختيار، والعقل الذي تحصل له المعقولات هو العقل النظري. وواضح هنا أولوية العقل العملي على العقل النظري. الأول يخدم الأشياء الطبيعية والثاني يخدم الأمور النفسانية ليحصل له كمال العقل. والمعقولات مخدومة لا خادمة. فالعقل آخر ما يتجوهر به الإنسان. ولا يوجد أكمل منه، والنفس خادمة للعقل كما أن الطبيعة خادمة للنفس. ولا تكفي الطبيعة والنفس لكمال الإنسان دون العقل.
والعقل النظري ذاته غير كاف إذا كان ما زال عقلا بالقوة دون أن يتحول إلى عقل بالفعل. والعقل بالقوة ليس أزليا، ومن ثم لا يتحول بالفعل إلا من فاعل قريب من العقل بالفعل وهو العقل الفعال. وهو عقل ليس في مادة. العقل بالفعل يحذو حذوه. ويتصف بصفات ثلاث؛ فهو فاعل وغاية وكمال. وهو عقل مفارق، وفاعل مفارق وغاية مفارقة وكمال مفارق. وإذا كانت الأجسام السماوية هي المبادئ المحركة للأسطقسات والأجسام الأخر فهل العقل مرادف لها خاصة إذا كانت للأجسام السماوية نفوس وعقول؟ وإذا كانت كذلك فإنها لا تكفي، وتكون أقل من العقل الفعال. وهو يشع على الأجسام السماوية فجعلها ذات نفوس وعقول. العقل الفعال أعلى من الأجسام السماوية كما أن الأجسام السماوية أعلى من الأجسام الطبيعية. والعقل الفعال هو الذي يعطيها حركتها المستديرة الدائمة. وهذا يحتاج إلى نظر أعم من النظر الطبيعي. فإن آخر ما ينتهي إليه النظر الطبيعي هو إثبات العقل الفعال ومحرك الأجسام السماوية.
ثبت إذن وجود الطبيعة والنفس في الإنسان، وهما القوتان العملية والنظرية، وكلاهما غير كافيين لفهم الأفعال الكائنة عن المشيئة والاختيار التابعين للعقل العملي. هنا ينتقل الفارابي من النفس والعقل إلى الأخلاق، ويصبح العقل العملي تاليا للعقل النظري بعد أن كان عقلا طبيعيا سابقا عليه. والعقل العملي في الإنسان غير النزوع في الحيوان لأن الأول كمال نظري في حين أن الثاني قوة طبيعية غير مختارة؛ ومن ثم تؤدي الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الإنسانية.
ولا يفصل الفارابي علم ما بعد الطبيعة وكأنه لا لزوم له ولا مكان له في فلسفة أرسطو. ويكتفي بالتحول من العلم الطبيعي إلى العلم المدني.
58
ويستدرك مسار فلسفة أرسطو كلها والانتقال من سلامة الأبدان. والحواس إلى النفس والعقل والعلم المدني على نحو تصاعدي لإكمال العقل الإنساني ولإكمال العلم الطبيعي، وربما لم يطلع الفارابي في ذلك الوقت على كتاب أرسطو «ما بعد الطبيعة» وأن عرضه جاء متأخرا عن «فلسفة أرسطو».
59
ومن ثم كانت الفلسفة ضرورية لكل إنسان بالوجه الممكن فيه، وكما بدأ الكتاب بالبسملة فإنه ينتهي بالحمدلة والصلاة على النبي وآله.
60
وفي النهاية يمكن إبداء الملاحظات الآتية: (1)
قرأ الفارابي أرسطو قراءة أفلاطونية كما قرأ أفلاطون من قبل قراءة أرسطية حتى يمكن ضم المذهبين معا في تصور ثالث يجمع بين الاثنين. فتحول أرسطو إشراقيا كما تحول أفلاطون عقليا طبيعيا، والفارابي هو الجامع بين الاثنين في تصور متكامل أتاه من الموروث كمخزون نفسي يمده بتصوراته للعالم. (2)
البداية بالعمل قبل النظر، وبسلامة الأبدان والحواس قبل النفس والعقل على نحو ارتقائي، من الطبيعة إلى العقل يمثل روح المذهب الأرسطي. ثم يتم التحول من العقل النظري إلى العقل العملي من جديد في الانتقال من العلم الطبيعي إلى العلم المدني، طبقا للتصور الإسلامي. (3)
التركيز على منهج أرسطو القائم على الحس والمشاهدة بالإضافة إلى العقل الخالص مما يظهر أرسطو الطبيعي حتى يتم الاتفاق بين العقل والطبيعة، بين أفلاطون وأرسطو باسم الوحي المتطابق مع العقل والطبيعة. (4)
البداية بالموضوع المنطقي أو الطبيعي ثم بعد ذلك يحال إلى مؤلفات أرسطو. يعرض الفارابي الموضوع وليس الكتاب ثم يحيل إلى الكتاب كما يحال إلى المصدر. هذا هو الفرق بين العرض من ناحية والشرح والتلخيص من ناحية أخرى. العرض للموضوع، والشرح والتلخيص للنص لفظا ومعنى، والجوامع عود إلى الموضوع، وأحيانا يتم عرض الموضوع تفصيليا والإحالة إلى مقالة في كتاب كما هو الحال في «الآثار العلوية». (5)
تحويل المنطق إلى علم إنساني أقرب إلى تحليل الخطاب أو لغة التحاور بعيدا عن أشكال القياس وضروبه بالرغم من قصر عرض الخطابة والشعر، فالمنطق تحليل للعلاقات بين الذوات، للمعنى والألفاظ. (6)
تدل ركاكة الأسلوب على أن الكتاب متقدم في التأليف وأنه سابق على اطلاع الفارابي على كتاب «ما بعد الطبيعة». كما أنه مملوء بالتكرار والإسهاب مثل «تحصيل السعادة» وعلى عكس «فلسفة أفلاطون» التي تعرض فلسفته محاورة محاورة. كما يطول مبحث الجوهر والنفس. (7)
يظهر الموروث على نحو ضمني غير مباشر سواء في أسلوب الاعتراض «فإن قال قائل»، وفي أسلوب السؤال والجواب المعروف عند الأصوليين أو في المضمون، التصور الرأسي للعالم، وعلاقة الرئيس بالمرءوس، والمخدوم بالخادم، والأعلى بالأدنى الأثير عند الفارابي، أو في التصور الديني الموروث مثل العقل الفعال المفارق الذي يتصف بصفات مثل صفات الله، والذي فيه يتم تعشيق الوافد، أفلاطون وأرسطو، في الموروث.
الفصل الثاني: العرض النسقي
أولا: العرض النسقي المنطقي (ابن سينا أبو البركات)
(1) الموسوعات الثلاث (ابن سينا)
العرض هو تأليف في الوافد والذي تبلغ ذروته عند ابن سينا في نسق منطقي وعند إخوان الصفا في نسق شعبي، استمرارا للعرض الجزئي خاصة عند الكندي والرازي، والعرض الكلي عند الفارابي.
وهو عرض لأقسام الحكمة الثلاثة؛ المنطق والطبيعيات والإلهيات عند ابن سينا في موسوعتي الشفاء والنجاة أو الأربعة عند إخوان الصفا بإضافة جزء رابع في العلوم الإلهية الناموسية والشرعية أو عند ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات» بزيادة جزء عن المقامات والأحوال.
والتأليف في الوافد له عدة أشكال: تمثل الكندي إلى عرض الفارابي إلى تنظير ابن سينا إلى تطهير ابن رشد وتصحيحه. تمثل الكندي وحسن فهمه للوافد مقدمة البداية عرض الفارابي له بوضوح. الكندي أخذ والفارابي أعطى. الكندي فهم والفارابي عبر. وكان من السهل على ابن سينا بعد ذلك أن ينظر الحكمة كلها ويجد لها بنية ثابتة ما زالت حتى الآن عبر التاريخ سواء في تاريخ الفلسفة الإسلامية أو في تاريخ الفلسفة الغربية في العصر الوسيط. أما ابن رشد فعاد إلى الأصول الأولى يعيد فهمها بعيدا عن خلط المتفلسفين، مسلمين ومسيحيين بين أرسطو وأفلاطون، بين الفلسفة والتصوف كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية، فابن رشد هنا عقلي سلفي ظاهري أصولي.
بعدما فتت الفارابي الآخر، وأدخل الوافد في الموروث ركب ابن سينا الآخر وجعله هو العلم والنسق.
1
الفارابي صاحب فهم وابن سينا صاحب موضوع أو مذهب.
2
الفارابي تحليلي وابن سينا تركيبي. الفارابي معلم وشيخ وابن سينا تلميذ ومريد، الفارابي عبقري وابن سينا ماهر.
3
الفارابي عالم وابن سينا متعالم.
4
وفي ذلك العصر لم يكن هناك تمييز بين العلم والمعلومات؛ فكل معلومات علم، وكل علم معلومات نظرا لأن مهمة الحكماء كانت احتواء الوافد داخل الموروث وإنشاء فكر عضوي إبداعي جديد.
5
وبالرغم من إمكانية إدخال الموسوعات الثلاث في التأليف أيضا ومعرفة مكوناتها، الوافد والموروث وآليات الإبداع إلا أنها نوع أدبي خاص؛ لأنها عرض نسقي ومن ثم استقلت عن التأليف الذي يغلب عليه نوع الرسائل القصيرة في موضوعات متفرقة. ولا تدخل في العرض الجزئي أو الكلي لأنها لا تحمل عناوين الوافد كما يفعل الفارابي في «أجزاء فلسفة أرسطوطاليس» أو «أجزاء فلسفة أفلاطون» أو «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» أو «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة» ... إلخ.
وقد درس ابن سينا نفس موضوعات الشفاء في رسائل مستقلة هي أدخل في التأليف لأنها لا تمثل عرضا نسقيا لعلوم الحكمة. له رسائل في المنطق صغيرة ورسالة واحدة طويلة. كما كتب عن الشعر في المجموع أو الحكمة العروضية. وله رسائل في الطبيعيات والإلهيات أدخل في التأليف منها في العرض. وله «منطق المشرقيين» في المنطق و«عيون الحكمة» في الطبيعيات. يمكن إلحاقها بالعرض النسقي أو بالتأليف.
ويذكر ابن سينا في آخر «البرهان» أنه فرغ من الطبيعيات والإلهيات خلا كتابي الحيوان والنبات في عشرين يوما من غير رجوع إلى كتاب وهذا هو أحدها في التأليف، الاعتماد على النظر والاجتهاد دون رجوع إلى المصادر.
6
تمثل موسوعات ابن سينا الثلاث: الشفاء، والنجاة، والإشارات والتنبيهات التحول من العرض الجزئي عند الكندي أو الكلي عند الفارابي إلى العرض الكلي النسقي عند ابن سينا وإخوان الصفاء.
وتدل أسماء موسوعات ابن سينا الثلاث على الغرض غير المعلن، وتكشف عن المسكوت عنه. فلفظ «الشفاء» من لغة الطب، الشفاء من الأمراض ، ولكنه يعني في الفلسفة شفاء النفس بعلوم الحكمة كما أن الطب هو شفاء الجسد بالدواء، وقد يعني اللفظ معنى أعمق وهو نهاية التعلم من الوافد وتكرار الموروث، وبداية التحول من النقل إلى الإبداع. كما يعني لفظ «النجاة» الانتقال من الطب بمعنى نجاة البدن من الموت إلى الدين، نجاة النفس من الهلاك وإنقاذها بعد الموت ونيلها الخلود. ولكنه قد يعني معنى أعمق وهو التحول من القديم إلى الجديد، من التقابل بين الوافد والموروث إلى استعمالها معا كأداة للحكمة. فإذا كان الوافد أقرب إلى علوم الوسائل والموروث أقرب إلى علوم الغايات فإن كليهما قد أصبحا عند ابن سينا علوما للوسائل من أجل تأليف مستقل هو علوم الغايات تحولا من النقل من الأوائل أو من الأواخر إلى الإبداع حتى ولو كان في صيغة عرض نسقي. أما لفظا «الإشارات والتنبيهات» فهما لفظان صوفيان يكشفان عن تحول النسق العقلي المنطقي المجرد إلى إبداع ذوقي صوفي خالص، وأن الوافد والموروث كليهما لهما مصدر واحد في القلب بالإضافة إلى مصدريهما في التاريخ.
فإذا كان الكندي والفارابي قد حولا علم الكلام إلى الفلسفة فإن ابن سينا قد حول الفلسفة إلى تصوف والتصوف إلى فلسفة كما حول ابن رشد أصول الفقه إلى فلسفة، والقاضي إلى حكيم، ومن ثم تصبح الفلسفة هي الوعاء الذي تصب فيه العلوم العقلية النقلية الأربعة.
وتشبه الموسوعات الثلاث لابن سينا «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» شروح ابن رشد الثلاثة: الأكبر والأوسط والأصغر، من حيث الكم. إنما الخلاف بينهما في العرض والشرح. فابن سينا يعرض مضمون الوافد وهو نوع من التأليف في حين أن ابن رشد يشرح نص الوافد. وقد يقال إن الأوسط يعادل «الإشارات والتنبيهات» في حين أن الأصغر يعادل «النجاة» من حيث الكم. والحقيقة أن النجاة مجرد تلخيص للشفاء في حين أن الإشارات والتنبيهات اتجاه نحو الموضوع مباشرة مثل الجوامع.
والصلة بين الموسوعات الثلاث «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» ليست فقط صلة كمية مثل شروح ابن رشد الثلاثة الأكبر والأوسط والأصغر بل هي علاقة كيفية تدل على التحول من النقل إلى الإبداع. «الشفاء» أقرب إلى النقل نظرا لظهور الوافد فيه، و«النجاة» أبعد عن النقل وأقرب إلى الإبداع نظرا لاختفاء أسماء أعلام الوافد فيه.
7
في حين أن «الإشارات والتنبيهات» أقرب إلى الإبداع؛ لأنها تنبع من الداخل أكثر من صدورها من الخارج. تعتمد على الذوق أكثر مما تعتمد على النظر.
8
وكان ابن سينا على وعي بعلمية التحول من النقل إلى الإبداع على ما يبدو من سيرته الذاتية؛ فالعلم واحد ولكن الخلاف في المنهج، الحفظ والنقل أم التنظير والإبداع.
9
لذلك كانت «الإشارات والتنبيهات» أقل الموسوعات الثلاث تجريدا وأقربها إلى الموروث وإفصاحا عن الإشراق. أسلوبها إشارات وتنبيهات وحكايات مما يجعلها أقرب إلى الأدب الفلسفي. يخاطب ابن سينا القارئ حتى يكون قريبا منه. مصطلحاتها موروثة خاصة في الجزء الرابع عن المقامات والأحوال.
ويتضمن العرض النسقي المنطقي أو الشعبي مكونات النص الثلاثة كما هو الحال في الشرح، التفسير والتلخيص والجوامع: الوافد والموروث وآليات الإبداع في الجمع بينهما في نوع أدبي جديد هو العرض. العرض هو إعادة كتابة الوافد بعد أن امتزج عضويا بالموروث، وأصبح الموروث هو وعاؤه وصورته. وقد مهد لذلك الكندي والرازي والفارابي. ونتيجة لهذا المزج العضوي الجاد أصبح ظهور الوافد قليلا باستثناء البنية والموضوع، كما أصبح حضور الموروث غير مباشر باستثناء اللغة العربية، وتظهر آليات الإبداع المكون الثالث للنص بوضوح أكثر.
10
وفي العرض تغيب أفعال القول الموجودة في الشرح والتلخيص والجوامع؛ لأن العرض لا يبدأ باللفظ كالتفسير أو بالمعنى كالتلخيص أو بالشيء ذاته كالجامع، بل يعني الموضوع ذاته كتصور كلي شامل. ومن ثم فإن إطلاق الحكم بأن الفلسفة الإسلامية مجرد شرح وتلخيص للفلسفة اليونانية لا ينطبق في الظاهر إلا على نوع أدبي واحد هو الشرح وليس على كل الأنواع الأدبية الأخرى مثل العرض بأنواعه، النسقي والشعبي والأدبي والتأليف بكل أنواعه تمثل الوافد، وتمثل الوافد وتنظير الموروث، وتنظير الموروث والإبداع الخالص. ومن ثم تضيع الحجة التي يعتمد عليها الحكم بالأثر والتأثر.
11
ويمكن تحليل العرض النسقي المنطقي عند ابن سينا بعدة طرق كلها ممكنة إنما الأمر فيها هو مجرد اختيار. (1)
عرض المكونات الثلاثة في كل موسوعة من موسوعات ابن سينا الثلاث، «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات»، وفي كل موسوعة ابتداء من المنطق ثم الطبيعيات ثم الإلهيات. وفي المنطق ابتداء من المقولات إلى العبارة ... إلخ، حفاظا على الوحدة الإبداعية لكل عمل. وبالرغم مما قد يوقع ذلك في بعض التكرار خاصة في آليات الإبداع إلا أن هذه الطريق تحافظ على وحدة كل عمل كإبداع مستقل على وجه التفصيل كتابا كتابا في كل علم. (2)
عرض المكونات الثلاثة، الوافد والموروث وآليات الإبداع في الأبنية الثلاثية للحكمة؛ المنطق، والطبيعيات، والإلهيات بصرف النظر عن أجزاء كل علم، فالمنطق كل واحد بلا أجزاء خاصة، وأن هناك بعض كتبه لا يتوافر فيها العنصران الأولان الوافد أو الموروث وتعتمد على الإبداع الخالص، وهي طريقة تجمع بين العموم والخصوص. (3)
عرض المكونات الثلاثة؛ الوافد والموروث وآليات الإبداع في كل موسوعة على حدة حفاظا على وحدة العمل بالرغم مما قد توقع هذه الطريقة في التكرار. إلا أن ميزتها معرفة مراحل العرض وتحوله من النقل إلى الإبداع عند الفيلسوف الواحد عبر مراحل عمره وليس بين الفلاسفة عبر التاريخ؛ فالتحول من النقل إلى الإبداع يتم في الوعي الفردي والوعي الجماعي. (4)
عرض المكونات الثلاثة كروافد حضارية عامة، الوافد والموروث وآليات الإبداع بصرف النظر عن وحدة الموسوعات وتمايزها وخصوصية كل منها لمعرفة مدى حضور الوافد والموروث وتفاعلهما في الوعي الفردي والجماعي مع آليات الإبداع؛ فالمهم هي البواعث الحضارية العامة وليس الأعمال الفردية، وهي أعم الطرق وأكثرها تجريدا التي تعطي التصور الكلي الشامل.
ويمكن الجمع بطريقة أو بأخرى بين هذه الطرق الأربعة من أجل إثبات التحول من النقل إلى الإبداع دون اختيار حاسم لطريقة دون أخرى حتى لا يطغى المنهج على الموضوع، والآلة على الهدف.
ونظرا للطابع النسقي المجرد للموسوعات الثلاث وإخفاء مصادرها وعدم ظهور المكونات الثلاثة: الوافد والموروث وآليات الإبداع إلا في أقل القليل كان من الضروري الحديث عن النص نفسه بين الترجمة والتعليق والانتحال والشرح والتلخيص والجامع وهي الأنواع الأدبية السابقة على العرض والداخلة فيه خطوة نحو التأليف والتراكم ثم الإبداع الخالص.
وتم اعتبار «الشفاء» هي الموسوعة الأولى التي على أساسها يتم التقسيم إلى منطق وطبيعيات والإلهيات، و«النجاة» تعرض من داخلها لأنها مختصر لها. كما تم تجميع «الإشارات والتنبيهات» و«المجموع» و«عيون الحكمة» حولها. وتم تخصيص الوافد في المنطقي والوافد في الرياضي والوافد في الإلهيات لندرة الوافد الطبيعي. وتم تجميع الموروث كله معا تفاديا للتكرار، تكرار اللغة العربية والبيئة المحلية والموضوعات الدينية خاصة وأن الشفاء عمل واحد بالرغم من تقسيمه إلى أجزاء. ولا يوجد حل أمثل لتقسيم العرض بأية طريقة كانت من الطرق الأربعة.
12 (2) الوافد في المنطق
تتفاوت موسوعات ابن سينا الثلاث بين العرض والتأليف والإبداع. والدليل على ذلك ظهور المكونين الرئيسيين للتأليف، الوافد والموروث في بعض أجزاء الشفاء واختفاؤهما في البعض الآخر، مما يدل على الإبداع الخالص اعتمادا على العقل وحده. ولا يرجع السبب وحده إلى إخفاء ابن سينا مصادره في «المقولات» و«السفسطة» و«الخطابة» من كتب المنطق بل ومن كتب الطبيعيات كلها؛ لأنها تظهر في أجزاء أخرى. كما أن هذا الإخفاء لا يكون في كتب بأكملها حيث كان من الممكن ظهورها لارتباطها بالموروث مثل «السفسطة» لارتباط الجدل بعلم الكلام، و«الخطابة» فالعرب خطباء أو في علوم بأكملها مثل كل أجزاء الطبيعيات، كما يعاود المصدران، الوافد والموروث الظهور في «الإلهيات». إنما يعني أن الموسوعة الواحدة أو مجموع الموسوعات الثلاث تكشف عن مراحل التحول من النقل إلى الإبداع من خلال العرض والتأليف.
كما يتفاوت ظهور الوافد والموروث في أجزاء الشفاء؛ ففي الرياضيات يكثر ذكر الوافد ويقل الموروث. وفي الإلهيات يكاد ينعدم الوافد ويزيد الموروث. وهذا هو الذي دعا إلى قسمة التزاوج العضوي بين الوافد والموروث إلى ثلاثة أنواع: الأول تمثل الوافد قبل تنظير الموروث في حالة غلبة الوافد على الموروث، والثاني تمثل الدافع مع تنظير الموروث في حالة التعادل بينهما في الحضور، والثالث تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في حالة غلبة الموروث على الوافد.
ليس المقصود من كتاب «المقولات» توضيح فكر أرسطو أو شرح النص الموضوعي بعيدا عن الشراح بل عرض الموضوع نفسه بعد تزاوج الوافد والموروث لصالح الإبداع الخالص. ابن سينا لا يشرح بل يتمثل ويهضم ويخرج ويتحرك بما لديه من طاقة. بدأ الكندي والفارابي التقطيع والهضم، وعند ابن سينا حدث التمثل والإخراج. وعند ابن رشد تحول الغذاء الأول إلى غذاء نافع لصحة البدن. لم يسر ابن سينا مع نص أرسطو اختلافا أو اتفاقا لأن نص الشفاء عرض إبداعي خالص لا تمايز فيه بين وافد وموروث. بل يكشف النص عن الجدل الدائر حوله وعن بعض المسائل الأخرى التي تحدث عنها أرسطو بصورة عارضة. يغير ابن سينا القصد ويدخل في حوار مع كل ما قيل حتى يمكن إعادة بناء الموضوع وتغيير بؤر الفكر ومستويات التحليل.
كما أن «السفسطة» إبداع خالص. وفي آخر فقرة يبدي فيها ابن سينا إعجابه بأرسطو الذي أتم العلم وليس تعصبا له أو عدم تعمق في دراسة أفلاطون بل مجرد تعبير عن دهشة عبر عنها العالم كله، فأرسطو ختام الفلسفة اليونانية كلها كما أن الإسلام خاتم الرسالات. تقوم فلسفته على العقل والطبيعة كما يقوم إيداع المسلمين على العقل والطبيعة والوحي. ومن يدري فربما أرسطو نبي اليونان لم يذكره القرآن صراحة كما ذكر تلميذه ذا القرنين
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .
13
وبعد خلو «المقولات» من الوافد والموروث لأنه عمل إبداعي خالص يظهر الوافد في العبارة في اسم هوميروس ليس بشخصه بل مجرد ضرب مثل باسم علم مثل سقراط في اليونانية أو «زيد» و«عمر» في العربية بدلا من «فلان»، وفي عبارة واحدة طويلة سقيمة، وفي مناسبة واحدة.
14
كما يذكر «المعلم الأول» لقب أرسطو وليس اسمه. والتحول من الاسم إلى اللقب بداية التحول من المؤلف إلى الرمز، ومن التاريخ إلى النمط. وعندما يذكر ابن سينا «المعلم الأول» فإنه يكون هو الشارح لابن سينا. كما كان أرسطو هو الشارح لابن رشد في التفسير والتلخيص والجوامع ابن سينا هو الذي يقرر المعنى والمعلم الأول يوحي إليه. ابن سينا هو المبدع والمعلم الأول هو المقلد. وأحيانا يصحح ابن سينا العلم الأول ويحكم عليه بالقبح أن يذكر من بسائط الألفاظ الاسم والكلمة دون الأداة. كما يتحدث عنه باعتباره آخر تمايزا بين الأنا والآخر، يحكم عليه ويصف مسار فكره باعتباره موضوع علم وليس مصدر علم.
15
وفي منطق «النجاة» يذكر فورفوريوس والإسكندر وثاوفرسطس وإقليدس ثم نامسطيوس، والمعلم الأول، ومن الكتب إيساغوجي وقاطيغورياس.
16
يتحدث ابن سينا عن الكليات الخمس، حد الجنس بما لا يشاركه فيه الفصل، وعدم دوران الجنس على النوع وعدم الاهتمام بما يقوله فرفوريوس وهو واقع كتاب إيساغوجي في الكليات الخمس. كما يذكر رأيي ثاوفرسطس وثامسطيوس في المطلقة بل ورأي غيرهما مثل الإسكندر وغيره من المحصلين. ولا يفضل ابن سينا أيا من الرأيين ويفضل رأي ثاوفرسطس. كما يضرب ابن سينا المثل بالحد الرياضي للمثلث عند إقليدس للحد المنطقي، وأن النظر إلى الأبسط يفيد في معرفة المبادئ كما يفيد العدد الهندسة كما هو الحال في العاشرة عند إقليدس.
17
ويذكر المعلم الأول تحولا من الشخص إلى الفكرة واستشهادا به على وجه المنفعة أن للعقل النظري الحكم الكلي، وللعقل العملي الأفعال والتعقلات الجزئية. كما يضرب ابن سينا المثل بتقديم كتاب إيساغوجي وقاطيغورياس على باقي كتب المنطق. ولا يشير ابن سينا في «النجاة» إلى الوافد كثيرا على عكس الفارابي، ربما لبعده عن فترة النقل وقرب الفارابي منها، فبينهما قرن من الزمان، وربما لأن الوافد تحول إلى ثقافة شائعة ولم تعد ثقافة مغايرة يشار إليها باعتبارها مغايرة لثقافة الأنا، الموروث، وربما لاستقرار المصطلحات العربية حتى أصبحت جزءا من الاستعمال اليومي، والسبب الحقيقي هو الصمت على المصادر من أجل العرض العقلي الخالص لبنية الموضوع.
وفي «الإشارات والتنبيهات» ينقد ابن سينا فرفوريوس الذي يثني عليه المشاءون، وهو سخف وحشف كله. لا يفهمونه بل ولا يفهم المؤلف نفسه. نقده رجل من أهل زمانه دون أن يذكر ابن سينا اسمه إما تجاهلا له أو لحرصه على الموضوع لا على الشخص ونقده فرفوريوس بطريقة أسقط منه.
18
كما ينقد ابن سينا اتباع المشائين له فكيف يكون ابن سينا نفسه مشائيا مقلدا؟ ويذكر ابن سينا المعلم الأول وجالينوس وإقليدس ولم يذكر أرسطو بشخصه أو أفلوطين الشيخ اليوناني أو أفلاطون أو كليهما من أرباب الفيض والإشراق. يضبط ابن سينا الحجج المزيفة التي استحدثت بعد المعلم الأول والتي عرضها بالتفصيل في «الشفاء» مما يدل على أسبقية تدوينه على «الإشارات والتنبيهات». كما يضرب المثل بوجود جالينوس وإقليدس وغيرهم على التواتر مثل العلم بوجود مكة. ويذكر ابن سينا قصة «سلامان وأبسال» يضرب بهما المثل سلامان للإنسان وأبسال لدرجته في المعرفة ويستخدم المثل اليوناني للتعبير من خلاله عن معنى إسلامي قبل أن يصبح للمعنى الإسلامي حاملا مستقلا هو «حي بن يقطان». القصة اليونانية أداة للتعبير أولا قبل إبداع القصة الإسلامية. الوافد حامل أولا للمعنى الموروث قبل أن يتحول الحامل والمحمول إلى الموروث دون الوافد.
ويبدو التمايز بين المنطقيين واللغويين وكأن المناطقة يمثلون الوافد واللغويين يمثلون الموروث في التقابل بين المنطق واللغة في المناظرة الشهيرة بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي. فالمنطق لغة اليونان واللغة منطق العرب.
19
وقد يكون الخلاف في الاسم. فما يسميه المنطقيون كلية يسميه اللغويون الاسم المفرد. والمنطق نفسه موضع نقاش. ولا يوجد علم معياري لا نقاش فيه. وهناك حجج وحجج مضادة أكثر من «الشفاء» و«النجاة». يسهو المنطقيون ويظنون وليس كل ما يقولونه يقينا. بهم متخلفون وأذكياء. وهناك معان عرفية للألفاظ، وهناك عادة جرت في المنطق مما يظهر البعد الاجتماعي في اللغة. وهناك تمايز بين المنطق وغيره من العلوم، وهناك معان قديمة وحديثة بين القدماء والمحدثين مما يظهر البعد التاريخي للغة. وما زال ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات» يستعمل بعض المصطلحات المعربة مثل أسطقس.
20
وفي «منطق المشرقين» يحدد ابن سينا في المقدمة موقفه من اليونانيين في تقابل مع المشرقيين. وتظهر ألفاظ اليونانيون ثم المشاءون ثم المشرقيون والأولون.
21
وسبب تأليف منطق المشرقيين هو جمع كلام فيما اختلف أهل البحث فيه دون التفات إلى عصبية أو هوى أو عادة أو إلف، وعدم المبالاة بالاختلاف لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين من غفلة وقلة فهم، ولما كتبه من قبل للعامة من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا سواهم؛ فابن سينا ينقد متعلمي كتب اليونانيين، ويريد أن يكتب مستقلا عنهم غير مبال بالاختلاف معهم. وكان قد كتب من قبل موسوعاته الثلاث للعامة المتفلسفين المشغوفين بالمشائين لبيان أن الكتابة في علمهم سهلة ميسورة. واليونانيون ليسوا وحدهم مصدر العلم بل قد يأتي العلم من غير اليونانيين. فإذا كان اليونانيون قد أعطوا المنطق فقد يكون للمشرقيين منطق سواء بنفس الاسم أو باسم غيره. لقد ألف ابن سينا طبقا لعادة المشتغلين باليونانيين المعتزين بهم لعدم مخالفة العادة والجمهور. انحاز إليهم بل ومتعصب لهم فهم أولى بالتعصب لهم من غيرهم ولكنه أكمل ما أرادوه وقصروا فيه وأغضى عن ما أغمضوا وتخبطوا فيه أو وجد له مخرجا. جاهر بمخالفتهم فيما لا سكوت عنه، وغطى ما بقي منه.
22
وفي «القياس» يذكر أيضا المعلم الأول وليس أرسطو تحولا من الشخص إلى الرمز، ومن التاريخ إلى الفكر.
23
كما يذكر التعليم الأول أي العلم وليس الشخص، والتحول من المعلم الأول إلى التعليم الأول خطوة في التحول من الشخص إلى الموضوع، ومن العالم إلى العلم، ومن المؤلف إلى النص ومن الشخص إلى الموضوع، ومن الفرد إلى الشيء. المعلم الأول بالنسبة لأرسطو لا مشخصا أولا، وصاحب التعليم بالنسبة للمعلم الأول لا مشخصا ثانيا.
كل الصناعة مستفادة من المعلم الأول بالفعل لا بالقوة كما أن المسلمين أصحاب نبوة. لديهم خاتم الانبياء ونهاية الوحي. فأرسطو بالنسبة للمنطق مثل الرسول بالنسبة للوحي، كلاهما منطق، منطق العقل ومنطق الدين والمنطق المعياري الذي يرجع إليه كمقياس. ويعتمد ابن سينا على هذا الموقف ليستنتج المحالات من الرأي المخالف وعندما يكون له موقف نقدي من المنطق. والمعلم الأول لا يعلم حال قياس الخلف إلا على سبيل التذكير والتجريد عن المادة واستعماله وقبوله على نحو طبيعي. وقد اتبعه جالينوس في ذلك. وغرض المعلم الأول أن يجعل الأوسط جزئيا لا عموم له. ولا يبالي في الأمثلة أن تكون الحدود على كل ذلك التواطؤ. لابن سينا موقفه المنطقي. وعلى أساس هذا الموقف ينبغي فهم قول المعلم الأول. ابن سينا هو النص والمعلم الأول هو الشارح. ابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن سينا هو المتبوع والمعلم الأول هو التابع. ابن سينا هو المجتهد والمعلم الأول هو المقلد. ابن سينا خير من يعلم المعلم الأول، ما قاله وما لم يقله. يصحح استشهاد الآخرين به، إيجابا أم سلبا. وعلى أكثر تقدير فهو أرسطو صاحب التعليم الأول وابن سينا الراوي الصادق عنه والمبرهن على صدق كلامه.
24
ويأخذ جالينوس لقب الفاضل من المتأخرين وهو الأغلب أو الفاضل فقط وهو الأقل تحولا من الشخص إلى الرمز، ومن المؤلف إلى الموقف، ومن الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى الفعل، ومن العالم إلى السلطة العلمية أي من الزمان إلى الخلود. وأحيانا تتغير صياغة اللقب إلى الفاضل من المتأخرين؛ فاللقب لم يستقر بعد وإن استقر التحول من الشخص إلى اللاشخص. يحق للفاضل المتأخر أن يمدح المنطق. ومع ذلك فللفاضل من المتأخرين سبيله الخاص وموقفه الخاص في المنطق وليس بالضرورة موافقا لمنطق أرسطو. ويبين بوجه حسن ما يعلنه المعلم الأول وهو حال قياس الخلف على سبيل التذكير والتجريد من المادة وبيان أن استعماله وقبوله طبيعي. كما أن ابن سينا يرفض قول فاضل المتأخرين من اعتبار المقدمات المستعملة في مناقضة مالسيس وبارمنيدس مقدمات منطقية لأن ذكر فيها الكم والتناهي، وأن التناهي للكم بذاته أو لغيره لأن النظر في الكم ولواحقه ليس نظرا منطقيا. ويرفض تفسيره كما يرفض تفسير شيخ النصارى.
25
ويذكر بقراط باسمه أو بلقبه، الطبيب الفاضل أو الفاضل تحولا أيضا من الشخص إلى اللاشخص، ومن الجزئي إلى الكلي ومن الفرد إلى الدلالة. الطبيب منطقي ينظر إلى المنطق كأداة للاستدلال. ليس الطب علما تجريبيا فقط، بل هو علم منطق وأخلاقي كذلك. والعجيب أن الفاضل يرى أن المنطق فضلا على الطب كما يظهر ذلك في الكتاب المنسوب إلى بقراط وهو الفصول. لذلك آثر المسلمون جالينوس الطبيب المنطقي على بقراط الطبيب الخاص. كان جالينوس أفضل المتأخرين في حين كان بقراط هو الفاضل فحسب، ومع ذلك يقر الفاضل بما يقوله ابن سينا؛ فابن سينا هو المقروء، والفاضل هو القارئ.
26
ويحرص ابن سينا على ذكر لفظ «المنسوب» خشية الانتحال. وهو الذي ينتسب إلى حضارة طالما اتهمت بخط النسبة مثل نسبة جزء من التاسوعات إلى أرسطو باسم أثولوجيا أرسطوطاليس.
27
وذكر أفلاطون، تلميذ المعلم الأول. تعرض لنظرية المعرفة في أن العلم تذكر. وبدخول أفلاطون في المنطق تؤخذ الأمثلة من الحياة والنفس وليس من أشكال القياس المجردة. ويذكر سقراط ومينون بمناسبة زوال شك مينون على سقراط في المعرفة. ويشير إليهما ابن سينا على أنهما رجل يسمى مانون وفيلسوف يسمى سقراط تحولا من الخاص إلى العام، ومن التاريخ إلى الفكر. ويضرب ابن سينا المثل بأرشميدس الذي كان يبرهن على الرياضيات قبل صياغة المنطق مما يدل على أن البرهان طبيعي، وأن المنطق ما هو إلا تجريد له. كما يذكر ابن سينا شيخ النصارى تحولا كالعادة من الشخص إلى اللاشخص، ومن الفرد إلى المؤسسة. هل هو حنين بن إسحاق الذي يذكره مع فاضل المتأخرين؛ فكلاهما طبيب؟ هل هو يحيى بن عدي أم يوحنا النحوي؟ وفي كلتا الحالتين يخالفه ابن سينا في تفسيره ويستقل عنه.
كما يحال إلى بعض كتب المنطق معربة مثل قاطيغورياس وباري أرمنياس. يحال إلى الأول لمعرفة أن النظر في الكم ولواحقه ليس نظرا منطقيا، وإلى الثاني لتسمية نوع من القول قولا جازما وقضية. كما يحيل إلى كتاب البرهان وإلى الشكل الذي في كتاب أوقليدس وإلى كتاب الفصول لأبقراط إلى العمل وليس إلى الشخص.
28
وما زالت بعض الأمثلة اليونانية باقية مما يدل على محلية الوافد وتقابل ابن سينا معه باعتباره آخر. فتذكر أثينية، أهل أثينا، أهل قونيا، أهل أثينية في أشكال القضايا. بل إن مادة القضايا أيضا محلية من تاريخ اليونان مثل قتال أهل أثينية لأهل قونيا وهو قتال مذموم.
29
وفي «البرهان» يحيل ابن سينا أيضا إلى المعلم الأول دون ذكر أرسطو مرة واحدة؛ فقد انتهى الشخص وبقي الفكر، وانتهى الفرد وبقي العالم.
30
ويتوجه ابن سينا إلى تخليص المعلم الأول من براثن الشراح، ونقد من غرتهم قلة العناية والنظر وعدم استقصاء كلامه حق الاستقصاء وتوضيح المقصود من الكلام، والحديث عن الله كموجود مطلق مثل وجود المثلث تبعا لقول المعلم الأول. وقد ذكره ابن سينا دون تعديل مما يدل على أنه كذلك عنده الوجود الجزئي هو الموجود، والوجود الكلي هو الموجود على الإطلاق. ويبدو التشابه بين التوحيد العقلي الوافد الأول والتوحيد الديني الموروث نظرا لقيام كل منهما على العقل، وقيام الثاني على العقل وهو أساس النقل. كما يفترض ابن سينا أن يكون المعلم الأول قد كتب «البرهان» قبل باقي كتب المنطق؛ لأن الغرض الأفضل في البرهان وفي القياس هو الوصول إلى اليقين. والطرق البرهانية تأخذ مما هو أعرف في العقل إلى ما هو أعرف في الطبيعة على ما صرح به المعلم الأول في الطبيعيات تأكيدا لوحدة العقل والطبيعة، وهو ما يوضحه ابن سينا في «السماع الطبيعي». أما باقي الإحالات إلى المعلم الأول فإن الغرض منها الاستشهاد على صحة تحليلات ابن سينا؛ فابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن سينا هو الرائي للشيء والمعلم الأول هو المثبت والمؤكد لهذه الرؤية. فإن حدث عدم تطابق بين الرؤيتين يتم تأويل أقوال المعلم الأول بناء على تحليل ابن سينا. ويدخل ابن سينا في مسار فكر المعلم الأول بداية ونهاية وعودا على بدأ. ويصف أفعال الإيضاح في شعوره ومحللا تشبيهاته ومجازاته، ومقارنا بينه وبين المعلم الأول في مواطن التشابه والاختلاف مثل التمييز بين الحد التام والحد الذي هو مبدأ البرهان اختصارا على المتعلم.
31
ويحيل ابن سينا إلى أفلاطون رافضا نظرية المثل والتي يسميها الصور الأفلاطونية، الصور المعقولة المفارقة الموجودة لكل معقول حتى الطبيعيات، مجردة خارج المادة وطبيعية في المادة. وهي نظرية باطلة لأن الصور الطبيعية لا تبقى كما هي إذا ما جردت عن المادة. والصور الرياضية لا تقوم بلا مادة وإن كانت حدودها تستلزم المادة. وإبطال هذه النظرية في الفلسفة الأولى وليس في المنطق أو في أي علم آخر لأن الصور والمثل المفارقة لا تدخل في صناعة البراهين ولا في مبادئها. هناك فرق بين المنطق والميتافيزيقا. الصور الأفلاطونية جزء من الميتافيزيقا وليست جزءا من المنطق. البرهان بالمحمولات، والصور توجد في الجوهر. الأولى في الذهن والثانية في الحقيقة. كما يحيل ابن سينا إلى أفلاطون في جعل السبب في الاتحاد جذب المغناطيس والكهرباء بينما يجعله ابن سينا ضرورة الخلاء. كما يحال إلى الشكل الرابع في البرهان إلى كتاب إقليدس؛ فإقليدس هنا عمل وليس شخصا، مؤلف وليس مؤلفا. كما يحال إلى شعر هوميروش، الإلياذة، كمثال للقول المركب في الحدود؛ لأنه لا يمكن أن يسمى باسم واحد مفرد. شعر هوميروش هو المقصود وليس هوميروش كمثال في المنطق، ولو كان ابن رشد مكان ابن سينا لغيره إلى شعر عربي.
32
ويحال إلى سقراط في محاورة «مينون» لأفلاطون من أجل إثبات التعليم والتعليم ضد شك مانن في حضارة ترى أن الظن لا يغني عن الحق شيئا وأن بعض الظن إثم، وجعلت اليقين هدفا للعلم. وينقد ابن سينا أفلاطون بأنه لم يقض نهائيا على شبهة الشك عند مينون. وعادة ما يقرن سقراط بأفلاطون، الأستاذ بالتلميذ في حضارة تقدر العلاقة بين الشيخ والمريد وتجعلها طريقا للعلم. كما يؤخذ سقراط مثالا للموضوع الذي في حاجة إلى محمول. كما يؤخذ سقراط وأفلاطون باعتبارهما نوعين لهما جنس واحد هو إنسان. فالتعين سبب الفردية، والعموم سبب الكلية. سقراط متعين، وإنسان عام. وكل فرد له خاصية عامة مثل سقراط الفيلسوف والقبيادس الملك، وأخيلوس الشجاع، وآيس كبير النفس، ولوسندروس الصالح. وهي الأمثلة التي أسقطها ابن رشد فيما بعد ووضع مكانها أمثلة عربية كما هو الحال في تلخيصه الخطابة. وكلها أسماء أبطال من الأساطير اليونانية.
33
ويحيل ابن سينا إلى مجموع أجزاء «الشفاء» في المنطق خاصة في الطبيعيات عامة دون الإلهيات، أو إلى مجموع كتب المعلم الأول فلا فرق بين الاثنين، الأول تأليف في الوافد أو عرض له والثاني هو الوافد. فكل كتاب من كتب المنطق له موضوعه المستقل. وقد يحال إلى اسم الكتاب مرتين مثل الأسطقسات مرة وكتاب إقليدس مرة أخرى، وإلى الجدل مرة وإلى الحجج الجدلية مرة أخرى، وإلى القياس مرة وإلى أنالوطيقا الأولى مرة أخرى مما يدل على عدم استقرار أسماء كتب أرسطو حتى عصر ابن سينا بين التعريب والنقل وربما حتى الآن. كما يستشهد ابن سينا بإحدى محاورات أفلاطون، مينون، عن العلم والتعليم ومناقشة سقراط لمينون. كما أحال إليها من قبل في كتاب «القياس».
34
ويحال إلى «إيساغوجي» أو «المدخل» في موضوع الذاتي والمقدم في حين أنه في كتاب البرهان العلة. وقد جرت العادة باستعمال لفظ ذاتي كما ورد في إيساغوجي لا كما ورد في البرهان. ثم تأتي مقارنة الضرورة في القياس والبرهان لأن الكبرى الضرورية تكون على نحوين مختلفين في القياس وفي البرهان. والخلط بين الكتابين وارد. ويحيل ابن سينا إلى قياس الشفاء صراحة حيث لخص فيه الموضوع من قبل. كما يحيل أيضا إلى كتاب «الجدل» مما يبين وحدة موسوعة الشفاء. الجدل لا يثبت ولا ينفي حقيقة بل اعتمادا على تسليم الخصوم أو الرأي المشهور كمقدمات. الجدل لا يعطي حدا حقيقيا إنما يعطي فقط الحد حسب قانون الشهرة لا بحسب قانون الحقيقة. ويحال إلى كتاب النفس لمعرفة الفرق بين القوة والعقل بالملكة. وتظهر البيئة اليونانية في الأمثلة مثل أخذ أثينية كمثل للعلة الفاعلة.
35
وفي «الجدل» يحيل ابن سينا إلى التعليم الأول أكثر من الإحالة إلى المعلم الأول للقضاء نهائيا على الشخص من أجل الموضوع، وعلى العالم من أجل العلم. كما يكشف هذا القول من المعلم إلى التعليم عن إحساس بتطور العلم وبتجريد الآراء من الأوائل إلى الأواخر. وفي نفس الوقت يعطي القدرة على نقد الشراح بالعودة إلى الأصول. ويبين ابن سينا الاشتباه في التعليم الأول وإمكان تأويله على وجهين مما يبيح للشراح تأويلهم ولابن سينا تحققاته من صدقهم. البداية بالتعليم الأول، والنهاية بلا نهاية، تفسح المجال للشراح ولتاريخ العلم ولابن سينا ولباقي الحضارات والشعوب. ويمكن لأي فيلسوف مراجعة التعليم الأول ثم تحققات في التاريخ، ويكون جزءا من تاريخ العلم. يمكن لابن سينا تغيير ترتيب التعليم الأول وإعادة النظام إليه ونقد النص الأول في ترتيبه تقديما وتأخيرا، والفائدة في العودة إلى النص الأول كما هو الحال عند ابن رشد وكأن الحكماء هم سلفيون بالضرورة.
36
ثم يذكر ابن سينا المعلم الأول وليس أرسطو تحولا من الشخص إلى المعيار، ومن الفرد إلى الموقف. يدافع ابن سينا عن المعلم الأول وعن دقة فهمه دون خلط بين حكمه الجزء على الكل وحكمه على الكل. كما يصحح خطأ من يظن أن القياس الجدلي يصدر عن السائل وحده دون المجيب الذي يقيس من المشهورات كما يقيس السائل من المتسلمات. ويصحح خطأ الظن بأن التصاريف صادرة عن الشيء كالوجع عن المرض، فهذا تأويل بعيد عن قول المعلم الأول. ويبدو ابن سينا هو الفيلسوف المبدع والمعلم الأول هو الشارح والمؤيد. ابن سينا هو المقروء والمعلم الأول هو القارئ. ابن سينا هو المؤول والمعلم الأول هو المؤيد. فالأشياء المشهورة لا توضع موضع الجنس. وفي النهاية يتفق كلاهما في المذهب.
37
ويقر ابن سينا بوجود نسخ عديدة من التعليم الأول، ويفترض سقطا في بعض منها هو سبب سوء تأويل الشراح في حضارة متهمة بالخلط بين الكتب ونسبتها إلى غير أصحابها. يستوثق ابن سينا من روايات الآخرين عن التعليم الأول ويطابقها بروايته الخاصة وكأننا في مناهج النقل الكتابي عند الأصوليين، الإجازة والمناولة ... إلخ. ويعتمد ابن سينا على السياق، الموضع الذي عليه الخلاف والوضع الذي قبله وبعده، وتظهر بعض ألفاظ الأصوليين مثل الأخبار والحديث. والمعنى هو الذي يجعل ابن سينا يتشكك في باقي الروايات، ويفترض وقوع السقط أو التحريف أو السهو. كما يفترض وقوع سوء التأويل من الآخرين وصحة تأويله اعتمادا على السياق حتى يتسق المعنى ويسترسل الخطاب.
38
أما سقراط فإنه يضرب به المثل على المغالطة بينه وبين تراسوماخوس حين تجادلا في العدل بعدما غالطه سقراط باسم مشترك فأفحمه مما ينفع السائل والمجيب معا . كما يضرب به المثل كموضوع في قضية ثم في قياس مغالطي. ويحال إلى الصور الأفلاطونية لإثبات ضرورة مطابقة المحدود للحد. فالإنسان صورة أفلاطونية لكنها لا تنطبق على الإنسان الفردي. الأولى أذلية والثاني زائل. الأولى لا تفعل ولا تنفعل، والثاني يفعل وينفعل. كما يضرب المثل بزينون للجدل الامتحاني بقياسه على دفع الحركة على نقيض المشهور والمشهورات من مواد العلم عند الأصوليين والقياسات التي توجب خلاف الظاهر وإن كان يوجد فيها قياس يصعب حله مثل قياسه على إبطال الحركة. ومعلوم أنه مماحكة وعدول عن الحق. كما يضرب المثل بآراء بقراط في الطب، وفيثاغورس في الموسيقى، كل في صناعة أجمع عليها أهلها لجمعها والتنسيق بينها وصياغتها في مذهب كما فعل ابن سبعين. ويذكر بقراط كمثال للغلط في ترتيب الشكل كما غلط في ترتيب الشكل الهلالي.
39
ويحال إلى «البرهان» و«إيساغوجي» و«القياس» و«سوفسطيقا» و«أنالوطيقا» نظرا لوحدة الكتب المنطقية ووحدة العرض.
40
فيحال إلى «البرهان» لمزيد من التفصيل في الموضوع مثل الحركة والإرادة والسكون كأعراض ذاتية للحيوان، وكيفية إيجاد الحد، والفرق بينها وبين كيفية اعتبار حال الحد الموجود، وقد تختلف تسمية موضوع من كتاب إلى كتاب في المنطق مثل تسمية الوضع في البرهان بطريقة أي الدعوى القائمة على البرهان، وفي الجدل بطريقة أخرى وهي الدعوى بلا برهان. ويحال إلى «إيساغوجي» في موضوع الحد والرسم والخاصة والعرض مع التمييز بين العرض المنطقي والعرض الطبيعي، كما يحال إلى «القياس» في موضوع تراكم الجزئيات التجريبية لإيقاع التصديق الكلي وفي موضوعات تفصيلية أخرى. وكذلك يحال إلى «سوفسطيقا» لإكمال الموضوع.
41
وبالرغم من أن «الجدل» أقل صورية من أشكال القياس وطرق البرهان وأقرب إلى السؤال والجواب، وصراع القوى بين المتخاصمين واستعمال ابن سينا أسلوب مخاطبة النفس بصيغة المتكلم المفرد ومخاطبة القارئ بصيغة المخاطب حتى يأنسا إليه إلا أن الطابع العام ما زال هو الطابع المجرد الشكلي البعيد عن الجدل الفكري والجدل الاجتماعي، صحيح أن ابن سينا غير عنوان الكتاب من المواضع إلى الجدل، من الموضوع إلى المنهج، وهو تغير جذري ، ولكنه ما زال صوريا من حيث الشكل، تقليديا من حيث المضمون. ونظرا لصمت ابن سينا عن مصادره فإن وصف الفلسفة تطوريا من الخطابة إلى الجدل يشبه وصف الفارابي تطور العلوم الفلسفية حتى البرهان. والصمت عن المصادر اكتمال الفلسفة في عقل الفيلسوف.
42
وكتاب الشعر كأحد أجزاء الشفاء ليس شرحا أو تلخيصا أو تأليفا بل هو عرض الشرح لإيضاح الألفاظ، والتلخيص لبلورة المعاني والتأليف لدراسة الموضوع ذاته. فشعر الشفاء ينطبق عليه ما ينطبق على منطق «الشفاء». ولم تكن هذه الأنواع الأدبية متميزة فيما بينها تماما. فقد يسمي ابن سينا العرض التلخيص كما يصرح في الفقرة الأخيرة أنه تلخيص صرف وهو في الحقيقة عرض أي تأليف في الوافد يعتمد على العقل وحده وعلى بنية الموضوع. لم يلخص ابن سينا كتاب «الشعر» في الشفاء بل عرض الموضوع متجاوزا نص الشعر إلى موضوع الشعر. لذلك لا يظهر في نص «الشعر» أي أثر للترجمة. عبارة ابن سينا أوضح من عبارة متى، منتقلا من الغموض إلى الوضوح، وأوجز من عبارة متى منتقلا من الإسهاب إلى التركيز، وأحيانا أطول من عبارة متى منتقلا من الإجمال إلى التفصيل. عبارة ابن سينا على مستوى الألفاظ تتجاوز الشرح والتلخيص والجامع. ويستعمل الأمثال والخرافات الشعرية بدلا من الأسمار والأشعار في ترجمة متى تحسينا للعبارة. العرض تجاوز للشرح والتلخيص من أجل إيضاح المعنى والتغلب على صعوبة العبارة دون توفيق بين أفكاره وأفكار أرسطو وهو ما قد يحدث على مستوى المعنى في التلخيص. هو أشبه بالتداعي الحر بين المعاني. تتوحد الفكرة بين ابن سينا وأرسطو مما يؤدي إلى ترك جملة غامضة بأكملها وزيادة فقرات أخرى أكثر وضوحا. ولا يهم من أين استقى ابن سينا شروحه فالعرض يعتمد على طبيعة العقل والموضوع أي على بنية الفكر الداخلية وليس على مصادره الخارجية.
43
كتاب الشعر إذن عما قائم بذاته وليس شرحا أو تلخيصا لأرسطو، ولا يعني ذلك أنه ابتعد عن المقياس والنموذج الأمثل والحقيقة في النص الأرسطي بل يعني أنه تأليف مستقل يمثل حتمية «الشفاء» مرحلة التحول من النقل إلى الإبداع، أهم مساهمتين فيه هما المقارنة بين خصائص الشعر العربي وخصائص الشعر اليوناني، دنية إبداع ابن سينا في الشعر المطلق حسب الزمان.
وفي كتاب «الشعر» يذكر أوميروش بطبيعة الحال ثم أنبذقليس ثم أيسخيلوس، ثم المعلم الأول وسقراط وسوفوكليس وماني.
44
ولم يذكر يوربيدس أو باقي الفلاسفة اليونان خاصة أفلاطون. ذكر أوميروش مع أنباذقليس لبيان الفرق بين الشعر والنثر في الوزن. فكلام أنباذقليس في الطبيعيات ليس فيه من الشعر إلا الوزن، ولا يشارك هوميروش إلا في الوزن دون أن يكون شعراء. الشعر تخيل ووزن. ويحاكي هوميروش الفضائل في أكثر الأمر فقط. وهو أول من قام بذلك ولم يسبقه إليه شاعر آخر، وتقع المحاكاة للأخلاق. لذلك مدح أوميروش أخلاقية أخيلوس. وهو تصور إسلامي كما هو معروف في الآيات الشهيرة في آخر سورة الشعراء
والشعراء يتبعهم الغاوون . وفضيلة الفضائل هو واقع الناس ومطابقة القول بالفعل. ويستحق هوميروش المدح لأنه يعمل بما يعلم، لذلك يتبقى على الشاعر أن يقل من الكلام الذي لا محاكاة فيه دون إطالة كما كان يفعل باقي الشعراء مع قلة المحاكاة. أما أوميروس فكان ينسب قليلا، وهو اللفظ العربي، النسيب، ثم ينتقل إلى المحاكاة لامرأة أو لرجل أو لمثل أو العادة وإلا كان قبحا وعيبا في الشعر، فهو أول من قال «طراغوديا» قولا يعتد به بل قال أيضا «درامطريات». وواضح أن الألفاظ المعربة ما زالت مستعملة في عصر ابن سينا وكذلك لفظ إيفخانا ساوس الذي أحدثه أنبذقليس. كما قال أوميروس بضرورة وحدة الغرض في الشعر حتى ولو تعددت الحوادث على حين كان باقي الشعراء متعددي الأغراض.
45
ويأتي أنبادقليس في المرتبة الثانية بعد أوميروس لبيان الفرق بين الشعر والنثر في الوزن. وفي هذا الموضوع يدخل سقراط أي الكلام الموزون الذي ليس شعرا. الشعر تخييل ووزن. والكلام الذي وزنه أنباذقليس في الطبيعيات ليس شعرا، وليس فيه من الشعر إلا الوزن، ولا يشارك أوميروس إلا في الوزن. الوزن في كلام أنباذقليس أقوال طبيعية وفي كلام أوميروس أقوال شعرية. كما أحدث أنباذقليس نوعا من أنواع الشعر هو إيفخاناساسوس أما أسيخيلوس وسوفسكليس فقد أدخلا الألحان في الشعر على ما هو معروف في المسرح الشعرى.
46
ويحال إلى كتاب «الخطابة» مرتين؛ فهو أقرب كتب المنطق إلى الشعر والمقارنة بينهما في موضوعات الاستعارة والشبه والتصديق.
47 (3) الوافد في الرياضي
ويضم الرياضي عند أرسطو الحساب والهندسة والهيئة والموسيقى. ولكن ابن سينا يغير الترتيب إلى الهندسة والحساب والموسيقى والهيئة الأول بالثاني، والثالث بالرابع. جعل اليونان الحساب قبل الهندسة، والكم المنفصل قبل الكم المتصل، وهو أقرب إلى العقل. فالهندسة تقوم على الحساب. ولكن ابن سينا جعل الهندسة قبل الحساب نظرا لأن الهندسة هو العلم الذي يجمع بين الحس والعقل، بين التجربة والبرهان. وجعل اليونان الهيئة قبل الموسيقى؛ لأن نظام الكون له الأولوية على نظام النفس في حين أعطى ابن سينا الأولوية للموسيقى على الهيئة؛ فالنغم في النفس سابق على النغم في الكون. ويتفق ابن سينا مع اليونان في أولوية الحساب والهندسة (اليونان) أو الموسيقى والهيئة (ابن سينا). فالمباشر له الأولوية على غير المباشر، والتداخل والتمايز بين العلوم استئناف لإحصاء العلوم عند الفارابي وأقسام العلوم العقلية عند ابن سينا نفسه.
وقسم أرسطو الحكمة إلى طبيعية ورياضية وإلهية. ثم أضاف المسلمون المنطق كجزء من الحكمة بدلا من كونه مجرد آلة. فأصبحت الحكمة منطقية وطبيعية وإلهية، ولم تذكر الرياضيات لصورتها أو لصعوبتها أو لأنها أدخل في العلم الخالص.
48
ولأن المنطق مواز للهندسة في بنائه جعل ابن سينا الرياضيات مع المنطقيات. فالمقولة هي النقطة، والعبارة الخط، والقياس الهندسة، والبرهان الموازيات لثالث متوازيات. كما يمكن الربط بين الهندسة أو المنطق أكثر من ذلك؛ فالموازيان لثالث متوازيان قضية منطقية، مقدمتان ونتيجة كما هو الحال في المنطق الغربي الحديث وإشكال أيهما يرد إلى الآخر، المنطق إلى الرياضة أو الرياضة إلى المنطق.
وأصول الهندسة لإقليدس خمس عشرة مقالة، أطولها العاشرة وأقصرها الخامسة عشرة. ثم تتفاوت المقالات الأخرى بين الطول والقصر. وهي كذلك في رياضيات الشفاء. والمقالتان الأخيرتان ليستا من وضع إقليدس بل منتحلة من اليونان أو من العرب . والانتحال تأليف فلسفي لإكمال الموضوع بصرف النظر عن المؤلف.
49
والكتاب عمل جماعي في التاريخ داخل حضارته أو منتقلا داخل الحضارات الأخرى، وفي المقالة السابعة، الانتقال من الهندسة إلى الحساب، يضاف الحساب إلى العنوان عند الشراح حتى يطابق الموضوع العنوان. وعلم الهندسة يسمى أيضا علم الأول أي علم الأوليات. وهو مقدمة لعلم المساحة إلى علم الهندسة التطبيقي كما أن حروف المعجم مقدمة لعلم الكتابة.
وقد جمع إقليدس نفس الأصول أو المبادئ أو القضايا أو الأشكال التي توصل إليها السابقون عليه. وأضاف إليها براهين من عنده وأعاد ترتيبها. فأصول إقليدس ليست خلقا عبقريا على غير منوال بل تراكم تاريخي طويل مع القدرة على الاستيعاب والتنظير وتأسيس العلم والنقلة النوعية في التاريخ. وهو منسوب إلى إقليدس احتراسا من عدم صحة النسبة في حضارة تتهم بالخلط والانتحال. كما تذكر النسخة المعتمدة والزيادات عليها سواء في النص أو في الأشكال والأرقام.
وهو من أوائل الكتب التي ترجمها المسلمون وقدروها أعظم تقدير. واعتبروا إقليدس الرياضي الأول وأرسطو المنطقي الأول وجالينوس الطبيب الأول في حضارة تقوم على خاتم النبوة ونهاية التاريخ. كما كانت تعتبر أرشميدس رائدا في الهندسة المساحية والميكانيكية وأبوللونيوس للقطاعات المخروطية. وقد سمى الصوري إدراكا لجوهر علم الهندسة وتحويلا للشخص إلى مذهب.
والكتاب ليس ترجمة. فالعرض مرحلة تالية للترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والجوامع.
50
وليس اختصارا بالرغم من استعمال ابن سينا والجوزجاني اللفظ؛ لأن ابن سينا يذكر أنه لم يقتصر على الاختصار بل تجاوزه إلى حل بعض مشكلاته؛ فالاختصار يعني التركيز، وحل المشكلات يعني دراسة الموضوعات بالرجوع إلى الأشياء ذاتها. يعني الاختصار اختصار براهين الكتاب وعباراته لا مقالاته وأشكاله. الاختصار هو الإبقاء على الحدس دون البرهان، ثم الاستدلال على الحدس من جديد ببراهين أبسط وأوضح. وما سماه. ابن سينا «تحرير» هو تأليف عارض أي إعادة الكتابة. ويختلف عن الأنواع الأدبية السابقة، الترجمة والتعليق والانتحال والشرح والتلخيص والجوامع. فالمحرر لا يورد النص ثم يعلق عليه بتفسير أو زيادة أو بيان إشكال بل يتصرف في النص نفسه بما يوجب إصلاحه وإكماله. التحرير تقويم أي إعادة كتابة النص ووضعه في صورة أتم مما يستلزم الحذف أو الزيادة أو إعادة الترتيب أي تأليف غير مباشر، يقوم على الإيجاز غير المخل والاستقصاء غير الممل؛ أي التركيز والتشويق ثم زيادة المادة من مصادر أخرى من نفس العلم سواء من مصادر خارجية أو ما استنبطه ابن سينا من قريحته. وقد استمر هذا النوع بعد ابن سينا.
51
لا يهم اتفاق ابن سينا مع الأصل أو مع الشراح؛ فابن سينا مؤلف عارض يعيد كتابة النص من جديد بصرف النظر عن المطابقة.
52
ليس نص ابن سينا مجرد تكرار لإقليدس بل إضافة بحوث لا مقابل لها في المؤلفات الأرسطية أو غير الأرسطية. فما يهم هو العلم لا العالم، والموضوع وليس الشخص، والنص وليس المؤلف. وبتحليل للأزمات الرياضية يقوم ابن سينا بمتابعة براهين إقليدس ويراجعها ويتحقق من صدقها وإلا كان خلفا، وهي اللازمة الأكثر ترددا، وهو المطلوب إثباته؛ وذلك ما أردنا أن نبينه، وذلك ما أردنا أن نعمل.
53
والإشارات إلى اليونان قليلة. وبطبيعة الحال تتم الإحالة إلى إقليدس، في ذكر اسم الكتاب كله في أوائل المقالات وليس استشهادا به، وفي نسبة المقالات الحادية عشرة حتى الخامسة عشرة إليه. كما يذكر أنسقلاوس لنسبة المقالتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة إليه.
54
و«الحساب» كتاب مكون من أربع مقالات، أطولها الأولى وأقصرها الرابعة، ويتناقص الكم تدريجيا من الأولى حتى الرابعة.
55
ويتعلق الحساب بالفلسفة بناء على تقسيم العلوم الفلسفية الذي يرجع في بدايته إلى أرسطو. كما يرتبط بالمنطق؛ إذ تم التعرض له في كتاب «المقولات» نظرا لإمكانية قيام علم واحد، الاستدلال في الحساب أو البرهان في المنطق. لذلك يحال في «الحساب» إلى كتاب «الأسطقسات» وإلى كتاب قاطيغورياس، مما يدل على أن «الحساب» قد كتب بعدهما.
56
لقد عرف المسلمون الصلة بين الحساب والهندسة ولاءموا بين الحساب الهندي والحساب اليوناني، بين الشرق والغرب، واعتبروا الجبر والمقابلة فرعا للحساب، وعرفوا الأعداد الصحيحة والكسور العشرية، والجذور التربيعية والتكعيبية. وإن تحويل الهندسة إلى حساب أو الحساب إلى هندسة ليدل على العقلية التوحيدية التي تضم العلوم كلها في علم واحد.
57
وقد قام ابن سينا بالاختصار كالعادة. ويعني الاختصار هنا حذف المادة الخارجة على الصناعة ولها بديل في علم الحساب مثل الاستعمال والاستخراج بديلا عن الجبر والمقابلة، والجمع والتفريق الهندي. وهذا المحذوف يدخل في الفروع وليس في الأصول، كما هو الحال في التفرقة بين الأصول والفروع في الفقه.
58
غايته إعطاء الحالة الراهنة لعلم الحساب طبقا لعادة العلماء في عصره دون تحديد للتيارات التي ينقدها. يكفيه الإشارة إلى قوم رغبة في إخفاء المصادر وبناء النسق. وهو تأليف عارض في علم الحساب لإعطاء صورة للحالة الراهنة للعلم في عصره للطلاب، على عكس الرسائل التي تكشف عن قدر كبير من الإبداع والاجتهاد.
59
لذلك يبدو ابن سينا بلا تجربة خاصة، متعالما، جامعا للعلم، يخفي مصادره، منقطع الصلة بين السابق واللاحق لصالح النسق. لم يذكر السابقين عليه، الكندي والرازي وإخوان الصفا والفارابي وكأن التراكم الفلسفي لم يحدث لديه إلا من الوافد مباشرة دون الموروث، من القدماء مباشرة دون المحدثين، من الأوائل مباشرة دون الأواخر؛ مما أوقعه في الصورية. ظهر علم الحساب علما صوريا خالصا لا يميز حضارة عن أخرى، خال من الخصوصية إلا القدرة على استعمال العقل المجرد والثقة به. يبحث عن القانون مع الخصائص الذاتية التي يدركها العقل في العدد.
60
هو علم نظري خالص بل أكثر نظرية من الهندسة؛ لأنها تتعلق بالمكان، لا دلالة حضارية فيه.
61
هو أقرب إلى التمرينات العقلية وإثبات الاتساق العقلي وقدرة العقل على التنظير والتنسيق والاستدلال والبرهان. وعندما وصل التجريد إلى هذا الحد سبب رد فعل الفقهاء وطابعهم العملي الحسي. فلا فائدة في الحساب إلا في حساب أوقات الصلاة والمواريث ومساحات الأراضي ومقادير الخراج وموازين السوق ومعاملاته. ولم تشفع مخاطبة القارئ من أجل الدخول في علاقة صحيحة معه أو بعض التحليلات الشعورية للمؤلف وبيان أن العلم تجربة معاشة في التقليل من طابع «الحساب» الصوري.
62
ولم يذكر في الحساب أي اسم علم يوناني. وذكر الفيثاغوريون مرة واحدة والمتكلمون في صناعة العدد ، ولا يقصد بهم المتكلمون بالمعنى الاصطلاحي أي علماء الكلام بل المشتغلون بصناعة العدد أي علم الحساب. وهم المتطفلون على العلم الذين يستعملون أقاويل خطابية وشعرية دون البرهانية. كما يذكر القدماء مرة واحدة ارتباطا بالوعي التاريخي، فالحساب عمل جماعي عبر العصور والأجيال. وتظهر بعض المصطلحات اليونانية المعربة مثل الأسطقسات، كتاب إقليدس في أصول الهندسة، وقاطيغورياس والأرتماطيقي، مما يدل على استمرار التعريب حتى عصر ابن سينا.
63
وإذا كان محور الهندسة إقليدس، ومحور الهيئة بطليموس فلماذا لم يظهر ديوفانطس محورا للحساب، وفيثاغورس محورا للموسيقى؟
وأين كتاب «الموسيقى» في الشفاء الذي قد يعادل كتاب «الموسيقى الكبير» للفارابي أو رسائل الكندي في الموسيقى؟ أين الأصل اليوناني أو التأليف العربي؟ لماذا لم يكتب ابن سينا جزءا في الموسيقى ضمه إلى موسوعة «الشفاء» اعتمد فيها على الوافد أي مثل فيثاغورس أو الموروث كما فعل إخوان الصفا في الرسائل؟ هل أبدع الكندي والفارابي في الموسيقى ولم يجد ابن سينا موسيقيا وافدا أو موروثا يتمثله ويعرض ويؤلف فيه ويصمت عنه؟ وبالرغم من أن الموسيقى علم مستقل ضمن العلوم الرياضية، الهندسة والحساب والهيئة (الفلك) إلا أنه متصل بعلم الحساب. وينبه ابن سينا فيه على وجود تأليف في الموسيقى؛ فالحساب والموسيقى كلاهما تأليف يقوم على النسبة. وإذا كانت الموسيقى حسابا فهل هذا يفسر غياب جزء عن الموسيقى؟ وإذا كان الحساب موسيقى فلماذا حضر الحساب وغابت الموسيقى؟ وإذا كان ابن سينا قد كتب جزءا في الموسيقى، فهل ضاع أو سقط بفعل تقادم الزمن؟
64
وكتاب «الهيئة» هو أكبر كتب الرياضي في الشفاء وأكثرها دلالة على حضور الوافد والموروث.
65
ويبدو أنه كان من الصعب إخفاء المصادر، كتاب المجسطي لبطليموس أو إبراز الإبداع الخالص لابن سينا وتأجيله إلى كتاب كان ابن سينا يود الإبداع في علم الهيئة وأعلن عن كتاب «اللواحق» ولكن لم يطل به العمر. ويبدو من اسمه نبرة التعظيم والإجلال. فهو حرفيا «الكتاب العظيم» فالمبالغة شيمة القدماء مثل المحدثين، والأوائل مثل الأواخر.
وهو كتاب في علم الفلك. وله أسماء عديدة مثل الهيئة والنجوم والتعليم. وهو علم يجمع بين الطبيعيات والرياضيات. لذلك وضع القدماء الرياضيات بعد الطبيعيات وقبل الإلهيات في حين وضعها المسلمون بعد المنطق وقبل الطبيعيات. عند اليونان إمكانية قيام طبيعيات رياضية وعند المسلمين إمكانية قيام منطق رياضي.
هو كتاب في التعليم مما يدل على الربط بين الفلك والرياضيات بين التعليم والتعاليم، والتباعد بينه وبين التنجيم أو علم أحكام النجوم الذي يعتبر من الدراسات الفرعية في الطبيعيات كالفراشة وتعبير الرؤيا.
66
لذلك ينتقل ابن سينا من الفلك إلى الهندسة؛ لأن الفلك في النهاية علم رياضي. والحقيقة أن علم الهيئة يضم الجغرافيا والفلك. كما يضم الرياضة مثل الحساب والهندسة بالرغم من إمكانية تصنيف كتاب آخر في الجغرافيا مستقلا عن كتاب الهيئة. ويدخل التاريخ ضمن علم الفلك، التاريخ الطبيعي، تاريخ اجتماع الكواكب، تاريخ حركات الأفلاك، حوادث الافتراق والاتفاق.
67
وبالرغم من تصريح ابن سينا في آخر كتاب «الهيئة» بأنه اختصر كتاب المجسطي كما لخص من قبل كتاب «الهندسة» لإقليدس، إلا أن الاختصار هنا يعني التأليف في الموضوع بعد مراجعته على واقع فلكي آخر في زمن آخر وفي مكان آخر، ويصرح بذلك في آخر الكتاب بل وفي آخر المقال أو في أوله. وهو تصريح يؤكده الناسخ أيضا في النهاية. وفي نفس الوقت يصرح ابن سينا أن غايته هي معرفة مدى تطابق ما في المجسطي وبين المعقول في العلم الطبيعي ومعرفة كيفية وقوع هذه الحركات وأن يورد الفوائد بعد المجسطي في الزمان اللاحق ومطابقته مع زمان المجسطي بتجارب فلكية أخرى بعده تطويرا للعلم القديم وإكمالا للرصد القديم بالرصد الجديد. ولا يزعم ابن سينا أنه فلكي متخصص ولكنه رياضي دقيق.
68
ويعترف ابن سينا منذ البداية في العنوان أنه تلخيص كتاب بطليموس. ويقر الناسخ بأن ما حرره الشيخ مجرد جمع وتلخيص. ويتضح من مقدمة الكتاب ذكر اسم المجسطي صراحة وبأمانة بالرغم من صمت ابن سينا عن مصادره من أجل التحول من النقل إلى الإبداع، كبداية وليس كنهاية، كمقدمة وليس كنتيجة، انتقالا من الجوامع والعرض إلى التأليف والإبداع خاصة وأن لفظ جوامع وارد في نص «الهيئة» مما يدل على اتصال النوعين الأدبيين: الجوامع والعرض. يقتدي ابن سينا بالمجسطي دون إبداع جديد إلا في أشياء قليلة حرصا على التحول الطبيعي من النقل إلى الإبداع، واحتراما لسنة القدماء وتواصلا معها دون تعالم أو قطيعة. الجديد تماما هو كتاب «اللواحق» الذي أعلن عنه ابن سينا دون أن يمهله العمر لإتمامه. «الهيئة» إذن عرض في الفلك واللواحق إبداع فيه. وغرض ابن سينا هو تقريب المعاني إلى الأفهام، وهي إحدى غايات العرض ابتداء من المادة كلها وليس النص المحدد والتأليف في مادة الوافد وتجاوز ترجمة نصوصه والتعليق عليها والانتحال فيها ثم شرحها وتلخيصها وجمعها. العرض ابتداء من المادة والتأليف ابتداء من الذهن. ويترك ابن سينا الحسابات في الأشكال وترك ذكر تاريخ الأرصاد وتحاشى التكرار في الأشكال أي الرسوم التوضيحية. يكفي وضوح الفكرة دون ذكر الأمثلة والشواهد التي لا يعرفها إلا المتخصصون.
69
ويمكن لإنسان آخر إثبات هذه الجداول على نحو مطول أو مختصر. فالعلم عمل جماعي بين العلماء، واحد للفكرة والثاني للشواهد. الأول لقراءة الجداول والثاني لصنعها كما هو الحال في الدراسات الميدانية الحديثة. إلا أن التحليل النظري في الهيئة سابق على الجداول والإحصاءات والأشكال والرسوم، ولا يعني الاختصار مجرد حذف من المادة بل قد يكون زيادة عليها من أجل حسن العرض واكتمال التأليف والربط بين الأجزاء. بل قد يعني إعطاء تفصيلات لتقديم أجزائه وتقوية روابطه. بل إن إضافة الهيئة لبطليموس على أعمال أرسطو هو إكمال للوافد كله بصرف النظر عن المؤلف، وكذلك إدخال أصول الهندسة لإقليدس، والغريب نقص الفلك والرياضيات من أعمال أرسطو.
70
كان ابن سينا على وعي بنوعه الأدبي وما يسميه الاقتصار أي بداية التأليف بعد الترجمة والتعليق والانتحال والشرح والتلخيص والجوامع، العرض في الوافد تأليف نسقي يعتمد على الوافد أكثر مما يعتمد على الموروث في حين أن التأليف والتراكم تأليف إبداعي يبدأ بتمثل الوافد ثم تمثل الوافد قبل تنظير الموروث ثم تمثل الوافد مع تنظير الموروث. ثم يحدث التراكم في تمثل الوافد بعد تنظير الموروث ثم تنظير الموروث وأخيرا الإبداع الخالص الذي عادة ما يكون في الرسائل الصغيرة، وبطبيعة الحال يكون الإبداع صغير الحجم عظيم القدر، في حين تكون المراحل السابقة عظيمة الحجم كما هو الحال في شروح ابن رشد وتلخيصاته وجوامعه، وعروض الفارابي الجزئية والكلية. التأليف يتجاوز العرض أولا في العنوان، إنه ليس إعلانا للعرض، وفيه المؤلف جزء من القصد. وثانيا في تزايد حضور نسبة الإبداع من خلال زيادة نسبة الموروث بجوار الوافد في حين أن حضور الوافد في العرض أكثر، وقد يتفاوت الكتاب الواحد في نسبة العرض والتأليف. إذ يضم ابن سينا المقالات التاسعة والعاشرة والحادية عشرة في واحدة تجاوزا للعرض إلى التأليف عن طريق الاقتصار. كما تتفاوت المقالات داخل الكتاب الواحد بين العرض والتأليف. فإذا كانت الأولى أقرب إلى التلخيص كما يعلن ابن سينا فإن باقي المقالات الثلاث المدمجة مع باقي المقالات أقرب إلى التأليف.
71
التأليف العارض هنا أقرب إلى عرض الحالة الراهنة للعلم.
72
التأليف العارض قد يعني هنا الأمالي والتجميع، إملاء مادة وتجميع معلومات دون جهد في إبداعها. «الشفاء» كله مكتوب بهذه الطريقة. وقد سبق الفارابي استعمال هذه الطريقة في الموسيقى الكبير، تجميع موسيقى القدماء في مذهب متسق وكأنه يعطي الحالة الراهنة للعلم. لذلك يبدو ابن سينا في «الهيئة» بل وفي مجموع «الشفاء» ناقلا للعلم جامعا له دون دراسة للموضوعات ذاتها ودون تحويل له من النظر إلى العمل، بل ودون تمثل وبالتالي دون إبداع ظاهر. وهذا هو الذي دفعه إلى اختصاره في «النجاة». فبان «الشفاء» شبيها بالشرح الأكبر عند أرسطو أو التفسير و«النجاة» شبيها بالشرح الأصغر أي الجوامع، وظل «النجاة» أيضا مثل «الشفاء» علما نظريا خالصا، اتفاقا في الكيف واختلافا في الكم، فأعاد كتابته مرة ثانية في «الإشارات والتنبيهات» مضيفا قسما رابعا في المقالات والأحوال ومعتمدا على التجارب الذوقية، من الداخل دون الاكتفاء من الخارج، التأويل مع التنزيل، منتقلا من الحكمة إلى التصوف، ومن الوافد إلى الموروث. لذلك أتت «الإشارات والتنبيهات» تعادل الشرح الأوسط عند ابن رشد أي التلاخيص ، بصرف النظر عن زمان الكتابة اكتفاء بالنوع الأدبي.
وكثيرا ما يتحدث ابن سينا بحياد عن الآخر دون أخذ موقف حضاري ظاهر منه. الشفاء تأليف في الظاهر ونقل في الحقيقة عن طريق العرض عكس الترجمة التي هي نقل في الظاهر وتأليف إبداعي في الحقيقة. ولكنها خطوة ضرورية قبل التأليف في الوافد وتفاعله مع الموروث وهو الإبداع. لا توجد «أنا» حاضر في ابن سينا بل مجرد تمثل للآخر وإغراق في الوافد من أجل تقديمه في مذهب حتى يسهل بعد ذلك تفاعله مع الموروث. بدأ ابن سينا منعزلا حضاريا، تابعا للوافد أو بلغة عصرنا في قمة التغريب مما سبب رد فعل الفقهاء عليه. «الشفاء» بطرق عصرنا يبدو مجرد «قص ولزق» مثل الطالب المبتدئ، أو الجامع لكل شيء.
73
العرض عند ابن سينا أقرب إلى العلم الخالص، دائرة منغلقة منقسمة على عكس الكندي والرازي والفارابي في العروض الجزئية والكلية في مرحلة ما قبل العرض النسقي دون معرفة كيفية نشأة العلم وليس فقط نتيجة العلم. هو فكر مذهبي جاهز، غير تساؤلي ولا علي. لا توجد له بداية ولا وسط ولا نهاية، لا سؤال ولا جواب، لا قضية ولا موضوع، لا إشكال ولا حل. يضع الحقائق ولا يبحث عنها. فكر بلا موقف ولا قضية ولا سياق. العرض هنا يعني المذهبية وعدم إظهار الوافد بالموروث كخطوة نحو الإبداع. العرض تركيب مصطنع في حين أن الإبداع تركيب طبيعي، العرض تركيب ثابت في حين أن الإبداع تركيب عضوي متحرك. للعرض حدود جعلته ينتقل إلى مرحلة أخرى هو الإبداع. في العرض لا توجد مشكلة ولا قضية، ولا يوجد استدلال ولا برهان، ولا يوجد تفلسف ولا تأمل، ولا يوجد فكر أو حكمة، مجرد عرض معلومات من الآخرين مع حسن العرض. لا يعيش العرض فكرا ولا يتأزم في موقف، ولا يقدم جديدا إلا الأسلوب والعرض والبناء وتقديم الوافد بطريق غير مباشر مع استعمال الموروث أحيانا كأداة للتوضيح ووسيلة للشرح. لذلك لا يقرأ «الهيئة» إلا مرة واحدة كفلسفة وبعد ذلك يدخل في تاريخ العلم ، وفي هذه الحالة لا يكون ابن سينا حكيما بل مفكرا موسوعيا نظم الحكمة الوافدة كلها وربطها بالموروث كأداة للشرح في بيئة ثقافية مغايرة. ويكون «إخوان الصفا» أكثر توفيقا لأن فكرهم به إشكال وقضية، ويعتمد أكثر على الموروث وأقل صورية وتجريدا، وأكثر إنسانية وشعبية.
74
ابن سينا وإخوان الصفا بالرغم من أنهما يمثلان معا العرض النسقي إلا أن ابن سينا يقدم العرض المنطقي وإخوان الصفا العرض الشعبي. كلاهما على طرفي نقيض من حيث عمليات التمثل، والموقف من الأنا، إثباتها عند الإخوان ونفيها عند ابن سينا، النقل عند الإخوان والعقل عند ابن سينا. وإذا كان الإخوان قبل ابن سينا تاريخيا فإن ابن سينا يكون رد فعل عليهم، انتقالا من النقل إلى العقل، ومن الجزء إلى الكل، ومن الرسائل المتفرقة إلى «الشفاء» الجامع. وإذا كان السؤال لدى ابن سينا في «الشفاء» وفي «النجاة» وفي «الإشارات والتنبيهات»؟ يكون الرد: ابن سينا العارض في موسوعاته الثلاث، وابن سينا المؤلف المبدع في رسائله الصغيرة وفي النفس والنبوة والمعاد، وفي موضوعات الموروث في «تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات». موسوعات ابن سينا تأليف عارض ورسائله تأليف إبداعي.
75
ويظهر الوافد كثيرا في الهيئة، بطليموس وأبرخس يأتيان في المقدمة على الإطلاق ثم طيموفارس ثم أرسطولوس ثم إقليدس، أنطستنانس، ماطن، أنطيمن، أرشميدس، طيموريلوس، أنطونيوس، أبولونيوس.
76
يتحدث ابن سينا عن بطليموس أو أبرخس باعتبارهما آخر متميزا عن الأنا خاصة فيما يتعلق بالعصر والزمان. ويتحدث عن بطليموس بضمير الغائب ويشير إليه باعتباره هو ويصف فعله باعتباره آخر. والتمايز ليس فقط بين أفراد، ابن سينا وبطليموس بل أيضا بين حضارات، نحن وهم. ومع ذلك فالموضوع هو العنصر المشترك بين الأنا والآخر، بين النحن والهم.
77
لذلك يدرس ابن سينا الموضوع في مواجهة الشعور عند بطليموس ثم يعيد الموقف نفسه واضعا نفسه مكان بطليموس حتى تتحدد التجربتان في تجربة مشتركة. كما يتابع الأسباب التي جعلت بطليموس يقول بهذا القول أو بذلك. فالعلم هو العلم بالأسباب ويدرك ابن سينا تصحيح بطليموس لأبرخس مما يبين معرفة ابن سينا بالموضوع وتاريخه وبما قيل فيه من خطأ وصواب، ورؤية ابن سينا الخاصة.
78
وابن سينا يقيم الوافد ولا يصف فقط. يدرس الموضوع نفسه ثم يراجع الوافد. على الموضوع المدروس مما يبيح له رؤية المسافة بين الاثنين فيقوم بالنقد والتصحيح بعد المراجعة والتدقيق. ثم يكمل القول ويعيد إليه اتزانه. فبطليموس يزيف أحيانا. ويحكم ابن سينا عليه ويكون رأيه الخاص فيه لأن بطليموس لا يتحدث عن نفسه. يدرس ما يدرسه بطليموس، ويعرف ماذا اختار وماذا ترك مثل الفارابي مع أرسطو. يبدأ ابن سينا بالشيء ذاته دون قيل وقال. ويذكر حقائق دون وجهات نظر، ويعبر عنها بصيغ احتمالية وهو أسلوب العلم، وأحيانا تكون البداية بالقول إن كان فيه شك واحتمال الصدق والكذب. الموضوع أولا، والقول ثانيا. وأحيانا يكون الربط بينهما خارجيا مفتعلا بحروف العطف مثل «ثم».
79
يدرس ابن سينا الموضوع ثم يراجع ما قاله بطليموس فيه بمصطلحاته. يعرف ابن سينا المسمى وقد تختلف الأسماء بينه وبين بطليموس. ويعطي استدلالات جديدة، ويراجع البراهين القديمة، ويسخف بعض الآراء ويقبل البعض الآخر. ويحدد المكان والزمان، والزمان بالمكان. يقيس المسافة بالوقت، ويقيس الوقت بالمسافة. ويحكم على بطليموس بما يعلم وبما لا يعلم، ويتحقق من علمه يقينا أم ظنا في الهيئة أو الجغرافيا. هناك حدود إذن لكتاب «المجسطي» الذي ألفه بطليموس، ولم يحط علما على نحو يقيني ببعض موضوعاته. ثم استدرك بطليموس نفسه وعاد إلى الموضوع على نحو يقيني في «الجغرافيا». وابن سينا يدرك مجموع كتابات بطليموس وحدود كل كتاب.
80
ومع الكتاب المدون هناك تجارب الرصد. فالكتاب وحده ليس مصدرا للعلم بل الواقع والتجربة. ويراجع ابن سينا المصدرين، المدون على التجربة. التجربة مصدر التحقق. وقد تكون المراجعة لآلات الرصد عند بطليموس. وحين المراجعة يسهل على ابن سينا ما عسر على الآخرين. ويشير ابن سينا إلى باقي الأرصاد فكانت المراصد موجودة في العالم الإسلامي، ويتحدث عن عدة آلات مثل الشاقول والأسطرلاب مما يدل على أن الفلك علم تجريبي. ويجمع بين القياس الكمي والقياس الكيفي، بين التجربة والنظر. وقد كان الفلك مختلطا بالتنجيم في البداية حتى تطور العلم وتحول إلى علم دقيق. ويسمى التنجيم «علم أحكام النجوم». نقده الكندي والفارابي وابن سينا وابن حزم وابن طفيل.
81
ومع ذلك يعرض ابن سينا للغرض العام والقصد الكلي للمجسطى أو لأصول إقليدس دون شرح أو تلخيص عبارة عبارة أو فقرة فقرة أو مقالا مقالا كما هو الحال في الجوامع عند ابن رشد. قد يكون للكتاب أكثر من غرض تتساوى فيما بينها أو غرض بالقصد الأول وغرض آخر بالقصد الثاني وكأننا في مرحلة الفارابي في العرض، تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة.
82
وبالرغم من أن ابن سينا يبدأ الفقرة أو الفصل دون عبارة تمهيدية لوضع الشيء أو بيان المقصود منه، مجرد فقرة «أسمنتية» تؤخذ أو ترفض مما يجعل العرض أقرب إلى المذهب منه إلى المنهج، إلا أن هناك عبارات أخرى تكشف عن مسار فكر ابن سينا، بداية ووسطا ونهاية. فابن سينا يقدم موضوعه بداية، ثم يستمر في عرضه ثم يبين استنتاجاته، مستدركا على اللاحق بالسابق. يوضح ابن سينا ويبين أنه يعالج الموضوع ولا ينقل القول أو يكرره. يشعر بالاستطراد وفتح القوسين ثم يعود إلى الموضوع من جديد. ويقوم بالمراجعة والتصحيح وكأنه دارس مستقل وليس عارض بضاعة. ويسأل الأصدقاء العفو من الزلل، ويعتذر عن الخطأ مما يدل على التواضع بالرغم من الطابع النسقي المذهبي الكلي. فلا يستطيع الحكيم أن يكون متخصصا في وعالما بكل شيء.
83
كما يصف أفعال الشعور عند بطليموس محللا إياها وشارحا أسباب تعجبه والحكم عليها بل ويزيد ابن سينا من درجة التعجب مثل ذكر، جعل، اختار، استرذل.
84
كما يصف أفعال الإيضاح مثل أوضح، بين، أظهر، كشف. وإذا ما صحح بطليموس شيئا فإن ابن سينا يدرك فعل التصحيح؛ لأنه عالم بتاريخ الآراء في الموضوع.
85
كما يصف ابن سينا مسار فكر بطليموس وخطواته، مقدماته ونتائجه، بداياته ونهاياته وكأنه يفكر معه ويراجعه ويستأنف مسيرته، يتخيل العرض ويصحح الخطأ مما يدل على وجود مسافة بين الذات والموضوع.
86
وتدل على أفعال البداية شرح، بدأ، ابتدأ، افتتح، وأفعال الوسط مثل فلما فرغ، انتقل، أخذ، بين، وأفعال النهاية مثل انتهى، استنتج.
87
وما يفعله ابن سينا مع بطليموس في وصف أفعال الشعور يفعله أيضا مع أبرخس واصفا أفعال الشعور لديه مثل: وجد، حدس، ذكر، عرف، علم، اختار. والهدف هي: الموضوعات المستقلة التي يصفها ابن سينا وليس قول أبرخس ويصف أفعال شعور أبرخس كأنماط للاعتقاد من شك وظن ويقين. كما يصف ابن سينا مسار فكر أبرخس كيف ابتدأ وإلى أي شيء انتهى ويفعل نفس الشيء مع أرشميدس.
88
وأحيانا يقوم ابن سينا بوصف الشعور المزدوج لبطليموس وأبرخس ما فعله أبرخس وما أدركه بطليموس. ثم يتحقق ابن سينا مما فعل بطليموس في أبرخس، وينتهي إلى حكم مثل القاضي وكما يفعل ابن رشد بين المتخاصمين؛ الفلاسفة والغزالي، المعتزلة والأشاعرة. ابن سينا هو الذي يمتلك الكل، وبطليموس وأبرخس كل منهما يمتلك جزءا. ابن سينا مثل الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين» وهو الحديث المركب: ابن سينا يتحدث عن بطليموس الذي يتحدث عن أبرخس كما هو الحال في منهج الرواية عند المسلمين متجاوزا الرواية بمعنى النقل إلى الرواية بمعنى التحقق من صدق المروي وتدل هذه الرواية على الوعي العلمي الجمعي وعلى انتقال العلم من اليونان إلى المسلمين، من أبرخس إلى بطليموس إلى ابن سينا. لذلك يتحدث ابن سينا في ضمير المتكلم الجمع تأكيدا على جماعة العلماء دون تمييز بين الحضارتين اليونانية والإسلامية. قد يتفق الاثنان، بطليموس وأبرخس وقد يختلفان. وقد يتفق ابن سينا معهما وقد يختلف. وقد يختلف الاثنان ويتفق ابن سينا مع أحدهما ضد الآخر. ومن ثم تكون الاحتمالات كالآتي:
89 (1)
في حالة اتفاق بطليموس مع أبرخس يكون أمام ابن سينا: (أ)
الاتفاق مع كليهما. (ب)
الاختلاف مع كليهما. (2)
في حالة اختلاف بطليموس مع أبرخس يكون أمام ابن سينا: (أ)
الاتفاق مع هذا الاختلاف. (ب)
الاتفاق مع بطليموس ضد أبرخس. (ج)
الاتفاق مع أبرخس ضد بطليموس. (د)
الاختلاف مع الاختلاف.
وتذكر المؤلفات السابقة؛ فالتأليف الجديد استئناف للتأليف القديم فيذكر المجسطي لبطليموس، وكتاب اللواحق وكتاب الأصول لإقليدس .
90
التأليف وحدة واحدة، داخل الحضارة اليونانية، تراكم علمي واحد. فإذا ما عرض ابن سينا للهيئة فإنه يذكر مؤلفاتها التكوينية كعلم مدون.
91
ويذكر ابن سينا الأوائل والمتقدمين الرياضيين كلا منهما مرة واحدة مما يكشف عن الوعي العلمي التاريخي، فلا جديد دون قديم، ولا علم دون تعلم. ويضيف على رصد المتقدمين رصد أبرخس ورصد المتأخرين ورصده هو. فالتراكم العلمي جزء من العلم. لذلك يتكلم ابن سينا بضمير المتكلم الجمع دلالة على جماعة العلماء.
92
ولم يغير ابن سينا كثيرا من أسماء الأماكن اليونانية كما فعل ابن رشد بعد ذلك سقط الأمثلة اليونانية وواضعا مكانها أمثلة عربية. يدركها ابن سينا كما هي ولا يشرحها مثل بلاد بريطانيا الكبرى، وأحيانا يكرر ابن سينا أسماء الجزر التي يذكرها بطليموس مثل جزيرة رودس دون أن يغيرها إلى أسماء عربية لإعادة قياس الرصد ودون أن يراجع إمالتها أو يشرحها للقارئ العربي أو يرسم لها خريطة. ولا يعدل ابن سينا أسماء الأماكن والمناطق والقياسات بحسب المنطقة العربية. ويؤرخ بالتاريخ اليوناني دون تغييره كما فعل بطليموس.
93 (4) الوافد في الإلهيات
وفي الإلهيات لا يحضر الوافد حضوره في المنطق أو الرياضي. فالإلهيات هي خاصة الحضارة الإسلامية. وفي نفس الوقت لا يحضر الموروث. ولا تذكر الشواهد القرآن أو الحديث. ولا تؤخذ المادة من العلوم الإسلامية. بل تعتمد الإلهيات على العقل الخالص إلا فيما ندر.
ففي الجزء الأول من الإلهيات لا تظهر أسماء أعلام الوافد إلا نادرا. فلا تذكر إلا الأفلاطونية، وسقراط، وأنسكاجوراس، وإقليدس.
94
فالمثل الأفلاطونية لها وجود في الأذهان وفي الأعيان في حين أن التصورات، الأجناس والأنواع أي الكليات الخمس لها وجود في الأذهان فقط دون الأعيان. ويذكر سقراط كموضوع في قضية «سقراط فيلسوف» لتعريف موضوع حادث كاسم مجرد وليس كمسمى. وذكر أوقليدس بالنسبة إلى كتابه «كتاب أوقليدس» وليس إلى شخصه كنموذج للبراهين الهندسية. وكل الحادثات لها مبدأ عام بين بنفسه مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. فأمور العلم قد تجد براهينها في علم آخر. ويذكر أنسكاجوراس ونظريته في الخليط لتفسير القديم أسوة بباقي النظريات التي تجعله الظلمة أو الهاوية أو اللامتناهي الذي لم يزل ساكنا ثم حرك، ولا يتكرر اسم علم مرتين، بل مرة واحدة، مجرد إشارة، مجرد ارتباط بالتاريخ حتى لا تبدو الإلهيات بلا تاريخ معلقة في الهواء.
95
وفي الجزء الثاني من الإلهيات يأتي أفلاطون أولا ثم سقراط.
96
يذكر أفلاطون وسقراط في نظرية المثل ورفضها في المقالة السابعة في الفصل الثاني. وصلة أفلاطون بسقراط صلة الشيخ بالمريد صلة إسلامية. كلاهما يقول بالمثل. فالإنسانية معنى واحد يشترك فيه الأشخاص ولا يزول بزوالها. وليس هو المعنى المحسوس المتكثر الفاسد بل المعنى المعقول المفارق. هذه المعقولات إن كانت أجزاء ذات تكثرت كأعراض وإن كانت لواحق ذات فلا تكون واجب الوجود. وإن كانت أمورا مفارقة أصبحت صورا أفلاطونية. فلم يبق إلا أنها في العقل وليست في الخارج، وكأننا مع حجج الفقهاء ضد التصورات في عالم الأعيان.
97
وفي الجزء الثاني من الإلهيات، في المقالات الخمس الأخيرة يظهر الوافد اليوناني بطريقة أوضح مع الموروث. فيذكر المعلم الأول، والتعليم الأول، ثم الفيثاغورية والفيثاغوريون ثم أفلاطون والصور الأفلاطونية وبطليموس وفاضل المتقدمين والمجسطي.
98
فبينما لم يظهر المعلم الأول أو التعليم الأول في الجزء الأول من الإلهيات على الإطلاق فإن المعلم الأول يظهر في الجزء الثاني مع التعلم الأول دون أرسطو ومثل أفلاطون وسقراط وبطليموس وأوقليدس. فأرسطو هو الوحيد الذي تحول من الشخص إلى الرمز، ومن الفرد إلى المعيار، ومن العالم إلى العلم، ويدافع ابن سينا عن الشكوك التي تقال على المعلم الأول ضد تشويهات المشائين وشكوكهم يونان ومسلمين وكما سيفعل ابن رشد فيما بعد. فمن الشكوك أن المعلم الأول لم يستوف القسمة في كون الشيء من شيء آخر وترك من الأقسام ما كان استكمالا مع أن كلام المعلم الأول ليس في الذي يكون لا محالة يتحرك بالفعل بل في الذي لو لم يكن عائق لطبيعته. فابن سينا يصحح مكان معنى كلام المعلم الأول، ويضبط قصده كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين. كما يرد على الاعتراضات الموجهة إلى المعلم الأول وهو ألا يكون هناك معنى غير البعدية، وأنه يتكلم في مبادئ الجوهر مطلقا، وأعرض عن العنصر الذي هو في قوام الجوهر. ويرفع ابن سينا التناقض بين حركة الفلك بالطبع أو بالنفس أو بالعشق؛ فجوهر الخير المعشوق واحد حتى ولو كان لكل كرة معشوقها ومحرك قريب يخصها على ما يرى المعلم الأول والمشاءون من بعده. فإن محرك الكل واحد. وإن حسن فهم عبارات المعلم الأول وتلخيصها حتى دون الغوص فيها ينتهي إلى ما انتهى إليه ابن سينا. وهو ما انتهى إليه أيضا بعض الشراح مثل فاضل المتقدمين الإسكندر هذه المرة (وليس جالينوس) من أن محرك السماء واحد وليس كثيرا. كما عبر عن ذلك في رسالته التي في مبادئ الكل. وهو أقرب تلاميذ المعلم من سواء السبيل بالرغم من أن على مذهب المعلم الأول يوجد قريبا من خمسين من المفارقات آخرها العقل الفعال. بل إن فاضل المتقدمين افترض مبدأ العناية بالأمور الفاسدة تحت فلك القمر بالإضافة إلى أن حركات السماوات لا تكون إلا لذواتها لا لمعلولاتها ثم الجمع بينهما عن طريق التشبه بالخير المحض والحركة بالعشق. ثم يتحول ابن سينا من المعلم الأول إلى التعليم الأول تحولا من الشخص إلى الموضوع، ومن العالم إلى العلم. فالعلم لا صاحب له ومحيلا إلى باقي أعماله من أجل توضيح الشكوك التي أثارها الشراح حوله.
99
ويذكر الفيثاغوريون والفيثاغورية كفرقة وليس كشخص أي كتيار ومذهب وليس كفرد نظرا لقيام العرض ببناء الموضوع المستقل عن الشخص، وما الشخص إلا رمز لأحد جوانبه، وكما يرفض ابن سينا نظرية المثل فإنه يرفض أيضا النظرية الفيثاغورية وهي شبيهة بها ولكن على نحو رياضي؛ فالعدد يتألف من وحدة وجوهر. والوحدة لا تقوم وحدها والمحل جوهر. فيلزم التركيب والكثرة. وقد جعل الفيثاغوريون الوحدات غير المتجزئة مبادئ للمقادير وأن المقادير تتجزأ إلى ما لا نهاية. وهو نوع من القول بنظرية المثل الرياضية. ولكن أكثرهم يرون أن العدد التعليمي هو المبدأ ولكنه غير مفارق؛ ومن ثم ينزل درجة عن نظرية المثل . ومنهم من يجوز تركيب الصور الهندسية من الآحاد فيمتنع تصنيف المقادير إلى أن المثل إنما هي تجريد للمحسوسات على نحو استقرائي، تجريد الكليات من الجزئيات. ومنهم من لا يرى غضاضة في جعل التعليميات مركبة من أعداد تنقسم إلى مالا نهاية. ومنهم من يميز بين الصور العددية والصور الهندسية. وكلهم ضالون غالطون. ويعدد ابن سينا أسباب الخطأ والضلال في خمسة أسباب. وقد أفاض ابن سينا في نقد نظرية المثل ليس تعيية للمعلم الأول بل لخطورتها على التوحيد. كما رفضها الفقهاء خاصة ابن تيمية لافتراضها وجود صور مفارقة متعددة ليس فقط في الأذهان بل أيضا في الأعيان. وقد وقع بطليموس أيضا في نظرية المثل على نحو فلكي في علم الهيئة؛ فقد كان العلم قبله يتصور أول المفارقات كرة الثوابت، وعند بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها غير مكوكية. والإشارة إلى «المجسطي» أيضا في نفس الموضوع ولكن على نحو طبيعي. ففي «المجسطي» توجد حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة والسرعة والبطء. والإشارة إلى الكتاب وليس إلى الكاتب، إلى التأليف وليس إلى المؤلف تحولا من الشخص إلى الموضوع.
100
وما زالت المصطلحات عند ابن سينا لم تستقر بعد كما هو الحال عند الكندي؛ إذ يستعمل الأيس والليس بمعنى الوجود واللاوجود أو الوجود والعدم اسما الأيس، وفعلا أيس، ومصدرا تأييسا. وما زال لفظ الأسطقسات معربا ولم يتم نقله إلى لفظ عربي.
101
وواضح أن كل الفلاسفة اليونان المذكورين موضوعون موضع النقد مثل أفلاطون وسقراط لقولهم بنظرية المثل، والفيثاغوريين لقولهم بنظرية الأعداد المفارقة وبطليموس لقوله بالكرات الثوابت خارج العالم فأين التبعية؟ بل إن ابن سينا يتمايز عنهم ويسمي فلسفتهم الحكمة المشائية وهم علماء المشائين أو الشراح. يتضح الجانب النقدي عند ابن سينا في الداخل والخارج مثل نقده أحداث المتفلسفة الإسلاميين الذين شوشوا الفلسفة بعدم فهمهم غرض الأقدمين، ووقعوا في تشبيه الأجسام بعضها ببعض، الأقل كمالا مع الأكثر كمالا. ويرفض الثنائية اليونانية التي نشأت عبر التاريخ من أجل رد الاعتبار إلى عالم الحس والواقع كما فعل الفقهاء خاصة ابن تيمية.
102
وللتخفيف من طابع التجريد يخاطب ابن سينا القارئ المفكر ويلجأ إلى عاطفة التوحيد لديه لنصرته ضد نظرية المثل الفلسفية عند سقراط وأفلاطون أو الرياضية عند الفيثاغوريين.
وفي الجزء الثاني من الإلهيات يذكر الحكماء الأقدمون واليونانيون والأقدمون والقدماء وعلماء المشائية وقوم من أحداث المتفلسفة الإسلامية لنقدهم ومراجعتهم وليس لتبعيتهم.
103
فمذهب الحكماء الأقدمين في المثل ومبادئ التعليميات. والسبب الداعي إلى ذلك مرفوض. ويوضح ابن سينا الأسباب التي أدت إلى هذا الجهل. ويحلل نظرية المثل تاريخيا. فإن كل صناعة تنشأ نشأة فجة ثم تنضج شيئا فشيئا حتى تكتمل. لذلك كانت الفلسفة في البداية خطايبة ثم أصبحت جدلية ثم اكتملت في البرهانية وهي أنواع الأقاويل الثلاثة عند ابن رشد. وهي ليست أنواعا في الخطاب فحسب بل هي مراحل تاريخية من البداية إلى الوسط إلى النهاية، من الطفولة إلى الصبا إلى الرجولة كما هو الحال عند الفارابي في تطور العلوم الفلسفية إلى البرهان ذروة المنطق، ما قبله ممهد له، وما بعده انهيار منه.
104
كما نشأت الطبيعيات عند الجمهور قبل التعليميات والإلهيات انتقالا من المحسوس إلى المعقول. وظن الناس أن القسمة توجب شيئين؛ حسيا وعقليا، ماديا ومفارقا، زائلا وأزليا. وجعلوا لكل موجود حسي وزائل صورة مفارقة عقلية أبدية. وجعلوا العلوم والبراهين تتجه نحو المعقولات الأزلية. هنا يشرح ابن سينا على نحو تاريخي نفسي نشأة نظرية المال عن طريق التوهم والعادة، وقد يقع البعض في التيار العكسي. فيتشوق الأجسام المادية وليس المعقولات المفارقة نظرا لتشبه الأجسام الأقل كمالا بالأجسام الأكثر كمالا كما فعل أحداث المتفلسفة الإسلاميين في تشويش الفلسفة عندما لم يفهموا غرض الأقدمين. فمن هم هؤلاء؟ هل الفارابي أم الصوفية، وكلاهما مكونان للفلسفة الإشراقية عند ابن سينا؟
105
ويتعامل ابن سينا مع مذاهب عامة وكأنها بنيات عقلية وليست تيارات تاريخية. ويشير إليها بأصحاب الحقيقة، المذهب، المذهب الحق، الفرقة، القدماء، الفيلسوف المتقدم، الفلاسفة أو مجرد قوم دون تحقيق المناط لمعرفة من هم هؤلاء الأقوام والفرق وأصحاب المذاهب والقدماء والفلاسفة على وجه التحديد، فأصحاب الحقيقة لا يشتغلون بأمثال هذه الأشياء أي الإلهيات البرهانية. ربما هم الصوفية الذين يدركونها عن طريق الذوق. أما مذهب الجزء الذي لا يتجزأ فهو مذهب المتكلمين. أما القوم والقوم الآخرون، الفرقة الأولى والفرقة الثانية فيمثلون آراء واتجاهات في المعرفة. فالإضافة عند قوم تحدث في النفس إذا عقلت الأشياء. وعند قوم آخرين تحدث الإضافة في الأعيان. ولكل فريق حجج وحجج مضادة ضد الفريق الآخر. أما الفلاسفة فقد يعني بهم مجموع الحكماء دون أحدهم على التفصيل كنوع أدبي أو تيار فلسفي، والمذهب الحق هو مذهب ابن سينا الذي يرث الوافد كله والموروث أيضا، والذي على أساسه يثبت الدائرة، ويستعمل ابن سينا أيضا ألفاظ الحكماء الأقدمين، القدماء، عامة القدماء، الفيلسوف المتقدم. يظهر تعبير «الحكماء الأقدمين» مرة واحدة في عنوان المقالة السابقة من الفصل الثاني، وتعبير القدماء مرة واحدة أيضا. ويعرفهم ابن سينا بأفكارهم، التقابل بين العدم والملكة، وهو التضاد الأول، ووضع الصورة تحت الملكة. أما عامة القدماء فهم جمهور القدماء الذين يقولون بتقدم القوة على الفعل لا في الزمان وحده. البعض جعل وجود الهيولي قبل الصورة ثم ألبسها الفاعل الصورة بعد ذلك إما ابتداء من نفسه أو لداع ظنه بعض الشارحين وهو لا يعنيه ولا يقوى على الخوض فيه. ويتحدث ابن سينا عن «الشارعون». هل هم المتكلمون أصحاب الشريعة والفقهاء وباعثهم الديني الذي يخرج عن إطار الإلهيات العقلية أم هم المشرعون اليونان؟ أما الفيلسوف المتقدم فيبدو أنه رياضي يجعل السنة مكونة من ثلاثة وثلاثة أو ستة مرة واحدة.
106 (5) الموروث (أ) التمايز بين الأنا والآخر
ويظهر الموروث في الموسوعات الثلاث بداية بالتمايز بين الأنا والآخر وهو أساسا تمايز في الزمان والعصر كما أنه تمايز في الحضارة والثقافة. هذا الإحساس بالتمايز بين الأنا والآخر هو نفسه إحساس بالتحول من النقل إلى الإبداع سواء اتفق ابن سينا مع المعلم الأول أو اختلف معه أو حاذاه. فليست المطابقة هي القضية. القضية هي إعادة التفكير في مسار فكري مستقل. ولا يحدد ابن سينا أحيانا من هو الآخر على وجه العموم أم على وجه الخصوص. يكتفي بالإشارة إلى ظن بعضهم أو قوم أو بعض المموهين ويعلن خلافه معهم. ولا يتحدث ابن سينا عن أرسطو أو حتى عن المعلم الأول بل عن التعليم الأول انتقالا ثانيا من اللقب إلى الموضوع بعد أن تم الانتقال سلفا من الشخص إلى اللقب.
107
البداية بذكر التعليم الأول تجميعا دون تعقب الترتيب، والجمع أي النسق عمل إبداعي دون تكلف ترتيب جديد؛ فالانشغال بالمضمون أهم من الصورة، ويعتبر ابن سينا نفسه أقرب إلى التعليم الأول من غيره وأقرب إلى غرضه في فهم المطلق. ويحذر من سوء الفهم، ومن ثم يكون اتهام ابن رشد لابن سينا بسوء تأويله لأرسطو هو نفسه اتهام ابن سينا لغيره من الشراح. وأحيانا يذكر قول المعلم الأول بدل التعليم الأول. وغالبا ما يدرس ابن سينا بنفسه الموضوع فيأتي متفقا مع التعليم الأول. ويولد القول أمثلة في ذهن ابن سينا متفقة معه. ولا بأس في ترتيب إبداعي جديد في بعض الموضوعات التي يبدو ترتيبها غريبا إن لم يكن كلها.
108
ولكن الفطن تغنيه جودة الفهم عن الترتيب. والبليد لا ينقصه الترتيب الحسن الجديد.
109
ويتضح ذلك خاصة في «الجدل» وفي «الشعر» وفي «منطق المشرقيين». ففي «الجدل» يشعر ابن سينا بالزمان والعصر واختلاف الأواخر عن الأوائل، والخلف عن السلف مع نقد الخلف المتجادلين والمشاغبين من أهل الزمان وكل زمان بصرف النظر عن المناط، هل هم المتقدمون وهم اليونان الذين كانوا أحرص على الحق منهم على المراءاة، وكانوا أمهر في فن الصناعة أم هم المتأخرون المجادلون من أهل هذا الزمان، زمان ابن سينا، المتكلمون الذين لا يهمهم إلا الغلبة؟ التعيين والتخصيص يجعل القانون خاصا، في حين أن التعميم والشمول يجعله قانونا للبشر جميعا. يرتبط الأوائل بالحق كما يرتبط الأواخر بالسلطان. يقبل الأوائل المقدمات والنتائج في حين يقبل الأواخر المقدمات دون النتائج؛ ومن ثم فهم لا يعرفون أصول القياس. ولفظ «الأوائل» له معنيان، أوائل العقل وأوائل التاريخ، وكلاهما أوائل. قد يقترب ذلك من تصور المتكلمين لانهيار للتاريخ وتناقص الفضل، جيلا وراء جيل، وأن السلف خير من الخلف
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، وأن خير القرون قرن النبي، وأن الخلافة ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضود؛ فهل الأقوال تختلف من زمان إلى زمان، وطرق السؤال والجواب تختلف من عصر إلى عصر؟ فالجدل مرتبط بالثقافات وأساليبها في الإقناع به قدر كبير من الخصوصية على عكس منطق البرهان.
110
ويعبر كتاب «الشعر» عن نفس المعنى؛ فقد ذكره المعلم الأول مرتين. الأولى زمان المعلم الأول، إحساسا بالعصر والتاريخ والزمان، الأوائل والأواخر، المتقدمون والمتأخرون، إبرازا للأجيال وتراكم الخبرات، والقراءات المستمرة عبر العصور؛ فالمعلم الأول في الزمان والتاريخ. لقد تغير الشعر في التاريخ بالرغم من أن المعلم جعل الشعر أقل درجة في المعرفة من التاريخ. فهناك أشعار المتقدمين في الهجاء. أما المتأخرون فلم يكن يعملون بالحقيقة طراغوديا. وكان القدماء أقدر من المتأخرين على اللحن والوزن. وكان المتأخرون على إجادة الوزن واللحن أقدر منهم على حسن التخييل بنوعي الخرافة. كان الأولون يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخييل الشعري. وكان الأولون القدماء يستهينون في الخرافات حتى يتوصلوا إلى الغرض، أما المحدثون فقد مهروا فيه. كان القدماء يذمون ذلك ويشبهون الشاعر المفتقر إليه والقائل به بأبي ززة (القرء) ويعني خلط القول بالأغاني والحركات.
111
ويقر ابن سينا بأن كتاب الشعر تلخيص للقدر الذي وجد في البلاد إحساسا منه بنقص الكتاب. ويعني التلخيص هنا الاختصار كما ورد في باقي كتب الشفاء، وبعض ما به ما زال صالحا. وكل شيء فيه ليس مقبولا. فقد تغير الزمن وقدم العهد، ولم يعد تحليل الشعر القديم مواكبا لمتطلبات العصر، لا يوجد شيء إذن اسمه أثر اليونان في غيرهم من الثقافات والشعوب بل يوجد مسار حضاري واحد لحضارة بشرية واحدة متعددة الثقافات، ومتتالية المراحل. لذلك يجتهد ابن سينا في علم الشعر المطلق، علم الشعر العام، الشعر ذاته لا يونانيا ولا عربيا. فالإبداع في علم الشعر الخاص طبقا للزمان والعادة على نحو تحصيلي وتفصيلي. ويقتصر ابن سينا في كتاب الشعر على درجة الانتفاع به في العلوم أي في مجموعة المنطق. كان ابن سينا إذن يريد الإبداع في بنية الشعر ولكنه كان مثقلا بالمعلومات حتى تاريخ الشعر، يعلن عن الهدف في النهاية. فالنقل وسيلة والإبداع غاية. ترك ابن سينا المجال مفتوحا لغيره من الأجيال اللاحقة للإبداع في علم الشعراء المطلق.
112
فهل تحققت النبوءة؟
والحقيقة أن ابن سينا يكمل الموضوع ويطوره. فقد بقي منه شطر صالح والآخر غير ذلك بعد التمثل والاحتواء. وإصدار حكم قيمة يدل على قدرة على النقد والتطوير. ويؤسس علم الشعر المطلق أي العلم العام انتقالا من الخاص اليوناني إلى النظرية العامة التي يمكن تطبيقها على الشعر العربي وغيره من أشعار الشعوب والأمم الأخرى. ويطبقه على الشعر العربي الحالي بسبب عادة الزمان ونقل النص اليوناني من الثقافة اليونانية إلى الثقافة العربية، ومن روح العصر القديم إلى روح العصر الحديث، وإعادة إنتاج كتاب الشعر مع مزيد من التفصيل. والغاية استقصاء الثقافات وإحصائها من أجل الانتفاع بها. وكلها علوم لأن الغاية تأسيس العلم. ويذكر المعلم الأول على الإطلاق دون تشخيص له باسم أرسطو، مجرد اللقب دون الشخص. ويشير إلى البيئة الجديدة التي يتم التلخيص فيها في هذه البلاد وظهور التلخيص في ثقافة وإقليم مختلفين تأسيسا للثقافة الوطنية. فالنقل مقدمة للإبداع، وليس غاية في ذاته، والاجتهاد مفتوح لكل الشعوب أسوة بروح الحضارة الإسلامية في الاجتهاد ورفض التقليد.
انتقل ابن سينا من الآخر إلى الأنا، من المحاكاة إلى التخييل، من أرسطو إلى عبد القاهر الجرجاني. ليس ذلك سوء فهم للمحاكاة بل نقلها من بيئة حضارية إلى بيئة أخرى. لم تعد المحاكاة موضوعا مستمرا، بل أصبحت موضوعا منقطعا، واستأنفه التخييل باستفاضة انتقالا من الشرح إلى التأليف، ومن النقل إلى الإبداع؛ فالشعر ليس منطقا برهانيا يعتمد على الدليل بل هو منطق إيحائي يعتمد على التخييل. ويجتمع عند ابن سينا التخييل مع التصديق. الشعر جزء من المنطق. والناس أطوع للتخييل منهم إلى التصديق. منطق التأثير للجماعة كما هو الحال في التصوير الفني والفن القصصي في القرآن، والمنطق الصور الخاصة. الخطابة للتصديق والشعر للتخييل. وسواء كان التخييل تصديقا نفسيا أم عقليا فكلاهما صحيح؛ فالتصديق مطابقة ليس بالضرورة مع الواقع بل قد تكون مع النفس. قام الشعر اليوناني على المحاكاة لأنه يقوم على الأفاعيل والأحوال في حين يقوم الشعر العربي على التخييل. وليس التخييل كالمحاكاة جزءا من الجمال بل هو كالاستدلال الشعري، والمحاكاة والتخييل عند ابن سينا مثل التمثيل والاستعارة عند اللغويين. لذلك جمع ابن سينا بين الوافد والموروث، وقرأ الوافد من خلال الموروث.
113
وإذا كانت فكرة المحاكاة فكرة رئيسية عند أرسطو فإنها فقط كانت المهماز، الدافع والمثير والمنبه للعارض كي يحتويها في مفهوم التخييل. وهو مفهوم رئيسي في الفلسفة لتفسير النبوة، ظل مستمرا عند الحكماء وعلماء البلاغة القدماء حتى المفسرين المحدثين.
114
وشتان ما بين الاثنين؛ المحاكاة تقليد للطبيعة بينما التخييل تعبير عما في النفس. المحاكاة تقليد، والتخييل إبداع. لذلك لا يمكن أن يكون التخييل محاكاة وإن كان محتويا لها. المحاكاة تفسير للفن والتخييل تفسير للواقع الاجتماعي. هدف المحاكاة الصنعة، وهدف التخييل التأثير في النفس من أجل التغير الاجتماعي، مقياس الصدق في المحاكاة التطابق مع الطبيعة، وفي التخييل الصدق مع النفس. لم يضع ابن سينا التخييل في مواجهة المحاكاة دليلا على تردده بين الحاجة إلى إثبات الطبيعة الخيالية غير المنطقية للشعر وبين الرغبة في إلحاقه بالمنطق، بل لأنه ينقل النص الأرسطي ويقرؤه ويعيد إنتاجه من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى.
115
لم يرد لفظ «التخييل» في ترجمة متى. ويستعمله ابن سينا بدلا من لفظ المحاكاة مبررا ذلك بأن الكلام المخيل موجه إلى مخاطبة الغير مثل الجدل عندما يريد إقناع الغير اعتمادا على مقدمات مقبولة عند العلماء والخطابة اعتمادا على مقدمات مقبولة عند الجمهور، والشعر اعتمادا على إيقاع المعاني في نفوس السامعين؛ فالتخييل الشعرى مثل التصديق الجدلي الخطابي. وإذا خاطب الجدل والخطابة الفكر فإن الشعر يخاطب الانفصال نظرا لارتباط الشعر بالنفس. ليست المحاكاة عند ابن سينا تقليدا، بل تصويرا للمعاني المتخيلة.
116
والتخييل أمر خارج عن التصديق المنطقي، مطابقة الفكر لنفسه أو التصديق العلمي، مطابقة الفكر للواقع؛ حيث إن التخييل إحداث انفصال في النفس. الأول تطابق مع العقل أو مع الواقع، والثاني تطابق مع النفس. الأول تعريف الحقيقة الرياضية أو العلمية والثاني تعريفها الفلسفي. الأول تعريفها الموضوعي والثاني تعريفها الذاتي.
117
في التخييل صدق وكذب؛ صدق إذا حدث تأثير في النفس وكذب إذا لم يحدث. ويمكن حصر تخييلات الخطابة دون الشعر؛ فالخطيب ملزم بالتصديقات المظنونة والمقبولة عند الجمهور. أما الشاعر فله أن يبتدع ما يشاء ليحدث في النفس الانفصال المطلوب. بل إن الابتداع هو ما يطلب منه ليحدث هذا الانفعال وإذا كان الإبداع في الشعر فكيف تكون الفلسفة نقلا؟ إن تقريب ابن سينا بين التصديق والتخييل ليس ابتعادا عن أرسطو لأن أرسطو ليس مقياسا، والنقل ليس معيارا للإبداع بل اقترابا من الموروث.
118
وقد أخرج ابن سينا الأمثال والخرافات مثل «كليلة ودمنة» من الشعر. فليس غرضها التخييل بل إفادة الآراء والتحدث عن أشياء ليس لها وجود بعكس الشعر الذي يقوم على التخييل والإبداع والحديث عن أشياء موجودة. والقصص الشعري تخييل الأزمنة وماذا يعرض فيها، وما يكون حال السالف منها بالقياس إلى الغابر، وكيف تنتقل فيها الدول، تدرس أمور وتحيا «أمور».
119
وهذا هو القصص القرآني تعبيرا عن الموروث في أصله الأول. ليس التقابل بين التاريخ والشعر على ما يفعل أرسطو بل بين الخرافة والشعر. ليست الخرافة شعرا نظرا لالتصاق الشعر العربي بالواقع وترفعه عن شطحات الخيال وخلوه خلوا تاما من جانب الأسطورة.
لم تكن فكرة المحاكاة مركزية في كتاب الشعر، ولا تنتظم الكتاب كله في حين أن التخييل مركزي في عرض ابن سينا والبلاغيين العرب. وربما يكون الفارابي أول من استخدمها، ثم استعملها ابن سينا لتفسير المحاكاة التي وردت في ترجمة متى. هذه هي عملية التشكل الكاذب بالنسبة للآخر وليس بالنسبة للأنا، ترك لفظ ووضع لفظ جديد أكثر شمولا واتساعا لاحتوائه. وقد تم توسيع المفهوم بحيث تشعب في فلسفة أرسطو كلها، المنطق وعلم النفس والميتافيزيقا؛ ففي المنطق، المقدمات عند أرسطو يقينية (برهانية) أو ذائعة (جدلية) أو ممكنة (خطابية ). ثم زاد الشراح الشعر مكونا من مقدمات مخيلة. ومن ثم تكتمل نظرية العقل بضم الشعر إلى المنطق. وبالنسبة لعلم النفس لاحظ الشراح أن الشعر لا يخاطب المخيلة فينبه صور المحسوسات المختزنة فيها. ولما كانت المحسوسات وثيقة الصلة بالانفعالات؛ فإن الشعر شديد التحريك لها. وقد لا يحتاج الشراح إلى أرسطو لمعرفة مواجهة المخيلة للإحساس. أما بالنسبة إلى الفلسفة الأولى فالتمثيل هو العلة الصورية للشعر، والمعاني والأفكار علته المادية. ومن ثم تعاد قراءة فلسفة أرسطو كلها من خلال التخييل، والتخييل نفسه قراءة للمحاكاة.
120
لم تكن معرفة الشراح للشعر اليوناني توجها إلى الخارج فحسب، بل كان أيضا إلى الداخل ومعرفة الشعر من البلاغيين العرب. وقد استخدم ابن سينا بعض مصطلحات البلاغيين العرب وبحوثهم في العبارة. فقد تحدث البلاغيون العرب عن التشبيه والاستعارة والمجاز المطابقة والتجنيس والمقابلة حصرها أبو هلال العسكري (395ه) في خمسة وثلاثين نوعا. هذا هو الإبداع المستقل الذي اتصل به ابن سينا، والذي استمد منه مادة جديدة لاحتواء المادة الوافدة؛ فقد استطاع الموروث تمثل الوافد في العرض. وقد يسمى المجاز النقل، والاستعارة المتغير ليس أثرا من متى، بل لاحتواء ألفاظ النقل داخل ألفاظ الإبداع. وإذا استعمل لفظ المطابقة على غير ما استعمله البلاغيون؛ فلأنه يشق طريقه بين الوافد والموروث. وتلك هي عملية التحول من النقل إلى الإبداع.
ولقد أدخل المسلمون منطق الظن مع منطق اليقين في علم المنطق العام أي قوانين الفكر وقواعد الكلام. أدخل الفلاسفة المسلمون مثل ابن سينا وابن رشد الشعر في المنطق. ونظرا لأن الشعر يرمي إلى تسليم السامع بما يقوله القائل فقد ألحق بالجدل والخطابة. وهنا يحدث التمايز بين الأنا والآخر، الشعر جزء من نظرية أعم في المنطق عند الأنا وإخراج الشعر من المنطق والمنطق من الشعر عند الآخر، وقد اعتبر البلاغيون الشعر نوعا من الاستدلال إدخالا للجزء في الكل، والظن في اليقين، باعتبار كل ذلك نظرية في العقل. فكل تشبيه أو استعارة أو كناية قياس منطقي حذف منه الحد الأوسط والنتيجة.
121
ويرد ابن سينا الحيل الشعرية إلى النسب بين الأجزاء مما يدل على غلبة التصور العقلي الرياضي كما هو الحال في المنطق.
وينقل ابن سينا كتاب الشعر من بيئته اليونانية إلى بيئته العربية؛ فهو مزدوج الثقافة. الثقافة اليونانية علوم وسائل، والثقافة العربية علوم غايات. لا عجب إذن أن يعرف ابن سينا أوزان الشعر اليوناني وفنونه من قراءاته العامة كمثقف مزدوج الثقافة وأن يتحدث عن أصناف الأشعار اليونانية وأغراضها وأوزانها، لكل غرض وزنه، ولا يحتفظ ابن سينا بالصورة العامة لكتاب أرسطو تقليدا، بل لأنه عرضه على العقل فقبله وعلى بنية الموضوع فتطابق. ومع ذلك يحتفظ بالجو اليوناني لكتاب الشعر خاصة المصطلحات دون إسراف في المقارنات بين النوعين من الشعر، اليوناني والعربي. استخدم ابن سينا الكلمتين المعربتين طراغوذيا وقوموذيا بدلا من المديح والهجاء في الترجمة عودا إلى التعريب بعد استقرار الترجمة حرصا على الأصل. ولا يستشهد بالشعر العربي إلا في الفصل التمهيدي أي الإعلان عن الخصوصية العربية والبيئة الثقافية الجديدة بعد حذف كل الأمثلة اليونانية التي لا يعرفها القارئ العربي.
122
وعندما ينقل ابن سينا كتاب الشعر من البيئة الثقافية اليونانية إلى البيئة الثقافية العربية؛ فإنه يكتشف خصائص كل شعر وخصوصيته ويوازن بينهما. ويشرح معاني التخييل والخرافة والاستدلال والاشتمال وموافقة اللحن لغرض المتكلم تاركا الخصوصية اليونانية وواضعا الخصوصية العربية محلها. ويذكر تعريف الشعر بوجه عام دون ذكر لليونان وكان تعريف الشعر اليوناني قد أطلق وأصبح في الثقافة العامة هو مفهوم الشعر. ويقارنه بمفهوم الشعر عند العرب في ثقافة خاصة. يتحدث عن الشعر اليوناني ويطابق بينه وبين الشعر العربي. فكان لليونانيين عادات في كل نوع. كما أن للعرب عادة ذكر الديار والغزل والفيافي، هنا يبدو العرب إطارا مرجعيا لفهم اليونان. وتعكس خصوصية العرب خصوصية اليونان وتحيلها إليها في مرآة مزدوجة، اليونان في مرآة العرب، والعرب في مرآة اليونان. كما يستشهد بالشعر العربي لشرح النظرية الشعرية، ويتم توضيح النظرية اليونانية بالمثل العربي تقديرا لعلوم الآخر، واستعمال علوم الأنا كعلوم وسائل وعلوم الآخر كعلوم غايات استعمالا مؤقتا يتم بعدها استعمال علوم الآخر كوسائل وعلوم الأنا كغايات استعمالا دائما.
123
والتمايز بين خصائص الشعر العربي والشعر اليوناني أحد مظاهر النقل الحضاري، خصوصية الذات تؤدي إلى التمايز مع الآخر، وخصوصية الآخر تؤدي إلى التمايز مع الذات.
ويبدأ التمايز بوصف شعر الآخر على ما هو عليه، رؤية موضوعية له من خلال مرآة الذات ثم وصف شعر الأنا في مرآة الآخر. وفي حالة التماثل وتطابق الموضوع يكون التماثل بين الأنا والآخر، بين ابن سينا وأرسطو، بين شعر العرب وشعر اليونان مثل الحديث عن نشأة الشعر ورده إلى سببين في طبائع الناس، الالتذاذ بالمحاكاة، وحب الألحان والأنغام. واللجوء إلى الطبيعة الإنسانية مرآة الأنا وتصورها للفطرة.
124
وفي حالة التمايز يكون موضوع الشعر اليوناني محاكاة للأفعال والأحوال في حين أن موضوع الشعر العربي محاكاة للذوات أي الجواهر. الشعر اليوناني ذاتي، والشعر العربي موضوعي. غاية الشعر اليوناني الحث أو الردع بالقول على فعل مرة شعرا ومرة خطابة، في حين أن غاية الشعر العربي التأثير في النفس والعجب بالتشبيه.
125
ومن مظاهر التمايز الحكم الأخلاقي بالتحسين أو التقبيح، بالمدح أو الذم. فكل فعل إما قبيح أو جميل. ولما كان الشعر اليوناني يقوم على محاكاة الأفعال والأحوال انتقل بعض الشعراء إلى محاكاتها للتشبيه الصرف لا لتحسين أو تقبيح، بل للمطابقة فقط. في حين يقوم الشعر العربي على التحسين والتقبيح. وهما مقولتان أصوليتان عند المعتزلة، وربط الشعر بالأخلاق موقف قرآني. وبينما اتجه الشعر اليوناني إلى الأسطورة والقصة والدراما لم يعرف الشعر العربي الملحمة والدراما واقتصر على التعبير المباشر عن العواطف والأخيلة. كما أن توجه الشعر اليوناني نحو الأغراض المدنية والسياسية وغيرها جعلته يتوجه نحو الأفعال، الحث على فعل أو الردع عن فعل. أما الشعر العربي فأكثر محاكاته للذوات، التشبه بالشيء ليوقع في النفس العجب بصورة الشيء المحاكي.
والسؤال الآن: هل هذه المقابلة صحيحة بين محاكاة الأفعال والأحوال في الشعر اليوناني ومحاكاة الذوات في الشعر العربي؟ وماذا عن الجانب الجوهري في الفكر اليوناني والجانب الفعلي العملي في الفكر الإسلامي؟ وأيهما أفضل للشعر محاكاة الذوات والجواهر الثابتة أم محاكاة الأفعال والأحوال المتغيرة؟ هل العلاقة بين الفكر اليوناني والفكر الإسلامي علاقة الذات بالموضوع، والنسبي بالمطلق، والجزئي بالكلي؟ وهل حاكي القرآن كنموذج للشعر العربي ومعبر عن جمالياته الذوات والجواهر دون الأفعال والأحوال؟ وهل فعل ذلك الشعراء العرب؟ هل يمكن إطلاق هذا الحكم على كل الشعر العربي بكل اتجاهاته ومذاهبه؟ وماذا عن حكم ابن رشد بأن أهم سمات الشعر العربي الوصف الواقعي الجزئي الدقيق، روح الواقع التجريبي الذي ظهر في التعليل في علم أصول الفقه؟ أي الحكمين أصدق؟
وفي «منطق المشرقيين» يظهر التمايز بين الأنا والآخر في صورة التمايز بين الشرق والغرب، بين المشرقيين و«المغربيين». لم يخترع ابن سينا لفظا للمقابلة غير اليونانيين.
126
وقد لفظ «المشرق» عند ابن سينا وابن طفيل لوصف الحكمة في «الحكمة والمشرقية»، والمنطق في «منطق المشرقيين». وقد ظهر لفظ مشابه مشتق من الشرق في «حكمة الإشراق» للسهروردي والفلسفة الإشراقية لابن سينا ذاته. كان لدى ابن سينا إحساس بالعصر والزمان والعلم باعتباره من عوائد الزمان وأعراف الناس. وتختلف الأسماء والمسميات واحدة مثل النطق الذي قد تكون له أسماء أخرى. ولكن ابن سينا آثر الاسم الشائع. فمنطق المشرقيين ليس في المنطق بل في حكمة المشرقيين. آثر استعمال اللفظ الشائع للحكمة وهو المنطق طبقا لمنطق التشكل الكاذب، التعبير عن مضمون الموروث بلغة الوافد.
127
ومقدمة منطق المشرقيين أهم ما في الكتاب؛ لأنها تعطي السياق الحضاري وتكشف عن الدافع على التمايز بين الأنا والآخر، المشرقيين واليونانيين. كتب «منطق الشرقيين» للخاصة، وكذلك «اللواحق» في مقابل «الشفاء» للعامة. الأول إبداع والثاني نقل. الأول مختصر والثاني موسع، فسمة الإبداع التركيز، وسمة المعلومات الإسهاب، مثل تقابل الخاصة والعامة. كما تكشف أن التأليف أزمة نفسية، هم وجودي وليس مجرد تجميع علم منقول.
128
وهو هم اختلاف الناس بين اليونانيين أصحاب الأصول وتابعي المشائين المتعصبين الذين امتلكوا الحقيقة كلها. يحاول ابن سينا حله بعقل وموضوعية بعيدا عن الهوى والعصبية، والعقل دون العادة والإلف، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق مع اليونانيين ومن تعلم كتبهم عن غفلة وقلة فهم ، تبعية ونقلا . كتب من قبل الشفاء العامة المتفلسفة المشغوفين بالمشائية الظانين أن الله لم يهد إلا سواهم؛ فالموسوعة مكتوبة لاحتواء الوافد وتجاوزه ومنع تقليد المشائين. وهذا لا يعني إنكار قيمة الأوائل، وقيمة أفضل السلف فيما تنتبه عنه وتجاوز به أساتذته وفي تمييزه أقسام العلوم وترتيبها، وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء، وفي تفطنه لأصول العلوم الصحيحة السرية وكان المعلم الأول شيعيا إسماعيليا يبطن غير ما يظهر، ويعلن غير ما يخفي، صاحب لغتين، لغة للخاصة ولغة للعامة. كما أنه بين لأهل بلاده علوم السلف. كان ابن سينا يشير إلى دور أرسطو مؤرخا يخاطب أهل بلاده في تصور قومي للعلم. وهو أقصى ما يستطيع إنسان أن يفعله، تمييز المخلوط، وتهذيب الفاسد. لذلك كان من واجبات خلفائه بناء مذهبه وتفريع مبادئه وهو ما لا يمكن الفراغ منه في حدود قصر العمر سواء في عرض ما أحسن فيه والتعصب له أو إكمال ما قصر منه وإكماله. ولقد قام ابن سينا بذلك في أول حياته.
ليس اليونان وحدهم مصدر العلم، بل قد يأتي العلم من غيرهم. فإذا أمكن رد علوم اليونان التي اشتغل بها ابن سينا في حداثته إلى المنطق. فلا يستبعد أن يكون عند المشرقيين اسم غيره لنفس المضمون. وهو ما حاول ابن سينا إخراجه في «منطق المشرقيين». النية صادقة نية التمايز بين الأنا والآخر. والتحقق صعب. فمضمون المنطق هو نفسه وإن اختلف الاسم والمصدر، هذا لليونانيين وذلك للمشرقيين دليلا على وحدة العقل البشري بالرغم من تعدد الحضارات، فاتفق ما اتفق، واختلف ما اختلف، حق ما حق، وزاف ما زاف؛ فالاتفاق حق والاختلاف زيف.
129
أراد ابن سينا الإعلان عن الحق دون تعصب، يبحث كخبير للمساعدة، يراجع نفسه، ويعود على ما بدأ، يصحح نفسه بنفسه حتى يصل إلى صواب الرأي ووضوح الرؤية ويقين العقائد. فالوافد والموروث يتفاعلان في نفسه. هناك إذن مرحلتان في حياة ابن سينا، مرحلة الإعجاب بالمشائين، ثقافة العامة والتي كتب لها الموسوعات الثلاث لإكمال الوافد وضبطه. والثانية مرحلة «منطق المشرقيين» و «اللواحق» للتمايز مع الآخر، واستدراكا على الموقف الأول. الأولى النقل والثانية الإبداع. وحياة ابن سينا انتقال من الأولى إلى الثانية. «منطق المشرقيين» خلاصة علم ابن سينا في الأغراض الكبرى والغايات القصوى، المعلم الحق الذي استنبطه بعد طول نظر وتفكير وروية. به جودة الحدس، والحوار مع الخصوم، والتعصب للحق، والاتفاق مع الجماعة دون الطائفة.
ويثور ابن سينا على المشائين الذين حولوا أرسطو إلى صنم يعبدونه، ومؤسسة وكنيسة وتراث يقلدونه؛ ومن ثم تكون حركة ابن سينا حركة أصولية، العودة إلى الأصول الأرسطية ضد الفروع المشائية مثل حركة ابن رشد. ومع ذلك، ونظرا لاعتزاز المشائين بعلوم اليونان انحاز ابن سينا إليهم؛ فهم أولى بالتعصب من غيرهم، وأكمل ما بدءوه وقصروا فيه. حقق مقاصدهم، وأخفى ما تخبطوا فيه وجعل لهم مخرجا منه، ولا يجاهر بمخالفة إلا ما لا صبر له عليه. وقد كره أن يقف الجهال على مخالفة المشهور عندهم بحيث لا يشكون فيه. وبعض العلم دقيق تعمى الأبصار عن رؤيته؛ مثل حنابلة الحديث في عصره الذين يرون كل تعمق في النظر بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار. شرح لهم ابن سينا المقصود، ونفعهم به بعد أن كانوا نافرين. ويستعمل ابن سينا صورا قرآنية مثل الخشب المسندة ومصطلحات فقهية مثل «البدعة» و«الضلالة» حتى يحسن مخاطبة الجمهور بثقافة الجمهور. (ب) اللغة والبيئة العربية
ويظهر الموروث أيضا في اللغة العربية وخصائصها ومقارنتها باللغات اليونانية والفارسية وفي البيئة الثقافية العربية، الأمثال العربية والشعر العربي، وفي التاريخ المحلي والجغرافيا المحلية وفي ثقافات الشرق عامة والهند خاصة.
وبالرغم من أن ابن سينا أعجمي الأصل إلا أنه عربي اللسان.
130
تظهر اللغة العربية عنده أكثر من ظهورها عند الكندي والفارابي وابن رشد. تظهر في الشفاء و«الإشارات والتنبيهات» أكثر من ظهورها في «النجاة». وتظهر في كتب المنطق أكثر من ظهورها في الطبيعيات والإلهيات. وتظهر في «العبارة» أكثر من ظهورها في «القياس» و«البرهان». ولا تظهر اللغة في «المقولات» وهي الأقرب إليها نظرا لأن «المقولات» إبداع خالص لا يشير إلى وافد أو موروث .
وقد يذكر ابن سينا اللغة العربية وحدها دون مقارنة مع اللغات اليونانية أو الفارسية أو الهندية مما يدل على أن التحليل اللغة العربية أساسا وللمقارنة فرعا. ويتحدث عن «لغة العرب» وليس عن «اللغة العربية» إشارة إلى القوم وليس إلى الموضوع. ولا يقول «لغتنا» بضمير المتكلم الجمع كما يفعل الفارابي تمايزا بين النحن والعرب. فقد كان ابن سينا فارسي الأصل.
131
يتحدث ابن سينا عن اللغة العربية باعتبارها مغايرة للغة اليونانية دون أن يعمق دلالتها كما يفعل الفارابي. اللغة العربية عند ابن سينا أقرب إلى التركيب وعند الفارابي أقرب إلى الدلالة، يتشابه المنطق واللغة عند الفارابي في حين ينفصل المنطق عن اللغة عند ابن سينا ويحتكم إلى علم اللغة العام.
132
ويتحدث ابن سينا عن لغة العرب إما غيابا عند العرب وحضورا عند اليونان أو حضورا عند العرب وغيابا عند اليونان أو حضورا عند العرب واليونان أو غيابا عند اليونان والعرب. والأقرب هو جدل الحضور والغياب المتبادل بين العرب واليونان أي الاحتمالان الأولان. فيعيد بناء مبحث العبارة بحسب لغة العرب وتركيب الجملة بحسب لغة العرب. ولغة العرب لا تستعمل كلمات تدل على معنى يقال على الجواهر بدلالة أولى. فلكل لغة مساحتها من الضيق والاتساع. واللغة العربية ضيقة في هذا المعنى. خصوصيتها في القضايا بحسب الإيجاب والسلب والعموم والخصوص. وألفاظ السلب في اللغة العربية لا تتشابه؛ إذ يدل لفظ «ليس» على السلب في حين يدل لفظ «غير» على العدول. أما السلب الكلي فيتم التعبير عنه بأداة النفي «لا». وللغة العربية طرقها في التعبير عن الإيجاب بالسلب.
وأحيانا يظهر موضوع لغوي رئيسي مثل ألف ولام التعريف هل يدلان على الحصر الكلي؟ وهو غلط لأنهما لا يدلان على الحصر في اللغة العربية، والكلام لا يكون بحسب لغة دون لغة. ومن ثم ينتقل ابن سينا من علم اللغة الخاص أي النحو إلى علم اللغة العام أي اللسانيات. ويتكرر نفس الموضوع في «الإشارات والتنبيهات». فلا مهمل في لغة العرب. فالألف واللام يوجبان التعميم والشركة. وغيابهما وإدخال التنوين يوجب التخصيص. ويطلب غير ذلك في اللغات الأخرى، وقد تستعمل الألف واللام لتعيين الطبيعة ولا يكون موقعها موقع الكل. اللغة العربية إذن خصوصيتها على ما يبدو في علم النحو، ولكل لغة عاداتها. اللغة للاستعمال. اللغة العربية ملكة عند العرب ولو كانت لها قوانين مع الملكة لما وقع لها ما وقع. وكل لغة ملكة وقوانين، فطرة واكتساب، استعداد وتعلم، طبيعة وتطبع.
133
وليس كل فعل في اللغة العربية بالضرورة كلمة. هناك أفعال ليست كلمات إذا ما كان فعل أمر يبدأ بالهمزة أو فعل ماض ينتهي بتاء المتكلم. وتستعمل اللغة العربية ألفاظا زمانية لإيجاب حمل غير زماني مثل الآية القرآنية
وكان الله غفورا رحيما
أو غير مختص بزمان بعينه بل ذائع في أي زمان مثل كل ثلاثة فإنها تكون فردا. وفي اللغة العربية الشرطية هي المفصلة، والشرط يتبعه خبر مرادف. وفي الفصاحة العربية يتم تبديل العبارات بأن يعبر عن قضية واحدة بعبارات مختلفة.
134
ويضرب المثل بزيد وعمر كموضوع في قضية لها محمول أو عبد الله في قضية استثنائية أو استعمال النحوي «زيدا» فاعلا دون ما حاجة إلى أن يقول «وزيد» مرفوع بالضمة. وأحيانا يحل امرؤ القيس كمثل بدلا من زيد وعمرو كموضوع في قضية وكمثال في المغالطات أو كمثال على أن المسميات واحدة في حين قد تكون المسميات متماثلة أو متغايرة.
135
ويظهر الشعر العربي تعريفا وأمثلة؛ فالشعر العربي هو الكلام المخيل المؤلف من أقوال موزونة متساوية تسميها العرب متناهية. ويستشهد ابن سينا على النظم المسمى المرصع بنماذج من الشعر العربي. كما يشير إلى ألوان الشعر العربي وموضوعاته من الديار والغزال وذكر الفيافي وغيرها. ويشير إلى علم العروض والتقنية وهي علوم عربية خالصة، وأحيانا يجد في الشعر العربي ما لا يجده في غيره، ويجد في الشعر غير العربي مالا يجده في الشعر العربي مثل الزينة وهي اللفظة التي لا تدل بتركيب حروفها وحده بل بما يقترن به من هيئة ونغمة ونبرة، وليست للعرب. ومن ثم يقيس ابن سينا الشعر اليوناني على الشعر العربي .
136
وبالرغم من أن الأمثال العربية قليلة؛ فمعظم أشكال القياس صور رياضية إلا أنه تؤخذ بعض الأمثلة المحلية من الأمثال الشعبية العربية كنماذج للقضايا في المنطق في نهايات الفصول تخفيفا من حدة الصورية، وفي الفصل الأخير في «القياس» عن التمثل مثل «فلان قمر لأنه حسن» أو للقياس الشعري مثل:
فلان وسيم
وكل وسيم قمر
ففلان قمر.
137
ويشار إلى اللغة اليونانية بأنها لغة اليونانيين أي القوم والشعب في مقابل لغة العرب؛ فالمغايرة القومية أساس المغايرة اللغوية، وإلى لغة الفرس وليس اللغة الفارسية؛ فاللغة يستعملها القوم، وفي كل لغة تتعلق الألفاظ بمعانيها؛ ففي اللغة اليونانية بين الأسود والأبيض الذي يقال على الصوت هناك المتخلخل، ومثله بين اللونين هو الأدكن. كما أن النقلة في اللغة اليونانية تطلق على ما يكون قسرا من غير إرادة؛ ومن ثم لا تقال على الحركة ولا تكون جنسا لها. وفي اللغة اليونانية للمذكر والمؤنث حروفهما. ويوجد وسط بين المذكر والمؤنث (الجماد).
138
وتتم المقارنة بين اللغتين العربية واليونانية؛ فتعريف الأسماء لا يوجد في العربية وتوجد الحركات والتنوين بدلا منه. كما أن الكلمة في لغة العرب فعل دون تغيير شكلها للتعبير عن الحاضر أو المستقبل. في حين أنها تدل في اللغة اليونانية على الزمان الحاضر، وتقرن به زيادة للدلالة على المستقبل أو الماضي مع حفظ الأصل. وتفتقر اللغة اليونانية إلى استعمال الكلمات الوجودية في القول الجازم حمليا كان أو شرطيا، وهي الكلمات التي تدل على نسبة وزمان من غير أن يتحصل فيها المعنى المنسوب إلى الموضوع غير المعين إلا إذا كان الأصل بعينه كلمة. على حين أن ذلك مستمر في اللغة العربية في الشرطيات، المتصلات منها والمنفصلات حيث تظهر الكلمات الوجودية. وربما تختفي الرابطة في اللغة العربية اعتمادا على الشعور الذهني بمعناها كما لاحظ الفارابي من قبل.
139
وبعد اللغة اليونانية يأتي دور الشعر اليوناني؛ فكل شعر له خاصيته اللغوية والفنية والموضوعية. إذ يرتبط الشعر بالأغراض الحديثة عند اليونان كما هو الحال في الشعر السياسي، وبعد التقابل بين اللغة العربية واللغة اليونانية يأتي التقابل بين الشعر العربي والشعر اليوناني؛ فالشعر يعبر عن خصائص الشعوب. يحاكي الشعر اليوناني الأفعال والأحوال في حين يحاكي الشعر العربي الموضوعات. ولم يحاك اليونان الحيوانات كما حاكاها العرب. وكانت العرب تقول الشعر الوجهين؛ إما للتأثير في النفس بأمر من الأمور مثل فعل أو انفعال أو للتعجب فقط بحسب التشبيه. أما اليونانيون فكانوا يحثون بالقول على فعل أو يردعوا بالقول عن فعل، خطابة أم شعرا. لذلك اقتصرت المحاكاة لديهم على الأفعال والأحوال وعلى الذوات صاحبات الأفعال والأحوال.
140
فإلى أي حد هذا التقابل صحيح؟ وماذا عن القرآن وهو كتاب العرب الأدبي الأول وهو يحث على الخير ويردع عن الشر؟ وأين حث الشعر العربي على الحماس والفضيلة؟ أين الجانب العاطفي الذاتي الوجداني في الشعر العربي؟ وهل يربط اليونان وحدهم بين الشعر والأخلاق، والشعر العربي والقرآن الكريم يفعلان ذلك أيضا؟ وكان بعض شعراء اليونان يحاكون الأفعال بغية المطابقة دون أن يخيل منها حسنا أو قبحا كما فعل هوميروس في محاكاة الفضائل وكما فعل غيره في محاكاة الفضائل والرذائل.
وأحيانا تظهر اللغة الفارسية وحدها باعتبارها إحدى اللغات التي يعرفها ابن سينا ويضرب بها الأمثلة في المنطق. فتظهر بعض الأسماء الفارسية في «البرهان» مثل «الروزكار» وتعني الدنيا أو المعيشة و«الرسام» ويعني ورم الرأس، مكون من «سر» ويعني الرأس و«سام» ورم. ويطلق اللفظ في اليونانية على الحار. اللفظ فارسي وأصله يوناني. و«سيرسيموس» يعني ورم الدماغ الحار ثم صرفه الفرس. هناك إذن صلة مباشرة بين الفارسية واليونانية وليس بالضرورة عبر العربية، وأحيانا يكون المضاد في الفارسية واحد مثل «روشن» ويعني صوتا صافيا، ولونا صافيا، و«تيرة» ويعني صوت كدر ولون كدر. ويمكن تعريب الألفاظ الفارسية وهو كثير في اللغة العربية، وتصبح جزءا من اللغة بعد أن تصبح مشهورة ومتداولة، أما اللغة الأصلية فهو اللسان.
141
وأحيانا تظهر اللغة العربية مقارنة باللغة الفارسية وليست باليونانية وحدها، مما يدل على تفاعل الحكماء مع الثقافتين المتجاورتين، اليونان في الغرب وفارس في الشرق؛ فاللغات عادات في الاستعمال. وهناك عادة اللغة العربية في النفي للحصر السالب الكلي بحرف «لا» وبالفارسية بحرف «ينست». وقد يكون اللفظ بالعربية مفردا وبالفارسية مركبا مثل «جاهل» بالعربية. في العربية مفرد، وفي الفارسية مركب للدلالة على المستقبل «نادان»، لفظان أحدهما يدل على القدم والآخر على العالم أو المعالم. وفي العربية لا يدل الماضي على جزء موضوع مثل صح ومشى، وكذلك المستقبل في الفارسية مثل «بكند». وفي العربية تغيب الرابطة في حين توجد في الفارسية. وأحيانا تكون الحركة مثل الفاتحة دليلا على الرابطة. وأهمية ذلك كله حين الترجمة، حسنها ووقتها، ومهمة المنطق عدم الالتفات إلى اللغة المعنية والذهاب إلى ما وراء تعدد اللغات إلى وحدة المنطق.
142
وفي اللغة الفارسية يحتاج أن يقرن لفظ «هيج» بالسلب حتى يدل على العموم وهو ما يقابل العربية بألفاظ كل وبعض ولا واحد ولا كل ولا بعض أو خيرا وأجمعين في الكلي الموجب، والسلب في الفارسية له طرقه الخاصة مثل «تانبينا» وتعني الأعمى عادم البصر، ومن شأنه أن يبصر. فلم يقع على كل مسلوب البصر. وقد تتحول اللغة إلى التاريخ فيضرب المثل بتاريخ الفرس أقدم من تاريخ العرب لشرح معنى التقدم في الزمان في «متى».
143
ويظهر أصحاب ماني في تصوير حال الغضب والرحمة بصورة قبيحة وتصوير الرحمة بصورة حسنة؛ فعادة الشرق الربط بين الشعر والأخلاق. وفي «الشفاء» هناك تركيز على علم اللغة العام مثل الفارابي وإن كان بدرجة أقل نظرا لمعرفة الحكماء بالسريانية واليونانية والهندية والفارسية، مما يجعل القدرة على تأصيل علم اللغة العام كبيره.
144
وليس الموروث هو اللغوي والشعر فحسب، بل العلمي والتاريخي والجغرافي والثقافي والحضاري العام، والحقيقة أنه لا يوجد عند ابن سينا تراكم فلسفي كاف. فلا توجد إحالات إلى السابقين عليه مثل الكندي والرازي والفارابي إلا فيما ندر ولا حتى من أئمة الشيعة الثوار مثل السجستاني الذين ملئوا الفراغ الفلسفي بين الفارابي وابن سينا نظرا لإخفاء مصادره. ومع ذلك يبرز الموروث العلمي مثل الفراسة الذي وضع فيه الرازي مؤلفه. يتحدث ابن سينا في آخر فصل في «القياس» عن «الدليل والعلامة والفراسة»؛ ففي نهاية القياس، وبعد الطابع الصوري الرياضي لإشكاله يظهر الطابع العلمي المحلي عند ابن سينا كما هو الحال في آخر الإلهيات؛ ومن ثم يتحول المنطق من المستوى الصوري إلى المستوى الشعوري، من العقل المجرد إلى النفس والأخلاق. الفراسة قياس ضمن القياسات التمثيلية التي تعتمد على العلامات، وهي الانفعالات والمزاجات التي تعبر عن أخلاق النفس مثل الأعراض التي تدل على الأمراض في تشخيص الأطباء. فالانفعالات يتبعها تغير في البدن، ومن هذا التغير يمكن الكشف عن هذه الانفعالات. ومن أمزجة البدن يمكن التعرف على أحوال النفس.
145
ويذكر بعض التاريخ مثل المأمون (مرتان). ويراجع ابن سينا رصد أبرخس على رصد تم أيام المأمون، مقارنا بين رصد المتقدمين ورصد المتأخرين. وقام برصد آخر بعد تأليفه كتاب «الهيئة». ويرتبط التاريخ بالحساب والفلك؛ إذ يشار إلى مصر، أيام الشهر المصري، وهي ثلاثون يوما. كما يشار إلى صعيد مصر، أسافل مصر نظرا لامتداد مصر من الشمال إلى الجنوب. ويتم الحساب بالسنوات المصرية. وتماثل صفة مصرية صفة قبطية؛ فمصر قبطية. كما يشار إلى الإسكندرية كمرصد في مقابل بابل لقياس بعد المسافة وفرق الوقت وقياس كسوف الشمس في هذين المكانين.
146
كما تظهر بلاد السودان كمثال لقانون الاطراد والاستقراء الناقص في الحكم على أن سكانها سود. وتظهر الأمثلة المحلية وأسماء مدن العرب كنماذج في القضايا مثل كل منتقل من الري إلى بغداد فإنه يبلغ مثلا قرميسين «كنموذج للكلية الموجبة وكذلك» أو «ما دام منتقلا إلى بغداد». ويضرب المثل ببلد الري أو بغداد على العموم، ثم يأتي التفصيل فيما بعد. وتظهر الشام مع مصر وسطا بين بابل والمغرب. كما يشار إلى الصقالبة والخزر في آسيا.
147
ويظهر أحيانا ضمير المتكلم الجمع مثل نحن أو حروف الجر مثل «لنا»، «إلينا» من أجل تحويل علم الهيئة من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي، ومن الوافد إلى الموروث ومن جغرافية اليونان إلى جغرافية العالم الإسلامي. كما يضرب ابن سينا المثل بتقديم كتاب إيساغوجي وقاطيغورياس على باقي كتب المنطق مثل تقديم أبي بكر على عمر في الكمال.
148
وهناك أيضا إشارات إلى الهند، مما يدل على حضورها كجناح شرقي للحضارة الإسلامية، وهو جناح أطول وأعرق، بانضمام فارس، من الجناح الغربي اليوناني، وتظهر الهند باعتبارها منطقة أو حضارة أو بلادا وكمثال لقانون الاطراد. والعجيب أن ابن سينا يذكر «كليلة ودمنة» على أنها عربية أو فارسية معربة وهي هندية الأصل. ويضرب بها المثل على أنها قصص وليست شعرا بسبب نقص الوزن. كما تظهر الهند في كتب الحكمة بطريقتين عرضا عند الحكماء مثل ابن سينا أو قصدا عند البيروني. وقد عرف العالم الإسلامي الفلك الهندي قبل اليوناني، ونقل كتاب «السند هند» قبل كتاب «المجسطي». ويشار في كتاب «الحساب» إلى الجمع والتفريق الهندي على أنه من فروع الحساب وليس من أصوله. ويعادل الجبر والمقابلة عند المسلمين. وأصله في الحساب الاستعمال والاستخراج. ويشار إلى الحساب الهندي وطريقته في عمل حساب المكعبات.
149
كما يذكر الشرق القديم في كتاب «الهيئة»، البابليون الأقدمون والكلدانيون، وبختنصر؛ فقد استعان أبرخس بأرصاد البابليين الأقدمين، الكلدانيين. فلم تكن بلاد اليونان منغلقة على نفسها، بل كانت مفتوحة على الحضارات الشرقية القديمة خاصة في بابل عبر فلسطين وآسيا الصغرى، وقد سبق قدماء المصريين والبابليين والهنود والفرس واليونان في الفلك. فاليونان آخر القادمين. وكان ابن سينا على وعي بفرق التوقيت بين بابل والإسكندرية في مصر، الفرق في المسافة وفي الزمن. ولا تذكر جغرافيا بابل فقط بل تاريخها مثل تاريخ بختنصر. وأحيانا يكون التقابل بين الشرقيين والغربيين، بين جناحي العالم الإسلامي، ومصر وسطه، من أجل معرفة فروق التوقيت ساعة الرصد؛ فالليل في الشرق أطول منه في الغرب.
150 (ج) الموروث الديني
تكونت العلوم النقلية أولا، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، كما تأسست العلوم العقلية النقلية الكلام والأصول والتصوف قبل ترجمة الوافد والتعليق عليه وشرحه وتلخيصه وجمعه وعرضه، ثم التأليف والإبداع فيه. ولم تتأخر إلا الفلسفة وما ارتبط بها من حكمة رياضية وطبيعية. ثم أصبح هذا الموروث وعاء لتمثل الوافد في علوم الحكمة في كل مراحل تكوينها وأنواعها الأدبية.
بل إن العلوم الرياضية أو الطبيعية لم تخل من باعث ديني، فالعقل والطبيعة أساسان يقوم عليهما الوحي في نسق وحدة الوحي والعقل والطبيعة. فكتاب الهندسة مادة صورية خالصة، مجرد عرض حقائق رياضية دون إشكالات، وضع حدود ومصادرات بفعل العقل الخالص، العقل البديهي الطبيعي، العقل مع ذاته، صورة بلا مادة، علم العلم، عويص الفهم، بعيد الدلالة. ومع ذلك فقد يكون الباعث على ذلك باعثا دينيا. فالعقل أساس النقل، والعقل الخالص أداة البرهان مما يجعل ابن سينا أكثر دلالة في رسائله مثل الكندي والفارابي أكثر منه في موسوعاته، وقد يكون أدخل في تاريخ الرياضيات العقلي الصرف، استعراض علمي. إغراء البديهيات والأوليات جعلت الحكماء يشرحونها ويدخلونها ضمن الحكمة، وبالرغم من أنه ليس له مقدمة أو خاتمة تضعه وتبين مقصده فإن مجرد الاتساق العقلي عن طريق البرهان هو في حد ذاته أساس من أسس الوحي حتى ولو لم تكن هناك إشارة صريحة له على الإطلاق. قد تكون له دلالة على الموروث، تحويل الدين إلى عقل أو على الأقل سلبا، عدم تحريم الدين الاشتغال بالعلوم الرياضية. ليس المطلوب إذن معرفة إضافة ابن سينا على أصول الهندسة، بل إن إعادة كتابة النص هو في حد ذاته إعمال للعقل الخالص، والعقل أساس النقل. ويمكن أن يقال نفس الشيء على باقي أجزاء رياضيات الشفاء. تبدو أقرب إلى تاريخ العلم، تعبيرا عن العقل الخالص وليس العقل الإسلامي المتجه بالعقل الخالص إلى الفعل، الفرد والجماعة والتاريخ. ومع ذلك فقد يوجد الباعث الديني على نحو غير مباشر وراء العقل الخالص مثل تفرقة المسلمين بين الهندسة العملية والهندسة النظرية وربط الأولى بالمساحة التي كان لها شأن في توظيف الخراج وفصل الملكيات وبناء علم المناظر على الثانية.
151
وقسمة العدد إلى نفسه وإلى غيره قسمة معروفة في الفكر الديني سواء في الله أو في الوجود أو في العقل. ويبدو أنها قسمة عقلية صرفة بصرف النظر عن تطبيقاتها. والخواص هي السمات الذاتية للشيء في العقل وهو أقرب إلى الفكر الديني العقلي المجرد قبل أن يتحول إلى تشبيه وتجسيم في العقائد. كما أن تحليل الوافد الرياضي لا ينفصل عن صفة الوافد في الفكر الديني كما هو الحال عند الكندي، كما كان الباعث على قيام على الحساب تطبيقه في الدراسات الفقهية في علم المعاملات والفرائض والمواريث، ولم يكن مستقلا عن العلوم الدينية. لذلك انقسم الحساب كالهندسة إلى قسمين؛ نظري، الأعداد لذاتها في الذهن، وعملي أي المعدودات كالدنانير ومعاملات السوق. ولا يوجد في «الهيئة» أي ذكر لآية أو حديث أو إشارة إلى موروث عكس إخوان الصفا وباقي الحكماء حرصا على التجريد الخالص والاعتماد على العقل وحده؛ فالفلك في النهاية علم رياضي. وابن سينا يستأنف مجهودات الكندي في الفلك دون الإشارة إليه، فتمثل الوافد وعرضه كنظرية في العقل له الأولوية على إدخاله في وعاء الموروث.
وتأتي آيات القرآن الكريم في مقدمة الموروث للاستشهاد بها على قضايا المنطق مثل الاستشهاد بآية
وكان الله غفورا رحيما
على استعمال ألفاظ زمنية لإيجاب حمل غير زماني. كما تستعمل آية
إن الإنسان لفي خسر
كنموذج للقضية العامة أو المهملة الموجبة ثم عكسها «الإنسان ليس في خسر» للمهملة السالبة.
152
وتقل الشواهد القرآنية للغاية في الشفاء في العبارة، وفي «عيون الحكمة»، وفي «منطق المشرقيين»، وتزداد في «الإشارات والتنبيهات»، وتغيب كلية في «النجاة».
153
وتذكر ثلاث آيات في «الإشارات والتنبيهات». الأولى
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
تدعو إلى التأمل في العالم الخارجي وفي النفس لإثبات الحق، والثانية
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
لإثبات حكم الصديقين الذين يستشهدون بالله لا عليه في مقابل الحكماء الذين يثبتون الله بالدليل كما هو الحال في الآية الأولى التي تدل على نزعة فلسفية، الاستدلال بالوجود على الله، بينما تدل الثانية على نزعة صوفية، الاستدلال بالله على الوجود. والثالثة
لا أحب الآفلين
ورفضا للقول بأن المحسوس موجود لذاته واجب بنفسه في حين أن واجب الوجود واجب بذاته. فالآية تؤيد الفكرة وليست دليلا عليها.
154
ويذكر الله في كتاب «القياس» (ثلاث مرات) كموضوع في قضية الأولى «إن الله حي» أي دائما لم يزل ولا يزال نموذجا للقضية الكلية الموجبة أي المطلقة الضرورية في كل الأحوال. وتتكرر في «النجاة» كنموذج للحمل الدائم. وهو أحد أوجه ستة للحمل الضروري في فصل الواجب والممتنع وبالجملة الضروري. والثانية «أن الله تعالى حي بالضرورة». وهي نفس القضية في صياغة أخرى «الله موجود» كمثل على القضية الضرورية وليست القضية المشروطة في «الإشارات والتنبيهات». والثالثة
وكان الله غفورا رحيما
استشهادا على استعمال ألفاظ زمانية لإيجاب حمل غير زماني. الوقت موجود والله لا يحتاج في وجوده إلى زمان.
155
كما تستعمل قضية الله واحد كنموذج للقضايا المطلقة التي يسلم بها الجمهور. وهنا يبدو ابن سينا محللا للثقافة الشعبية. كما يؤخذ «الله» كمثل لمن لا ضد له كما هو الحال في الطبيعيات مثل الحار والبارد. ويؤخذ أيضا كمثل لتصور المحال المفرد الذي لا يتصور إلا قياسا على موجود ينسب إليه مثل الخلاء الذي لا يتصور إلا كالقابل للأجسام ومثل ضد الله. والله هنا حد لإصابة المجهول من المعلوم، ومقياس يقاس عليه، وتصور بالنسبة والإضافة مثل قياس الغائب على الشاهد.
156
والأمور الإلهية ليست بغائبة عن المنطق في الحديث عن الإيجاب والسلب أيهما أشرف، والقول بأن السلب أشرف في الأمور الإلهية كما هو الحال في اللاهوت السلبي غير مفهوم عند ابن سينا. والقول بأن الإيجاب أشرف هو موقف المتدينين الذين يعبرون عن التصور الديني للعالم، والقول بأن السلب أشرف هو موقف الجدليين والوجوديين. كما يرفض ابن سينا أن يكون شرف البرهان مستمدة من شرف موضوعه. فالبرهان علم لا شأن له بالمعلوم. البرهان منهج وليس موضوعا. والحديث البرهاني عن الله شريف لشرف البرهان وليس لشرف موضوع البرهان. الإلهيات إنسانيات أو طبيعيات، والمقدسات عقليات، والمجردات حسيات. المنطق حكم العقل ولا شأن له بحكم القيمة.
157
كما يضرب المثل في تحليل الموضوعات، المقدار للهندسة، والعدد للحساب، والجسم الطبيعي بالموجود الواحد في الإلهيات.
158
ويذكر «اللهم» كأسلوب في التعبير يكشف عن الأساس الشعوري اللغوي للتصور الديني للعالم.
159
وفي «النجاة» تظهر بعض المصطلحات القرآنية غير المباشرة مثل الدهر بالإضافة إلى مصطلح الزمان المقابل لمصطلح الوافد.
160
ويضرب ابن سينا المثل بالخالق الأول والملائكة كنمط من الموجودات في العلوم النظرية، مباينة للمادة والحركة ولا يصلح خلطها بالمادة. والله مصدر للعلم بما ينبغي أن يكون ويستطيع العقل أن يدركه. ويضرب المثل بالملائكة على الكائنات المعقولة التي لا تموت في موضوع تعادل القسمة من جنس واحد إلى معقول ومحسوس، وغير مائت ومائت، وملاك وحيوان؛ فالمثل الديني يدل على حضور الموروث كمصدر للأفعال في المنطق. وفي معرض سوء تأويلات مقولات الإضافة ونقد ابن سينا لها يتعرض الموضوع الوحي والملائكة وخلق العالم في حين أن مستوى حديث أرسطو غير ذلك؛ فابن سينا هنا يضع الموروث وعاء للوافد ولا يتعامل مع الوافد وحده. وتظهر بعض المفاهيم الدينية الفلسفية مثل الملك والعقل؛ حيث يقال إن كلا منهم يتشابه في النسبة. فالتناسب يكون بتشابه في النسبة أو بجهة الاستعمال أو باشتراك في العمل أو باشتراك في الاسم. ويدخل العقل الأول كأحد مصادر التسليم مع اتفاق الجمهور والخصم. كما يظهر تعبير «القول المرسل» مستمدا من علم الحديث. ويضرب ابن سينا مثالا للمسائل الطبيعية بقدم العالم وحدوثه وفناء النفس وبقائها وهي الموضوعات التي يظهر فيها الصدام بين الوافد والموروث.
161
ويظهر قصص الأنبياء كمادة تستقي منها أمثلة لعلم المنطق مثل موسى في نسبة الاعتقاد إلى ضدين، موسى خير وفرعون شر، موسى خير وفرعون ليس بخير، وهما ليس ضدين يوجبان تعاند الاعتقادين. كما يظهر في العبارة بعض الأسماء الإسلامية كأمثلة للفظ المركب مثل عبد الله، فإن اسم عبد الله يدل على ذلك لا على صفة مثل اسم عيسى. كما يظهر أسلوب التأليف في التراث والرد مسبقا على الاعتراض مثل «فإن قال قائل».
162
ويظهر الإشراق في المنطق، نظرية الفيض في المعرفة حتى يكتمل المنطق، منطق العقل ومنطق الذوق داخل النظرية العامة للفكر، وإن لم يكن على نحو صريح كما هو الحال في «حكمة الإشراق» عند السهروردي. ويقوم ابن سينا بذلك عن طريق القسمة؛ إذ يكتسب التصديق بالمقولات بالحس بأربعة وجوه؛ الأول بالعرض، والثاني بالقياس الجزئي، والثالث بالاستقراء، والرابع بالتجربة. والوجه الأول وهو العرض يكتسب من الحس، المعاني المفردة المعقولة مجردة من اختلال الحس والخيال. ثم يقوم العقل بتفصيل وتركيب بعضها البعض. ويحكم على بعضها بالفطرة وعلى البعض الآخر بالبرهان. ويتم عمل الفطرة باتصال العقل بنور من الصانع يفيض على النفس والطبيعة ويسمى العقل الفعال. وهو المخرج للعقل من القوة إلى الفعل. أما البرهان فبمعرفة الحد الأوسط حتى يصبح في قوة الأوليات.
فالإشراق معرفة حسية بنور فطري في العقل عن طريق فيض العقل الفعال وهو الصانع. ينال العقل المعقولات بإشراف الفيض الإلهي وليس من الحس وإن كان الحس مناسبة وبداية ومقدمة.
163
ويظهر مفهوم النبي في مقابل الفيلسوف كمجرد مثال لحل مشكلة تنوع الأجسام من الداخل أو من الخارج؛ فالجسم هوية الأشياء من الداخل وليس من الخارج. الجسم جسم لا فرق في ذلك بين جسم نبي وجسم فيلسوف. بل لا فرق بين في الجسمية بين النبي والفيلسوف من ناحية وبين اللجام والقدر من ناحية أخرى. ومجرد اختيار الأمثال كاشف عن البيئة الثقافية والموروث الديني الفلسفي الذي يعرض لهذه المقابلة بين النبي والفيلسوف في علوم الحكمة أو اللجام والقدر في حياة البدو، حياة الحصان والخيمة. منطق الجدل إذن يتخلل الطبيعيات، والنبوات المدخل إلى الطبيعيات. كما يضرب ابن سينا المثل بالنبي في العلوم العملية. فالنبي هو مدير المدينة. والتدبير صناعة من عند الله؛ لأنها مرتبطة بالنبوة. كما يضرب المثل بالنبي الذي صلى إلى بيت المقدس في وقت ما وبالنبي الذي لم يصل إلى بيت المقدس في وقت آخر على التناقض في القول.
164
وتظهر قسمة علوم الحكمة الناس إلى عوام وخواص؛ فالناس هم العوام والأنبياء هم الخواص. لذلك كان الحكماء ورثة الأنبياء، ومن فاز بالخواص النبوية يكاد يصير ربا إنسانيا تحل عبادته بعد الله، وكاد أن تفوض إليه أمور العباد. وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه، وهنا يصل ابن سينا إلى حد تأليه الإمام أو يكاد طبقا لعقائد الشيعة.
165
وفي «عيون الحكمة» يورد ابن سينا حكمة يونانية «بوليموس » وتعني الإنسان الذي يختل مزاج فم معدته فلا يحس بالجوع ألبتة طبقا لشرح الرازي، وهذا هو حال الإنسان الذي تشغله شواغل البدن عن الالتذاذات بالملذات العقلية واللذات الإلهية؛ فابن سينا الطبيب يضرب المثل لعدم تذوق النفس للذات الإلهية بالذات البدنية.
166
وتظهر بعض الموضوعات الكلامية في نظرية العلم مثل الحديث عن المقدمات البرهانية مثل الأولية المحسوسة، والجدلية مثل المشهور والمحمود، وهي المقدمات التي تحولت إلى منطق في علوم الحكمة. كما تحولت نظرية الوجود في علم أصول الدين إلى الطبيعيات في علوم الحكمة، والإلهيات إلى إلهيات. أما السمعيات، النبوة والمعاد والإيمان والعمل والإمامة فقد تحولت أيضا إلى علوم الحكمة فأصبح المعاد مرتبطا بخلود النفس وهو جزء من الإلهيات في نظرية الاتصال، والإيمان والعمل إلى علم الأخلاق، والنبوة والإمامة إلى المدينة الفاضلة أي الجانب السياسي في علوم الحكمة، الناموسيات والشرعيات بتعبير إخوان الصفا. كما يضرب المثل باشتراك عدة موضوعات في مبدأ واحد بعلم الكلام فإن موضوعاته كلها تنتسب إلى مبدأ واحد وهو التوحيد أو طاعة الشريعة أو كونها إلهية، مما يجعل علم الأصول علما واحدا، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. ويتعرض النمط الخامس في «الإشارات والتنبيهات» إلى الصنع والإبداع وهي مقولات إسلامية من القرآن في موضوع الخلق. ويرفض ابن سينا القول بأنه لو جاز العدم على الله لما ضر عدمه وجود العالم؛ لأن العالم يحتاج إلى الله في إيجاده ولا يحتاج إليه في إعدام وجوده أو استمراره. ولو احتاج كل موجود إلى موجود لاحتاج الباري أيضا. يرفض ابن سينا عدم احتياج العالم إلى الله بعد خلقه له دفاعا عن العناية؛ فالله صنع وأبدع أي خلق واعتنى. يضع ابن سينا بناء عقليا ثم ينتهي منه إلى إثبات العناية كما هو الحال في الموروث ضد اللاشعور الوافد بأن الله لا يعتني بالعالم، بل يتحرك العالم نحو الله بالعشق.
167
ولغة الكلام لغة جدلية؛ لأن علم الكلام علم جدلي، والجدل نافع بين المتكلمين الذين يسميهم ابن سينا الخطباء والمشاغبين وخلافهم حول رؤية الله وخلق القرآن. الكلام جدل، والفلسفة برهان. الكلام تعدد وجهات نظر طبقا للأهواء، والفلسفة رؤية واحدة طبقا للعقل. لقد وقع المتكلمون ضحية اللفظ المشترك مثل يرى، خلق. فهل يعني الخلق المسموع أو المعنى الأبدي؟ وهل تعني الرؤية بالبصر أم بالفؤاد؟ وهكذا تنشأ المشاغبة بين المتكلمين لعدم تحديد الألفاظ. نقد الكلام إذن مستمر في علوم الحكمة. وبلغ الذروة في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد كموضوع مستقل وليس من ثنايا العرض أو التأليف كما هو الحال عند الكندي وابن سينا.
168
ومع ذلك تظهر أهمية الجدل في الأمور الاعتقادية التي يأتي منها نفع مثل إثبات الصانع وإثبات النبوة وإثبات المعاد. ويضرب ابن سينا المثل بالعقوبة الدينية جزاء إنكار عبادة الله أو بر الوالدين أو الرحمة للمقابلة بالفعل لا بالقول كأحد وسائل الجدل. ويمكن الدفاع عن العدل الإلهي بالجدل مثل القول بأن الله يظلم والرد على ذلك بشرح أسماء الله تعالى وحد الظلم؛ فالله هو الموجود المبرئ من الانفعال. والظلم هو الإضرار؛ ومن ثم لا يجوز على الله، وبالتالي تبطل دعوى أن الله يظلم، ومن يقولها تنقصه المبالاة والتقوى، فهو قول كلامي مرده إلى أخلاق القائل.
169
وقد يحسن قتل القريب الذي كفر بالله ولكنه لا يحسن على الإطلاق. وهنا ينتقل ابن سينا من الأشعرية إلى الاعتزال، من الحسن والقبح الشرعيين إلى الحسن والقبح العقليين. والأفضل والأنقص يشاركان في جنس الفضيلة زيادة في الأول ونقصا في الثاني. أما الفضيلة نفسها كنوع فهي الهيئة؛ لأنها باقية مثل الحكمة أو لأنها نافعة في الأمر المطلوب لذاته وليس الأفضل حتى لا يحدث دور وذلك مثل النافع في الآخرة والمعاد، وهما مطلوبان لذاتهما. هنا يربط ابن سينا بين الدين والأخلاق من خلال الجدل؛ فالجدل الكلامي ليس مجرد مماحكات لفظية بل بواعث أخلاقية على السلوك الأفضل. واختيار الأفضل هو اختيار العقل والشريعة والفضيلة. وهنا يزيد ابن سينا على المعتزلة ليس فقط اتفاق العقل والنقل ولكن أيضا اتفاق العقل والنقل والفضل أي اتفاق الحكمة والشريعة والفضيلة، الفلسفة والدين والأخلاق. والمشهور أن وجود الأفضل أولى من وجود غيره، ووجود الإلهي أولى من وجود الإنساني. فيضيف ابن سينا على العقل والنقل والفضل الموجود بمنطق الأولى كما هو الحال عند الأصوليين. فإذا اتحد العقل والنقل والفضل فإنه يكون أولى بالوجود من غيره وكان ابن سينا يقيم دليلا على وجود الله من خلال منطق الجدل. ثم يبلغ الجدل ذروته بتوهم أن الله يجعل الشيء الميت غير ميت ويمنع الموت عنه. أصبح هذا التوهم موجودا ومقبولا، بل لا تمنعه فطرة العقل. إنما تمنعه فقط حجة جدلية أنه إذا لم يمت المائت فإن حياته تصبح أبدية، وهذا خلق لأن الله هو الواحد الباقي، الحي الذي لا يموت.
170
وقد أخذ التواتر حيزا رئيسيا في منطق «الشفاء» كمادة للبرهان ضرورية ظاهرية مثل الحس والتجربة في مقابل المادة الظنية وفي مقابل الضرورة الباطنية وهي ضرورة العقل أو قوة أخرى خارج العقل. فمن شروط التواتر الاتفاق مع الحس والعقل ومجرى العادات، وليس فقط تعدد الرواة واستقالتهم وعددهم الكافي وتجانس انتشارها في الزمان بدرجة واحدة. الشرط الأول يتعلق بالمتن في حين أن الشروط الثلاثة التالية تخص السند. والتواتر أحد مصطلحات علم الحديث. دخل علم أصول الفقه في باب الأخبار وليس من أرسطو. ليست الفلسفة إذن تطويرا لعلم الكلام فحسب، بل أيضا تستمد مادتها الداخلية من العلوم النقلية مثل القرآن والحديث والفقه. ويدخل التواتر ضمن نظرية عامة في التصديق لتوسيع نظرية أرسطو بضم مادة جديدة لها من الموروث بحيث تكتمل نظرية التصديق بعد ضم الموروث إلى الوافد فيصبح التواتر جزءا من البرهان الضروري الظاهري المعتمد على الحس والتجربة مثل نظرية العلم في أصول الدين.
171
كما تدخل المتواترات كمادة للأقيسة في منطق «النجاة» مع المخيلات، والمحسوسات، والمجريات والأوليات، والمقدمات الفطرية، والقياسات، والوهميات، والمشهورات المطلقة، والمشهورات المحدودة، والمسلمات، والمشبهات، والمقبولات، والمشهورات في بادئ الرأي غير المتعقب، والمظنونات. ويعتمد البرهان على الأوليات والتجريبيات والمتواترات والمحسوسات أي بداهات الحس والعقل والتواتر. أما الذائعات والمقبولات والمظنونات فلا تعطي إلا الظن. لا يتعلق اليقين والظن إذن بصورة الفكر وحدها، بل بمادة الفكر أيضا. المتواترات موضوعات حسية غير مشاهدة دون أن تكون غيبية مما يتفق مع أحد شروط التواتر الأربعة عند الأصوليين وهو الاتفاق مع الحس، وهي مادة مشابهة لنظرية العلم في أصول الدين. وتعني المتواترات المعرفة التاريخية العامة التي يستحيل معها التواطؤ على الكذب مثل وجود البلدان والأمصار خارج نطاق المشاهدة وليس بالضرورة الوحي. بل إن الأمور الشرعية قد تدخل في المقبولات. وهي آراء وقع التصديق بها للثقة بصدق الراوي أو لأمر سماوي أو لرأي وفكر قوي مثل قبول ما نقل عن أئمة الشرائع. فالتصديق إما للثقة بالراوي أو بالنبي أو بالفيلسوف، صدق الراوي ووحي النبي وحكمة الفيلسوف.
172
وتدخل المتواترات في «الإشارات والتنبيهات» في نظرية عامة لمادة القياس. فمواد القضايا أربعة: المسلمات والمظنونات والمشبهات والمخيلات. والمسلمات معتقدات ومأمورات. والمعتقدات واجب قبولها، ومشهورات ووهميات. والواجب قبولها أوليات ومشاهدات، ومجربات. والمجربات حدسيات، ومتواترات، وقضايا قياساتها معها. فالمتواترات جزء من المجربات. والمجربات جزء من الواجب قبولها التي هي بدورها جزء من المعتقدات والمعتقدات جزء من المسلمات. المتواترات إذن مجربات وليست غيبيات. وهو ما يتفق مع أحد شروط التواتر عند الأصوليين، وهو الاتفاق مع الحس ومجرى العادات. وهي مصدر المعرفة التاريخية وليست الدينية فقط. أساسها شعور باليقين الذي لا يأتي من عدد الرواة بل من سكون النفس الذي يحدد العدد. ولما انقسمت المشهورات إلى واجبات وتأديبيات وخلقيات واستقرائيات دخلت الشرائع الإلهية مع التأديبيات الإصلاحية لتوسيع نظرية العلم ومادته، ويجوز للوهميات أيضا أن تكون مشهورة لولا مخالفتها للسنن الشرعية.
173
كما ظهرت المشهورات أيضا كمادة للبرهان. والمشهور مثل المتواتر مصطلح من مصطلحات علم الحديث، والمقدمة المغالطية تشبه المشهورة وهي ليست كذلك؛ فكثير من المشهورات كاذب، وكثير من الشنيع حق. ونسبة المشهور والشنيع إلى الجدل كنسبة الحق والباطل إلى البرهان. الغلط في البرهان ما ليس بحق، وفي الجدل ما ليس بمشهور. فلا يطلب اليقين بالمشهورات. والقضية المشهورة ليست بصادقة. وبالتالي لا يقاس عليها. فتارة يقاس على أن النفس لا تموت وتارة يقاس على أن النفس تموت. وأحيانا يسميها ابن سينا الذائعات . وهي مقدمات وآراء مشهورة ومحمودة وجب التصديق بها بشهادة الكل أو الأكثر أو العلماء أو الأفاضل فيما لا يخالف فيه الجمهور، مقاييس الصدق إذن مراتب الإجماع على ما يقول الأصوليون، الكافة أو الغالبية من الناس أو العلماء أو الفضلاء بشرط عدم مخالفة الجمهور، أي حكمة الشعوب والبداهة الشعبية. صدقها ليس بالفطرة أو بالعقل، بل بالعادة منذ الصبا أي الثقافة المدونة والاتفاق عليها مثل المبادئ الخلقية والسنن القديمة الباقية دون تغير استقراء من التاريخ. ويضرب ابن سينا المثل على ذلك بمثل عربي قديم تحول إلى حديث نبوي بعد قراءة جديدة له تكمل الطبيعة وتعمقها «انصر أخاك ظالما أو مظلوما.» الذائعات مرتبطة إذن بدرجة انتشار الخبر وبمقاييس صدقه.
174
والفطرة الإنسانية بين المنطق والوحي موضوع سينوي أصيل لا شأن له بالمنطق الوافد. الفطرة لفظ موروث. ولما كانت الفطرة غير كافية - وإلا لما اختلف العقلاء - احتاجت إلى عون آخر من المنطق كما هو الحال في الموروث؛ فالمنطق في الوافد يقوم بدور الوحي في الموروث، والوحي في الموروث يقوم بدور المنطق في الوافد. بل إن المنطق يقوم بدور الوحي في الوافد، والوحي يقوم بدور المنطق في الموروث. قد تستغني عن المنطق إلا إذا كانت مؤيدة بوحي من الله تعالى. والفطرة تشهد بالوهميات كما تشهد بالعقليات. وتعني توهم اعتقاد أو حدوث شيء وهو بالغ عاقل دون أن يسمع رأيا أو يعتقد مذهبا أو يعاشر أمة أو يعرف سياسة. اعتمد على المحسوسات ثم حولها إلى خيالات ثم عرضها على الذهن فإن شك فلا تشهد الفطرة بها وإن لم يشك أوجبته الفطرة. وليس كل ما توجبه الفطرة صادقا بل البعض كاذب. إنما صدق الفطرة من العقل. ويكون الكذب في الأمور غير المحسوسة بالذات مثل مبادئ المحسوسات الهيولي والصورة بل العقل والباري وهي أعم من المحسوسات كالوحدة والكثرة والتناهي واللاتناهي والعلة والمعلولة. يقين الفطرة من العقل، وكذبها نظرا لتجاوز الكاذب منها المحسوسات مثل المبادئ العامة ومنها الباري تعالى. ولو كان الله مدركا حسيا لما وقع فيه الكذب .
175
ويظهر القياس الفقهي في الفصل الحادي والعشرين من كتاب القياس من المقالة التاسعة وهي أطول المقالات. وهو من وضع ابن سينا. اللهم إلا إذا كان أرسطو يعني القياس القانون. وهذا هو موطن الإبداع أو اقتران التأليف العارض بمواطن الإبداع مثل أوتاد الخيمة، ولا يوضع القياس الفقهي مع البرهان والقياس بل مع التمثيل والاستقراء؛ لأنه ظن. فهو جزء من منطق الخطابة والقضايا الحسية والتعقلية والوساطية والنقلية. هو منطق العمل والفعل الذي يجتمع فيه الجزء مع الجزء، والجزء مع الكل، والحس مع الحس، والحس مع العقل، والنقل مع العقل. أما الوساطية فهي المبادئ العامة التي تخص كل الشعوب. الضمائر فيه هي الدلالات والعلامات لأنه يتعلق بأفعال الأفراد والجماعات، الخاص والعام. يتشابه ويختلف مع القياس المنطقي. فالأصل في القياس الشرعي هو المقدمة الكبرى في القياس المنطقي. والفرع في القياس الشرعي هو المقدمة الصغرى في القياس المنطقي. والعلة في القياس الشرعي هو الحد الأوسط في القياس المنطقي، والحكم في القياس الشرعي هو النتيجة في القياس المنطقي. وهو قياس مثالي، وتعني المثالية الحكم بالشبيه على الشبيه من المثال والنموذج أي النص والأصل. والأصل مأخوذ من الوحي وهو ما يسميه ابن سينا صاحب الشريعة. ونظرا لأنه من الشيعة الاثني عشرية فإنه يضم إلى الرسول خلفاء الله المهديين والأئمة من الشيعة. والجزء والكل في المنطق الصوري هما الخاص والعام في القياس الشرعي. فالخاص يراد به العام في المنطق الشرعي، كما أن الجزئي يراد به الكلي في المنطق الصوري، والعام يراد به الخاص في المنطق الشرعي كما أن الكلي يراد به الجزئي في المنطق الصوري. والخاص يراد به الخاص في المنطق الشرعي، كما أن الجزئي يراد به الجزئي في المنطق الصوري، والعام يراد به العام في المنطق الشرعي كما أن الكلي يراد به الكلي في المنطق الصوري، والغالب على القياس الشرعي هو القياس الحسي لأنه يتعلق بأفعال الناس على عكس القياس المنطقي العقلي الصوري لأنه يتعلق بصور القضايا وأشكال الفكر. لذلك ارتبط القياس الشرعي بالفقه والسياسة. ويعني الفقه والسياسة هنا العمل. والسلوك، العبادات والمعاملات. وتعتمد القياسات الحسية على المقدمات الفقهية والسياسية المخلوطة. مقدماتها الكبرى من الفقه ومقدماتها الصغرى من السياسة، عوامها من أصول الفقه، وخواصها من الممارسات اليومية. أما القياسات الوساطية فمقدماتها مأخوذة ومختلطة من الفقهية. وهي الآراء المحمودة التي لا تخص ملة بعينها وهي سنن غير مكتوبة. عمومياتها فقهية، وخصوصياتها حكمة الشعوب. والمبادئ العامة المحمودة عند كل الناس. العام من الفقه، والخاص من الجمهور، العام من الوحي، والخاص من ثقافات الناس.
176
ويضرب المثل بالفقيه كمحمول لزيد كموضوع. كما تستعمل بعض الأمثلة الفقهية كنموذج للعبارات والقضايا المتقابلة خداعا مثل «إن السكر محرم» وليس فيها تقابل. ويأخذ ابن سينا أمثلة من السنة على المقدمات المحذوفة مثل «إن كل ما هو غير شر ويضاد الشر فهو خير.» وتؤخذ أمثلة من موضوعات الفقه على علاقة الأسماء بالمسميات. فالخمر والسلافة يفيدان نفس المعنى باسمين مختلفين، وللسلافة زيادة معنى (الصفاء، الذوق). كما يستعمل مثل الخمر المسكر لبيان حال الجزء والكل، والقوة والفعل. فهل السكر القليل أم الكثير، بالإمكان أو بالفعل؟ ويظهر النسخ في الشريعة كمثال لاختيار حد أفضل من حد آخر إذ لا حدين لشيء واحد. وبالتالي يصبح الحد الأفضل هو الناسخ والحد الأخس هو المنسوخ كما هو الحال في الشريعة. هنا يستعمل ابن سينا معنى النسخ اشتقاقيا بمعنى الإزالة والإثبات، إزالة المنسوخ وإثبات الناسخ وليس بالمعنى الإصلاحي بيان زمن الحكم. ومع ذلك يدل استعمال ابن سينا لمصطلح النسخ على وجود الشريعة في المخزون البيئي الثقافي لديه حتى وهو يؤلف في المنطق تأليفا في الوافد بمصطلحات الموروث، والسنن القديمة بقيت ولم تنسخ بشهادة الاستقراء الكثير أي حكمة الشعوب.
177
وفي «منطق المشرقيين» يضرب المثل بالمقابلة، في كتب الحديث لمن يرون أن التعمق في النظر بدعة، وأن مخالفة المشهور ضلالة، من تعمش عيونهم عن دقة البحث، عراة الفهم كأنهم خشب مسندة؟
178
وتظهر البيئة الدينية في فواتح الكتب وخواتمها، في اللازمات التي تكشف عن التصور الديني للعالم عند المؤلف والقارئ، والناسخ، زيادات في بعض النسخ وكثرتها كلما تقادم المخطوط. تبدأ بالبسملة والحمدلة وبعبارات فلسفية أحيانا تمييزا عن عادة الجمهور مثل واهب العقل ومبدع الكل بلا نهاية. وتدعو فواتح أخرى بعد البسملة بطلب الزيادة في العلم والحمدلة والصلاة والسلام على النبي وآله وبيان غرض الكتاب وهو التأليف في علوم الأقدمين بناء على النظر المرتب المتحقق، وهذا هو معنى التأليف، التأليف في الوافد بناء على نظر العقل. وتبدأ مخطوطات أخرى بمقدمات مشابهة تختلف قصرا وطولا مع الترحم على الشيخ الرئيس والحمد على حسن التوفيق، والدعوة إلى الهداية في الطريق وإلهام الحق في التحقيق، والدعوة إلى السداد واليسر، والنفع بالعلم، والحمد لله والصلاة والسلام على الرسول وآله. ويستثنى من ذلك كتاب الشعر الذي لا يبدأ بالبسملة ربما خطأ من الناسخ. كما تكشف بعض الزيادات بعد البسملة والحمدلة والثناء على الله والرسول والأنبياء والخاصة والأئمة ورثة الرسول عن التوجه الشيعي لابن سينا، ومستعينا بالله متوكلا عليه وحامدا إياه حسن التوفيق وسؤاله الهداية والإلهام إلى الحق بالتحقيق والصلاة على المصطفين من عباده لرسالته وهم الأئمة المهديين. وأحيانا تبدأ بالبسملة والحمدلة في أول كل مقال وليس فقط في أول الكتاب.
179
وأحيانا تكشف الخواتم الدينية أيضا عن توجه شيعي عن الظاهر والباطن. كما تظهر روح الأشعرية في طلب العون والتوفيق من الله مع ذكر تاريخ انتهاء الكتاب أحيانا، وأحيانا تكون الخواتم أقرب إلى الأخلاق منها إلى الدين وثناء على الفضائل مثل الفقه والحكمة والشجاعة ومجموعها العدالة كفضائل عملية بالإضافة إلى الفضائل النظرية. ومن تميز بالخصائص النبوية صار إنسانيا، سلطان العالم وخلقة الله في الأرض على ما هو معروف في التصوف الشيعي وكما هو الحال في نهاية مخطوط البرهان. وتنتهي بعض الخواتيم بأن الله أعلم، إعلانا عن التواضع، وحدود المعرفة الإنسانية، وفوق كل ذي علم عليم. وقد يذكر اسم الناسخ وطلبه العفو والمغفرة، والإعلان عن مذهبه الفقهي المالكي، ونسبة البغدادي، وطلبه المزيد من العلم، وتتفاوت عبارات الحمد والثناء طولا وقصرا حسب انفعالات المؤلف أو الناسخ وقدرته على تكرار الشائع أو تجاوزه.
180 (6) آليات العرض النسقي المنطقي
وهي نفس الآليات التي أمكن رصدها في تحليل الخطاب في الشرح والتلخيص والجوامع وتحليل أفعال القول التي تؤدي إلى التوضيح وبيان مسار الفكر والقصد والأسباب ووسائل التحقق من صدق الفكر.
وتتعدد أفعال البيان والإيضاح والشرح وما يتطلبه من تركيز أو إسهاب، حذف أو إضافة. والإيضاح والبيان في مقابل الغموض والإيهام. ويتكرر الإيضاح والبيان عدة مرات في الماضي والحاضر والمستقبل.
181
والعقل أداة الإيضاح، ما يوافق عليه وما يخالفه، ما يقابله وما يستنكره، وهو العقل البديهي الذي لا يحتاج إلى بيان. فمن الواضح أن واجب الوجود لا علة له. لذلك يرد ابن سينا الإلهيات إلى المنطق أي إلى طرق البرهان. فلا سفسطة ولا جدل كما هو الحال في علم الكلام. ولا خطابة ولا شعر كما هو الحال في التصوف، بل البرهان كما هو الحال في الفلسفة الأولى وفي أصول الفقه، وفي وسط «الإلهيات» يوجد فصل كامل عن المنطق، الفصل الثامن، المقالة الأولى «في بيان الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل في المقدمات الحقة.» وهو آخر الفصول عن منطق اللغة، وتحليل الخطاب.
182
ويؤكد العقل على وجود الكليات في عالم الأذهان لا في عالم الأعيان، وأن افتراض التطابق بينهما هو من عمل الوهم والخيال أو عن طريق التجريد للأشخاص. والعقل هو النفس كما هو الحال في الرياضيات، وكذلك كل المقولات الفلسفية كالصورة والعلة. لذلك تلجأ الرياضيات إلى الرسم التوضيح عالم الأذهان في عالم الأعيان. التأخر والتقدم، القدم والحدوث، الأول والآخر كلها في الأذهان. ويجوز أن يكون الشيء موجودا في الذهن معدوما في الأعيان مثل الخبر عن شيء موجود في الذهن، لذلك كان الصدق في النفس والحق في الخارج، وهو الحق مطلقا، الحق بذاته دائما واجب الوجود، وبالتالي يشبه موقف الفلاسفة موقف الفقهاء في رفض تطابق العالمين، ويكون نقد الفقهاء للفلاسفة بأنهم يقولون بوجود الكليات في الخارج، وبالتالي القول بتعدد الصور غير صحيح.
183
والهدف من الإيضاح والبيان إقامة النسق المنطقي على أكبر قدر من الاتساق والبرهان الداخلي بحيث يمتنع فيه المحال والتناقض كما يتضح ذلك في عبارات مثل: وهذا محال، وهذا خلف، وهذا مستحيل، وهذا كاذب. فالمحال بيان فساده وكذبه. وقد يضع ابن سينا حجة افتراضية للعمل عليها ثم بيان فسادها. ويضع البنية العقلية التي يقوم عليها العرض حتى يبدو أكثر اتساقا وأوسع شمولا.
184
ويستعمل أسلوب المسلمين في استباق الاعتراض والرد عليه مسبقا كما هو الحال في علم الأصول في صيغة «فإن قال قائل ... نقول» من أجل إكمال البنية العقلية وتحليل التجربة المشتركة بين المؤلف والقارئ قبل أن تقع. وقد يصبح الاعتراض سخفا وجدلا ولجاجة لا ينفي التساؤل والمعرفة بل الإحراج والعناد.
185
والفهم اقتضاء يعبر عنه بألفاظ «يجب»، «ينبغي». فالحق ضرورة. والصواب يفرض نفسه في يقين داخلي ونسق فكري، وكأن اليقين حتمية قبلية من طبيعة الذهن ومسار الفكر قبل أن يكون بآلياته وأشكال القضايا وترتيب المقدمات واستخلاص النتائج. مسار الفكر اقتضاء ذهني وطبيعي، وتحليل معاني الألفاظ لمعرفة معانيها وحذف ما لا يدخل في الغرض اقتضاء منهجي.
186
لذلك يتم استعمال فعل الأمر للمؤلف والقارئ على السواء بأفعال «اعلم»، «اعرف»، «انظر» وكان المعرفة إلزام خلقي في تجربة مشتركة، عودا على بدأ، ومسكا بالخيط من أوله، العود إلى الرأس. وقد يكون الشخص الثالث الغائب في صيغة الندب وليس الأمر.
187
ولا يعني هذا الاقتضاء الاعتماد على المعيار الداخلي وحده بل هو اقتضاء خارجي أيضا يقوم على التعليل والبحث عن الأسباب. فإن كان الفكر منطقيا يقوم على استدلال صوري إلا أنه أيضا يقوم على تحليل الأسباب جامعا بين المنطقين الصوري والمادي، الرياضي والعلمي، العقلي والتجريبي. والأسباب هي التي تفسر أقوال الآخر وأقوال الأنا. فلا قول بلا علة كما هو الحال في علم أصول الفقه، لا حكم إلا بعلة بالرغم مما قد يؤدي تحليل العلل إلى التطويل. والعلة الغائية أقوى أنواع العلل وأولاها. فالغاية هي التي تحدد مسار الفكر وتكشف أصده. هي النتيجة النهائية، المطلوب إثباته؛ ومن ثم كان أفضل فهم للقول يتم عن طريق معرفة العلة الغائية.
188
ويصف ابن سينا مسار فكره، ما تم في الماضي وما يتم في الحاضر وما سيتم في المستقبل في مسار واحد متصل، له بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه في استدلال واحد مستمر يخلو من التناقض والقفزات. يعود على بدء، ويذكر بما فات، ويعلن عما هو آت وبيان ما يحدث الآن. ويتم الربط أحيانا بين الفقرات عن طريق استعمال هذه الأزمنة الثلاثة. وغالبا ما يكون المسار في فعل من أفعال الإيضاح والإظهار والكشف، وأحيانا يتم الإيحاء بشيء دون تفسير ثم يعاد إلى تفسيره وتفصيله. وذلك أظهر في «الشفاء» منه في «النجاة» أو «الإشارات والتنبيهات» نظرا للطابع المغلق للشفاء الذي يحتاج باستمرار إلى تذكير وتنبيه وبيان لمسار الفكر، وتقل هذه الألفاظ الرابطة في الموضوعات المحلية، في تنظير الموروث، وتزيد في الوافد، تنبيها للقارئ على منطق الغريب. فتغيب مثلا في المقالة العاشرة في «الإشارات والتنبيهات»، وتقل في «النجاة»، وتكثر في «الشفاء». تقل في الاختصار، وتكثر في التطويل.
189
والغالب هو الفعل الماضي للتذكير بما سلف.
190
والمضارع يبين الخطوة الحالية للقارئ.
191
والغاية هو الحصر والاستقصاء الذي يسميه ابن سينا على سبيل الاقتصاص.
192
ويستعمل لفظ الهداية لإرشاد القارئ وتنبيهه على مسار الفكر. وأحيانا يكون الإعلان عن الشيء نفسه باسم الإشارة من أجل رؤيته بعد توضيحه.
193
والعود على ما بدأ يمنع من الاستطراد وفتح القوسين توضيحا للمسار الكلي وتحقيقا للغرض، حرصا على الإيجاز ومنعا من التطويل. العودة إلى الرأس أي العودة إلى الأصل والموضوع بالرغم من طول النطق والإسهاب خاصة في أشكال القياس، ولا يذكر ابن سينا كل الأمثلة في القياس بل يختار بعضها، وإيراد الجزئيات يطيل الكلام. ومن لا يصدق الكل لا يصدق الأجزاء خاصة لو كان الموضوع عن رؤية ومشاهدة ورواية عن الصادق، لا فرق في ذلك بين أرسطو والنبي والإمام. وفي نفس الوقت قد يحتاج ابن سينا إلى الشرح والزيادة للإيضاح. فالغاية النهائية قد القول على المعنى أو بتعبير البلغاء العرب، التعبير عن مقتضى الحال.
194
وعندما تظهر لحظات الفكر الثلاث يتضح مسار الفكر، مقدماته ونتائجه وطرق استدلاله. فهو ليس شرحا للقول أو تلخيصا له. وليس ترجمة له وتعليقا عليه. بل هو تفكير في معاني القول وإعادة النظر فيها وصبها من جديد في مسار فكري مستقل متسق الخطوات، كل خطوة لاحقة قائمة على الخطوة السابقة، قيام الفرع على الأصل، وهو انتقال طبيعي وذهني ومنطقي.
195
مثلا فإن إثبات المبدأ الأول لا يتم إلا عن طريق الاستدلال من المحسوسات كما هو الحال في علم الكلام بل ومن الكليات كما هو الحال في الفلسفة، الأول طريق بعدي، والثاني طريق قبلي.
196
ويحيل الفكر إلى نفسه بالرغم من تقسيماته وتفصيلاته وخطواته. كل فن يحيل إلى الفن السابق أو اللاحق، وكل بداية تعقبها نهاية ثم تحيل إلى بداية أخرى، فالمسار الواحد يتعدد إلى عدة مسارات على نحو لولبي تصاعدي حتى يتحقق المسار الكلي وتظهر بنية النسق مما يخفف من الطابع الصوري التركيبي للشفاء خاصة، هرم بلا قاعدة، وبناء بلا أساس. عالم مغلق بلا أبواب أو نوافذ لا يكاد يخرج منه أو يدخل إليه أحد. يقدم ابن سينا ويؤخر الموضوعات طبقا للنسق والعادة؛ فبيان الحق وتبديد الشكوك والظنون والأوهام موزع في عدة فنون، والأقوال المشهورة والأقوال العلمية كل في مكانها. القياس له مكانه، والبرهان له مكان آخر. وكل كتاب من كتب المنطق له موضعه وغايته حيث تصب كلها في البرهان.
197
ويحال إلى باقي العلوم البيان ارتباط جوانب النسق الثلاثة، المنطق والطبيعيات والإلهيات؛ لأنه يعبر عن بنية العقل، المنطق للذات، والطبيعة للموضوع، وما بعد الطبيعة لعلاقة الذات بالموضوع، الذات عندما تقترب، والموضوع عندما يتم تجاوزه.
198
وأكثر الإحالات إلى المنطق، وهو المرادف للمعلم الأول، مثالي النزعة. لذلك اتفق مع الإلهيات. ويتضح ذلك خاصة في «النجاة» إذ يشار إلى المنطق باستمرار في الإلهيات في حين أنه لا يشار إلى الطبيعيات إلا نادرا.
199
وتحيل الإلهيات إلى طبيعيات، فالإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى كما تحيل الطبيعيات إلى إلهيات؛ فالطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل. وكلاهما تصور مثالي للعالم ينفي الاتفاق والعبث ويثبت الغائية والقصد. كما يحال إلى التعليميات ولو على نحو أقل؛ لأنها نموذج المفارقات في الإلهيات. ويحال إلى النفس وقواها عندما يتم عرض العقل في الإلهيات في نظرية الاتصال وتفصيل قوى النفس حتى القوى الناطقة.
200
كما يحيل ابن سينا إلى باقي كتبه ويحدد مسارها مما يدل على وحدة التأليف الفلسفي.
201
وقد تكون الإحالة إلى بعض الكتب الخاصة في المنطق مثل البرهان وأنالوطيقا أو إلى مجرد علم آخر دون تحديد نظرا لوحدة العلوم أو إلى مواضع أخرى في بعض الكتب. فالكل في الذهن قبل عرض الأجزاء، يعطيها وحدته، وتعود إليه. الجزء يحيل إلى الجزء وكلاهما يحيل إلى الكل.
202
وبالرغم من أن ابن سينا يبدأ بمحاذاة التعليم الأول إلا أن إبداعات الجزئية المتناثرة والمطمورة تحت النسق تمكن من رؤية الكلي الذي يتجلى في التحقق من صدق النسق وتبديد الشكوك حوله حتى يزداد عقلانية واتساقا. ويحاول تبديد هذه الشكوك في الإلهيات اعتمادا على بيان المبادئ نفسها.
203
وفي الفلسفة هناك معيار للصدق. هناك حق وباطل، صواب وخطأ، صدق وكذب ليس فقط من ناحية شكل الفكر والمنطق الصوري ولكن أيضا من حيث المضمون مثل القول بالغائية في مقابل البخت والاتفاق. ويتم الجدل مع الخصوم كما هو الحال في علم الكلام مثل إثبات الغائية والرد على منكريها كما تفعل المعتزلة ضد الأشاعرة ورفض المصادفة والاتفاق والعبث. فالغائية لا تنفي الحرية. هناك فرق بين الغائية والضرورة. لذلك كان للعلة الغائية الأولوية على باقي العلل. يبدأ ابن سينا من التيارات الموجودة في عصره عند الحكماء أو المتكلمين أكثر مما يبدأ من اليونان بعد أن تحول الوافد إلى موروث فرعي بالإضافة إلى الموروث الأصيل. ويستعمل ابن سينا كل وسائل الجدل، التسليم افتراضا بحجج الخصوم من أجل تفنيدها بعد ذلك. ويحلل موقف السوفسطائي الذي يقوم على الإنكار باللسان وهو العناد أو تعرض له شبهة أو تختلط فتسد عليه طرفي النقيض. ومن ثم يتعامل مع الفيلسوف بأسلوب الجدل والحوار، قياسا على قياس. ويضطر السوفسطائي أحيانا إما إلى الإعراض والسكوت أو إلى التسليم. أما المتحيز فيتم التعامل معه بحل شبهته. ومن ثم يكون الفيلسوف هو صاحب البرهان.
204
ويكشف المسار الفكري عن القدرة على المراجعة والتحقق من صدق ما يقال. فهو فكر يراجع ويتحقق في إطار نظرية عامة من الصدق. ولا يعرض ابن سينا أي قول دون مراجعة وتحقيق وتصديق. وفي إطار عملية التحقق يتم التخلص من الشبهات واكتشاف الغلط والفساد. ويطلق ابن سينا على هؤلاء المغفلين المتعصبين الذين لا يعجبه أقوالهم المليئة بالظنون والشفاعات والأخطاء والتخليط وتأويلات غير مناسبة وضعيفة. والحق والإنصاف ما ينتهي إليه ابن سينا. وهو لا يراجع إلا ما يستحق المراجعة. أما الذي لا يستحق ذلك فإنه يتركه. وهي في الغالب أقوال المتكلمين التي هذوا بها دون أن يخصص لها، كما فعل الكندي وابن رشد، في البداية والنهاية، أعمالا خاصة لنقدها وتجاوزها.
205
ويعرض حجج كل فريق ثم يقارن بين الموقعين مؤيدا أحدهما على الآخر أو يتجاوز إياهما لموقف ثالث متكامل ضاما الطرفين في مركب جدلي جديد. ويبين مسار الفكر خطين يميل ابن سينا إلى أحدهما، ينصر رأيا على رأي، ويرجح موقفا على آخر دون تحديد لهويتهم وأسمائهم حرصا على الطابع النظري اللامشخص. فابن سينا يتعامل مع أفكار لا مع أشخاص، ومع آراء لا مع أفراد، ومع تأليف لا مع مؤلفين.
206
ولا تعني المراجعة والتحقق بالضرورة النقد بل قد تعني أيضا الموافقة وألا كان تعصبا ورفضا مبدئيا مذهبيا خاصة وأن ابن سينا صاحب نسق.
ويحلل ابن سينا نشأة الخطأ عن التعصب والغفلة، وأحيانا يرجع الأقوال الخاطئة إلى الإهمال، ويحذر من الألفاظ المغلطة المشتركة ويبين أهمية الاصطلاح، ويحلل الألفاظ كما هو الحال عند الأصوليين. وقد يرجع الخطأ إلى سوء التأويل. وأحيانا يكتفي بأنه لا يعجبه ما يقال مستعملا الاستحسان المباشر كما هو الحال عند الأصوليين. ويصرح أحيانا بأنه لا يفهم ما يقال حق الفهم. ولعل غيره أقدر منه على الفهم تواضعا أو تهكما.
207
ويراجع الإلهيات ويكتشف بطلان نظر الخصوم في موضوع هذا العلم، وتتم مراجعة الإلهيات بالعودة إلى الطبيعيات؛ فالإلهيات طبيعيات مقلوبة تقوم على قياس الغائب على الشاهد. كما يبين خطأ الخصوم وغلطهم وفساد أقوالهم وكذب ادعاءاتهم وفساد دعاويهم واستحالة مواقفهم. بل يبحث عن أصول أسباب الغلط رادا الأغلاط إلى أسبابها الأولى، والغلط مثل الخطأ والكذب والفساد والاستحالة. ويعتمد على البر والتقسيم لتعديد الأقسام والتحقق من صحة كل قسم، صدقه أو كذبه حتى ينتهي إلى صدق أحدها.
208
كما ينتهي ابن سينا إلى رفض المخالف للحق والمضاد والمناقض له مثل نظرية الصور أي المثل وهو مذهب الحكماء الأقدمين. ويستعمل لفظ «اقتصاص» أي تمحيص ومراجعة وفحص وبيان. كما يبحث عن السبب في القول بالمفارقات وعن أصل الجهل الذي كان سبب الضلال. فالفلسفة مقاومة الخطأ والكشف عن الضلال. وهو تمحيص من ابن سينا بالرغم من قيام أرسطو قبل ذلك في الفلسفة اليونانية. ومهما حاول البعض التخلص من الأوهام فإنه يعجز عن ذلك ويقوم ابن سينا بالمهمة بدلا عنه.
209
ويستعمل ابن سينا مقولتي الظن والحق في النقد. فأقوال الشراح المناطقة ظن لا يرتقي إلى مرتبة الحق الذي يبحث عنه. وهما مقولتان قرآنيتان على التقابل. مهمته تبديد الظنون كما بدد الشكوك، والوصول إلى الحق كما وصل من قبل إلى اليقين. وقد يكون الحق من جانب الجمهور، ويكون سبب الخطأ هو تشبه البعض منهم بالفلاسفة عن جهل وعدم دراية بالعلل والأسباب تقليدا منهم. فأحد أسباب الخطأ الجهل بالأسباب، والانتساب إلى العلم من ليسوا أهلا له وضعفاء التمييز ومن يستخفون بالأمور.
210
ويلجأ ابن سينا إلى حسن العدل والإنصاف عند الناس. ويستدعي التجربة المشتركة بينه وبينهم في جبهة واحدة ضد أخطاء الشراح والمفسرين. ويعطي وصايا وتحذيرات مما يدل على أنه يعرف الحق وينبه على الخطأ حتى في العناوين الجزئية للقياس بالرغم من الأشكال والمعادلات النظرية المجردة الغالبة عليه.
211 (7) المعتبر في الحكمة (أبو البركات البغدادي)
لم يكن ابن سينا والغزالي وحدهما صاحبي العرض النسقي المنطقي بل شاركهما فيه أبو البركات البغدادي (547ه) في «المعتبر في الحكمة» الذي يعادل «الشفاء». ولو أنه عرض لبناء الحكمة لكان أقرب إلى «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث»، وهو النوع الأدبي الثاني من التأليف نظرا لأولوية الوافد فيه على الموروث.
212
لذلك يظهر النقد بين الحين والآخر للحالة الراهنة للمنطق. ويدل على ذلك عبارات مثل «وهذا كلام مدخول».
213
كما تظهر أفعال القول في ضمير المتكلم الجمع «قلنا» أو المفرد «نقول» أكثر من «قال»؛ لأن أبا البركات هو الذي يتحدث وليس أرسطو.
214
ويتوجه البغدادي أحيانا إلى المخاطب وضرب الأمثلة له والتراسل معه، وتحليل التجارب المشتركة.
215
مع الدعوة له بالبقاء، ويوجد تعليق بين الحين والآخر، من المؤلف أو الناسخ أو القارئ. والغالب أنه من المؤلف.
216
وقد يذكر أبو البركات في آخر الفصل بإزالة اللبس الذي وقع في أذهان المناطقة مخالفة لأرسطو.
217
ويدافع عن أرسطو ضد اتهام المتأخرين له بأنه أغفل وضع كتاب في القضايا الشرطية. وربما صنفه ولم ينقل إلى العربية.
218
وفي موضوعات العلوم ومطالبها ومسائلها ومبادئها ينقد أبو البركات تقليد المتأخرين للنقول القديمة وجعلها ضرورية في العلم والتعليم فطولوا وتعدوا الواجب وما أوجبوه وامتلأت تصانيفهم بالتخليط وإدخال مسائل علوم في علوم أخرى فاختلط التعليم بالتقليد، والتقليد بالتعليم فخرجوا من زمرة الفلاسفة الذين يرتبون بياناتهم على الترتيب المنطقي.
219
ويحذف أبو البركات كل إطالة وإسهاب لا لزوم له في موضوع أن لكل جسم حيزا واحدا طبيعيا وأن فيه مبدأ حركة يسكنه فيه أو يحركه فيه أو إليه.
220
وقد يكون موضوع الفصل شرح أقوال فيه لمراجعتها والتحقق من صحتها مثل «في شرح كلام من قال إن الله تعالى لا يحيط علمه بالموجودات»، «في اعتبار الحجج المنقولة عن أرسطوطاليس»، «في مناقضة الاحتجاج المنقول عن ابن سينا»، «في ذكر رأي أرسطو وشيعته في بداية الخلق»، «في إعادة النظر فيما قد قيل في النفوس والعقول المفارقة»، «في تتبع ما قيل في بداية الخلق من العقول المفارقة ونفوس الأفلاك وأجرامها»، «كلام في الحركة وما يشبهها».
221
ومن الوافد يتصدر أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط ثم إقليدس ثم تراسوماخوس ثم مانن وجالينوس وبقراط.
222
ويذكر الحكيم بدلا من أرسطو، ويشفع لقب الإمام أمام أفلاطون. وواضح أن أرسطو هو واضع الحكم وبانيها ثم أفلاطون وسقراط، ويعترف أبو البركات بأنه حذا حذو أرسطو في كتبه المنطقية والطبيعية والإلهية. وذكر في كل مسألة آراء المعتبرين من الحكماء. ثم أضاف البراهين والحجج طبقا لرجحان العقول وما يثبت بالدليل والبرهان. فقد راجع كتب أرسطو على العقل، وقبل ما اتفق معه وزاد عليه مزيدا من التنظير، ونقد ما خالفه وأسقطه.
223
ويشترك القارئ معه في التجربة والمراجعة. ويقابل النسخة مع باقي النسخ للاطمئنان. السماء والعالم والحيوان والنفس وقاطيغورياس السماع الطبيعي أولا ثم الكون والفساد والآثار العلوية والنبات وما بعد الطبيعة. ويذكر طيماوس لأفلاطون.
وتكثر أسماء الفرق مما يشير إلى التعامل مع التيارات والمذاهب. ويتصدر القدماء ثم المتأخرون والمتقدمون ثم الأقدمون ثم الحكماء الأولون، والحكماء الأقدمون، والحكماء المتقدمون والمتأخرون، والقدماء الأقدمون مما يدل على وعي تاريخي حاد من القدماء إلى المحدثين. ثم يذكر الفرق كمذاهب خارج التاريخ مثل الفلاسفة، الشارحون الطبيعيون، الدهرية أو المشرحون أي أطباء التشريح.
224
وكان هذا التمايز بين القدماء والمحدثين والأوائل والأواخر هو سبب تأليف الكتاب. إذ نقل الأوائل العلوم شفاها. فاضطر المتأخرون لتدوينها. وكان القدماء كثيري العدد طويلي الأعمار. ولم يكن هناك خوف من اندثار العلم. فلما قل عدد العلماء ونقصت الأعمار اضطر المتأخرون للتدوين حفاظا على العلم. وإذا كان الأوائل قد وضعوا العلوم ثم أصبحت غامضة مستغلقة عبر الأجيال تكون مهمة المتأخرين الشرح والإيضاح «ببسط وتفصيل وتكرار وتطويل» حتى يختلط كلام العلماء بكلام الجهال. فيأتي المعتبر ليعيد الأمور إلى نصابها، التعبير عن العلم بلغة سهلة، نظرا لصعوبة نقله من لغة إلى لغة. لذلك سمى «المعتبر» أي المدون الذي أتي بعد طول تأمل ونظر.
225
ويذكر القدميون ثم الحدثيون أي أنصار القول بقدم العالم وبحدوث العالم.
226
ويشار إلى بعض الأقوام على العموم دون تحديد لهم إبقاء على استقلال الموضوع عن حوامله التاريخية مثل «قوم»، «بعض أهل النظر»، «بعض أشخاص من الناس».
227
وكان أبو البركات على وعي بتميزه عن القدماء واستئنافه التراث المنطقي القديم مع حذف الزائد وزيادة الناقص، وإعادة الترتيب ونظرا لتداخل موضوعات المنطق مثل تداخل الحدود أي مباحث المقولات في البرهان والجدل.
228
ويشير في الأقاويل الشعرية إلى «زماننا ولغتنا». ويضرب المثل بالشعر العربي .
229
وهي أول محاولة لإحياء الحكمة بعد الغزالي. ومع ذلك يظل المعتبر كتابا تقليديا في علوم الحكمة كما عرضها «الشفاء» بالرغم من نقده الجزئي له وخروجه أحيانا عليه وعودا إلى عرف الناس وعادات الحديث. فالمنطق تجريد لخطاب الناس وطرق تفكيرهم في الحياة اليومية.
230
كما يظهر التمايز بين اليونانيين أو اليونان والعرب كقوم ولغة. فيذكر اليونانيون أكثر من العرب كقوم. ولكن تتصدر اللغة العربية اللغة اليونانية. ثم تتساوى اللغة اليونانية مع الفارسية. ويتساوى العرب والعبرانيون والسريانيون والعربي والعجمي.
231
ويستعمل بعض الألفاظ المعربة قبل المنقولة أو بعدها في المنطق في عناوين المقالات مثل الخامة «طوبيقا» وهو علم الجدل، والسادسة في الأقاويل السوفسطقية وهي قياس المغالطين، والسابعة القياسات الخطابية وهي التي تسمى باليونانية ريطوريقا، والثامنة في القياسات والأقاويل الشعرية وهي التي تسمى باليونانية ينطوريقي.
232
كما يظهر لفظ الأسطقسات المعرب، وكيموس.
233
وتوجد بعض الألفاظ الفارسية المعربة مثل السكنجبين والشادنج.
234
ويظهر التقابل بين اللغتين العربية واليونانية في معاني العقل. فالعقل في اللغة العربية هو العقل العملي، واشتقاقا من المنع والعقال للناقة، وكذلك العقل العملي يعقل النفس ويمنعها. وفي اللغة اليونانية العلم النظري والرأي العملي. ولما كان هذا المعنى في حاجة إلى لفظ يؤديه اختار له القدماء الملك والرب وهو معنى يحاذي معنى الإله في اللغة العربية. لذلك سمى كتاب أرسطو الإلهيات.
235
وهو ما يكشف عن ظاهرة التشكل الكاذب، جدل المعنى واللفظ بين حضارتين.
ومن الموروث يتصدر بطبيعة الحال ابن سينا ولقبه الشيخ الرئيس في الإلهيات ثم القاضي إبراهيم المكي والمتنبي، إذ يذكر الجهشياري في تاريخه واقعة محلية ظهور كوكب كبير على صورة إنسان أيام الموفق بالله والجهشياري ومن الفرق والشيعة.
236
ومن الأنبياء سليمان وحده، ومن القصص أهل الكهف كدليل على أن الزمان شعوري. ويظهر الوعي التاريخي في الإشارة إلى السلف والخلف، اقتداء الخلف بالسلف في تصنيف الحكمة إلى منطقية وطبيعية وإلهية، ويستعمل الأسلوب العربي، زيد وعمر كناية عن المجهول، وكذلك «اللهم».
237
كما أن الأمثلة التوضيحية عربية خالصة، تلقائية مثل تأبط شرا وعبد الله للأسماء المركبة.
238
ويظهر الشعر العربي، شعر المتنبي، في موضوع اشتراك الحيوانات واختلافها في الخلق والأخلاق في صفات الحيوان. ويستشهد ببيت على وجود الجن والشياطين عن طريق القسمة.
239
وتستعمل ألفاظ عربية أصلية، مثل «أضغاث» «للدلالة على الأحلام غير الصادقة».
ويخلو المعتبر من الآيات والأحاديث. كما يخلو من أي إشارة إلى العلوم الإسلامية الأخرى، غارقا في علوم الحكمة وحدها. إنما يظهر القرآن الحر مرة في ضرب المثل بسؤال القرية والمقصود به أهل القرية في فصل التبكيت والمغالطات من مقالة السوفسطيقا.
240
ويضرب أبو البركات المثل بصديقه القاضي إبراهيم المكي رحمه الله المعروف بالصدق وكثرة العلم وعزة النفس والزهد. فقد انتهت رياضته ومجاهدته إلى أن تعرف بالهمة وكان نموذج النفس الطاهرة مما يدل على تمايز النفس والبدن.
241
والمرة الوحيدة التي ذكر فيها ابن سينا لنقده في إنكار علم الله بالموجودات المتغيرة استشهادا بنص له عن عدم جواز أن يعقل واجب الموجود الأشياء من الأشياء حتى لا تتقوم ذاته بها، والله أشرف من مخلوقاته. بل يصبح «في مناقضة الاحتجاج عن ابن سينا» عنوانا للفصل السادس عشر من المقالة الأولى في العلم الإلهية.
242
وينفي الشيعة القياس من صناعة المنطق.
ويتضمن «المعتبر» أقسام الحكمة الثلاثة: المنطق والطبيعيات والإلهيات بطريقة ابن سينا في موسوعاته الثلاث. الطبيعيات أكبرها، والإلهيات أصغرها مما يدل على أن الطبيعيات هي الأساس النظري للإلهيات قبل الاغتراب.
243
الطبيعيات والإلهيات علوم وجودية لأنها تتعرض لموجودات، الطبيعة والله. والمنطق مقدمة لها، آلة للعلم، قوانين الأنظار وعروض الأفكار.
244
ويضم المنطق ثمان مقالات طبقا لعدد كتب المنطق. أكبرها القياس وأصغرها السفسطة والخطابة.
245
فالقياس قلب المنطق، منطق اليقين، والسفسطة والخطابة والشعر أطرافه، منطق الظن. والمقولات والعبارة مقدمات للقياس، والجدل والبرهان تطبيقات له. ولا يتجاوز حجم منطق الظن الخمس من مجموع المنطق.
وتتغير بعض أسماء كتب المنطق تجاوزا للأسماء الأرسطية. فالمقالة الأولى في المعارف وتصور المعاني بالحدود والرسوم إشارة إلى المقولات، وتجاوزا للمقولات العشرة من مستوى الألفاظ إلى مستوى التصورات والمفاهيم وعلاقة عالم الأذهان بعالم الأعيان بعالم اللسان، وتأسيس العلوم والتحقق من صدقها.
246
ويستعان بالخطابة في الدعوة إلى العقائد الإلهية والطبيعية والخلقية بحسب السامعين وفي تمكين الانفعالات النفسانية في الأنفس؛ فالدين والأخلاق انفعالات.
247
والمقالة الثانية في العلوم وما له وما به يكون التصديق والتكذيب إشارة إلى العبارة ونظرية التحقق من صدق القضايات وكذبها.
248
ويتعرض الفصل الأول لمنفعة المنطق وغرضه وموضوعه ومطالبه كعادة التأليف في العلوم. ويتم نقل المنطق من مستوى الألفاظ إلى مستوى الشعور بتحليل النفس الإنسانية وطباعها، وكما أضاف أبو البركات في أول مقالة في المنطق عن غرضه وموضوعه ومنفعته كذلك يفعل في أول مقالة «في العلم الطبيعي»، «في تعليم العلوم وتعلمها» أسوة بطرق التأليف في العلوم الإسلامية.
249
وكذلك يبدأ الفصل الأول من المقالة الأولى في العلم الإلهي بتحديد غرض العلم وموضوعه وما يختص به نظره ومنفعته.
وبالرغم من قسمة الحكمة إلى ثلاثة أقسام، وكل منها إلى مقالات إلا أن الموضوع واحد. وتأكيدا على وحدة الموضوع يحيل السابق إلى اللاحق كما يستدرك اللاحق السابق.
250
ويكتب المنطق في صيغة معادلات وكأنها شعر منثور.
251
وقد تتحول الأبيات وتصبح منطق رمزيا بعد تحويل الألفاظ إلى حروف. فالمنطق نسق هندسي مثل الإيقاع الشعري. ومع ذلك يتم اللجوء إلى الفطرة والذوق لإعادة تأسيس المنطق على أساس طبيعي وجداني.
252
ولا ينفصل علم المنطق عن علم النفس والعلم الإلهي. فالألفاظ والتصورات والمفاهيم هي بداية العلوم بما في ذلك العلم الإلهي. فالعلم بعد نفسي وبناء شعوري.
253
وفي فصل «في اشتراك القضايا وتباينها وتقابلها وتضادها وتناقضها» تظهر الموضوعات الكلامية. فالسابق في قدر الله وقضائه سابق بأسبابه والإرادة والقصد من جملة الأسباب المسببة. فالمريد لإرادته سبب موجب لا يكون عن الإرادة وإلا كان لإرادته الثانية سبب إما معلوم مثل الجوع للطعام أو غير معلوم، ومن يعتقد أن الإرادة غير مسببة بأسباب قد يعلمها الإنسان وقد لا يعلمها لم يحسن العلم بالقضاء والقدر، وهو اتجاه أشعري يجعل الله مسبب الأسباب. وذلك كل بمناسبة قول أرسطو لولا الممكن لبطلت الرؤية. إذ يتوقف وجود الممكن على أسباب. وفي فصل «تحليل القياسات الداخلة في الكلام المتصل إلى الأشكال الثلاثة» يضرب المثل بقضايا الله فيها موضوع مثل الله وقت، والله ليس في زمان يحتاج إليه، فليس كل وقت بزمان. فالله وقت يراد به أنه مالك للوقت. وفي ترتيب العلوم الحكمية، ما تشترك فيه وما تتفق تبتدأ الموجودات في العلم الإلهي من مبدأ واحد هو المبدأ الأول، وتتوسط الرياضيات بين الطبيعيات والإلهيات.
وفي فصل «استعمال المقاييس والتدبير في تأليفها أو منعها في الجدل وكيف يقع في الشيء الواحد علم وظن متقابلات» تظهر المادة الفقهية الموروثة ولو على نحو مجرد كما هو الحال في تلخيص الخطابة لابن رشد؛ فالفقهيات منها ضمائر ومقالات مأخوذة من الأقوال المنقولة عن الأصل الذي إليه الإسناد في تلك الشريعة. يتبين فيها الحكم بحسب الأصول. فتكون كلية بالذات وجزئية بالعرض. كما يتم التعرض إلى الفراسة ولكنها أدخل في العلم الطبيعي في صفات الحيوان. وتظهر المتواترات في علم البرهان كعلم ضروري لا يناله الشك، وهي في القضايا المقبولة ممن يثق به المسلم ولا يعرض كلامه للشك والطوائف المختلفة ممن يعتقدون فيه العلم والنبوة ويشتهر عندهم بالمعرفة والأمانة والعلم والديانة.
254 «وتشمل الطبيعيات ستة أجزاء تتأرجح عناوينها بين أسماء الموضوعات وعناوين كتب أرسطو. الجزء الأول في المطالب التي تكلم فيها أرسطوطاليس في كتابه المعروف بالسماع الطبيعي وتحقيق القول فيها». والثاني «يشتمل على المعاني والأعراض التي تكلم فيها أرسطوطاليس وتضمنها كتاب السماء والعالم وتحقيق النظر فيها». والثالث «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمنها كتاب أرسطوطاليس في الكون والفساد وتحقيق النظر فيها». والرابع يشمل «المعاني والأعراض التي تضمنها كتاب أرسطو في الآثار العلوية والمعادن». والخامس «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمنها كتاب أرسطو في الحيوان والنبات». والسادس «يشتمل على المعاني والأعراض التي تضمنها كتاب «النفس».» وتختفي الطبيعيات الصغرى باستثناء إضافة فصل عن النوم والرؤيا في الجزء السادس عن النفس.
255
وأكبرها الجزء الأول عن السماع الطبيعي، وأصغرها الرابع عن الآثار العلوية والمعادن.
256
وبعض الأجزاء تشير إلى فصولها على العموم مثل الثاني، والبعض الآخر يحدد عددها، أحد عشر فصلا في الثالث، وثلاثون في السادس، والبعض الآخر لا يذكر الفصول لا على العموم ولا على الخصوص مثل الأول والرابع والخامس.
والعرض للمعاني والأعراض في الأجزاء الأخيرة التي تحيل إلى أسماء كتب أرسطو، المعاني أي الموضوعات الرئيسية والأعراض أي الظواهر الفرعية. ليس العرض شرحا أو تلخيصا أو تعليقا على الأقوال بل تناولا للموضوعات ذاتها، الرئيسية منها والفرعية. الجزء الأول عن السماع الطبيعي يتحدث عن «المطالب» أي الموضوعات.
ولا يعني العرض مجرد وصف أو تقرير، بل يعني أيضا المراجعة والتحقق من صدق المواد المعروضة. لذلك يظهر في عناوين الأجزاء الأول، «وتحقيق القول فيها»، والثاني والثالث والرابع والخامس «وتحقيق النظر فيها» باستثناء السادس عن النفس لإكمال المادة وإدخال بعد جديد فيها، نظرية الاتصال.
257
ويبرز البعد الإلهي في السماع الطبيعي في النهاية واللانهاية المقولين في المكان والزمان وغيرهما. فقد عظم بعض القدماء اللانهاية وقال إنه هو الله تعالى والمبدأ الأول. وفي مبحث الزمان يذكر قول البعض إن الدهر هو الله ونسبته إلى متبدلات خلقه هو الزمان، وقول آخرين إن الزمان هو أول ما خلق الله في الأزل، وهو صانعه وفاعله ولا يتقدم عليه إلا بالذات لا بالزمان. ولا يعارض أبو البركات القول بأن الله هو الدهر في التسمية الوضعية الذاتية والنسبية؛ إذ لا معارضة في الأسماء. وتختلف صفات الناس وأفعالهم على درجات؛ فمنها ما ينحط إلى درجة الحيوان ومنها ما يرتفع إلى درجة الملائكة مثل الأنبياء والأولياء والزهاد والعلماء، ولهم عجائب الصنائع ووثائقها وغرائب التدابير ومحاسنها. وفي النفس، في موضوع وحدة النفوس الإنسانية أو كثرتها بالشخص أو بالنوع يظهر موضوع النبوة التي اعتبرها الحكماء خاصية لنفس شريفة. وفي فصل «في خواص النفوس الشريفة من النفوس الإنسانية ونوادر أحوالها» يضرب المثل بنفوس الأنبياء أصحاب الهداية والرواية، والرسل بين الله وخلقه مبشرين ومنذرين، معلمين ومبصرين، مجرين المعجزات بقدرة الله التي يخص بها الأرواح والملائكة، ومعهم كتاب أو صحيفة من صحائف الوجود، وأم الكتاب يضم علم الله المسبق يقرؤها ذوو الأبصار باللسان والقلب والعين، لا غلط فيه. شواهدها صادقة. وحذر سليمان من الكتب المصنوعة من الخواطر وأمالي الأوهام والصناعات الإنسانية طويلة العمر قصير كما قال بقراط.
258
ويضيف أبو البركات مادة جديدة في المقالة الخامسة عن الحيوان والنبات فصلا أخيرا، الفصل الثاني عشر في الجن والأرواح معترفا بنهاية كتابي أرسطو وإضافة هذا الجزء بناء على سؤال «رفيقي أيده الله» نظرا لأن القائلين بهم أدخلوهم في زمرة الحيوان، ورأوهم نوعا مقابلا لنوع الإنسان وجوزوا ذلك بالنظر الحكمة بينما نفاه الآخرون وبالتأمل الحكمي الصادق وشواهد التجارب والاعتبارات من الآثار والأخبار فافترق الناس فيه بين الإثبات والنفي والتجويز.
ويجيب أبو البركات الصديق السائل بداية بتحليل مصادر المعرفة. الأول الوحي والنبوة المخبرة بوجودهم على ألسنة الأنبياء والحكماء والمرويات في الكتب والأخبار. فقد أخبر الأنبياء بوجود أشخاص لا تدركهم الأبصار تتشكل على ألوان يجوبون الفضاء والأرض ظاهرها وباطنها، يفهمون ويتكلمون ويتناجون ويخبرون ويتذرون يبشرون ويحذرون، يؤمنون ويكفرون. والثاني الحكماء والنظار مثل أفلاطون وشيعته عن طريق القسمة العقلية وكأن القسمة الذهنية تتطلب بالضرورة الوجود الواقعي؛ فالحيوان إما ناطق غير مائت وهم الملائكة وسكان السموات، وإما ناطق مائت وهو الإنسان، وإما مائت غير ناطق وهو الحيوان، السباع والبهائم، وناطق غير مائت وهم الجن. والثالث المشاهدة والرؤية والأخبار الموثوق بها، وتنتهي إلى مثل ما يقول به الأنبياء بالإضافة إلى أنهم يدخلون في أبدان الناس ويتصرفون فيها تصرف الأرواح التي خلقت لها، ويخبرون أرواحها الخاصة بها، ويخبرونها وينفعونها، ويمرضون الأبدان ويشفونها ويعطلونها. قال ذلك بعض الحكماء الذين يقولون بالعزائم والرقي والتنجيم والرؤيا.
259
ويتحقق أبو البركات من صدق هذه الآراء الثلاثة. ويقبل الرأي الأول الذي يقوم على الوحي والنبوة. وهو رأي بعض الحكماء أيضا دون تأويل حتى ولو أشكل الجواز والتعليل، ويناقش كلام الحكماء، أفلاطون وشيعته، يتأمله ويعارضه ويسأل عن جوازه وامتناعه أو وجوبه وعن كيفيته ولميته. وهو لا يختلف عن الرأيين الأول والثالث إلا في طريق الإثبات، القسمة التي توجب تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان.
وإذا كان عيب العرض غياب الدلالات والاكتفاء بإعادة بناء العلم الوافد من وجهة نظر الموروث اعتمادا على العقل الخالص مع نوع من البرودة والحياد والخالي من التجارب الشخصية فإن هذه الدلالات تكثر في العلم الإلهي مكان التعشيق بين الوافد والموروث. ويتكون الجزء الثالث «العلم الإلهي» من مقالتين بلا عناوين وتتضمن كل منهما عدة فصول. ويضم أيضا علم الطب والأخلاق أي البدن والنفس لما كان موضوع النفس هو الحلقة المتوسطة بين العلم الطبيعة والعلم الإلهي. ويسمى أيضا إلهيات، من إله وليس من الله.
260
والعلم الإلهي هو العلم بالموجود بما هو موجود. ويسمى الفلسفة الأولى. وموضوعه الله وملائكته، صفاته وأفعاله وأسماؤه وكأننا في علم الكلام. وهو نفس مفهوم العلم الطبيعي، الزمان والمكان، والجوهر والعرض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول مما يدل على أن العلمين علم واحد كما لاحظ الفارابي في إحصاء العلوم واضعا العلم الطبيعي والعلم الإلهي في نفس العلم. وأهم موضوع فيه قدم العالم وحدوثه، الموضوع الشهير بين المتكلمين والفلاسفة والصراع بين القدميين أنصار القدم والحدثيين أنصار الحدوث. القدميون هم الدهرية الذين سموا الحدثيين معطلة لتعطيل الله عن وجوده.
261
وكالعادة يبدأ «المعتبر» بالبسملة، والله ولي التوفيق. ويضيف الناسخ بعد اسمه «رضي الله عنه»، وبالحمدلة والشكر على الأفضال والآلاء. بل ويبدأ كل مقال بها بالإضافة إلى أن التوفيق من الله وعليه التوكل وبه الاستعانة وإليه الإنابة.
262
وتظهر العبارات الإيمانية في آخر كل مقالة مثل الحمدلة والصلاة على محمد النبي وآله الأكرمين وسلم تسليما، وهو حسبي وعليه أتوكل. والله أعلم بالصواب مع الشكر للنعماء، بالإضافة إلى الناسخ وخطه وتاريخ النسخ الأول والثاني.
263
ويتم الانتقال بسهولة ويسر من مدح الله إلى مدح السلطان سواء من المؤلف أو من الناسخ.
264 (8) مقاصد الفلاسفة (الغزالي)
وهو نوع من العرض الكلي من أحد خصوم الفلاسفة وهو الغزالي (505ه) قبل أن يكتب «تهافت الفلاسفة». فالعرض الموضوعي يسبق النقد؛ فإلى أي حد يمكن للناقد أن يعرض عرضا موضوعيا أم أن كل عرض قراءة؟ لذلك يخرج الغزالي عن القاعدة، ولا ينتظر نقد الفلاسفة في «التهافت» ويبين في الطبيعيات فساد استنباطهم.
265
وهو من حيث «التحول» يكون في التراكم ، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، نظرا لأولوية الاستشهاد بالحديث والقرآن وباللغة العربية والفقه والكلام على الاستشهاد بأرسطو.
266
صحيح أنه ما زالت تظهر بعض الألفاظ المعربة مثل إيساغوجي، السكنجين، الكروبيون، يونانية وفارسية وعبرية دون ميزة خاصة لليونانية، وهو عرض وجيز وواضح. فمن يبغي النقد عليه أن يكون قادرا على العرض لمقاصد الفلاسفة أكثر من الفلاسفة أنفسهم.
بل إنه يستخدم الجداول لبيان ضرورة الشكل الأول منتجها وعقيمها، ويكشف العنوان «مقاصد الفلاسفة» عن النوايا والبواعث والأهداف وليس الآراء والمعتدات والمذاهب فالفلسفة مقاصد الشريعة. وكل ما سواها تطويل وحشو وزوائد على سبيل الاقتصاص والحكاية.
267
ويشمل العرض أقسام الحكمة الثلاثة؛ المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولكن الغزالي يقدم الإلهيات على الطبيعيات ويبرر ذلك بأهمية الإلهيات وكثرة الخلاف فيها ولأنها غاية العلوم ومقصدها. وتؤخر لغموضها وعسر الوقوف عليها قبل الوقوف على الطبيعيات.
268
ومن حيث الكم تأتي الإلهيات أولا ثم الطبيعيات ثم المنطق.
269
وتغيب الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات. وليس في الرياضيات، الحساب والهندسة ما يخالف العقل وبالتالي لا يمكن إنكارها أو جحدها. ولا سبيل إلى الرد عليها. والمنطقيات أكثرها على منهج الصواب والخطأ نادر فيها. إنما يخالف الفلاسفة أهل الحق فقط في المصطلحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد. غايتها تهذيب طرق الاستدلالات، وهو ما يشارك فيه النظار جميعا. والطبيعيات الحق فيها مشوب بالباطل، والصواب فيها مشتبه بالخطأ. ليس فيها غالب ولا مغلوب. أما الإلهيات فأكثر عقائدها على خلاف الحق، والصواب نادر فيها. هناك إذن تدرج من الصواب المطلق في الرياضيات إلى الصواب الغالب في المنطقيات إلى الصواب المشوب بالخطأ في الطبيعيات إلى الصواب الأقل في الإلهيات. على نحو نازل ابتداء من الصواب، ومن الخطأ الغالب في الإلهيات إلى الخطأ المشوب بالصواب في الطبيعيات إلى الخطأ الأقل في المنطق إلى غياب الخطأ المطلق في الرياضيات ابتداء من الخطأ على نحو صاعد وهو أقرب إلى المنطق التقليدي باستثناء بعض الإشارات إلى اللغة العربية وأساليبها في الحديث والفرق بينها وبين الأعجمية والبيئة الجغرافية العربية وبعض الأمثلة الفقهية والكلامية كمادة شارحة للمنطق.
270
في المنطق تظهر الأمثلة المحلية اللغوية كعادة العرب في الحديث عن زيد وعمرو وعبد الله.
271
كما يبدو التقابل بين اللغة العربية واللغة الفارسية أو الأعجمية.
272
إذ يفترق السالب والموجب في القضايا بين العربية والفارسية. كما يظهر التقابل أيضا في الإلهيات في معنى الألفاظ مثل الوجود. كما تظهر الجغرافيا المحلية من البيئة العربية، الحجاز والعراق. ويضرب المثل بالمتواترات العلم بوجود مصر ومكة.
273
ويظهر الموروث الفقهي والكلامي كمادة جديدة للمنطق. ويصح الاعتماد على الاستقراء في الفقهيات في اليقينيات. وفي الفقهيات كلما كان الاستقراء أشد استقصاء وأقرب إلى الاستيفاء كان أقرب إلى اليقين وأبعد عن الظن. ويسمي الفقهاء والمتكلمون المثال قياسا، قياس الجزئي على الجزئي، ويستعمل الغزالي بعض مصطلحات علم أصول الفقه مثل السبر والتقسيم وهو من مباحث العلل، مما يدل على استحالة عرض المنطق موضوعيا دون إعادة قراءة الوافد من خلال الموروث. ويضرب المثل بالتصديق بالمعجزات على المتواترات، وعلى المشهورات بقدرة الله على كل أمر صادق؛ لأن إنكار ذلك مستقبح وليس بصادق فإنه ليس قادرا على أن يخلق مثل نفسه، بل يقال هو قادر على كل أمر ممكن في نفسه. هو عالم بكل شيء ولا يقال عالما بوجود مثل له، ويضرب المثل بسؤال «هل الله موجود؟» على مطلب هل.
274
ويظهر الله كفكرة محددة في المنطق. فالسلب يصح على المعدوم، مثال ذلك شريك الله ليس بصيرا ولا يقال شريك الله غير بصير.
275
والإلهيات أيضا أقرب إلى الإلهيات التقليدية.
276
فالله هو سبب الوجود كله. موضوعها بريء عن المادة، أعم الأمور العامة وهو الوجود المطلق. ويسمى العلم الإلهي وعلم الربوبية. ومبحث الجوهر والأعراض والصورة والمادة والعلة والمعلول، والزمان والمكان، والكم والكيف والحركة والسكون مباحث مشتركة بين الطبيعيات والإلهيات، مرة بلغة النسبي ومرة بلغة المطلق. والباري غير منقسم كالنقطة لا بالقوة ولا بالفعل لأن واحدا غير متكثر يعلم الأجناس والأنواع والممكنات الحادثة. لا يجوز أن يعلم الجزئيات علما يدخل تحت الماضي والمستقبل والآن. بيده الخير والهداية
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ،
والذي قدر فهدى . وهو منزه عن كل نقص «أنت كما أثنيت على نفسك لا أحصي ثناء عليك.»
277
ويتم الاستشهاد بأرسطو من منظور إسلامي، مثل إن الله يدرك جمال ذاته كما ندرك جمال ذواتنا. كما تعرف الملائكة أنفسها. والناس عاجزون عن إدراكه «والعجز عن درك الإدراك إدراك.»
278
ويصعب فصل الإلهيات عن الطبيعيات. فالطبيعيات تحيل إلى الإلهيات في مراتب الكون، صعودا من المعادن إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان إلى الملائكة والجن والشياطين، بالرغم من التفرقة بين العلمين. الملائكة جواهر، وجودها غير ماهيتها، الله وحده وجود بلا ماهية زائدة، وجود محض.
279
وتظهر أمور المعاد في الإلهيات وهو ما يغيب عند أرسطو، وينال الإنسان السعادة الأبدية في الآخرة ويلحق بالملأ الأعلى ويكون رفيق الملائكة في القرب من الأول الحق بالصفة لا بالمكان. وتتحرك النفوس بالعشق وتكون كالملائكة السماوية وهي العقول المبرأة عن المادة. وهذا هو سر القدر، وظهر الموضوع من جديد في الطبيعيات في القسم الخاص بالنفس، وفي آخر الطبيعيات في النفس تظهر أيضا بعض السمعيات مثل النبوات والكرامات، وتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والعلماء في مراتب القرب من الله.
280
كما ترتبط الإلهيات بالعلوم الشرعية والعلوم السياسية المذكورة في تدبير المدن وترتيب أهلها وعلم تدبير المنزل علم الأخلاق. فكما أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى فإنها أيضا أساس الإنسانيات. وتقوم المدينة على العلم «أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه.» وهو العلم النافع والعلم الهادي والموافق للصواب «من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا.» ويضرب المثل على التقدم بالشرف بتقدم أبي بكر على عمر وسائر الصحابة.
281
أما الطبيعيات فهي أيضا أقرب إلى الطبيعيات التقليدية.
282
وتنكر موضوعات الإلهيات نظرا لارتباط العلم. ويذكر أرسطو في تعريف المكان وفي كيفية الإدراك.
283
وهي أقل أجزاء «المقاصد» دلالة.
العرض إذن كلي؛ لأنه شامل لأقسام الحكمة الثلاثة ولكنه بقلم غير فلسفي، من الخارج وليس من الداخل، عرضا لمقاصد الفلاسفة وليس تعبيرا عنهم بقلم فيلسوف.
ثانيا: العرض النسقي الشعبي (إخوان الصفا)
(1) الفكر الجماعي (أ) الخصائص والألقاب
ولأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي يظهر نوع من الفكر الجماعي يعرض عرضا نسقيا الحكمة الثلاثية، المنطق والطبيعيات والإلهيات ويزيد عليها قسما رابعا عن الإنسانيات في «العلوم الإلهية الناموسية والشرعية» ثم تحويل ذلك كله على مستوى شعبي في أساليب التعبير بدلا من العرض النسقي المنطقي المجرد عند ابن سينا الذي هو ربما رد فعل عليه. وفي نفس الوقت له غاية سياسية واضحة في معارضة نظم الحكم كجماعة سرية باطنية، وهي سمات أربع تعتبر نقلة نوعية في علوم الحكمة.
1
فلأول مرة يظهر فكر جماعي يعبر عن حال الثقافة الإسلامية في القرن الثالث إعدادا لمشروع ثقافي مشترك استمر فيه على نحو فردي أبو سليمان السجستاني ثم أبو حيان التوحيدي وأبو الريحان البيروني، وكان ابن المقفع قد بدأه من قبل وجرده ابن سينا على نحو منطقي خالص في «الشفاء». لا تهم أشخاصهم بقدر ما تهم أعمالهم.
2
ولا تهم معرفة كيف تم التأليف الجماعي. هل ناقشت الجماعة الكل بعد أن كتب الكل أم أنهم كلفوا أحدا بالكتابة لهم ثم تمت المراجعة؟ هل كان ثمة تقسيم عمل، كل واحد من الخمسة كتب ما يخصه طبقا للتخصص أم إن كل واحد كتب جزءا أو عدة رسائل ثم تمت المراجعة العامة؟ هل حدث إجماع على الرسائل دون خلاف، وفي حالة وقوع الخلاف كيف تم تجاوزه؟
ويدل الفكر الجماعي على أن الفلسفة تيار وليست أفرادا، حركة فكرية جماعية وليست فقط اجتهادات فردية. هي جماعة رأي، تذكر الموضوعات على رأي إخوان الصفا. المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا وليس مجرد نقل مادة بعد بيان الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين، فالإبداع بعد النقل. المبادئ عند الإخوان والموجودات عند الفيثاغوريين وكان الإخوان حولوا الأعداد إلى مبادئ فقط وليست موجودات. لهم رأي مخالف لمذهب الفيثاغوريين في المبادئ العقلية والأعداد. الهدف من رسالة «المبادئ العقلية» إثبات أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال، والإعلان عن ذلك في نهاية الرسالة. فالمادة لها هدف وتوجه، الانتقال من الرياضيات والمبادئ العقلية إلى الوجود. لا يخاطبون إلا أنصارهم وليس خصومهم كما يفعل المتكلمون. لذلك غاب الجدل وحضرت الرياضيات الروحية. هم أصحاب اعتقاد. وفي بعض رسائلهم خصال واضعي النواميس واتباعهم وشرائطهم، ولما كان إخوان الصفا جماعة رأي كانت لهم جماعات مضادة هي جماعات الجهل والفساد.
3
هم جماعة أصفياء وأصدقاء وكرماء، كانوا نياما في كهف آدم فاستيقظوا في مملكة صاحب الناموس، وشاهدوا المدينة الروحانية التي خرج منها آدم وزوجه بفضل إبليس، لا فرق بين وصف الواقع والخيال، الحاضر والماضي، السياسة والأسطورة. هي جماعة خلاص من الظلمات إلى النور، ومن مدينة الأرض إلى مدينة السماء. هم أصفياء فيما بينهم، صابرون على البلوى في السراء والضراء، مستسلمون لدينهم، منقادون إليه بنفوس صافية مطمئنة. وهم أحق الناس بالعبادة الشرعية ومراعاة أوقاتها وأداء فروضها، ومعرفة حلالها وحرامها بالإضافة إلى العبادة الفلسفية، وتأسيس ثلاثة أيام أعياد للاجتماع مع الإخوان، وأما قربانهم فإنه يجمع بين الخصال كلها في الشرع والفلسفة والتقرب بكبش إبراهيم.
4
وتصف كثيرا من الرسائل أحوال الإخوان فيما بينهم، كيفية معاشرتهم وتعاونهم والمودة بينهم في الدين والدنيا، والثبات على مبادئهم دون تلون أو انقطاع لأنهم نفس واحدة في أجزاء متفرقة. فإذا تغيرت الأجسام فالنفس باقية. يتعاون الإخوان فيما بينهم لصلاح الدين والدنيا معاونة صاحب المال لصاحب العلم وصاحب العلم لصاحب المال. هي جماعة مغلقة.
5
يصفون معاملاتهم ومعاوناتهم في أمور الدين والدنيا، متعة كل أخ في تعاونه مع أخيه. يريد له ما يريده لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه. ينصحون بعضهم بعضا. ما يجمع بينهم أن كل واحد يعلم ويرى أن صلاح الدنيا والفوز بالآخرة لا يتمان إلا بتعاونه مع صحبه.
6
ولدى الجماعة إحساس بالذاتية. يشيرون على أنفسهم. ولهم اعتقاد يصفون فيه حال الرجل الحكيم الصادق والطبيب الحاذق. هم الإخوان المؤمنون، الأقران البالغون، أهل المجد، وأبناء الحمد. هذبتهم الحكمة، وأسبغت عليهم النعمة، وكملت صورتهم، وعرفوا الشريعة. دخلوا السلام، واستوطنوا دار المقام، قدوة حسنة، عاشوا في الدنيا بأبدان عابرة وأرواح طاهرة، وشاهدوا الحق بعين اليقين، وعرفوا نازل الإيمان، وعرجوا إلى ملكوت السماء مع الملائكة. يؤنسون الوحيد، ويعينون على السعادة. ليس فيهم أتباع اليونان أي أنهم جماعة محلية صرفة تعبر عن الواقع المحلي وبه الموروث أولا والوافد ثانيا. الخلاص عن طريق الجماعة. لهم دعوة وتبليغ مثل سائر فرق الشيعة.
7
منهم السعداء والنجباء وأهل البصائر وذوي السرائر. هم أصحاب العلوم المكنونة والسراير المكتومة.
8
جمعوا بين الفلسفة والتصوف، بين العقل والإشراق.
9
يبدون وكأنهم جمعية علاجية الهدف منها إصلاح النفوس المريضة. وقد عرضت قصة الطبيب الرقيق في إحدى الرسائل. لهم أسلوب في الحياة وطريقة في المعاشرة ومعاونة بعضهم البعض، وكيف يكونون في اجتماعاتهم وأعيادهم وجماعاتهم وعبادتهم وصلواتهم ومذكراتهم وحكمهم. مهمتهم جمع الشمل بطهور النفس الزكية والأرواح الطاهرة المطمئنة، ويدل اسم الجماعة على تكوينها الداخلي، جماعة باطنية داخلية مترابطة بالقلب وليس بالمصالح. تتجاوز الطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية. ويعبر الفكر الجماعي الشعبي عن الوحدة العضوية بين الدين والفلسفة، الأدب والتصوف. لذلك غلب عليه الإشراق الذي أعطاه الفارابي وابن سينا ثم السهروردي صياغاته العقلية والمنطقية.
وتعبر «الرسائل» عن التراث الشيعي الإسماعيلي تاريخيا وفكريا، مضمونا وشكلا.
10
كتبتها جماعة سرية تتبع الأئمة بعد أن غاب صاحب الشريعة وقتل الفاروق وذو النورين. فاختفى الإخوان، وانقطعت دولة الخلان حتى يحين وقت الظهور. علومهم سرية، وإشاراتهم خفية لا يطلع عليها أحد إلا هم ومن صفت أذهانهم ونفوسهم وتشبهوا بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، ونالوا السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة. وهم خلفاء الرسل في أسرار الناموس، وخلفاء الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين. الرسائل كلها بيان لأخلاقهم وخصالهم وشرائعهم وعلومهم ومعارفهم وطرائقهم. وفي تقسيم أصناف الناس في خدمة الناموس إلى ثمانية، القسم الثامن كله من الأئمة الذين كتبت لهم هذه الرسائل.
11
بالرسائل سمات أدبيات الشيعة التي تم ترويجها عند أهل السنة مثل أدبيات الكرماني والعامري والسجستاني. بها ألفاظ الشيعة مثل ورثة الأنبياء، خلفاء الرسل في الأرض، الأئمة المهديون.
وتدل ألقابهم على المعارضة السياسة التي تبدأ بالفكر والعمل فهم «إخوان الصفا وخلان الوفا». يجتمعون على الصفاء والوفاء أي الصدق ضد غواية السلطة والنفاق.
12
ولأول مرة تعطي جماعة لنفسها عدة ألقاب كلها مدح وإطراء وشكر في النفس كما يفعل أهل السنة في وصف أنفسهم بأهل السنة والحديث، أهل الاستقامة. وتختلف الألقاب فيما بينها قصرا وطولا بين لقب سواحد «إخوان الصفا»، أو لقبين «إخوان الصفا وخلان الوفا»، أو ثلاثة «إخوان الصفا وخلان الوفا ومذاهب الربانيين الإلهيين» أو أربعة «إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد» أو ستة «إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد، وأرباب الحقائق، وأصحاب المعاني»، ومنها خرجت كثير من حركة المعارضة السياسية كالقرامطة والحشاشين. والبعض انضم إلى الفكر اليوناني الخالص وانعزل سياسيا عن مقاومة الظلم الداخلي وإن قاوم الاحتلال الخارجي مثل الدروز والبعض أصبح مجرد أقلية سلطوية مثل النصيرية.
وقد توحي بعض الألقاب الأخرى بالسلب مثل القداح أي مبدع المكر، قداح الحكمة الخسلس أي أخ المختلس، والمتعصب إلا أنها أيضا تعني الفاعلية ومقاومة الشر بمثله، والظلم بمثله، وبعض ألقابهم إيجابية مثل زبد الهداية. لهم دولة تظهر عندما يصير الحكم والأمر إلى القدس ويبت المشتري ومثلثه الشمس، فتظهر في عالم السعادة، ويستقيم أمر الدين، وينتظم العالم كله على حكمة واحدة بعد الشتات. مدة حكمهم 159 سنة، إلى هذا الحد تصل الدقة في التنبؤ السياسي. ورئيسهم السابع الآتي في آخر الزمان منهم، سيد إخوان الصفا المحيط بعلوم من تقدمه من الرؤساء الستة. يعبرون عن فكر المعارضة وليس فكر السلطة، فكر الشيعة والحركات السرية، طهارة قوية ضد نفاق الخارج، وإعلاء للنفس ضد ضعف البدن.
13 (ب) الرسائل
هم أصحاب رسائل يعرفون بها، ولغة فيما بينهم خاصة بهم، تميزهم عن باقي الناس مثل الصوفية. الهدف منها بيان معنى أسرار التنزيلات النبوية وكشف أكثر الرموز والإشارات والنواميس، ولا يفهم خطابهم إلا من هو أهله، العلماء الفضلاء الذين تعرفوا على الجماعة ورسخوا في العلم، ومارسوا الرياضيات الحكمية المقرونة بأسرار الكتب الإلهية وإشارات الأنبياء. الغرض منها بيان سيرة الإنسان وأعماله وتشبيهه بأفعال الملائكة.
14
كل رسالة من الرسائل الإحدى والخمسين تتضمن علما أو فنا أو أدبا، وهي مكتوبة بلغة سهلة يفهمها الجمهور، ولما كان بيان اتفاق الحكمة والشريعة بحرا واسعا لزمت سهولة التعبير عن ذلك للعامة بالنكت والأمثال حتى يفهم المبتدأ معانيها، ويوضع ذلك على نحو وجيز ومختصر في نسق عام عقلي يقوم على إثبات وجود الله الصانع الباري الحكيم القديم الحي العالم. جعل العالم في ترتيب واتقان وتدبير طبقا لمراتب الموجودات واستعدادات الكائنات، لا فرق بين الطبيعة والإنسان، بين العالم الأكبر والعالم الأصغر. ويتم تعليم ذلك كما تتعلم الصنائع حتى تثبت للمتعلم صحته. فإن لم تقم على تصورات محددة فإنها كلها تمثل تصورا واحدا للعالم.
15
ويغيب عن الرسائل التحليل العقلي للتصورات. فلا توجد أفكار مبرهن عليها بل مجرد إعلان عن مواقف. والبرهان الوحيد هي الحجج النقلية وكأن القرآن وباقي الكتب المنزلة متفقة معهم دائما. خطابها موجه للجمهور العريض وليس إلى الخاصة، يعبر عن الفلسفة الشعبية وليست مناقشات الصالونات. لا تتضمن فلسفة برهانية استدلالية، لا أسلوب ولا مصطلحات ولا موضوع ولا حتى أخلاقا عملية واضحة بالرغم من البحث عن المعاني والدلالات. البراهين أبحاث نفسية. الإفحام بالبرهان، والإيهام بالخطابة والتوسط بالجدل. الإيهام بالشدو والإفهام بالتوسط، والإفحام بالتناهي. وأحيانا تبدو الرسائل ساذجة على قدر كبير من السطحية والعامية. لا يوجد فيها حث على الغضب والثورة والتمرد على الواقع الفعلي دون تعويض عن القهر بالنصر في عالم الخيال.
16
يستعملون الرمز الديني والرياضي والطبيعي والإنساني مما يستدعي انتباه العامة والخاصة. يعتمدون على الخيال الشعبي والأمثال العامية والفن القصصي على لسان البشر والحيوانات والطيور. الأسلوب شعبي غير اصطلاحي يوافق هوى العامة على عكس الأسلوب المجرد العقلي المنطقي النسقي عند ابن سينا. يخاطب المشاعر، تسكينا للمستضعفين وعزاء للمضطهدين. الأسلوب غير جميل بالضرورة لكنه عاطفي خطابي إنشائي. لا يدل على نضج فلسفة الخاصة بل يعبر عن شعبية ثقافة العامة. فإذا وفق فلاسفة الخاصة في النقل وترجمة المصطلحات فإن رسائل الإخوان قد استطاعت تجميع هذا الخضم الهائل من الثقافة الشعبية التي تكشف عن فلسفة رجل الشارع التي تزاوج فيها الوافد مع الموروث لصالح الموروث. هي أقرب إلى الحلقات الشعبية والطرق الصوفية والمنتديات الثقافية الشعبية.
17
ولما كان هدف الجماعة استدراج أعضاء لها للانخراط فيها اتسمت الرسائل بما تتسم به أدبيات الدعوة الشيعية من تدليس وتمويه وتخف تحت ستار الدين والاكثار من النصوص إبهاما للعامة، والايحاء بالأسرار ذات المعاني الخفية حتى تتوه العامة فيتولى الداعية أمر هدايتها، ويتم التستر تحت الموضوع المحايد مثل الموسيقى أو أي موضوع آخر كمناسبة من أجل الإعلان عن شيء آخر، ويتم الاستشهاد بالأديان كلها لبيان وحدتها وربما لإخراج الناس من دين السلطة وزعزعته إلى دين آخر مناهض لها. يهدف أسلوب الرسائل إلى نزع مقاومة القارئ، والاستسلام كلية للإخوان، ونقله من علم إلى علم، وإخراجه من ولاءاته القديمة وإدخاله في ولاء جديد عن طريق التأويل. قد تكون عناوين الرسائل خادعة، وموضوعاتها نوعا من الغطاء السائر، الموسيقى، الفلك ... إلخ، والمقصود ضم القارئ إلى الدعوة وتجنيد أعضاء جدد لها. لذلك جاء التأليف مصطنعا وليس طبيعيا، موجها وليس محايدا.
ومن وسائل الإيهام إتعاب القارئ وجعله يلهث وراء الأسرار والمعميات والدخول في موضوع والخروج إلى آخر إما لأن الرسائل لا تقول شيئا أو لأنها تقصد فقدان القارئ أو المستمع القدرة على التفكير المنطقي المنظم. تخلط كل شيء بكل شيء، حتى يمل الإنسان فيفقد الاهتمام لأنها لا تهتم بشيء ويستسلم، ومن وسائل الإيهام التطويل الذي لا لزوم له فيتقبل المستمع عن جهل كل هذا العلم. وفي نفس الوقت الاعتماد على أشخاص معينين معروفين بالأفكار المعروضة حتى لا تكشف العامة مصادر الفكر أو تراجع عليه وتتحقق منه. وتوغل في التعليل والبحث عن دلالة كل شيء وعن علة لكل ظاهرة للإيهام بالعلم وبفهم حقائق الطبيعة. ويستعمل العلم لإيهام العامة به وهي الجاهلة حتى الأسماك والحيتان.
18
وتتخللها بعض النوادر للتسلية أو حوارات تشد الانتباه على ألسن الطيور والحيوانات أو مناظرات إشكالية مثل المنطق واللغة بين متى والسيرافي. وتظهر فيها أساليب الإقناع الشعبي كما هو الحال في الوعظ الديني والخطب على المنابر في الأعياد والجمع. وتتسم الرسائل ببعض التكرار، مجرد عرض مادة بلا منطق أو استدلال من أجل تدويخ القارئ بعد إرهابه بهذا القدر الهائل من المعلومات. والتكرار يعلم تصفية النفس للوصول إلى الله وهو غرض معظم الرسائل وجوهرها وسلخها من المجتمع الظالم إلى جماعة العدل. ويتكرر ذلك بأشكال أو تفصيلات جديدة عن الطريق بداية ووسط ونهاية، والمقصود إخراج الإنسان من عالم الواقع إلى عالم الوهم، ومن الحقيقة إلى الخيال حتى يمكن إخراجه من تحت سلطان الدولة، ومن ثم ترتبط النفس بعالم الكواكب، ويرتبط الملأ الأدنى بالملأ الأعلى تعويضا عن النقص في الدنيا ورفعا للروح المعنوية فيها. للظالم الجسد، وللمظلوم الروح كما هو الحال في التصوف. والحديث عن السحر والملائكة والجن والشياطين يثير الخيال. يبدأ الداعية بالتجربة الحسية والمشاهدات العيانية ثم ينتقل منها إلى الدلالات البعيدة.
19
وقد سهل استبعادهم منذ البداية وقبل الفلسفة من الداخل ومن الخارج. هاجمهم أبو سليمان السجستاني ربما لأنهم لم يبلغوا درجة من التجريد العقلي والإحكام النظري، واستعملوا القول الخطابي دون البرهاني، وهاجمهم الفقهاء في معرض هجومهم على الفلاسفة دفاعا عن الموروث واستبعادا للوافد.
وبطبيعة الحال يمكن نقد الفكر الفلسفي الشيعي حتى ولو كان معارضا مثل نقد الفكر الفلسفي السني سواء كان في السلطة أم في المعارضة مثل التبعية والتقليد والقول بعصمة الأئمة والإشراق الباطني والنزعة الصوفية والطابع الاحتفالي الشعائري.
20
والسؤال الآن: لماذا يستمر هذا اللون من الفكر الفلسفي الجماعي السري أو العلني المعارض للسلطة القاهرة؟ ربما تحولت إلى طريقة صوفية نخبوية كما هو الحال في بعض الجماعات المتناثرة باسمها، تعبيرا عن عجز العصر الراهن عن مقاومة الطغيان وإيثار السلامة.
21
ويعترف الإخوان بأن علومهم مأخوذة من أربعة مصادر. الأول: كتب الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات دون ذكر للمنطق. والثاني: الكتب المنزلة على لسان الأنبياء، مثل التوراة والإنجيل والفرقان. والثالث: الكتب الطبيعية وهو تكرار للطبيعيات عند الحكماء. والرابع: الكتب الإلهية وهو تكرار أيضا للإلهيات في علوم الحكمة.
22
لا فرق بين الوافد والموروث. بل هي أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد. يرثون هذا التراث كله من أول آدم حتى الشريعة المحمدية والملة الهاشمية. وتشير إليهم الكتب المقدسة بأوصافه،
أشداء على الكفار رحماء بينهم ،
ركعا سجدا ، الشهداء الصديقون. جاء الوحي إليهم على لسان جبريل.
لقد استطاع إخوان الصفا تمثل الوافد داخل الموروث الفقهي والكلامي والفلسفي والصوفي. كان ولاؤهم للحكمتين، الوافد والموروث وإن تغلب الموروث على الوافد من حيث الكم. ومن ثم تقع الرسائل كنوع أدبي في باب التأليف، في تنظير الموروث قبل تمثل الوافد. وكلاهما متماثلان متحدان. فلا الموروث أساس الوافد ولا الوافد أساس الموروث. لا الشريعة أساس الحكمة ولا الحكمة أساس الشريعة بلغة ابن رشد. لا النقل أساس العقل ولا العقل أساس النقل بلغة الكلام، نظرا لاتحاد العقل والنقل في علاقة تماه مطلق وليس في علاقة أصل بفرع، في علاقة أفقية وليست في علاقة رأسية، هما واجهتان لعملة واحدة، مرآة مزدوجة تظهر فيها صورة الوافد في الموروث وصورة الموروث في الوافد، صورة الآخر في الأنا وصورة الأنا في الآخر.
وتشير الرسائل إلى الموروث الأصلي أكثر مما تشير إلى الوافد، مدعما بالنصوص. فلا نص إلا في الموروث ولا نصوص من الوافد ترجمة أو تعليقا أو شرحا أو تلخيصا أو جمعا أو عرضا. ويظهر من تحليل الرسائل الإحدى والخمسين تمثل الوافد داخل الموروث، وإعادة بناء الخارج على الداخل سواء من حيث المنظور، التحول من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى أعلى، من العقل إلى القلب، ومن القلب إلى الله، من الكون إلى النفس ومن النفس إلى الروح أو على مستوى الألفاظ مع ظهور مصطلحات الموروث مثل الروح، السموات، الملائكة، الملأ الأعلى، الروح الأمين ... إلخ. كما يتم التحول من الفلسفة إلى الدين، ومن الجغرافيا إلى الأخلاق، ومن الميت إلى الحي، ومن المنطق إلى الحس. فأنواع الحكمة كلها تؤدي إلى الإلهيات.
فالمنطق ميزان البصائر، ويقيم الوزن بالقسط كما فعل الغزالي في كتبه المنطقية.
23
يهدف إلى الانتقال من الصور المجردة المعراة عن المواد إلى الجواهر المحضة الروحانية. الرسالة الأولى في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين قبل تحويلها إلى مبادئ الموجودات عند إخوان الصفاء والرسالة الثانية في مبادئ الموجودات العقلية على رأى إخوان الصفا أي الانتقال من النقل إلى الإبداع، انتقالا من الوجود إلى العقل. والفيثاغوريين هم الوحيدون الذين يظهرون مع الحكماء في عناوين الرسائل. لذلك يمتاز فكر الإخوان بالأممية في مقابل الثقافة الوطنية بلغة العصر، رؤية حضارية شاملة تخلو من صراع الثقافات، ثقافة الأنا وثقافة الآخر.
والغرض من الطبيعيات تحويل الطبيعة الميتة إلى الطبيعة الحية، والمادة إلى الخلق، والشيء إلى الدولة، والآية الطبيعية إلى الآية القرآنية، والسماء والعالم إلى أطباق السموات وتركيب الأفلاك والعرش والكرسي، وحركات الأفلاك إلى الروح القدس، والكون والفساد وقوي النفوس الفلكية إلى الملائكة الموكلة بها واللوح المحفوظ، وميزان القسط والكتاب وخليفة الله. وتظهر في بعض رسائل الفلك المصطلحات الدينية مثل كسوف الشمس وخسوف القمر؛ فالقرآن لغة للتحليل العلمي.
24
وفي الطبيعيات يتم تحويل علم الفلك إلى كائن حي، ويتحول من العلم إلى الربوبية يتم مناجاتها والتغزل فيها لأن الفلك من صنع الباري في غاية الاتقان والصنع والحكمة لذلك كان الفلك كري الشكل لأنه أكمل الأشكال وبعيد عن الآفات. سريع الحركة، مركزه في وسطه، وأقطاره متساوية ويحيط به سطح واحد، ولا يماس غيره إلا على نقطة. تشخيص الأفلاك منظور موروث. ويتم عرض ربوبية المثلثات والوجوه والحدود والنوبهرات والاثني عشريات ومواضع السهام، وأن المواكب السيارة كالأرواح والبروج لها كالأجساد، والعالم إنسان كبير ذو نفس وروح، حي عالم طائع لباريه وخالقه. وجد العالم عن الباري، وحكمته متقنة فيه. في البعض حكمته ظاهرة، وفي البعض الآخر خفية. وأحيانا يتم الاعتراض على التصورات مثل أثر الكواكب على أحوال الناس دفاعا عن الحرية وتكافؤ الفرص ورفضا للقضاء والقدر ووجود كل إنسان في دور وخلق العالم كلمح البصر.
25
ويتم التعبير عن الإلهيات بألفاظ الموروث مثل: الباري المبدع الأول، سبب الكائنات والكليات والجزئيات، ذو الجلال والإكرام، كل شيء صادر عنه، علة العلل، مبدأ المبادئ وبألفاظ الوافد مثل العقل والعقل الفعال. والإلهيات أيضا تبدأ بالنفس، والانتقال من المحسوسات إلى المعقولات، ومن الجسمانيات إلى الروحانيات، وتشويق النفوس إلى الصعود إلى عالم الأفلاك ومنازل الروحانيين والملائكة المقربين. وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة، وهم سكان الهواء والأفلاك، وأن نفوس بعض الحيوانات ساجدة لنفوس الإنسان، خليفة الله في الأرض. ونفوس بعض الحيوانات شياطين عصاة مغلغلة في جهنم. إن كان الإنسان خيرا عاقلا فهو ملك كريم. وإن كان شريرا فهو شيطان رجيم. النفس تقود إلى المعاد. جسد الإنسان مختصر من العالم المدون في اللوح المحفوظ. وهو الصراط بين الجنة والنار، وهو ميزان القسط، وهو ميزان القسط، وهو الكتاب. والصنعة التي أبدعها الله ونفس الإنسان خليفة الله في الأرض حاكما بين الخلق في العالم السفلي ثم في العالم العلوي، وأن الإنسان إذا عرف النفس عرف الرب ووصل إليه.
26
ورسائل الأخلاق تبين اختلافها وعللها اعتمادا على أخلاق الأنبياء وسير الحكماء. وتصعب التفرقة بين النفس والأخلاق والسياسة. فالنفس الإشراقية بداية الأخلاق، والأخلاق النفسية منطلق السياسة. ويبدو الانتقال في التحول من استعمال لفظ النفس إلى لفظ الإنسان. الإنسان عالم صغير مماثل للعالم الكبير، والنبوة جامع بين الاثنين، ويصل إلى رتبة الملائكة ومنازل الروحانيين ومعرفة الله والوقوف بين يديه، ويعرف ماهية الموت والحياة وحقيقة المعاد واللذات والآلام الجسمانية والروحانية؛ فالجسماني دلالة على الروحاني. وأهل النعيم مع الملائكة المقربين، وأهل العذاب مع الجن والشياطين. فما انتقل من الخارج إلى الداخل هو فقط المنطق والطبيعيات. أما النفسانيات والشرعيات فإبداع، اثنان نقل واثنان إبداع.
27
وتظهر الأخلاق في الديانات الشرعية الناموسية والفلسفية. وقد وضعت كالعقاقير والأدوية والأشربة لمرضى النفوس بعد إغراقهم عن طريق النجاة واستيلاء العصبية والحمية على أفئدتهم. لذلك تصف هذه الرسائل الطريق إلى الله، وتنبه النفوس على المعاد وأحواله وعرض مذاهب الربانيين وماهية المؤمنين وخصال المحقين. وفي الأخلاق والاجتماع والسياسة تكاد تغيب ألفاظ الوافد وتسود ألفاظ الموروث وحدها بطابعها الأشعري الصوفي في الهداية والضلال والتوفيق والخذلان. وتقتضي الحكمة وضع النيرين (الشمس والقمر) حتى تزول ريبة الإلهين من قلوب الشكاك.
28
وفي رسائل السياسة يبدو التشكل الكاذب أيضا، إعادة التعبير عن الموروث بلغة الوافد أو إعادة تمثل الوافد داخل الموروث في البحث عن علل اختلاف اللغات والخطوط والعبارات والمذاهب والديانات والآراء والاعتقادات، وتطورها وانتقالها من قوم إلى قوم، وتغيرها زيادة ونقصانا. ويصعب فصل النفس والأخلاق والسياسية؛ فالنفس طريق التصفية على الأخلاق، والأخلاق أساس السياسة. فمذهب الربانيين والإلهيين أساس قيام المجتمع الفاضل، تأليف القلوب والتكاتف في الدين والدنيا، والنبوة أخلاق وسياسة، ناموس إلهي ووضع شرعي، تكشف عن المهمة المنتظر والبرقليط الأكبر. دولة الخير من الأخبار والفضلاء المجتمعين على مذهب واحد وسنة رضية وسيرة عادلة. الله دعامة السياسة والسياسة تقوم على الله. وتسود ليس فقط مصطلحات القرآن بل أبيات القرآن الحر حتى يصبح الخطاب موروثا خاصا.
29
والمجتمع الفاضل لا يوجد قط في الأرض، مجتمع الأخيار في مقابل مجتمع الأشرار بل أيضا في السماء، مجتمع الملائكة المقربين في مقابل المردة والشياطين. لم يكن عند اليونان ملائكة لها أجساد ثم تهذبت وأشرقت وصارت نفوسا بعد أن أخذت طريق التصفية فصارت مغتبطة مسرورة عكس الجن والشياطين والعفاريت. فهي أجساد فارقتها النفوس الشريرة لإبراز التقابل بين الخير والشر، لذلك كان من الأفضل ألا تفارق أجسادها أن لها أجسادا وتتناسل وأمم تتكاثر، ولكن يظل التصور موروثا، عفاريت الجن. ولكن التشكل الكاذب، كما هو الحال في علم أصول الدين، لم يتناول الملائكة والشياطين وظلا بلفظيهما الموروث بالرغم من وجود العقول المفارقة والصور الخالصة والمعاني الروحانية، ولكن تم التعبير عن نفوس الأفلاك والكواكب؛ لأنها الملائكة، وإيجاد دلالة الكسوف والخسوف من أجل إدخال اليقين في قلوب المرتابين.
30 (2) الوافد
ولما كانت رسائل إخوان الصفا بأقسامها الأربعة وحدة واحدة مثل «الشفاء» فإنه يمكن تحليل الوافد والموروث وآليات العرض مرة واحدة وليس رسالة رسالة بالرغم مما يؤدي ذلك إلى إغفال خصوصية كل منها ونوعيتها. فقد يكون إحداها أقرب إلى تمثل الوافد منها إلى تنظير الموروث مثل رسالة العدد. وقد تكون أخرى أقرب إلى تنظير الموروث مثل رسالة العدد. وقد تكون أخرى أقرب إلى تنظير الموروث منها إلى تمثل الوافد مثل رسالة الحيوان.
وقد أفرد للرسالة الجامعة تحليلا خاصة؛ لأنها هي التي تلخص الرسائل وتسقط ما تشاء من الوافد أو الموروث أشبه بجوامع ابن رشد التي تركز على الموضوع ذاته بصر فالنظر عن الشواهد والأمثلة.
ويصعب التمييز بين الوافد والموروث إلا اصطناعا. فغاية الرسائل صب الوافد في الموروث كالمحتوى والإناء، أكبر قدر ممكن من التمثل في أكبر قدر ممكن من الموروث من أجل المزج بين التوحيد بينهما في عملية التحول من النقل إلى الإبداع، تجميع فتمثل فإبداع. الوافد إشراقي والموروث إشراقي وبالتالي يتحول كل شيء إلى الله، من الطبيعة إلى النفس ومن النفس إلى الله، من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى أعلى من الحكمة الجزئية إلى الحكمة الشاملة. (أ) حكماء اليونان
وفي الوافد اليوناني يأتي فيثاغورس والفيثاغوريون في المقدمة مما يدل على أهمية الرياضيات الروحانية عند الإخوان، ثم إقليدس كتابه وشخصه مما يدل على أهمية العلم على العالم، ثم أفلاطون ثم أرسطوطاليس الذي يأتي في المرتبة الرابعة مع ثلاثة ألقاب؛ الحكيم، والحكيم الفاضل، وحكيم اليونانيين، ثم سقراط، ثم بطليموس، ثم جالينوس، ثم هرمس بين الواقع والأسطورة، ثم نبوخوماس، ثم الإسكندر اليوناني، ثم فرفوريوس وبقراط.
31
يتقدم فيثاغورس والفيثاغوريين الوافد اليوناني خاصة في موضوع العدد، ليس تبعية له ولهم ولكن ربطا للحاضر بالماضي، والبنية بالتاريخ، والقراءة بالمقروء، والنقل بالإبداع. الفيثاغوريين هم فلاسفة العدد وبعدهم يأتي أهل الهند ثم المسبغة والحزمية ثم أصحاب الطبائع ثم النصارى ثم الثنوية.
32
والرسالة الأولى عن العدد عند الفيثاغوريين ليست مجرد نقل وعرض بل قراءة إخوانية للفيثاغوريين. يدرس الإخوان العدد على رأي الفيثاغوريين أولا وليس نقلا لهم للتحقق من صدقه وإكماله قبل ذكر آرائهم في العدد، تحولا من التنقل إلى الإبداع. وهم الحكماء الفيثاغوريون. ليسوا رياضيين فحسب أي أنهم فلاسفة قبل أن يكونوا علماء، وبالتالي يمكن قراءتهم وتأويلهم، وأحيانا يكون التعبير على معنى قول الحكماء الفيثاغوريين أو في معنى قول الفيثاغوريين مما يدل على أنها قراءة للمعاني وليس شرحا للألفاظ. ويذكر الفيثاغوريين باعتبارهم طائفة لها رأي، تفعل وتعطي وصفا لأفعال الشعور.
33
ويذكر فيثاغورس انتقالا من معرفة خواص العدد إلى ما يطابقها من معاني الموجودات نقلا من الرياضة إلى صفاء النفس وإلى الأنغام في الطبيعة وإلى توحيد الله اعتمادا على وصيي فيثاغورس، الوصية الذهبية المنتحلة التي تساعد على التحول من الوافد إلى الموروث ومن النقل إلى الإبداع في صورة أقوال مباشرة أو في صورة حوار مع ديوجانس حكيم اليونان؛ فالنفس تفارق البدن وتكون خالدة، وتظل في الهواء غير قابلة للموت، وهي النفس المطمئنة، والنفس في البدن كالشمس في الكون تشرق عليه. فالشمس ملك الجواهر، وأعدل الطبائع، لا تفسد الأرض، ولا تحرق الأشياء. وقد يذكر النص أكثر من مرة، ويكون فلا صيغة وصية كنوع أدبي من أدبيات الصوفية. وعلى هذا النحو يتحول فيثاغورس إلى حكيم إشراقي وكأن الموروث لا ينتقى من الوافد إلا على ما يساعد على التحول من الآخر إلى الأنا. كما يستطيع الحكيم بصفاء نفسه سماع نغمات حركات الأفلاك والكواكب ويستخرج بفطرته أصول الموسيقى، وهو أول من تكلم في هذا العلم واخترع العدد وألف الألحان. وفيثاغورس حكيم موحد بالله من أهل حران أسوة بالمترجمين النصارى. ينظر في علم العدد من أجل التعبير عن الأمور الشريفة؛ فالبنية هي التي تحكم التاريخ، واليونان أصلهم من المشرق.
34
وقد ذكر كتاب إقليدس (أوقليدس) حتى دون تسميته (العناصر، الأركان، الأصول، الأسطقسات) باعتباره العمدة في علم الهندسة (الجومطريا). فما يهم هو العلم وليس العالم بالرغم من أنه هو مؤسس العلم، ويشار إليه باعتباره تاريخا للعلم وجزءا من أدبياته الماضية. فالتاريخ سابق على البنية. وتتم الإحالة إلى الكتاب مقالة مقالة. الإخوان هم الدارسون وإقليدس تأكيد لما توصلوا إليه في علم الهندسة. الموضوع هو الأساس وأدبياته هو الفرع. قد تستقي منه الأمثلة والأشكال فحسب، وبحث الموضوع نفسه يؤدي إلى فهم إقليدس ولماذا انتهى إلى ما انتهى إليه. يضم الإخوان القديم إلى الجديد احتراما للقدماء، وتواصلا مع العلماء، واعترافا بقدرهم، توفيقا للآخر على الأنا وليس تبعية الأنا للآخر، يجمعون نصوص إقليدس ويتمثلونها ثم يعيدون بناءها وصبها في الموروث. وعلم الهندسة أساس علم المناظر، وبالتالي يكون كتاب إقليدس أساسا لفهم كتاب المجسطي، ويبين الإخوان غرض كتاب إقليدس ويضعونه في التراث الرياضي اليوناني مع من قبله ومن بعده. وقد يذكر قول إقليدس لإثبات رأي الإخوان أو موضوعا تكلم فيه إقليدس يبحثه الإخوان. ثم يتحول إقليدس من مستوى الهندسة إلى مستوى الإلهيات، ومن إقليدس التاريخي إلى إقليدس الحضاري، ومن إقليدس اليونان إلى إقليدس المسلمين، ومن إقليدس الآخر إلى إقليدس الأنا، ومن إقليدس الوافد إلى إقليدس الموروث، للبرهنة على الأمور الإلهية بالعقل، وهي أمور لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام.
35
ويذكر أفلاطون في نظرية العلم لديه، العلم تذكر والجهل نسيان. ويصحح الإخوان فهم النظرية بأن النفس علامة بالقوة وتحتاج إلى التعليم حتى تصبح علامة بالفعل. كما يصححون فهم الناس لأسطورة الكهف، أنها ترمز إلى الأخلاق الروحانية وليست المادية كما يقول المنجمون، فيتحول أفلاطون إلى حكيم روحاني وليس عالم فلك. يقول أفلاطون بخلود النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد وتبرير ذلك بأنه لو لم يكن هناك معاد لكان للشر الكلمة الأخيرة في الدنيا. ويتم تركيب الوافد على الموروث. الأشرار في العالم بجناية آدم بالرغم من عدم توارث الشر في العقائد. ويتوحد الوافد، الدعاء الأفلاطوني والمناجاة الأرسطاطاليسية المنتحلان داخل الموروث، والتوسل الأدرسي المنتحل أيضا. ويسهل تعشيق المنتحلين فكلاهما عمل الروح وإبداع الحضارة. وتتفرع أسطورة موروثة من أسطورة الكهف الذي نزل فيه راع للغنم أجير عند متسلط إثر زلزال ووجد فرسا من نحاس في يدي كوة مشققة بداخله إنسان ميت في يده خاتم ذهب أخذه الأجير. وفي اجتماع مع الملك ورعاته أدار الراعي الخاتم في إصبعه بحيث صار فصه إلى الداخل فاختفى، فرده إلى الخارج فعاد. وقتله الملك. ويعترض الإخوان على هذه القصة من أفلاطون وهو صاحب علو القدر في السياسة إلا إذا كان المقصود الحكمة والقدرة على الفعل التي يرمز إليها الخاتم. لذلك لا يجوز للعاصي الإيمان بعلم الطلسمات كما رواه أفلاطون. ويبدو أفلاطون جغرافيا يصف أحوال البلاد بما فيها من جبال. بل يصل حتى الهند حيث يطول أعمار أهلها. فهم قليلو الأمراض، صحيحو الأجسام نظرا لاعتدال جوها عند خط الاستواء. وهي جغرافيا إبداعية رمزية. فخط الاستواء حار وليس معتدلا ، والهند بلد الإشراق وليست منطقة جغرافية. وأفلاطون يرد إلى منابعه في الشرق.
36
ويأتي أرسطو في المرتبة الرابعة، أرسطو المنطقي، الطبيعي، الإلهي الإشراقي. ليس له آية أولوية على باقي حكماء اليونان مثل الفيثاغوريين والمجسطي؛ أي الرياضة والفلك. يقدر الإخوان أعماله المنطقية كمقدمات للبرهان، المقولات والعبارة والتحليلات الأولى بألفاظها المعربة ثم البرهان إلى القياس الصحيح، ليس فقط في الأمور النظرية، بل أيضا في الأمور العملية، ثم غياب البرهان في الجدل الذي مارسه الناس ضد منطق أرسطو وتلاميذه وكأن التاريخ يسير بطبيعته من الأفضل على الأقل فضلا بفعل الحسد وكما هو الحال في تصور التاريخ عند الأشاعرة. ومن ثم يتحول المنطق من مجرد قواعد صورية إلى موازين للحق العملي وإلى مسار في التاريخ. يتوقف أهواء البشر. والمنطق وصية من الأستاذ إلى التلاميذ يحميهم من الوقوع في الخطأ. وهناك أيضا أرسطو الطبيعي في حديثه عن العناصر الأربعة التي يتكون منها الكون، وجعل جسد الشمس رأس كل جسد ومنازل القمر. أما أرسطو الميتافيزيقي فهو الذي يبدأ بالنفس وصفاتها وتخليها عن شوائب الحس وتخليصها من البدن اعتمادا على أثولوجيا من أجل «أسلمة» أرسطو وتمثل الوافد داخل الموروث. وهو الحكيم الفاضل الذي قال إن النفس عالمة بالقوة. فإذا فكرت في ذاتها أصبحت عالمة بالفعل عند حكيم اليونانيين. كما إن الإنسان يصم ويعمى عن عيوب نفسه لأنها أحب الأشياء إليه. وعند صاحب المنطق إن الفيلسوف يجازي بفلسفته بعد مفارقة النفس البدن كما صرح بذلك عندما حضرته الميتة أشبه بليلة سقراط الأخيرة وطبقا لكتاب التفاحة المنحول، والتقرب إلى الله، وأهم من ذلك كله أرسطو العاقل الموحد بالله الذي يعرف الأوامر والنواهي بطريق العقل أو بطريق السمع حيث تكمل النفس بفضائل الملائكة وتتشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. بل إن النبي ذكر أرسطو في الحديث بأنه لو كان حيا لاتبعه حين ذكر في مجلسه مع أن أرسطو لم يعرف إلا منذ عصر الترجمة بعد ذلك بقرنين من الزمان، ولكنها الحضارة التي تبني النموذج وليست التي تؤرخ له .
37
ويظهر سقراط نموذجا للحكيم الذي يؤمن بخلود النفس وبقائها بعد البدن؛ ومن ثم فلا خوف من الموت. وقد سار في ذلك أرسطو أيضا عندما نزل به الموت وحزن عليه تلاميذه فكتب وصيته في رسالة التفاحة أسوة بحوار سقراط مع تلاميذه في محاورة فيدون. فالانتحال إبداع حضاري لإكمال النقص، فأرسطو تلميذ سقراط ومقلد له. والإيمان بالقانون وبحكم القانون حتى ولو كان ظالما. فذاك من علامات الإيمان بالقضاء والقدر. وسقراط من زمرة الشهداء في تاريخ الإنسانية مثل هابيل الذي قتله قابيل، والمسيح الذي قتله اليهود، وموسى الذي أراد فرعون هلاكه، والمسلمين يوم أحد. وأحيانا يروى عن سقراط ما لا يتفق مع موقفه كفيلسوف مثل وصيته عند موته بذبح ديك في الهيكل وفاء بنذر له. فالوفاء بالنذر قراءة حضارية من الموروث للوافد.
38
ويذكر المجسطي أكثر من بطليموس لأهمية العلم على العالم، والفكر على الشخص. ويضع الإخوان آراءهم في الفلك ثم يقارنونها بالمجسطي لبطليموس ربطا للحقيقة بنشأتها، والبنية بتاريخها والحاضر بالماضي، يعطي الإخوان المبادئ العامة، ويحيلون التفصيلات إلى المجسطي. ويتحققون من صدق آرائهم وذهاب الشكوك عنها عن طريق المجسطي. ويتبين في المجسطي حركات الأفلاك حول المركز ببراهين هندسية. أما حركات الكواكب السيارة فقد بينها الإخوان في رسالة «السماء والعالم»، وشرح ذلك في المجسطي، ويثبت المجسطي أن الكواكب أكريات مستديرات بقياس هندسي، ويتفق الحكماء معه في أن سبب الحرارة دوران الشمس فوق الأرض من ناحية الشمال ستة أشهر في الصيف. كما أثبت المجسطي أن حركات الأفلاك والكواكب أسرع ببراهين هندسية ضرورية. ويعتمد المجسطي على كتاب إقليدس؛ فالهندسة أساس الفلك. ويذكر بطليموس مع من سبقوه ولحقوه في التراث العلمي.
39
والأهم من ذلك هو جعل بطليموس حكيما إشراقيا يعشق علم النجوم، ويجعل علم الهندسة سلما يصعد عليه إلى الفلك وكأنه يصعد بنفسه لا بجسده. والمتأمل في الفلك بطريقة القياس والبرهان فإنه يهتدي إلى معرفة البعث وعلم حقيقة القيامة. كما يبين الفلك في المجسطي أن حركات الأفلاك واقفة بقصد قاصد، وصنع صانع، وجعل جاعل، وفعل فاعل، حكيم قادر عالم. ويصور قصد الله وصور في الهيولي عالم الأجسام ذا الثلاثة أبعاد وجعلها على شكل كريات مستديرة يحيط بعضها ببعض كما هو الحال في كتاب المجسطي وكتاب بانياس الحكيم في تركيب الأفلاك وأطباق السموات، وجعلها مسكنا لعبيده وجنوده، النفوس السارية في العالم، أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين وأرواح بني آدم المديرين للأفلاك والكواكب بإذن الله. ويتم تشخيص عالم الكواكب وتحويله إلى عالم إنساني. فهو كبيت غاب صاحبه ولكن ينظر إليه يحفظه ويرعاه. فالله هو رب العالم وراعيه. نظم القمر في منازله.
40
ويحال إلى جالينوس في كتابه «منافع الأعضاء» لمعرفة مزيد من التفصيل عن أعضاء بدن الإنسان أو استشهادا به على صحة قول الإخوان عن اعتدال المزاج لصحة الجسم. كما يستشهد به ابتداء باعتباره سلطة في الطب، إثباتا لحركة الشيء دورانا زيادة ونقصانا وتحليلا للرطوبة في الجسم، والأهم من ذلك هو تركيب الوافد على الموروث، وتركيب الطب الجسمي على الطب النفسي، والانتقال من الجسم إلى إثبات جوهر النفس، وتدخل الله في الطبيعة من خلال الأسباب مثل حفظ الشمس للجسد بأمر الله.
41
وتتعلق الحكمة الهرمسية أساسا بالطبيعيات كما عرضها في الكتاب المخزون «أسرار النيرنجيات» لروحانيات القمر وشروق الشمس وضوئها ومع ذلك لا يوجد فيه كل شيء، وقد صعد هرمس المثلث بالحكمة وهو إدريس النبي إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد أحوال الفلك ثم نزل إلى الأرض وخبر الناس بعلم النجوم، وأصبح نموذجا لكل من تشتاق نفسه إلى الصعود. ويسميه الإخوان المثلث بالحكمة وليس بالعظمة. وهو ليس يونانيا فقط بل يهوديا ومسيحيا وإسلاميا. وقد كثر ذكره في رسالة السحر. والتوحيد بين هرمس المثلث العظمة والنبي إدريس هو أحد مظاهر التحول من الوافد إلى الموروث مدعما بنصوص القرآن وكما دونه التاريخ.
42
ويوضع الإسكندر اليوناني وأحيانا الرومي مع غيره: أفريذون النبطي، تبع الحميري، سليمان بن داود الإسرائيلي، وأردشير بن بابك الفارسي وهو غير نبي. لم يضعوا باعتبارهم ملوكا في الربع المسكون من الأرض حدود الأقاليم السبعة، وكأنها أقسام طبيعية وخطوط وهمية لمعرفة حدود البلدان والممالك والمسالك. الإسكندر واحد مثل غيره، واليونان شعب مثل باقي الشعوب، النبط والحمير والإسرائيليون والفرس. ثم يتحول الوافد إلى الموروث، وتنسب أفعال الملوك إلى الله على أيدي عباده كما تنسب أفعال الشعوب إلى الملوك مثل أن يقال الإسكندر الرومي، بني أسد، يأجوج ومأجوج.
43
ويذكر فرفوريوس باعتباره صاحب إيساغوجي، المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي من أجل تبسيط المنطق وفهمه. فقد أطال الناس شرحه، ونقلوه من لغة إلى لغة دون معرفة بمعانيها فصعبت وعسر تعلمها. فبسطها فرفوريوس على الإيجاز دون تطويل.
44
كما يستشهد بقول بقراط الحكيم، حكيم اليونانيين تخصيصا لثقافته على قصر العمر بالرغم مما يتطلبه علم الطب من طول صناعة وعظيم جهد.
45
كما يستشهد بقول فاردموس الحكيم بأن السماء مدورة والأرض مثل حبة خردل وسطها.
46 (ب) المؤلفات والفرق
وتذكر أحيانا بعض المؤلفات منسوبة إلى أصحابها، العلم مع العالم مثل كتاب أرسطاخس في الطلسمات والنيرنجيات.
47
وأحيانا أخرى وهو الأغلب تذكر المصنفات بصرف النظر عن أصحابها باعتبارها جزءا من تاريخ العلم مثل المصنفات المنطقية الرياضية بألفاظها المعربة: الأرتماطيقي وهو أول علم في الرياضيات لمعرفة خواص العدد، قاطيغورياس وهو أول كتاب ممهد للبرهان وغرضه عرض الألفاظ العشرة، الجيوميطريا وهي الرسالة الثانية في القسم الرياضي والنقطة في الهندسة تماثل الواحد في الحساب. والأسترونوميا، وهو الثالث في العلم الرياضي، علم النجوم بالبراهين كما ذكرت في المجسطي، فالشمس في الكواكب مثل الواحد في العدد والنقطة في الهندسة. وبالتالي تكون للرياضيات الأولوية على المنطق، وأنالوطيقا الأولى، وأنالوطيقا الثانية، وبريمنياس، وإيساغوجي.
48
فلماذا استعمل الإخوان الألفاظ المعربة دون المنقولة؟ هل لأنها لم تتحول بعد إلى منقول وقد استمر استعمال البعض منها حتى عصر ابن رشد مثل الأسطقسات أم لتمثل الوافد داخل الموروث عن طريق شرحه وإيجاد المقابل له أم لإيهام العامة بالغريب؟ وقد صمد التعريب حتى الآن في بعض الألفاظ مثل الفلسفة والسفسطة والموسيقى والجغرافيا، في حين لفظ المنطق وغيره من المصطلحات الفلسفية نقل منذ البداية ولم يعرب.
49
ثم تأتي الكتب المنطقية مثل أنالوطيقا على العموم دون تحديد بالأولى أو الثانية . وهو الذي يضع الميزان الذي يمنع من الغبن والاعوجاج، وبه يصح الوزن ولا يدخل إليه الخلل. وبارمنياس ثاني كتب البرهان غرضه معرفة الألفاظ العشرة في قاطيغورياس، كيف تتألف وتتركب الأشياء حتى يكون منها ميزان ومقياس، وغرض البرهان معرفة العشرين كلمة في بارمنياس. وإيساغوجي، وهو المدخل للمنطق الفلسفي، دراسة للألفاظ الستة، والموسيقى هو العلم الرابع من الرياضيات وهو علم التأليفات والنسب.
50
وإذا كان المنطق خمسة أنواع أولها أنالوطيقا فالباقي منطق الظن وهو في المرتبة الثانية. ثانيها معرفة صناعة الشعر، والثاني ريطوريقا معرفة صناعة الخطب. والثالث طوبيقا وهو الجدل، والرابع بوليطيقا وهو البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي المغالطة في المناظرة والجدل. وواضح عدم تتبع الترتيب المنقول. كما يتضح أيضا عدم الدقة في تسمية بوليطيقا صناعة البرهان. وتجمع المصطلحات بين التعريب كأساس والنقل كفرع. وتنقسم الكتب إلى ثلاثة قبل البرهان وخمسة بعد البرهان انحرافا عنه، والذروة في البرهان.
51
وهناك أسماء مصنفات دون ذكر لأصحابها مثل الكون والفساد، والحاس والمحسوس وسمع الكيان والحيوان لشهرتها وتحول الوافد إلى موروث ثقافي أو لرسائل الإخوان في الموضوع. ويذكر صاحب كتاب الأسطيطاس الذي ذكر دائرة عدتها ثمان وعشرون منزلة رتبها الإخوان في إحدى رسائلهم باعتبارها ثقافة العصر، وهناك رسائل أخرى مؤلفة لا أصل لها في الوافد مثل رسالة الصنائع العملية، ورسالة المعاد، ورسالة أجناس العلوم، والرسالة الإلهية، ورسالة العلل والمعلولات، ورسالة العقل والمعقول، ورسالة المبادئ، ورسالة البعث والقيامة، وهي في صلب الموروث، والبعض منها لإخوان الصفا. وهناك رسائل أخرى يشار إليها بلا عنوان مما يدل على أن التأليف مضمون وليس صورة؟
52
ويستعمل لفظ «اليونانيون» وصفات اليوناني مذكرا ومؤنثا ومضافا إليه في بلاد اليونان للتأكيد على محلية الوافد. فقد كان اليونانيون يستعملون آلة صناعية عند الحروب يفزعون بها نفوس الأعداء، تصدر أصواتا مزعجة. وكان من عادة اليونانيين إذا أرادوا تعليم الصبي صناعة إدخاله إلى هيكل الصنائع وقربوا له قربانا. فاليونانيون يمثلون هنا شعبا له عاداته وتقاليده وخرافاته وليس مصدرا للعلم. كما يستعمل اللفظ للإشارة إلى الأطباء وعجزهم عن معرفة طبائع النبات والاطلاع على خصائصه ومنافعه أو الحكماء الذين اخترعوا آلة تصدر أصواتا بلا زعيق لملاقاة الأعداء. ويجمع الحكماء والأطباء اليونانيين معا في حالة ما إذا صعب علاج مريض حملوه إلى هيكل المشتري، وتصدقوا عنه، وقربوا قربانا، وسألوا الكهنة أن يدعوا الله له بالشفاء. فإذا برأ سموا ذلك طبا ومرضا وجنونا إلهيا، وأفلاطون حكيم اليونانيين على التخصيص وسقراط أيضا. ولفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم. وقد توصف الكتابة باليونانية من أربعة وعشرين حرفا، واللغة اليونانية، وتوصف السنة باليونانية طبقا للتاريخ المحلي، كما تخصص بلاد اليونان وحكماء بلاد اليونان وصفا للجغرافيا.
53
وقد استعمل لفظ الحكماء كثيرا كلفظ عام للإشارة إلى كل المشتغلين بالعلم في أكثر من ثلثي الاستعمالات. ثم يخصص الحكماء بإضافة لقب آخر مثل الحكماء والفلاسفة الحكماء والعلماء، الحكماء والمتكلمون، الحكماء والفقهاء، الحكماء والأطباء، الحكماء والأنبياء، الحكماء والموحدون، الحكماء والعقلاء. وقد يكون التخصيص دون واو العطف مثل: الحكماء المنطقيون، الحكماء الطبيعيون، الحكماء الرياضيون، الحكماء الإلهيون، الحكماء الموسيقيون، الحكماء الربانيون، الحكماء المتألهون. وقد يخصص النوع مثل حكماء الجن وتحديدا لموضوعاتهم وأغراضهم وأقوالهم وأخلاقهم، وأكبر الإحالات إلى الحكماء والقرآن مما يدل على غلبة الموروث على الوافد.
54
ولفظ الحكماء أكثر شيوعا من لفظ الفلسفة والفلاسفة، الأول موروث والثاني وافد. لفظ الحكماء ليس مقصورا على اليونان بل يطلق على الموحدين الحكماء.
55
ويصعب معرفة من المقصود بالحكماء؟ هل هم فلاسفة القرن الثالث الهجري وقد عاشت مجموعة أبي سليمان المنطقي في القرن الرابع؟ هل هم الحكماء الخمسة من إخوان الصفا؟ هل كل من يشتغل بالعلم بما في ذلك حكماء اليونان لا فرق بين وافد وموروث؟ هل أقرب إلى المعنى العام الذي لا يعني بالضرورة حكماء اليونان، نقلا له من الخاص إلى العام؛ إذ يوجد الحكماء في الهند، ومن الجن؟ هم أقرب إلى إجماع العقلاء والاتفاق فيما بينهم. فالفلسفة مواضعة واتفاق. وحين التخصيص لا يشار إلى اليونان. فالحكماء المناطقة يستعملون المنطق للبرهان. والبرهان ميزان الحكماء، ويضعون العلوم المعيارية مثل المنطق والعروض والنحو، والمنطق نظر وعمل. والحكماء الرياضيون يضعون مبادئ الحساب أول العلوم الرياضية وأساسها، وإدراك النسبة أساس المعرفة والوجود. وهي أيضا نظر وعمل. والحكماء الطبيعيون يتأملون في الطبيعة بمنهج فلسفي، ويرفعون الطبيعة إلى مستوى الإنسان. فالعالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير. يثبتون أفعال الطبيعة الدالة على الله والعناية كحل وسط، إثباتها مستقلة عن الله أو إنكارها لحساب الفوضى. وتقوى الطبائع بعضها بعضا. هناك علية الوسائط، يقول الحكماء بحدوث العالم وينكرون قدمه بالرغم من الشك في الصواب، ويوضع العلماء مع الحكماء لأنهم علماء طبيعة أيضا وفيها يتم البحث عن العلل. والحكماء هم العلماء الأخيار أصحاب العلل. ويضم الحكماء علماء الطبيعة والكيمياء. وقد تشبه آيات الحكماء معجزات الأنبياء والحكماء الموسيقيون يربطون الموسيقى بأحكام النجوم وأثرها في النفس، والفن للدين مثل الفلسفة وليس للهو واللعب. والعود أوتار أربعة تشبها بالطبيعة. فالحكماء موسيقيون وأطباء ورياضيون ومناطقة وشعراء.
56
وفي أغلب الأحيان هم الحكماء الإلهيون تخصيصا لهم عن غيرهم بما يميزهم وهو الإشراق أو الإلهيات، والله أحكم الحكماء. وتبدأ الإشراقيات من علم النفس. لذلك تحدث الفلاسفة قبل الوحي عن علم النفس ولكن الوحي الذي فصله. يعرفون عجاب النفس بالنفس وليس بالعقل، وبأسرارها وليس بقدراتها. ويستعمل الحكماء الإشراقيون الرمز، ويضربون المثل بأمور الدنيا، ويريدون بها أمور الآخرة. وهم الدعاة الذين لا تستطيع العامة معارضتهم لإحساسهم بالنقص أمامهم، أقربه إلى دعاة الإسماعيلية وأئمة الشيعة. يعرفون أحكام النجوم للترقي بها إلى أعلى وليس لمعرفة الغيب، ولكنهم أدركوا من خلالها السعادات والنجاسات. لهم أقوال في العشق بين المدح والذم والجهل، فمن الجهل القول بأنه جنون إلهي أو هم النفس أو فراغ الهمة أو مرض إنساني.
57
وغرض الحكماء متفق مع غرض الأنبياء في الدنيا والدين. وقد أرسل الحكماء والأنبياء إلى كل الشعوب. آدم أبو البشر وأبو الأنبياء. يمثل وحدة البشر ووحدة العقيدة وكلاهما، الحكمة والنبوة من نفس المصدر نزولا من السماء. الحكماء والعلماء ورثة الأنبياء وإدخال العلماء مع الحكماء إضافة للوافد على الموروث وتوسيعا لمفهومه. انتباه الحكماء ضروري من الوقوع في سوء الفهم لكلامهم واتهامهم بالقول بقدم العالم، والحقيقة أنهم يقولون بإبداع العالم بالخلق فيضا وليس بالقدم. والفيض تطور روحي نازل للوجود في مقابل الارتقاء الروحي الصاعد للنفس. ويؤمن الحكماء الربانيون والعلماء المتفلسفون بالآيات ويعلمون الأسرار والتأويل لأنهم يمثلون سلطة بعد مغادرة الأنبياء. ولما كانت الطبيعة لا تفعل شيئا باطلا فإن قول الحكماء الصادر عن الطبيعة لا يختلف عن قول الأنبياء الصادر عن الوحي.
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . ومن ثم يتم تركيب الوافد على الموروث. وتدرك الحكمة الغائبة في الطبيعة كما تقرها الشريعة. الحكماء مبعوثون من الله مثل الأنبياء والرسل. وكلاهما مصدران لعلم الإخوان. والحكماء يشاركون الأنبياء في فضيلة الزهد. ويدافع الإخوان عن الحكماء ضد سوء تأويل قولهم عن الجوهر القائم بنفسه، وضرورة التمييز بين الصفة والموصوف. وينتج سوء التأويل عن المزايدة في الإيمان ضد العلم، وفي صف السلطة ضد المعارضة. يدافع الإخوان عن الفلسفة كما دافع ابن رشد ضد اتهام الغزالي لها من أجل تبرأتهم. لذلك يراجع الإخوان آراء الحكماء في الإنسان مركبا من بدن ونفس، وأن النفس عرض، أخلاط ومزاج للبدن أو جسم لطيف غير مرئي أو جوهرة روحانية غير جسمية باقية. وإذا وضع الحكماء الحكايات على لسان الحيوانات فغرضهم الإفهام والتأثير في النفس مع الأنبياء. كلاهما على نفس المستوى وإن كان الحكماء في القمة بعد أن يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقلاء ثم العلماء ثم الأنبياء. والحكيم جمع من أسماء الله الحسنى وليس المعنى اليوناني. يصف الحكماء الجنة بأن كل ما فيها مستقيم لأن الاستقامة صورة لا نهائية. والدائرة أكثر ألوهية. ويكثر استعمال لفظ الحكماء في رسالة السحر. وهم غير الفقهاء والصوفية والمتكلمون. لذلك لهم معنى إيجابي باستمرار عكس معاني المتكلمين وأصحاب الجدل. ويؤيد الإخوان موقف الحكماء في معارضتهم المجادلين في صحة الرؤى والمنامات ومع ذلك قد ينقد الإخوان الحكماء فهم وحدهم ليسوا مصدرا للعلم، ويخطئون بإنكارهم خراب السموات والأرض والإيحاء بالقول بأزلية العالم. فالإيمان بالحدوث استبصار ومشاهدة. أو يخطئون عندما يقولون الآخرة. والأفضل الاعتقاد بالآخرة وبقائها بعد الكون.
58
ويستعمل لفظ «الفلاسفة» أقل من لفظ الحكماء، والمتفلسفون والفلاسفة الطبيعيون، والفلاسفة الحكماء، والفلاسفة الربانيون، المتفلسفون، والمتفلسفة، والفلاسفة القدماء.
59
وتستعمل معظمها في إطار التشكل الكاذب، فالملائكة يسميها الفلاسفة روحانيات وهي الكواكب الموكلة بإنشاء المواليد. وتستعمل ألفاظ المنطق. وغرضهم من الرياضيات العمل والأخلاق، ومن الطبيعيات الارتقاء إلى الله. واخترعوا الموسيقى والآلات لنفس الغرض، رجوعا إلى عالم الأرواح، والسعد من الكواكب، وبينها نسب موسيقية لأنغام لذيذة. لذلك اتفقت الأنبياء والفلاسفة على الوحدانية والتنزيه. فالنبوة والفلسفة طريقان نحو نفس الغاية. فغاية الموروث والوافد واحدة. إنما الفرق اتفاق الأنبياء واختلاف الفلاسفة مع أن الفلاسفة أيضا متفقون على المطلق، أو الأنبياء مختلفون في التصوير وأشكال الشرائع والعبادات وفي طبيعة المرحلة التاريخية. وقد توصل كلاهما إلى بقاء النفس. واستعمل كلاهما الرمز والإشارات.
60
كما استعمل لفظ القدماء، وأحيانا مع الخواص، إما مع الحكماء أو بمفردهم.
61
وهم يمثلون التراث السابق المغاير، مؤسسو العلوم، ومنهم موحدون يقولون بحدوث العالم وبروحانيات الكواكب وبعلم الأشياء قبل كونها، وهنا لا يبدو الفرق كبيرا بين القدماء والمحدثين. وعند بعض المتكلمين لا فرق بين وافد وموروث. وبالرغم من أن لفظي الأسطقس والأسطقسات كانا شائعين إلا أن لفظ الركن والأركان وعالم الأركان والأركان الأربعة كانت هي السائدة لمعرفة ماهيتها والهيولي الطبيعية فيها.
62
يستميل بعضها إلى بعض. وهي دون فلك القمر. يتعاقب الصيف والشتاء عليها، والعلة الصورية وراء الأفلاك وحركات الكواكب حولها وفعل الصنائع الطبيعية فيها، وحفظ المناسبات بينها وبين الكواكب الثابتة وغير محفوظة بينها وبين الكواكب السيارة، وهي العلة الهيولانية. وأول فعلها في تكوين النبات جذبها عصارات الأركان الأربعة، وهي متنافرة الطباع. وعالم الأفلاك أشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضه أشرف من بعض. وكل واحد من الأركان له وصفه الخاص ومزاجه.
63
ومن المصطلحات المعربة البرقليط الأكبر وهو المهدي المنتظر تمثلا للوافد داخل الموروث، وألفاظ الأرمونيقي، سوجيموس، مغنسيا، كيموس، الماليخوليا، القرسطون.
64 (ج) رسالة الجامعة
ولما كانت رسالة الجامعة تلخيصا أو جامعا لكل الرسائل الإحدى والخمسين فإن مكوناتها، الوافد والموروث ونسبة كل منهما إلى الآخر يكون لها دلالتها النهائية لما كان كل تأليف يدل على تصور حضاري ووعي تاريخي ويظل لفيثاغورس والفيثاغوريين الأولوية على أرسطو وللحكماء الفيثاغوريين والفيثاغوريين الأولوية على القدماء. ويستعمل الحكماء الفيثاغوريون بعد «لذلك قالوا» أي أنهم تأييد موقف الإخوان وليس استعارة لأقوالهم، فصور الأشياء مطابقة لصور العدد، والأشياء تركبت حسب طبيعة العدد كما ذكروا في رسالة المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين، وما قاله الحكماء الفيثاغوريون من أن الأعداد مطابقة لصور الموجودات وأول ما في النفس من معلومات طريق إلى التوحيد، وهنا يأخذ الإخوان الوافد وسيلة والتوحيد غاية، والاستعانة بالخارج لإثبات الداخل.
65
ورسالة «في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين» ضمن الرسائل العقلية أو الذخائر النفسانية والإفاضات الإلهية. فالعرض يأتي قبل التوظيف، وتخصص الرسالة الثانية في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا وخلان الوفا وهي مطابقة لقول «الحكماء الفيثاغوريين» فالأنا هو الأساس والآخر هو الفرع.
66
أما أرسطوطاليس فإنه يذكر في معرض التعريف به بأن له ثلاثة كتب مقدمات للبرهان وبيان غرضه في نصب البراهين أي أرسطو المنطقي. ويعجب أرسطو الإلهي بأستاذه أفلاطون أبيه الروحي بعد أن استطاع أرسطو منع خراب البلاد على يد الملك وأراد الناس أن يدعو لواليه. وهو أرسطو المقروء إسلاميا وليس أرسطو التاريخي، العالم بالكتب المنزلة والتأويلات النبوية، النبي والعقائد.
67
كما يحال إلى المجسطي باعتباره تراثا علميا فلكيا بعد أن عرف الإخوان النظرية. فالمجسطي تصديق لما عرفوه، وبيان لما ذكروه.
68
وبالنسبة للمصطلحات يبرز الإخوان أولا اللفظ المنقول مثل علم العدد وبعده اللفظ المعرب الأرتماطيقي أو علم الهندسة وهو الجومطرية. وأحيانا يذكر اللفظ المعرب أولا مثل الأرتماطيقي وبعده اللفظ المنقول، علم العدد، والأسطر نوميا علم النجوم، والموسيقى علم التأليف، وبويطيقا معرفة صناعة الشعر، وريطوريقا معرفة صناعة الخطب، وطوبيقا معرفة صناعة الجدل، والسوفسطيقا معرفة صناعة المغالطين، وإيساغوجي الألفاظ الستة، وقاطيغورياس المعقولات الكليات وهي الألفاظ العشرة، وباري أرمنياس الكلام في العبارات، وأنالوطيقا الأولى القياس، وأنالوطيقا الثانية البرهان. وأحيانا يذكر اللفظ المعرب وحده مثل قاطيغورياس، باري أرمنياس، أنالوطيقا. وأحيانا يكون اللفظ المنقول بعد اللفظ المعرب عبارة شارحة مثل إيساغوجي وهي الألفاظ الستة التي يستعملها الفلاسفة في المنطق، وقاطيغورياس وهو البيان عن المعقولات الكليات وهي الألفاظ العشرة، وفي العبارة الشارحة يبدو لفظ الصناعة هو الغالب للدلالة على أن المنطق آلة وليس علماء وفي نفس الوقت يعاد بناء المنطق واعتبار الكتب الثلاثة الأولى المقولات والعبارة والقياس مقدمة للبرهان ثم غيابه بعد ذلك في الجدل والسفسطة والخطابة والشعر كما فعل الفارابي.
69
ويأخذ لفظ الحكيم والحكماء كما هو الحال في الرسائل معنى عاما وليس بالضرورة الحكيم أرسطو أو حكماء اليونان، بل الحكيم الإلهي، الحكيم الإسلامي الذي يعرف أن الله سبحانه خالق آدم وأسكنه الجنة، وهو الحكيم الناطق، الحكيم الفاضل، صاحب الأمثلة «كل إناء ينضح بما فيه، الحكيم الذي يرى أن العقل الغريزي في كل إنسان، الإنسان العاقل المطيع للآراء والنواحي بموجب العقل أم بموجب السمع لأوامر الناموس ونواهيه طول عمره في الدنيا. وبالتالي قرن العقل الذي عرف به اليونان بالسمع الذي اختص به المسلمون.
ويستعمل لفظ الحكماء على الإطلاق أو على التخصيص كاتباع لأرسطو أو مع العلماء أو المناطقة أو الموسيقيين أو الطبيعيين أو الفلكيين أو الأطباء الإلهيين وهو الأغلب أو على التخصيص بالحدوث مثل حكماء الصدد الأول إيجابا أو المتكلمين سلبا.
70
فالحكماء على الإطلاق حملة الحكمة مثل العلماء حملة العلم، وهو علم أصول الدين وحقائق المعرفة، معرفة الله سبحانه والإقرار بربوبيته. وهم العلماء حملة العلم الذي تبينه الأنبياء.
71
والحكماء في سلوكهم وأخلاقهم قدوة. ولا يقبل الله العمل إلا من العالم العارف. وهو سنته وسنة الحكماء من عباده والمصطفين من أوليائه وأنبيائه. ورسائل الإخوان شرح لأقوال الحكماء وبيان لمبادئهم لطالبي العلوم. وبالرغم من اختلافهم في الآراء وتباينهم في المواقف إلا أنه لا خلاف بينهم في الأحوال والأصول. فالحكمة أصل واحد. كما أن الحكماء والفلاسفة من أهل التوحيد يختلفون في الألفاظ فيما يتعلق ببدء الخلق ولكنهم يتفقون في المعاني والأغراض. الخلاف في الألفاظ والأسماء بين الحكماء فيما يتعلق بالجسم الكلي وهو العالم بأسره والنفس الكلية المحركة له والعقل الكلي وهو القوة الإلهية المؤيدة للنفس الكلية. وهي ما تسميه الحكماء الملائكة الروحانيين طبقا لعملية التشكل الكاذب، التعبير عن المضامين الدينية بعدة ألفاظ فلسفية. والحكماء يستعملون الرمز لأن علومهم مستغلقة لا يقدر عليها إلا أذكياء القلوب وأصفياء الذهن، ومن أراد الله له السعادة في الدنيا والآخرة. قد يستعمل الإخوان لغة الرمز بين الحيوان والحكماء تسهيلا للأفهام وشرحا للمعاني. ويشبه أسلوب الحكماء الرمزي أسلوب الأنبياء والأمثال المضروبة في القرآن.
72
وقد يذكر القدماء من الحكماء مع العلماء كحملة للعلم مصنفين وشارحين له دون دلالة خاصة على الوافد أو الموروث. وهم المناطقة الذين يسمون الوصف الحد. البرهان ميزتهم يعرفون به الصدق والكذب في الأفعال والأقوال، والحق والباطل في الاعتقاد، والخير والشر في الأفعال. لذلك هم أتباع أرسطو في نصب البراهين، وهي المرة الوحيدة التي يتم فيها هذا التخصيص، وهم الموسيقيون الذين يتقنون صناعة الألحان، وهم الطبيعيون الذين قد يختلفون في حقائق وكيفيات الهيولي والصورة وماهيتها والزمان والحركة، ويرون أن النبات واسطة بين الإنسان والأركان، والأطباء الذين تحدثوا في العشق والمحبة وصفاء الذهن لا فرق بين طب الأجساد وطب النفوس.
73
وهم أخيرا الحكماء الإلهيون مما يكشف عن التوجه في النهاية نحو الموروث. هم الذين تكلموا عن حقائق الأشياء بالبراهين اللامعة والحجج الناطقة. وهم الذين وضعوا الميزان مع الفلاسفة من الحكماء والإلهيين من القدماء والعلماء. ويتفق الحكماء الإلهيون والعلماء الأقدمون في وصف العلوم الجسمانية والطبيعية، وقد قال الحكماء القدماء والأولون من العلماء إن الإنسان خليفة الله في الأرض مثل أن الملائكة خلفاء الله في الأرض، وترجم ذلك الحكماء الإلهيون والعلماء الربانيون بعلم علل الأشياء ومعلولاتها بعلم غامض لا يطلع عليه إلا المرتاضون بالعلوم الإلهية والحكمة الربانية المأخوذة من تلامذة الحكماء الإلهيين وخلفاء الأنبياء المرسلين تقيدا وإيمانا وتسليما. فلا يقوى على منهج الفلسفة إلا المتدينون ولا على الحكمة إلا ورثة الأنبياء. ولا يعرف العلل والمعلولات على ما حكته العلماء وأخبرت به الحكماء إلا أهل الفلسفة الحكمية والشرعية الدينية المتفقين على المعاني الحقيقية، وهم الحكماء الأولون والعلماء الإلهيون في معرفة العالم العلوي واستقامة أمور الأفلاك بالنسب الفاضلة والقسمة المعتدلة لا تضاد فيها ولا زيادة أو نقصان، فعل شيء فيها على قدر موزون، لا فرق بين النبوة والحكمة. يتفق الحكماء الإلهيون والعلماء الربانيون المخصوصون بالعلوم العقلية والتأييدات الفلسفية ومن تبعهم واستجاب لهم وانقاد إلى أوامرهم ونواهيهم الإيمان بالجن وهو المسبحون في البقاع الطاهرة والمساجد العامرة، وفقهاؤها وحكماؤها من آل إدريس وبني بلقيس وأولاد كيوان وبني هامان وآل لقمان وأولاد بهرام وبني ناهيد. ويزاد عليهم آل بقراط وآل أفلاطون وذرية أرسطوطاليس. هنا ينضم الوافد إلى الموروث في الإيمان بقضية الجن. وهم الطائفة المخصوصة بالعلوم العقلية والآراء الفلسفية والمذاهب الربانية الإلهية، لا فرق بين حكمة فارس وحكمة يونان، بين الواقع والخيال، بين الإنس والجن.
74
يقول الحكماء والعلماء إن العالم إنسان صغير وهو ما ترجموه من كتب الفلاسفة الإلهيين والقدماء. يعني الحكماء بالنفوس الجزئية القوة المنبثة الهابطة إلى المركز السفلي المشتاقة إلى عالم الطبيعة المتخلفة عن قبول الإفاضة العقلية. هنا تبدو لغة الفيض التي تجعل الحكمة قريبة من النبوة والنفوس الجزئية منبثقة من النفس الكلية وتخلفت عنها. كان الحكماء من الصدر الأول، وهو تعبير إسلامي، يدخرون لأنفسهم موضوع العقل والعقول بعيدا عن الناس إلا لمن يثقون به ويأخذون عليه العهد والمواثيق، وكانوا يسمونه علم البلاغ. لأنه به تتم معرفة الأشياء بحقائقها والاطلاع على كيفية وزنها بميزان القسط والحق. والمعنى الروحي للموازين هو صفاء النفس. والغرض من هذا العلم من الحكماء والفلاسفة والعلماء الاقتداء به. وقد شاهد الحكماء والنجباء الراسخون في العلم بصفاء نفوسهم ونور عقولهم جواهر غير جسمانية سارية في الأجسام.
75
يتفق الحكماء الأولون والعلماء الربانيون في نفس الأغراض. إن الحكماء في ذكرهم الهيولي والصورة إنما ينبهون النفوس اللاهية والأرواح الساهية الغافلة عن آيات الله بحيث يستعمل الوافد للتنبيه على الموروث. والحكماء الراشدون وأهل الحكمة والعلم الذين وقفوا على أسرار الأنبياء الصادقين، يعلمون الموازين المنصوبة يوم القيامة التي بها توزن أعمال العباد خيرا أو شرا. هي صورة نفسانية شفافة تتراءى فيها الأعمال لصاحبها ينظر إليها خروجا من التصور الشيعي إلى التصور النفسي، ومن التشبيه إلى التنزيه، ومن الكم إلى الكيف. والرؤساء هم المستخلفون في شرائع الأنبياء بعد ذهابهم لهداية الأمة، والذيابة عن الأئمة، وتأويل ما نطق به الحكماء، وما خفي من مرامي الأنبياء، فالأئمة المهديون هم المظهرون لحكمة الحكماء ونبوة الأنبياء. وقد دل الحكماء وصدق العلماء المؤمنون بالحاقة إشارة إلى تحقيق علم الله الذي أخبرت به الأنبياء. وعند الحكماء صورة الإنسانية منزلة ثالثة، الصراط المحدود بين الجنة والنار. والحكمة خارج الجدل والخلاف. هي أقرب إلى براهين الأنبياء مع تأويلات رموزهم وأسرارهم. لذلك يقرن الحكماء بالمتكلمين مما يدل على معنى اللفظ الموروث واستعمالها معا في القياس.
76
ويستعمل لفظ الفلاسفة بمعنى الحكماء وبصفة الإلهيين وهم في مناجاتهم لبارئهم بلفظ يا دهر الداهرين. وقد تخصص الفلاسفة الكرماء القدماء والأكابر من العلماء وأصحاب الفلسفة الإلهية والحقائق العقلية والأسرار المكتومة في موضوع الجواهر النفيسة. وإجماع الفلاسفة الإلهيين والأنبياء المرسلين والأئمة المهديين والمؤمنين والعلماء الأقدمين يدل على أنهم لم يجتمعوا إلا على الحق الصادق. والعقل اسم مشترك يقال على معنين أحدهما يشير إليه الفلاسفة، أول موجود اخترعه الباري سبحانه، جوهر بسيط روحاني.
77 (3) الموروث (أ) اللغة والشعر والثقافة العربية
ويتجلى الموروث في اللغة العربية وفي الشعر العربي وفي الثقافة العربية والعلوم الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي وفي الجغرافية الإسلامية. يتم الاستشهاد باللغة العربية وحروفها الثمانية والعشرين وتقابلها مع منازل القمر، وهو عدد متوسط بين القليل (تسعة عن الهند) والكثير (الصين). وأصل الحرف الخط المستقيم والخط المقوس. وغلظ الألف العربية مناسب لطوله. بل إن حروف كل لغات الأمم تقوم على التقويس والإنحناء للألف كما هو الحال في العربية. فالإخوان يصفون الكتابة العامة وليس كتابة اللغة العربية الخاصة. واللغة العربية خاتمة الكتابات، وحروفها تمام الحروف كما أن الشريعة آخر الشرائع ومحمد خاتم الأنبياء. وتبدو آثار حكمة الله في اللفظ العربي. الحروف أ - ب - ت - ث مشتركة في كل الأشياء، ومطابقة للأعداد والموجودات، ويتفرع منها ما لا يحصى ولا يعد، وتطابق جسم الإنسان وأعضائه. ولما كانت لغة العرب أكمل اللغات فقد طابقت جسم الإنسان أتم الصور. ونسبة اللغة العربية لباقي اللغات مثل نسبة الإنسان للحيوان. ولما كان الإنسان أكمل أنواع التطور كذلك اللغة العربية نهاية المطاف لا تنسخ ولا تتبدل، زيادة أو نقصانا. ولما كانت اللغة العربية بحروفها التامة لغة القرآن دون بها كل شيء فإنها تكتب بأحسن الخطوط وأقومها وأتمها وأكملها من أجل الحفاظ على أصول هندسية تنبني عليها، البعض منها مستقيم كالألف والبعض مدور كالقاف والميم، والبعض مقوس كالحاء والخاء. وإذا دخلت بعض الحروف الأعجمية في العربية فإن ذلك لا يتعدى اللسان حفاظا على نقاء اللغة. ويؤسس الإخوان علم الصوتيات حركات اللسان والشفتين. وهما أربعة عشر حرفا، والأربعة لها مخارج أخرى غير اللسان.
78
وتدخل لام التعريف على أربعة عشر حرفا؛ أي على نصف الحروف.
79
وتحلل معاني الكلمات اشتقاقا في اللغة العربية لمعرفة معاني الكلمات. فالسماء كل ما علا الرءوس لذلك يسمى السحاب سماء وجبالا لتراكمه فوق بعض. والكفن في لغة العرب الغطاء، وهو ما يعرض للنفس من جهة الجسد. والكلام هو الصوت المخصوص للإنسان. اللغة العربية والفارسية والرومية أصوات. وتستعمل معاني الألفاظ في اللغة العربية لفهم معاني القرآن فاللواقح في
وأرسلنا الرياح لواقح
فاعلة وأصلها ملاقح، وأصبحت على القلب والتبديل ما دام المخاطب فاهما. ولفظ «البعث» في اللغة العربية يدل على ثلاثة معان؛ الإرسال في
فبعث الله النبيين ، وبعث الأجساد الميتة وحشرها
أئنا لمبعوثون ، وبعث النفوس الجاهلة من الغفلة، تدرجا من المعنى الحسي إلى العقلي إلى الروحي. ومعنى الدين في لغة العرب الطاعة التي تبين من خلال الأوامر والنواهي؛ أي الشريعة. ويتم شرح الشعر أيضا لغويا. فالأخيار يسبحون الله بالليل. فهم أحياء عندهم وإن كانوا أمواتا. والأشرار موتى عند الله وإن كانوا في الدنيا أحياء. وكذلك يطلق السحر في اللغة العربية على البيان والكشف عن حقيقة الشيء وإظهاره بسرعة العمل أو الأخبار عما يكون قبل كونه، والاستدلال على ذلك بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك أو الكهانة والزمل والفأل أو سرعة البيان وإقامة الدليل والبرهان. ويعبر بالأسلوب العربي وضرب المثل بزيد وعمر وخالد وموسى وعيسى على صلة الشخص بالاسم أو المتقدم بالمتأخر.
80
وتختلف لهجات العرب كما تختلف كل اللهجات. وهو اختلاف مقبول إنما الاختلاف المذموم في الآراء والديانات والمذاهب التي ظهر الإسلام ليوحد بينها، واللغة العربية أتم اللغات. لذلك لا يمكن النقل من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لاختصارها وإيجازها. ثم يدرس الإخوان نشأة اللغة العربية وتطورها. فأول من نطق بها يعرب بن سام. ثم اتسعت عبر الزمان وتزايدت بتزايد العرب وانتشارهم في الأرض بحسب اتفاقات في مواليدهم وبقائهم وأمزجتهم وطباعهم وأبدانهم وهويتهم حتى تعددت في القبائل ووقع الاختلاف في الأسماء للشيء الواحد فنشأ علم العربية. هذه الحكمة الإلهية في خلق الموجودات وتسميتها سبب نشأة اللغات. يجمع الإخوان بين نظريتي التوقيف والاصطلاح في أصول الفقه. ومن عجائب اللغة العربية هو هذا التعدد في اللهجات والوحدة في اللغة، التعدد في الأعراف والشريعة واحدة، التعدد في القراءات والمعنى واحد، على عكس باقي اللغات التي يغلب فيها التعدد على الوحدة في اللغات والآراء والديانات. ونظرا لتباعد العرب بين البدو والحضر تباعدت اللهجات حتى احتاجت إلى البيان والإيضاح. الخمسة أيام من الأحد إلى الخميس في اللغة العربية واحدة. الاختلاف منفعة من أجل الفهم والإيضاح عما دعت إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا وكان الإخوان يشرحون
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . واختلاف الألسنة والألوان عامل إيجابي لتأكيد الوحدة من خلال الاختلاف.
81
ويتم شرح آراء الحكماء بالشعر العربي وهو أكثر حضورا من الفلسفة، تركيبا للوافد على الموروث. يستشهد به على مغادرة النفس البدن كما فعل ابن سينا في القصيدة العينية ولتهييج النفوس وتشجيعها على الحرب ووضع الحروب ومدح الشجعان، وقد يكون الشعر عربيا دون تحديد وقد يكون محددا بشاعر مثل البسوس التي كانت أشعارها سببا لإثارة القتال بين قبيلتين، إثارة للضغائن، وتحركا للنفوس، وفي استشهاد الحسين. وهناك شعر يشجع على الإقدام والفروسية. ويتم الاستشهاد بالشعر على العشق باعتباره جنونا إلهيا لا علاج له إلا بالدعاء والصلاة والصدقة مثل شعر عمرو بن حزام ومعظم الأشعار في النفس، علومها واعتقاداتها وعاداتها، والكلام النفسي في مقابل الكلام اللفظي والحرفي (الخطي)، وخلودها وانتقالها من حال إلى حال. ويضرب المثل بالشعر على لذة العاشق بالمعشوق. تسره رؤيته وتؤلمه خيانته، لا فرق بين الآلام الجسمانية والروحية. بعض الاعتقادات والآراء مؤلم للنفوس ومحير ومشكك لها. العشق عند بعض الشعراء شد الشوق إلى الاتحاد كما قال ابن الرومي، وازدياد الشوق يوما بعد يوم. كل نفس إذا أحبت شيئا اشتاقت إليه وطلبته وعرضت إليه، وفي العشق تنبيه للنفس من غفلتها وإيقاظ لها من نومها وجهالتها. فتستريح النفس من عنائها ومقاساة صحبة غيرها، وتخلصت من السقام الذي يعرض لعاشقي الأجرام ومحبي الأجسام كما وصف الشعراء. وإذا ابتليت الأنفس بعشق آخر ومرت بها الأهوال والمحن ولم تنتبه إلى نفسها فإنها تظل غريقة في عمائها. سكرى في جهالتها كما قال امرؤ القيس. ويضرب المثل بالشعر العربي في مدح الخيل في القتال ومدح الفارس وإقدامه وصبره على الطعن والبراج. وتفسر أقوال الحكماء بالشعر العربي شرحا للوافد بالموروث. والعروض ميزان الشعر العربي وهو ثمانية مقاطع فيه تمثل قوانين العروض وأصوله والتي فيها يركب الغناء العربي في ثمانية أنواع هي مفاعيل أشعار العرب. لم يذكر الإخوان مؤلفات الكندي أو الفارابي إما لأن مؤلفاتهم كانت سابقة عليهم أو ربما إغفالا لها لانتباههم إلى الوافد. وتتقابل اللغة والشعر والجنان وحملة العرش والثيران في العدد ثمانية، وقوانين الألحان العربية أو الغناء العربي ثمانية. هناك صلة إذن بين اللغة والموسيقى والشعر والأخلاق. ولما كانت اللغة العربية أتم اللغات فإن الأخلاق الناشئة عنها أكمل الأخلاق وتهذيبا للنفوس. ولا يعرف الأخيار إلا الأخيار كما قال الشاعر. ويشارك في الشعر ليس فقط الشعراء بل الحكماء.
82
ويضرب المثل بالشعر العربي على الكمال الإلهي للواحد القهار العزيز الغفار الشديد العقاب ويخص بالذكر أمثلة من الفيطوري الميمون المبارك في تسبيحه والهزاردستان اللغوي الكثير الألحان في غنائياته. وتتفاوت هذه الأشعار بين ما هو معروف مثل وصف امرؤ القيس لجواده في القتال وما كان معروفا في عصره وأصبح أقل شهرة عبر التاريخ. وقد يكون الشعر منسوبا إلى صاحبه وقد يكون غير ذلك من وضع شاعر أو ربما من وضع الإخوان. ويستشهد بالشعر في عدة مقاطع متتالية في وعظ بني آدم وتذكيرهم بملوكهم الماضية والأمم السالفة واعتبار ما هو أبقى كما يفعل الصوفية. ويضرب المثل بأبيات شعرية عديدة ضد الاستغراق في شهوات الدنيا ونسيان الآخرة، وتحذيرا من الوقوع في الظنون والشك والحيرة جزاء لهم على تركهم وصية الله ووحي الأنبياء واتباع العلماء والحكماء فيما يدعون إليه ويرغبون فيه من نعيم الآخرة ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا والنهي عن الغدر بشهواتها. ويستشهد بالشعر على أن تحقيق الوعد وخلاف الوعيد كرم وصفة رحمة وإشفاق وسماحة وإنعام. وهي من الخصال الحميدة التي تليق بفضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه. بل يظهر الشعر في الأحلام بالسريانية والعربية. وينقد الإخوان تجربة انتظار الخلاص على يد المهدي مع التمني بالمجيء والاستعجال للظهور ثم يموت المنتظر حسرة إذا لم يظهر الإمام ولم يعرفه. فالخلاص عن طريق النفس وليس عن طريق الإمام انقلابا للتشيع من الخارج إلى الداخل. ومهما تغيرت الأجسام فإن النفوس لا تتبدل، وتظل النفس في رؤيتها ومشاهدتها بعين الحقيقة وهي ألا ترى أحدا في الدارين غير الله. كما ينقد الإخوان من يقول من الشيعة إن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، وينقدون من يقول باختفاء الإمام المنتظر خوفا من المخالفين مع أنه ظاهر بين أيديهم يعرفهم وهم له منكرون كما قال الشعراء.
83
وبالإضافة إلى اللغة العربية والشعر العربي تبرز العلوم النقلية أكثر مما تبرز العلوم العقلية النقلية. فلا يحيل الإخوان إلى فلاسفة الإسلام السابقين عليهم الكندي، والرازي، خاصة وأن الرسائل تعبر عن صورة الفلسفة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بعد عصر الترجمة. والفارابي تال لهم. ربما لأنهم يعبرون عن الثقافة الفلسفية الشعبية وليست الثقافة النخبوية التي يمثلها الفلاسفة، تجمع بين الدين والفلسفة، العقل والخرافة، العلم والأسطورة، باستثناء ذكرهم الرياضي واحد هو الكبال الذي شغف بحساب المتسعات. لذلك يقترن الحكماء بالفقهاء، والوافد بالموروث النقلي. بل إنهم يردون على علماء الزمان الناظرين في علوم النجوم، الشاكين في أمر الآخرة، المتميزين في أحكام الدين، الجاهلين بأسرار النبوات، المنكرين للبعث والحساب لإثبات صحة أمور إلهية من صناعتهم والاحتجاج عليهم بعلومهم لإفهامهم ذلك بلغتهم. فالإخوان يمثلون حركة إيمانية، رد فعل إلى الداخل، حنبلية صوفية، شعبية خرافية. ولكنهم يخاطبون الخصوم بلغتهم رد فعل على العصر. يمثلون تيارا في الفنون الشعبية والموسيقى والألحان في الأفراح والأعراس والولائم السائدة في زمانهم.
84
ولكن العلم الموروث بالأصالة هو علم الرواية والأخبار، بدايات علم التاريخ. إذا كانت الأخبار غير متواترة قبل سمع الخبر أو في الأثر لعدم الجزم بصحة الرواية ونقل الحديث معنويا إذا كان مشكوكا في صحته التاريخية. يأتي العلم عن طريق الرواية والحكاية مثل الحديث عن التنجيم والمنجمين مع المأمون وأحد المتنبئين الذي قرأ الطالع؛ حيث وقعت الشمس والقمر في دقيقة واحدة في الصحن، وخاتم يضحك من يلبسه لعلاج الطلسمات. فالتاريخ المحلي ليس فقط تاريخ الصحابة بل تاريخ السحر، حكاية من المأمون في صيغة رواية من علم الحديث، وخطورة السحر في التنبؤ في حين أن لا يعلم الغيب إلا الله. وشرط العلم شيوعه وبرهانه وعموميته والسحر ليس كذلك. وقوانين الطبيعة والجهل ليس علما. وهي نفس أسطورة الخاتم لمقابلة أسطورة أفلاطون. ويستمر الاستشهاد بالتاريخ من الأمويين إلى العباسيين الذين خطبوا على المنابر وطالبوا بثأر الحسين وطرد البغاة من بني مروان حتى ظهور المهدي المنتظر من آل محمد، وأولاد العباس رمز للاضطهاد. ويهاجم الإخوان جماعة جعلت التشريع والعلوية ستارا لهم لارتكاب كل محظور وترك كل مأمور، وهم ينتسبون إلى التشيع بأجسادهم لا بأرواحهم، ولا يعرفون من القرآن إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه. لا يدرون الفقه ولا الشريعة، بعيدون عن أدلة الملة والشيعة.
85
ولا تغيب الثقافة الفارسية، لغة ومصنفات؛ إذ تحضر بعض المصطلحات الفارسية والمصنفات الفارسية في الرسائل نظرا لارتباط التشيع بها، وتذكر كليلة ودمنة، وبرزويه الطبيب استشهادا على أن العمل في الطبيعة لله، وأن الدنيا للآخرة في إطار التصور العام للموروث، فكما يزرع الزارع ويحصد، رغب أم لم يرغب كذلك يعمل العامل صالحا رغب في الجزاء أم لم يرغب.
86
وتتحول الأخبار إلى تاريخ، ويذكر الإسلام كعنوان عام للتاريخ الإسلامي، دخول الإسلام طوعا أو كرها مع أنه
لا إكراه في الدين . ويتصدر علي بن أبي طالب التاريخ الإسلامي باعتباره مصدرا للعلم؛ إشارة إلى الأقلية عددا الأعظم قدرا، الحريصين على العلم، الباحثين عن اليقين. وهم الذين خلوا للأبد من دار الرداء، من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة النار.
87
ويبدأ التاريخ من أول النبي ودعوة الرسول آل بيته أولا، زوجه خديجة، ثم ابن عمه عليا ثم صديقه أبا بكر ثم مالكا وأبا ذر وصهيبا وبلالا وسلمان وحييرا وبشارا حتى أصبحوا تسعة وثلاثين رجلا وامرأة. ثم دعا أن يعز الله الإسلام بأحد رجلين أبي جهل أو عمر. فأسلم عمر وأصبحوا أربعين. فأصبحت الدعوة علنية بداية بتأسيس الحزب الثوري تاريخيا، الجيل القرآني الفريد بلغة المعاصرين، كان أبو جهل قويا مثل عمر لكن في الشر، والاستجابة لعمر تضع قضية الصلاح والأصلح. والاكتمال إلى الأربعين رمز موسى. هاجر الرسول من مكة إلى المدينة. وتعرض المشركون من أهل مكة إلى المؤمنين المهاجرين الضعفاء بالأذى. وإخوان الصفا ما هم الاستمرار لجماعة المضطهدين الأوائل. وفي غزوة بدر طالب المشركون المبارزة فخرج إليهم حمزة عمه وعلي وأبو عبيدة. ويوم أحد اشتد الأمر وهزم الناس. وبقي في نفر يسير. ولما قتل خيار أنصاره وفضلاء المهاجرين وكسرت رايته طلب منه الدعاء على المشركين فرفض، وخرجت إحدى نساء المدينة للتعرف على زوجها ثم أبيها ثم أخيها. وقد استشهد الكل وفي بقاء الرسول عوض عنهم. فالمهم الشخص الرمز، القائد والبطل. فالزعامة له والقيادة للأقلية. وقد خدع كل من الحكمين صاحبه يوم صفين. ولم يرد كلاهما إصلاحا، بل أضمرا الحيلة فلم يوفقا في الصلح. ورجع علي غير راض بذلك. فالخداع في التاريخ. وقد أثر ذلك في التربية والرغبة في الثأر. وقد وصفه الرسول بأنه أبو هذه الأمة، ويحول الإخوان كل ذلك من الجهاد الفعلي إلى جهاد النفس لخلاص البدن، وتأكيد الأبوة النفسية للرسول ولعمر ولعلي. وكان ذلك كله بفعل المسلمين وليس قضاء وقدرا. سلم المسلمون أجسادهم يوم كربلاء راضين. ويفسر الإخوان التاريخ الإسلامي الأول باعتباره تاريخ فتوحات للنفس وخلاص لها من البدن. فقد قتل عثمان بالرغم من رغبة عبيده الدفاع عنه. فقد بشره الرسول بأنه ولي هذه الأمة بعد عمر ووعده بالبلوى وبإراقة الدم. ورفض عثمان ذلك ووعد من كف عن القتال بالحرية رفضا للعنف بالرغم من أفعاله التي كانت أحد أسباب الثورة عليه، وأخذ المصحف في حجره وقرأ في
فسيكفيكهم الله . ورضي بقضاء الله وعلمه، واستسلم للمقادير بنفس راضية. وحدث نفس الشيء يوم كربلاء عندما اشتد بالحسين العطش واشترط لإعطاء الماء النزول على حكم ابن زياد فرفض إلا حكم الله، وعلم أنه مقتول فقاتل، وقتل راضيا بقضاء الله والمقادير طيب النفس، وحلم رجل بالعراق أنه في بلاد الروم في كنيسة مشتعلة بالقناديل دليل على تحرر النفس من الجسد وحث الملاك له بالسريانية ليكون عظة على تحرر الإنسان من جسده ومكانه وقيود الشريعة. وواضح أن الإخوان يفسرون التاريخ منذ هابيل وسقراط والسحرة والمسيح وأحد والحسين بالرضا بالقضاء والقدر وليس الاستشهاد الحر والمقاومة. وقد ساعد الرسول أهله على إخراج الامتداد من نفوسهم. وأبلغ بذلك عليا بغدير قم، وهو أحق الناس بعد غيبة صاحب الشريعة وبعد قتل صديقه ذي النورين والأئمة من بعده بعد الحزن على ما ضاع من بيت النبوة وقتل الحسين بكربلاء والشهداء، وواضح من هذا كله أن فكر الإخوان هو بلورة للفكر الشيعي الذي يعبر عن فكر المضطهدين، وإعادة تفسير هزيمة البدن بأنها نصر للروح، وأن تاريخ الرسول مع معارضيه مثل أبي جهل هو تاريخ للحسد. وقد وقع الخلاف في الشريعة بعد وفاة الرسول طلبا للرياسة والمنزلة حتى استشهاد الحسين. ويستشهد الإخوان بأقوال رئيس قريش أمام كسرى عن حالهم «البر بالصغير حتى يكبر، وبالعليل حتى يبرأ، وبالغائب حتى يرجع»، ورفض الرسول موالاة آلهة الكفار وأقوال الحسين ضد أئمة السوء الذين جلسوا على باب الجنة فلا يعملون حتى يدخلوها ولا تركوا غيرهم يدخلها. يراجع الإخوان التاريخ السياسي منذ وفاة الرسول، ويعتبرون أنفسهم استئنافا لأئمة آل البيت والمستبعدين من الحكم والمضطهدين من الحكام، كما عبر عن ذلك الشيعة في العقائد والإخوان في الفلسفة.
88
وبالإضافة إلى التاريخ الإسلامي تظهر البيئة المحلية الجغرافية البشرية والطبيعية مما يدل على نشأتها الداخلية. فيتحدث الإخوان عن قبائل العرب، قريش وتهامة، وعن مقادير أراضي العراق، وضرب المثل للنسبة بالبغداديين والبصريين والخراسانيين، وللجماعة بالهاشميين والعلويين والربعيين. وتتحول الجغرافيا إلى رمز روحي. فبحر طوطوس كرة الأثير لعذاب النفوس، وبهرام في الطالع من ناحية المشرق وبخراسان وإن كان في وسط السماء فإنه يكون بناحية اليمن نحو القبلة.
89
وفي «الجامعة» تبدو صورة الموروث تماما كما هو الحال في الرسائل الواحد والخمسين؛ اللغة العربية والشعر العربي والعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي والجغرافيا المحلية. فالمعرفة باللغة العربية من شروط العلم، بالإضافة إلى العلوم الرياضية والفلسفية والعقلية والعلوم الإلهية والكتب النبوية المنزلة. وتظهر في المعاني الاشتقاقية للألفاظ مثل الجن المشتق من الجنان والأجنة. والاستجنان تعني البساتين ذوات الأزهار والفواكه والثمار، جنات وجنان، والتكوير بمعنى التدوير والتيسير وبمعنى الستر والتغطية والغيبة. ويحرص الإخوان على نقاء اللغة، والجغرافي بالرغم من أنه لفظ معرب يعني الدولاب والقصد منه صورة الأرض، ويثبت الحديث بالشعر مثل حديث الجهاد الأصغر، جهاد العدو، والجهاد الأكبر، جهاد النفس ونسبة رؤساء الجاهلية رؤساء القبائل بالنجوم وأصحاب الرتب العالية من الملوك بالشموس والأقمار والأمثلة، واستهجان من يهوى العجائز دون الحسان.
90
كما تظهر الثقافة المحلية من المتكلمين والحكماء والثنوية والإسلام واليهودية والتاريخ والجغرافية المحلية. فالمتكلمون والحكماء يستعملون القياس. ومن المجادلين طائفة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة لإثبات بقاء النفس بعد فراق البدن وإلا تعطلت الأحكام. وهي عقيدة تقربها كل الأديان والشرائع. وتقول الثنوية بثنائية الخير والشر، فعلين متضادين غير متفقين بهما، خالقان متضادان غير متفقين. وينقد الإخوان هذا المذهب اعتمادا على ما يشبه دليل التمانع، استحالة وجود إلهين. فالله هو فاعل الخير والعالم خير، والشر عجز ونقص. ويضرب مثل الكافر الغني والمؤمن الفقير واليهودي عزير والمسلم في البحث عن الحكمة. وتذكر أقوال علي بن أبي طالب مثل «بهرنوري نيرانهم»؛ أي إن علمه أزهق به باطل أهل الخلاف. ومن التاريخ المحلي تعطي خصائص الشعوب وطبائع العجم وطواعية الوحي لها مثل الاحتراس من البرد، وعادة الحجاز في الحج إلى البيت الحرام بكشف الأبدان، وإسراع أهل الحجاز لقبول الرسالة. وتذكر البقاع مثل بلاد المغرب وبلاد المشرق كنقطتين للأسفار، ومنارة الإسكندرية والأهرام كنماذج للعمران.
91 (ب) القرآن والحديث
وتكثر الآيات القرآنية في رسائل الإخوان فتتجاوز الألف آية، نصفها في الجزء الرابع، والنصف الآخر في الثاني ثم الأول ثم الثالث. وهو أكبر حشد للآيات في مؤلف إسلامي يدل على سيادة الموروث سيادة كاملة على الوافد بالرغم من الحكم الشائع على الإخوان بأنهم أتباع اليونان يوفقون الشريعة الإسلامية على الحكمة اليونانية مع أنهم يستخدمون الفلسفة لإثبات العقائد.
وتهدف كثرة النصوص إلى توجيهها كحجة سلطة إلى العقول العامة ونزع أسلحتها وملاحقتها حتى تستسلم نهائيا كما تفعل الحركات السلفية القديمة والمعاصرة. فهما من الموروث الأصيل ولا يمكن الاعتراض عليها أو مناقضتها بآيات أخرى وإلا لكان القرآن متناقضا أو اللجوء إلى أسباب النزول التي لا تتحملها المواقف الانفعالية وسرعة التصديق وأهمية التجنيد والعمل المباشر.
92
وتتكرر الآيات أكثر من مرة لأنها شحنة نفسية يتم تفسيرها في أكثر من موضع لتطابقها مع المضمون النفسي للقارئ. وتتوالى الاستشهادات الآية تلو الأخرى كما هو الحال في خاتمة رسالة العدد وبعد الإعلان عن المادة، بناء الرياضيات والطبيعيات والإلهيات داخل علم النفس. تتكرر الآية كاللازمة في الموسيقى والشعر لإحداث الايقاع النفسي المطلوب، العود على بدأ، والتنويع على اللحن الأول، البداية والنهاية من أجل الإيقاع.
93
وأحيانا لا يكون ذكر الآية مسبوقا بقال تعالى، بل على لسان الأنبياء، وكأن القرآن حوار بين الأنبياء وجدل مع الخصوم وحجج للإقناع. وتختلف أسماء السور مثل سورة يونس وسورة بني إسرائيل. فما يهم ليس السورة بل كيفية استخدامها.
94
ويذكر الإخوان الآيات في فواتيح الخطاب حتى ولو كانت للحيوان كما يفعل خطيب المسجد وشيخ القرية ابتداء من حجة السلطات وكضربات متلاحقة تجعل الشيخ قابلا الدعوة مهيئا للاستماع، طيعا للأوامر، سهلا للتجنيد. وقد لا تكون الآيات مترابطة فيما بينها في موضوع واحد تعطي استدلالا واحدا بل مجرد ضربات متلاحقة مهمتها تسخين الموقف وتهيئة القارئ للاستسلام.
وأحيانا يذكر القرآن بمفرده دون وصفه وأحيانا يوصف بأنه القرآن المبين، وأحيانا يسمى الفرقان.
95
ربما تكثر الإفاضة في بيان الموروث مثل القرآن والحديث كرد فعل على الاستشراق الذي يخرج القرآن باعتباره مصدرا للعلم من مركز الحضارة الإسلامية؛ لأنه ليس كذلك في وعيه، بل القرآن نفسه تاريخ، كما أنه خاضع للنزعة التاريخية فكل شيء يأتي من التاريخ لتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها وإبداعها وجعلها مجرد نقل من مصدر خارجي مثل الحضارة الغربية. فقد نشأت العلوم الأوربية الحديثة ضد الوحي وليست منه.
وأحيانا يكون القرآن مجرد استمرار يثري العبارة وليس استشهادا كنوع من القرآن الحر كي تكون العبارة أوقع في النفس، وكأن القرآن هو القادر على التعبير على الواقع المشاهد، استمرارا للنثر العربي. يستعمل القرآن الحر كبديل عن العبارة. فلا توجد عبارة أبلغ وأوقع من الآية القرآنية. القرآن كتاب عربي بلسان عربي مبين. وهنا لا يبدو فرق بين كلام الله وكلام الإنسان وكما فعل السهرودي في «الغربة الغريبة» حتى ولو تحول إلى سحج ركيك على نقيض موسيقى القرآن. وأحيانا يختلط القرآن المباشر بالقرآن المرسل الأحداث الأثر اللغوي النفسي المطلوب. ويكثر هذا الأسلوب في الرسالة الثانية عن الحيوان في الطبيعيات.
96
وقد تعلم الناس القرآن بلسان فصيح بعد أن تلاه النبي لأن العربية أفصح اللغات.
وتتحول بعض الألفاظ القرآنية إلى صور فنية للإيحاء بالبيئة الإسلامية. وتظهر المصطلحات القرآنية مثل البعث والنشور والقيامة والحساب والمعراج. كما تدخل الآيات كعناصر فنية في بناء القصة. وتستعمل أسماء الجن المزيد من التصوير حتى ولو كان الموضوع خرافيا مثل حسن طاعة الجن وتشم الروح والريحان.
97
وتجمع الآيات كلها حول موضوع واحد مما يؤشر على بدايات التفسير الموضوعي للقرآن من أجل معرفة بنية الموضوع والانتقال من النص إلى العالم ومن الوحي إلى المجتمع مثل صفات المؤمن وأهل الخير وأمة الآخرة وثواب الأخيار وصفات الكفار وأنفس الأسرار والأمثال.
98
ويستعمل لفظ «القرآن» أكثر من مائة مرة إما بمفرده أو مقرونا بالتوراة والإنجيل بلا ترتيب النزول، مما يدل على وحدة الأديان في بنيتها وليس فقط في تاريخها. وقد يذكر القرآن وحده أو مع الانجيل أو مع التوراة. وقد يخصص بعض كتب التوراة مثل ألحان داود أو الزبور. ومع ذلك فالقرآن مهيمن على باقي الكتب لأن الإسلام آخر الأديان والشريعة الإسلامية آخر الشرائع، وتثبت الكتب المنزلة كلها حقائق واحدة مثل أن الطبيعة مخلوقة للإنسان، ووصف الطبيعة والفلك والجنة والنار وحسن طاعة الجن لرؤسائها والاستعاذة بهم بقراءة آيات منها حتى لا يتعرضون للناس بالأذى، ومقاييس الخير والشر، وقراءتها في المساجد والمعابد والصوامع وبيت الله. وقد كان لداود ملحنين وقراء. كما تعبر قراءات متعددة للقرآن وتلاوته. ويستعمل لفظ الإنزال للقرآن وحده الذي أنزل على صاحب الشريعة.
99
والقرآن حركة طبيعية يستأنف عندما ينقضي الدور دلالة على تطور الوحي وإعلانه على مراحل في التاريخ.
100
وأحيانا يكون القرآن مصدرا للأخبار، أخبار الأنبياء مثل حوار موسى مع السحرة والخضر، وهو أيضا مصدر للعلم عن الطبيعة والتاريخ فالزمهرير رح عاد.
101
ويكون مصدرا للعلم ببعض الموضوعات الدينية والكلامية مثل معجزات الأنبياء ووجود الروحانيين مثل الجن والشياطين وخلق القرآن والسحر، والحث على طلب العلم.
وأحيانا يكون النص استشهادا على موضوع وتأكيدا له نظرا للتطابق بين الوحي والواقع مثل الاستشهاد بآيات الفلك على سبح الأفلاك ومنازل القمر. يتم الحديث عن شيء ثم يذكر في القرآن تحقيقا للمناط على نحو عكسي، من الواقع إلى النص وليس من النص إلى الواقع مثل الروح والريحان، والتزهيد في الدنيا وذم الجدل، والاجتماع على خير، وتأليف القلوب، وتصفية الضمائر.
102
لذلك تتحول آيات القرآن إلى وصف الطبيعة سواء كانت البداية من النص إلى الواقع استنباطا أو من الواقع إلى النص استقراء، وقد ذكر المفسرون معاني الآيات، إنزال القرآن مثل إنزال المطر من أجل التوحيد بين الطبيعة والشعور ، اللغة والكون، العالم الأصغر والعالم الأكبر. يؤدي تفسير القرآن إلى العلم بأسرار الكون كما يؤدي تفسير الكون إلى العلم بأسرار القرآن. القرآن ليس حرفا بل طبيعة، وليس شكلا بل مضمونا، اللغة فيه تحيل إلى العالم وكما يدل على ذلك المعنى المزدوج للفظ «آية». الألوان في الطبيعة رمز على تعدد البشر واختلاف الألسنة والألوان.
103
وأحيانا لا تطابق الآية المعنى، بل توجد آيات أخرى أكثر تطابقا. فليس المطلوب معنى الآية بل الاستشهاد بها لتطابق الحالة النفسية والاجتماعية للقارئ.
ويبدو استعمال النص أحيانا على نحو شرعي فقهي يشرع للناس. مع إطلاق الأحكام دون تقيدها، إثباتا للعموم لا للخصوص، وتحويل الآيات إلى أحكام عقلية وفي نفس الوقت استحالة الاختلاف بين الطبيعتين، الدليل والحكم، اللغة والقضية. والأغلب أن القرآن حوى كل شيء ولا حاجة إلى القياس الكاذب. فالموروث هنا ضد الوافد الأرسطي وضد الموروث التسلطي، قياس الفقهاء.
والقرآن ليس مجرد أداة للعلم ومصدر للخبر، بل له بعد باطني لا يدرك إلا بالتأويل. به سور طوال وأخرى قصار دلالة على سر الرجال وسر النساء والحروف المستعملة في أوائل القرآن سر لا يعلمه إلا الله. ويدافع الإخوان عن التأويل دفاعا عن التنزيه ضد التجسيم والتشبيه. فالحكمة هو التأويل. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الحروف بين القسم أو أن لكل حرف كلمة في حساب الجمل، أو أنها سر لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم والخواص من البشر وفد تظل أسرارا إلى يوم الدين.
104
وتظهر آيات الإيمان أكثر من آيات العقل، والنبوة أكثر من الحكمة، والغيب أكثر من الشهادة، واليقين أكثر من الشك. وتكثر الآيات في البعث والقيامة. فهي أسرع إقناعا وأوقع نفسيا من الحجة القولية على عكس الكندي والفارابي اللذين استطاعا صياغة خطاب عقلي لا نقلي قبل أن يركب ابن سينا كل ذلك عقلا، فلكل موضوع حجة نقلية لدرجة غياب الحجة العقلية حتى لا يترك شيء للمعارضة العقلية أو الفهم الذي يؤدي إلى فهم مضاد مع إن الحجة النقلية يمكن مناقضتها بحجة نقلية أخرى. ويتم تبادل الحجة العقلية والنقلية بين الإنسان والحيوان فيعترض الحيوان على الإنسان بالعقل ويعترض الإنسان على الحيوان بالنقل، سخرية من الإنسان. النقل للاتهام، والعقل للدفاع، النقل للاستعباد والنقل للتحرر، النقل للظاهر، والعقل للمؤول.
لذلك تستعمل آيات القرآن تملقا لعواطف الناس، واستدعاء للسلطة النصية تحريرا للنص من السلطة السياسية بعد زعزعة الولاء بها. وتستعمل كوسيلة لترقيق القلوب نظرا لأثر القرآن في النفس كما هو واضح في رسالة الموسيقى من أجل تخليص النفس من الظلمات بالإضافة إلى التأويل الإشراقي. فأسباب النزول عند الإخوان هو البناء النفسي للشعور. لم يجد الإخوان في القرآن إلا التأويل صعودا لا التنزيل هبوطا. وكلها مواقف حسب الأهواء وكأنها أسباب نزول جديدة، وكأن الآيات أنزلت على مطابقة للأحوال النفسية للإخوان. وقد ساعدت الآيات نفسها على هذا التفسير الشعوري لحديثها عن الأفئدة والقلوب
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وبالرغم من نهي النفس عن الهوى إلا أن اللفظ له موسيقاه.
وعيب ذلك كله هو كسر الاتساق العقلي، وانقطاع البرهان، واختيار الآيات التي توافق الأهواء ونزعها من سياقها وأسباب نزولها وهو ما يمكن معارضته بآيات أقرب في سياق آخر.
لذلك أكثر الله في القرآن مدح المؤمنين وذم الكافرين وبيان الوعد والوعيد والفلك وذم المريدين للدنيا ومدح المريدين للآخرة وبيان أوصاف أهل الجنة الروحية لا الجسمية، وسكان الجنان وهي ثمانية، وكذلك أوصاف أهل النار، وتكثر الآيات لبيان أن الديانات والشرائع ووظائف العبادات طرق ومسالك إلى الله كما أن القرآن نفسه وسيلة للتقرب إلى الله مثل الصلاة والصوم والتسبيح والدعاء، والقرآن أخلاق الإخوان كما كان الرسول يتأول القرآن بتهجده ليلا، والإقرار به من علامات الإيمان وبما أتي من الغيب، وهناك إحساس بالنصر، تعويضا عن الهزيمة كما هو الحال في جماعات الخلاص في تاريخ الأديان حتى الجماعات الإسلامية المعاصرة.
105
ويتم تأويل الآيات تأويلا فلسفيا طبقا لهرمس المثلث بالحكمة وهو إدريس النبي، إبهاما للعامة بالحقائق كنوع من الثقافة الشعبية الوجدانية لا العلمية ولا العقلية. وأحيانا يتم تقطيع الآية عبارة عبارة، بل ولفظا لفظا حتى يسهل تأويلها جزءا جزءا قبل التأويل الكلي. فلكل شيء ظاهر وباطن.
106
ومعظم الآيات المنتقاة آيات فردية نفسية أكثر منها آيات اجتماعية سياسية. متجهة إلى أعلى خارج العالم أكثر منها متجهة إلى أسفل داخل العالم، تأويل أكثر منها تنزيل، وتجمع آيات النفس كلها بالمئات. هو تأويل إشراقي خارج أسباب النزول وكأن الآيات نزلت على نفس القارئ مباشرة. لذلك يختار الإخوان كل ألفاظ الصعود دون النزول. والإشراق من الشمس، والقمر من الشمس والقمر من النفس الكلية، والنفس الكلية من العقل الكلي، والعقل الكلي فيض من الباري.
107
والتأويل في النفس وفي الواقع، في الداخل وفي الخارج؛ إذ لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. العلم هو العلم بتأويل الأحاديث وتصديق الرؤية. فالعلم واقع.
108
والغاية من هذا التأويل الباطن الانسلاخ من الدنيا والانعراج نحو الآخرة، والقضاء على الاغتراب في الدنيا من أجل التوحد مع الآخرة. وفسرت الآيات كلها تفسيرا روحيا بعيدا عن الحسن وكرد فعل على حياة البذخ والترف والانكباب على الدنيا. يتضح ذلك في الرسالة التاسعة، أطول رسائل الجزء الأول. ظاهرها العلم وباطنها التصوف مثل نهايات «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا. لذلك تكثر آيات العروج، عروج أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المحقين المستبصرين، كل في فلك يسبحون.
109
ويقوم هذا الخلاص على ثنائية الخير والشر، الثواب العقاب، الوعد والوعيد، الجنة والنار، الروح والبدن كما هو الحال في ثنائيات الصوفية التي تعرب عن رغبة جماعات الاضطهاد في الخلاص. وتأخذ الثنائيات أشكالا اجتماعية مثل الغنى والفقر، القوة والضعف، النبل والحقارة، القرب والبعد، الجود والبخل، الحياء والصلف، المهابة والصنعة، السلامة والسقم التي تكشف عن الصراع بين قوتي العدل والظلم، المضطهدين ضد المضطهدين، الجماعة السرية ضد النظام القائم، مما أنتج أخلاق العزاء والأمل في عالم أفضل، والعودة إلى النفس لإنقاذها بعد أن استعصى خلاص العالم. لذلك تم تفسير الآيات على نحو إشراقي عن العلم في النفس، والحرمان والطرد ومقاومة العدو والجزاء والعقاب. فتحولت العقائد إلى مأساة في الخلق والبعث. والآيات القرآنية نفسها تسمح بهذا التفسير الإشراقي كما تسمح بغيره من التفسيرات العقلية والاجتماعية والسياسية. فكل عصر يقرأ نفسه فيه. يكشف التفسير عن صورة العصر أكثر مما يكشف عن مضمون القرآن. القرآن مجرد مرآة عاكسة للعصر من خلال صورته في التفسير، تفسير الظاهر أو المقهور، الغني أو الفقير، القوي أو الضعيف، السلطة أم المعارضة، الدولة أم الشعب. (ج) آيات النسق
ويصعب التمييز بين آيات المنطق والطبيعيات والإلهيات. فكلها آيات إشراقية، منطق إشراقي، وطبيعيات إشراقية، وإلهيات إشراقية. تصب الحكمة كلها في إشراق النفس. المنطق ليس أداة للعلم لأن العلم إشراقي وأداته إشراقية. يأتي من الإسراء والمعراج كما فعل محمد ومن الكلام من الله كما فعل موسى،
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . المنطق علم إشراقي، علم نظري خالص، نور يهدي الإنسان، علم لدني من السماء. شرطه الزهد ومقاومة متاع الدنيا والتحذير من غرورها واللهو والزينة واللعب والنساء والبنين والذهب والفضة، هذا الهشيم الذي تذروه الرياح. الله نور السموات والأرض، نوره كمشكاة فيها مصباح في زجاجة، كوكب دري يضيء. الإشراق في النفس طبيعي لأن الله نور الطبيعة على عكس النفس المظلمة التي تعيش في الظلمات. وقد كانت النفس من قبل هبوطها إلى البدن في إشراقها ثم هبطت إلى العالم وأصبحت في جسد، فسادتها الأهواء والعداوات. وهنا تنال النفوس المضيئة نعيمها، والنفوس المظلمة عذابها بلا عمل صالح إلا مجاهدة النفس مكافأة على الإشراق.
110
العلم إذن هو العلم الرباني، شرح الله الصدر للإسلام، النور في المشكاة في المصباح على عكس الكافر الذي يسعى في الظلمات. والإيمان يورث العلم، الإيمان أولا والعلم ثانيا. الإقرار فالتصديق فالعلم والعمل هو طريق الأنبياء والحكماء. الإقرار ثم الإيمان ثم المعرفة الإسلام ثم التصديق ثم العقل. فالناس ثلاث طبقات؛ علم وإيمان، إيمان بلا علم، علم بلا إيمان. فالعلماء على درجات طبقا لعلومهم، أعلاها علم الإيمان، والكتاب فضل من الله، وهو ثلاث درجات؛ ظلم النفس والاقتضاء ثم السبق بالخيرات وهو علم متاع في الدنيا إلى يوم البعث. وهو العلم بالغيب مع أهل الاعتبار.
111
والعلم في النفس، ويتم عند البلوغ ونيل الحكمة، والعلم أول ما نزل من القرآن، ولقد خلقت السمع والأبصار والأفئدة والقلوب والأذان لمعرفة الظاهر والباطن. وقد خلق الإنسان ولا يعلم شيئا من أجل تبرير الوحي والرسالة. ثم تبدأ المعرفة من الحواس ولكن فيها علم آخر مودع فيها لم يأت من الحواس. هو علم التوحيد والربوبية يكشف الله عنه لعباده عندما يأتيهم اليقين. وهو علم تأويل الأحاديث الذي أعطاه الله ليوسف. وهو أيضا علم التنزيه لأنه بعد الوصول لا يمكن رؤية الله بالرغم من تشوق العلماء لرؤيته.
112
ويتطور العلم مع تطور النفس. لا يعلم الطفل شيئا حتى يتم اكتشاف العلم ثم يصل إلى مرتبة العلم والحكمة، وعندما تكون على البصر غشاوة ويسود الهوى لا يحدث العلم.
113
وقد يحدث العلم عن طريق الاستدلال كما فعل إبراهيم وهو طريق النظر والاختصاص. أما الجدل في الدين والخصومة في الحق فليس طريقا إلى المعرفة. الخلافيات جزء من علم الأصول. وتضاد الإشراق.
114
وتتفاوت العقول في المعرفة بالدليل الحسي والعقلي والنقلي طبقا لدرجات الإدراك والفهم والتأويل.
وكما أن التدوين واللغة والمنطق تعليم من الله كذلك السماع الطبيعي أيضا تعليم من الله. إذ تتجلى الحكمة الإلهية في الطبيعة، الليل والنهار، الشمس والقمر. فقد تم الخلق بالحق، والحكمة شهد بها أولوا العلم والملائكة، والتوجه نحو الطبيعة في القرآن هو أساس العلم الطبيعي وليس أرسطو. ولا فرق بين أن يكون القرآن مصدرا للطبيعة وبين أن تكون الطبيعة مصدرا للقرآن نظرا؛ لأن التنزيل والتأويل شيء واحد. والعالم محدث مبدع مخترع كائن بعد أن لم يكن بأمر كن، والأفلاك والجبال والطيور وكل ما في الخلق بتقديره. فالطبيعة دليل إلى الله. وتم خلق كل شيء بمقدار على قدر موزون. ولما كان الله هو المثل الأعلى فقد خلق كل شيء على نحو كامل.
115
ويتم الاستشهاد بآيات الكون والفلك والطبيعة تدعيما للطبيعيات. كل فلك يسبح، والقمر له منازل. وفي القرآن دعوة للتأمل في الكون؛ إذ لا يستوي العلم والجهل. وتذكر آيات الأفلاك في فصل تركيب الأفلاك وأطباق السموات في الرسالة الأولى عن الصورة والهيولي (السماع الطبيعي) ولتأييد «الآثار العلوية»، وتبين الخطأ الشائع أن المطر نزل من بحر من السماء وأن البرد يقع من الجبال. ويتم تصحيح سوء تأويل القرآن ووضع التأويل الصحيح. فالغرض ليس وافدا من أرسطو في «الآثار العلوية» بل قصد محلي صرف، هو تصحيح الأخطاء الشائعة والتأويلات الخاطئة اعتمادا على اللغة العربية والمعاني الاشتقاقية. فالسماء في لغة العرب ما يعلو الرأس، والمطر ما نزل من السحاب، ويعني أيضا السماء لارتفاعها. كما يظن الناس خطأ أن الشهب كواكب تسقط من السماء على الأرض، ويسيئون تأويل القرآن. ويستعمل الإخوان اللغة الشائعة للبرهنة على سوء التأويل؛ فالشهب تحدث في السماء بإشراق الكواكب. فالإشراق ليس فقط نفسيا بل طبيعيا.
116
والطبيعة موضوع للتفكير، والطير له لغته التي فهمها سليمان، عرف منه ما يريد عن سبأ وملكها وسجود قومها لغير الله. وكل الحيوان والطير أمم مثل البشر. ومنها يتعلم الإنسان التحصين والدفاع عن النفس، واللغة قد تكون منطق الطير ومنطق التدوين ومنطق الكشف كما هو الحال في الإسراء والمعراج وكلام موسى مع الله، ولغة الطبيعة في الخلق والبعث، ولغة الإقناع في النشأة والعودة، ولغة التجربة والمشاهدة كما فعل إبراهيم مع قومه وتحطيمه الأصنام، ولغة الطبيعة في المعجزات، ولغة الحروف في أوائل السور، ولغة تسبيح الموجودات من الحكماء والراسخين في العلم.
117
وللطبيعة نظام بديع وثابت، تكوير الشمس واندثار النجوم، خلقها الله بفعل كن فيكون. وقد تم خلق السموات والأرض تدريجيا في ستة أيام؛ فالخلق في الزمان ولكن يوم الله بألف سنة من أيام البشر، والله مسير لقوانين الطبيعة. ينزل من السماء الماء فتسيل الأودية بقدر. ويحول الإخوان أفعال الطبيعة إلى أفعال القلوب، والعالم الأكبر إلى العالم الأصغر. والطبيعة في علاقة مع الله. فقد أمر الله أن يتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر، وخرج شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، والطبيعة مسخرة للإنسان بأمر الله، الأنعام فيها دفء ومنافع، طعام وجمال، حمل وانتقال. وأحيانا تدخل الخرافة من السماء في وصف الأرض نظرا لضياع الأرض واستجداء السماء.
118
ويتم تخصيص خلق الإنسان. فقد خلق من تراب ومن طين ومن ماء وافق. ثم تطور الخلق من نطفة في قرار مكين إلى علقة فمضغة فعظام فلحم حتى أصبح خلقا آخر مثل التدرج في الحياة من الطفولة إلى الكهولة إلى الموت، ثم إلى الحياة من جديد. ولقد خلق الإنسان من ضعف وشيب. والنشأة والعودة الجسمية مثل النشأة والعودة الروحانية، الاستتار والخروج، دورة المياه في الكون مثل دوران الحكم في التاريخ مثل دورة أحوال البشر. ثم أنشأ خلقا آخر لإفادة الانقطاع؛ أي قدم نظام عدل مختلف نوعيا عن نظم الحكم السابقة. وتستعمل الآيات لتصوير الخلق، من كل زوجين اثنين مما تنبت الأرض ومن النفس وكأنها العناصر الأربعة في الطبيعة. وهذا من فضل الله نظرا للعشق وشوق كل منهما إلى الآخر.
119
وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم، مرتبة الإنسانية. ثم يرتقي ويبلغ أشده ويستوي ويؤتي الحكم والعلم، ويحيا بعد موت بالعلم وهو النور الذي يهدي في الظلمات، وبالإيمان الذي يرفع الدرجات. فالإنسان خلق أقدارا في قمتها الدعوة إلى الله والسلوك في سبيله دون أن يشاقق الرسول. خلق الإنسان في أحسن صورة، وهي ليست صورة جسمية بل صورة روحية. فإذا حسن الجسد وفسدت الروح قبحت الصورة وتحول الإنسان من أعلى عليين إلى أسفل سافلين. والإنسان خليفة الله في الأرض، يحقق كلمته ثم يعود إليه. وأول خليفة هو آدم.
120
ويتم التركيز على خلق النفس والنشأة الأولى ثم النشأة الثانية من الخلق إلى المعاد. لقد خلق البشر من نفس واحدة، أصل واحد للبشر، وتتفاوت مراتب النفوس مثل مراتب الملائكة. وأعدادها لا يعلمها إلا الله. وقد شهدت مع الملائكة وأولوا العلم في أول الخلق على الوحدانية في عهد الذر الأول كما هو الحال عند الصوفية، الشهادة على الأنفس وعلى وحدانية الله كما شهد موسى على الخلق وشهد الجنة والإنس على العباد، وذلك في رسالة «المعادن» انتقالا من العلم إلى الدين، ثم تتم العودة إلى الأصل الأول بعد التشتت والضياع في الخلق. تشتاق النفوس إلى الصعود إلى أبواب السماء . والبعث نشأة ثانية أسهل من الخلق الأول.
121
ويتم الانتقال من الطبيعيات إلى الإلهيات وكأنهما علم واحد مرة مفعولا ومرة فاعلا. تستعمل الآيات لإثبات علم الله الشامل وقدرته المطلقة. هو الرامي لكل الرامين، والفاعل لكل الفاعلين، والخالق، والزارع، والحارث وكأنها حرية مطلقة. وأحيانا يكون الفعل الإنساني مجرد مناسبة للفعل الإلهي، فما من دابة أو طير إلا وعلى الله رزقه. وهو المعاقب الذي أرسل الطير الأبابيل بأصحاب الفيل. لذلك كفر قارون عندما ادعى العلم. فلا يعلم جنود الله إلا هو لأن علمه محيط بكل شيء.
122
ويتم التعبير عن الله بالصورة الفنية. فالله نور السموات والأرض، نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. يمسك السموات والأرض، وكلاهما مطويات بيمينه. يهدي من يشاء وينزل من السماء الماء فتنزل الأودية بقدرها. وهو في كل مكان، واحد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
123
ويشهد بذلك الله والملائكة وأولوا العلم. هو الأول والآخر، الظاهر والباطن، حاضر في كل مكان. كل يوم هو في شأن. يسجد الملائكة وهم في أعلى القامات في العلوم لقربهم من الله.
124
وكما أن الله هو الخالق فإنه هو الرب المعتني بالعالم، يهدي، ويطعم، ويسقي، ويشفي، ويميت، ويحيي، ويغفر، وهو الذي يرسل المطر والريح والضياء.
125
هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، بيده كل شيء، ما يصيب الإنسان من خير أو شر، من ثواب أو عقاب في الدنيا أو في الآخرة.
ويدخل موضوع الرسالة والنبوة والأنبياء والمعاد ضمن الإلهيات. فالرسالة دعوة إلى الله، وتنبيه على الآخرة والثواب والعقاب طبقا للعمل، مثل دعوة الأئمة. القرآن تذكره، وموعظة حسنة، وجدال بالتي هي أحسن، وقول سديد، وأمر بالمعروف، ومعيار للاختلاف. وهي دعوة إلى السلام. وهي الطريق المستقيم والسبيل إلى الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والرسالة طريق الاتصال بين الله والبشر وحيا أو من وراء حجاب أو إرسال رسول. وهي دليل وبرهان حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وتكون بلغة القوم كما أن القرآن بالعربية للعرب.
126
وهي غير متوارثة، ليست في ذرية بالضرورة بل في أصل العمل الصالح، وهي النبوة النفسانية لا الجسمية.
127
والإيمان لا إكراه فيه. والآيات للاتباع. ومناسك الحج وفرائضه أمثلة لتذكير النفوس بالمعاد وإيقاظها من الغفلة. ولا تنجو النفس بمفردها بل بالتعاون على البر والتقوى، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والحسنات يذهبن السيئات، واكتناز الذهب والفضة دون إنفاقهما في سبيل الله يعذب بهما صاحبهما.
128
وقد بعث الله الأنبياء مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب والموازين لكي لا يكون على الله حجة بعد الرسل. فيكون الإنسان حسيب نفسه، لديه كتاب حق، يسجل عمله، وصراطه مستقيم. والأنبياء كثيرون، ولكل منهم شرعة ومنهاج، تقود وكلها إلى غاية واحدة. تتفق الأنبياء في العقائد والأخلاق وتختلف في النواميس والشرائع. كما تختلف الشرائع حسب الأزمنة، وما من أمة إلا خلا فيها نذير. وهم المصطفون المؤمنون بالرسالات، الأقلية الصالحة والأولياء، الوعي المستقل عن الوعي الجمعي والذي أدرك البينات مثل وعي الرجل من آل فرعون الذي تم إيمانه للتشجيع والانخراط في الدعوة السرية، الأقلية المؤمنة. والوعي الفردي مسئولية شخصية، وهم المصطفون الذين يرثون الكتاب السابقون بالخيرات. هم فتية آمنوا بربهم وازدادوا هدى، وهم نموذج الإخوان الأوائل.
129
والرسول في علاقة مع الله مثل المؤمن. هو خاتم الأنبياء، وقادر على تجميع الناس بالرفق واللين، والرسل قدوة حسنة كما أن الرسول على خلق عظيم.
130
ويرتاح الرسول إلى التصديق والبرهان العياني. لذلك كانت المعجزات أدلة الأنبياء، عصا موسى، سلامة إبراهيم، القرآن لمحمد. الغاية منها التخويف. واتباع الأراذل لهم ليست حجة ضد الأنبياء لأنهم أتوا للمضطهدين في كل مجتمع، والمنبوذين في كل أمة؟
131
وآيات الشيطان كثيرة مما يدل على المصدر الداخلي للفكر عن طريق التفسير الموضوعي للقرآن، تجميع الآيات في نفس الموضوع من السور المتفرقة من الذاكرة فلم تكن هناك معاجم مفهرسة لترتيب السور من البقرة إلى «الناس» كما فعل الإخوان.
132
لقد رفض إبليس السجود لآدم لاستكباره؛ ومن ثم أصبح عدوا للإنسان الذي علمه الله الأسماء ، وهو عدو للإنسان. أخرج آدم وزوجته من الجنة بالرغم من خطئه في قياس الكيف على الكم، النار على الطين. كان الاستكبار سبب عصيانه فأغوى آدم وظل عدوا للإنسان، وطلب الوقت لغوايته فأعطاه الله ما سأل، وأصبح الزمان تحديا بين الإنسان والشيطان. ولما كان الشيطان عدوا للنفس لزمت مجاهدته. وهو الوسواس الخناس الذي يوسوس في الصدور. يرى الإنسان ولا يراه الإنسان، ومن عداوته التوجه إلى الأنبياء والغلط عليهم في الوحي، وقد بدأت غواية آدم ظالما لنفسه ومع ذلك اصطفى الله آدم ونوحا وإبراهيم وآل عمران. فللإنسان حدوده وعظمته، وكذلك تكثر الآيات حول السحر والفرق بينه وبين المعجزة. فالسحر من عمل الشيطان ليفرق به بين المرء وزوجه والإضرار بالناس مما يجعل الناس يكفرون بالمعجزات وآيات الأنبياء ويجعلونها سحرا. وبعض السحرة يستسلم للمعجزة ويؤمن بالله، والله لا يظلم أحد. والقرآن سحر ولكنه سحر صادق يسحر الألباب ويقرأ في السحر.
133
والنفس مستعدة للخير والشر، وللإنسان حرية التقوى والفجور، وهو قادر على أن يحولها إلى نفس مطمئنة أو إلى نفس أمارة بالسوء. والنفس المطمئنة ترفع إلى ربها مرضية. وهو قادر بفعله على التمييز بين الحسن والقبح كما يميز الوحي بين الخبيث والطيب. فالنفس قادرة على المعرفة. وهي مسئولة عن أفعالها. والمسئولية الفردية أساس الحساب والعقاب. ولا تنفع التبعية يوم الندم. وقد وعد الله المؤمنين بالثواب والمفسدين بالعقاب طبقا لقانون الاستحقاق لينجو من ينجو ويهلك من يهلك عن بينة. وهناك فرق بين الإسلام والإيمان. الإسلام بالشفتين والإيمان بالقلب. فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. والإحسان بالوالدين من الإيمان إلا أن يدعوا إلى الشرك بالله.
134
والدنيا دار عمل وجهاد، والحياة امتحان واختبار. وخير عمل هو الجهاد في سبيل الله الذي يعطي الخلود. والجهاد أيضا هو جهاد النفس، والهجرة والمعراج، وتحول الضعف إلى قوة، وضرورة النصر من تطلعات المجتمع المضطهد. وفي نفس الوقت لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والأولوية للفعل الإنساني، فإذا نسي الإنسان الله أنساه نفسه.
135
وفي العلوم الإلهية الناموسية والشرعية تكثر آيات الأخلاق والمعاد والمجتمع والتاريخ. فالعمل الصالح هو أساس النجاة. وليس للإنسان إلا ما سعى. وطريق النجاة هو طريق إبراهيم، التقوى والعمل الصالح. والسيطرة على النفس فضيلة، عدم الحزن على ما فات أو الفرج بما هو آت. والدار الآخرة نتيجة للتواضع والإصلاح، والحظ العظيم للصابرين. وكل عمل في الدنيا يكون حاضرا للإنسان في الآخرة، خيرا أو شرا، فليس للإنسان إلا ما سعى، وسعيه سوف يرى، ويوفى الجزاء الأوفى. الطريق إلى النجاة الصبر والعفو. والجهاد أكبر عمل صالح، والشهداء هم الذين يشاهدون ربهم بتقدم عمل الإنسان يوم القيامة. ومن لا عمل له يود لو يرد إلى الدنيا فيعمل صالحا وقد باء بالخسران، والحياة امتحان واختبار وليست عبثا. ويأتي كل إنسان فردا. وليس العمل الصالح وحده الصلاة والصوم بل عمارة الأرض والسعي فيها فالدنيا مزرعة الآخرة، والحسد رذيلة.
136
أما المنافقون الضالون فهم العدو الذي يجب الحذر منهم، مأواهم جهنم، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. ويستمعون إلى غواية الشيطان في النار التي تطلع على الأفئدة، دهورا بلا طعام أو شراب. تستبدل جلودهم لمزيد من العذاب. وهم الذين يؤمنون باللسان وليس بالقلب. وهم في العذاب دوما. يحسبون كل صيحة عليهم. وهم العدو الذي يجب الحذر منهم. ويندم الكافرون ويتمنون أن يكونوا ترابا أو العودة إلى الدنيا والعمل صالحا أو طلب الشفاعة مع إنهم لو ردوا لعادوا إلى نفس الأفعال، أفرادا وجماعات، لا فرق بين الإنسان والجن. يودون التعمير في الأرض، وهذا لا يعفيه من العذاب.
137
وتظهر عديد من الأحوال والمقامات الصوفية كرصيد للأخلاق كأفعال لبواطن القلوب. فالتوبة طريق التحول من السيئات إلى الحسنات وتجاوز غواية الشيطان كما فعل آدم. والله يقبل التوبة لمن أناب. والشكر على النعم من طباع الإنسان. والتقوى خير زاد في الرحال. والصبر طريق الفوز، والذي لا يصبر يظن بالله ظن السوء، والتوحيد طريق لقاء الله وليس الشرك. والعفو والصفح والمغفرة من أفعال الله ومن أخلاق الإنسان. والخوف من الله طريق النجاة، بل إن الملائكة يخشون الله ويطيعونه، وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله. والتفكر طريق إلى الله، وكذلك التوكل سعي إليه.
138
ولا يوجد اصطفاء أو اختيار كطريق للنجاة. لا توجد ولاية أو محبة أبدية بين إله وشعب. إنما الاصطفاء والوراثة للعمل الصالح. فالفعل متبادل بين الفعل الإلهي وفعل الإنسان. هو فعل الشرط والفعل الإلهي جواب الشرط. والدعاء يجلب الفرج. والرضا متبادل بين الإنسان والله، ويؤوله الإخوان على أنه رضا بالقضاء والقدر. والإيمان بالمصائب دليل على التقوى وليس الخير. ثم إذا جاء الشر جلب الكفر. واتباع أحسن القول يؤدي إلى النجاة، الإيمان بالله وطاعة رسوله وتجاوز الدنيا إلى الآخرة. والزهد شرط العلماء، والعلماء هم الزهاد. العمل أساس النظر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني عنه. ومن ظلم فإنما يظلم نفسه.
139
والوعد حق. وتأتي الساعة فجأة كلمح البصر وعلى غير انتظار، والخالق هو الباعث، والمحيي هو المميت. وكما بدأت الحياة أول مرة فإنها تعود ويعرج الكل إلى الله في يوم مقداره خمسون ألف سنة. واليوم عند الله ألف سنة مما يعد الناس. والزمان نفسي، ويوم البعث لا يدرك الخاسر الزمان، ويظن أنه قام بعد ساعة. ولها أسماء عديدة: يوم البعث، يوم الدين، يوم الحشر، يوم الخروج، يوم تقوم الساعة. والروح من أمر الله ولم يؤت الإنسان من العلم إلا قليلا.
140
وكل شيء مسجل، وكل ما يعمله الإنسان يجده مكتوبا. هو اليوم الفصل الذي يتم فيه الحكم بين جميع المتخاصمين. وهو ميزان عدل. وهناك برزخ بين الموت والبعث.
141
ويبدو الثواب والعقاب وكأنهما حركتان للطبيعة. يدور المحسنون والمسيئون مع حركات الأفلاك. فاشتهاء النفس والتذاذ الأعين والخلود في الجنة للمحسنين، وتبديل الجلود لذوق العذاب للمسيئين أفعال للطبيعة. فالطبيعة متجهة نحو المعاد وطريق إليه. وتؤدي إلى مشاهد القيامة والحساب، والكواكب الثابتة الحافة بالفلك التاسع هي الملائكة الحافة بالعرش. والجنة عرضها السموات والأرض، وجهنم مملوءة بالجن والناس.
142
وكما يبدأ البشر من المصدر الأول يعودون إليه. بدءوا متساوين وانتهوا مختلفين بين الهداية والضلالة. ينال الفوز بجنات النعيم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، رحماء بينهم، ركع سجد، أشبه بأخلاق الملائكة الذين يحملون العرش، والذين نهوا النفس عن الهوى وأصبحوا أحرارا من غواية الشيطان، ولا تدري النفس ما أعد لها من نعيم. ومن يتمتع في الدنيا مع نسيان الآخرة يحرم منها في الآخرة، ومن قتر على نفسه في الدنيا فتحت له أبواب الآخرة، فالدنيا معبر للآخرة. ولا يفرح الإنسان بها كما فرح قارون من قبل إلا إذا كانت طريقا إلى الآخرة. لذلك يعاتب الله المسرفين. وكل خير يقدم في الدنيا يكون خيرا في الآخرة. فينال المؤمنون الدنيا والآخرة.
143
في الجنة ما تشتهي الأنفس. الأبرار في نعيم وفي عليين. تفتح لهم أبواب الجنات، وتسلم عليهم خزنتها، وتعرض عدة صور للنعيم، الاتكاء على الأرائك وطواف الولدان المخلدين بالأكواب والأباريق والسدر المخضوض، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب، والمقعد الصدق، وكل ما تشتهيه الأنفس، والعسل المصفى. وكلها صدور لدلالات روحانية. المؤمنون هم أصحاب اليمين الذين يسعون إلى ذكر الله ويذرون البيع ويتزودون بالتقوى والعمل الصالح والتواضع في الدنيا.
144
ويعرف المؤمنون الحق، والنفس المطمئنة هي النفس الراضية التي كانت تسارع في الخيرات، وتدعو الله رغبة ورهبة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تنظر إلى ربها، وتدخل عليهم الملائكة من كل باب لأنهم كانوا يؤمنون بالآخرة ولا يستكبرون. يحبون الله، ويوفيهم الله الحساب، ويسعى نورهم بين أيديهم، تحيتهم فيها سلام.
145
وتشير ألفاظ الفتى والفتية إلى المؤمن والمؤمنين والحكيم والحكماء. وهم خير من الخاسر والخاسرين الذين يألمون في الدنيا والآخرة. يرجون من الله ما لا يرجوه الكافرون. أعد لهم النعيم ويوفي أجر الصابرين، ويحميهم الله في الدنيا. ولا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون. يدخل الملائكة على المؤمنين من كل باب. تتوفاهم الملائكة طيبي النفوس. ينهون النفس عن الهوى ويتقون، ويذكرون الله بصرف النظر عن شكل الدين.
146
ويعتمد الإخوان كثيرا على الآيات القرآنية لإثبات القيامة دون تحليل عقلي كاف مثل الرغبة في الخلود، والتواصل ضد القطيعة والنهاية، وبقاء العمل والأثر في الناس استمرارا للجهد، والرغبة في أن يكون للعدل الكلمة الأخيرة على الظلم.
وأما الخاسرون فإنهم ينالون العذاب الأليم، كلما نضجت جلودهم بدلت جلودا غيرها لابثين فيها أحقابا. والعذاب ضروري حتى لو عاش الخاسر ألف عام. لا تفتح لهم أبواب السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط. عاشوا قرناء الشياطين، ولهم عذاب أليم. أعمالهم حسرات عليهم. ومن لا يذكر الرحمن يكن الشيطان قرينه. يودون لو يردوا إلى الدنيا كي يعملوا صالحا. فقد ظنوا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد، وكلها ظاهر وعرض وغرور، والآخرة خير وأبقى. فلا ينالون إلا السراب. يحال بينهم وبين ما يشتهون يوم القيامة. الزمان لا يعود، ولا يردون إلى الحياة الدنيا، ويعرضون على النار غدوة وعشيا. قلدوا الآخرين فانطبق عليهم قانون التبعية والتقليد أو الذبذبة بين المواقف أو تبعية الشيطان. كذبوا بآيات الله.
147
وهم محجوبون عن الله بما كسبوا من أفعال، زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. رضوا بالحياة الدنيا ويئسوا من الآخرة. لم يذكروا الله فحملوا أوزارهم على ظهورهم ولم يؤمنوا بالآخرة واستكبروا. وسخروا من المؤمنين في الدنيا، وكانوا يضحكون عليهم ويتغامزون. ويدرك الخاسرون المأساة عندما يجدون كل أمة تلعن أختها. ويستجدي الظالمون أمام الله، ظلموا أنفسهم، وكانوا إخوان الشياطين. ومن كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
148
وبين المؤمنين والخاسرين هناك أهل الأعراف بين الجنة والنار، حالة افتراضية صورية تحسمها الطبيعة الخيرة والبراءة الأصلية في حالة التساوي بين الخير والشر.
149
وتبدو آيات القسم الرابع عن العلوم الإلهية الناموسية والشرعية قليلة. وتصب كلها في نفس الثنائية، ثنائية الخير والشر على المستوى الاجتماعي. وتكشف عن التعارض بين مجتمعين، مجتمع الخير ومجتمع الشر كما هو الحال في الأخلاق والمعاد. مجتمع الخير هو مجتمع الإخوان ومن والاهم، مجتمع مغلق طاهر. ففي الأرض صالحون وفاسدون. ويستشهد الإخوان أيضا في مسار التاريخ بالآيات على حتمية زوال دولة الظلم وقدوم دولة الحق مما يكشف عن الهدف السياسي للإخوان. ومصير دول الظلم كلها في النار، يلعن بعضها بعضا. ويتم التأكيد على المعارضة من أجل الثورة على الحاكم الظالم. فالتاريخ دورات وأحقاب، والصراع واقع في العالم. فإما أن يقبل الإنسان الصراع وإما أن يتخلف عنه فيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ويقبلون الدخول فيه. تتوالى المجتمعات بعضها وراء بعض، وتنهض الأمم وتنهار. الظالمون أولياء لبعضهم والمؤمنون أولياء أيضا لبعضهم.
150
والله مع جماعة المؤمنين. وهي جماعة مترابطة بفعل الإيمان، تحب من يهاجر إليها، وتؤكد الرسائل ضرورة التعاون بين الإخوة والترابط الاجتماعي. وهم مثال على ذلك. فالولاية لهم وليس لغيرهم والترابط الاجتماعي وهم، والصلح بين الزوجين واجب قبل الطلاق. والشريعة ضرورية للمجتمع مثل القصاص. والتحريم طلب من الناس حتى ولو ضاقوا به. والطريق الآخر مترابط في الشر، وتتميز المجتمعات فيما بينها بالهدف الذي تجتمع عليه.
151
ومع ذلك يظل الوعي الفردي مستقلا عن الوعي الاجتماعي مثل الرجل من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ومثل إبراهيم مع قومه ومثل كل نبي مثل نوح. ثم يكبر هذا الوعي ويتمدد ويصبح القلة المؤمنة الذين اشترى الله منهم أنفسهم بأن لهم الجنة، ومثل الشهداء وحواريي المسيح الذي يبايعون المؤمنين والأنبياء، وهم الإخوان.
152 (د) الأحاديث
وتظهر الأحاديث بصورة أقل من الآيات حوالي العشر، وتظهر في نفس العبارات التي بها تعبير «رسول الله». وتستعمل في نفس النسق العقائدي الفلسفي، التوحيد والعدل؛ أي العقليات والسمعيات، الإلهيات والنبوات. والمرويات في السمعيات أكثر منها في العقليات، وفي السمعيات تبرز أولا في الإيمان والعمل ثم النبوة ثم المعاد والإمامة. وتستعمل الأحاديث تدعيما للآيات ما دام القرآن والحديث مصدرين للعلم.
153
ففي نظرية العلم، في فضل طلب العلم يذكر حديث عن تعلم العلم لأنه خشية وعبادة وتسبيح، ومعرفة بالحلال والحرام، والسبيل إلى الجنة، والمؤنس في الوحدة، والصاحب في الغربة والسلام على العدو، وزين الأخلاق، وحياة القلب، وقوة البدن، طريق العبادة والأجر ووصل الرحم وتأييد له كما هو الحال في أحاديث كتاب العلم في بداية «إحياء علم الدين». وهو حديث طويل، صوفي إشراقي ليس به طابع الأحاديث الصحيحة. أسلوبه متأدب مفتعل مصطنع، محمل بالصور الفنية والثنائيات المتعارضة ولغة النور والإشراق ، الطبقات والمراتب، يصعب أن تعيه الذاكرة. يخبر بالغيبيات، وأقرب إلى أن يكون تأليفا على منوال سابق كما هو الحال في الأناجيل مع قدر كبير من التأويل الروحي للشفاء. ربما الصحيح فيه الفقرة الأخيرة عن العلم والعمل، والباقي كله إشراقيات منسوجة حولها. ويؤدي العلم إلى التواضع والرحمة، ويبعد عن الخلاف والمنازعة وطلب الرياسة والتعصب والعداوة والبغضاء. ويحذر الحديث من عيوب العلماء بالرغم من فضائل العلم. ويطالب الرسول بأن يكون الإنسان عالما جليس العلماء؛ فالإنسان إما عالم أو متعلم أو مجالس للعلماء أو صاحب للعلماء.
154
وتحذر بعض الروايات من العلماء المزيفين.
وهناك أحاديث أخرى تبين أن طريق العلم بالله هو العلم بالنفس، من عرف نفسه فقد عرف ربه، وأن أعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه. مع تكرار بعض الأحاديث. كما توجد أحاديث أخرى عن العلم الإشراقي، النور الذي يقذفه الله تعالى في القلب بعد العبادة أربعين صباحا، فيطلق اللسان بالحكمة حتى ولو كان أعجميا. فالمؤمن ينظر بنور الله. كما يروي حديث يبين أهمية السفر في طلب العلم والغنم سواء كان السحر بالجسد أو الروح.
155
وسحر البيان لا يعني خرق قوانين الطبيعة بل البلاغة والشعر كما هو الحال في المجاز والقرآن. ومن أخلص لله أربعين يوما فتح قلبه وشرح صدره، وأطلق لسانه حتى ولو كان أعجميا.
والعجيب أن يظهر أرسطوطاليس في حديثين موضوعين للتأكيد على الموروث لا الوافد. فقد كان له الفضيلة والكمال وقال «أنا أرسطاطاليس هذه الأمة.» وقد ورد الحديث بأكثر من صيغة تدل على وضعه، ولو صح لكان له عدة دلالات أن أرسطو كان نبيا بنص القرآن
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وأن محمدا نبي مثل أرسطو، وأن الاثنين متفقان معا في النبوة والحكمة، وأن حكمة الشعوب واحدة سواء كانت حكمة اليونان أم وحي الإسلام. وفي صياغة أخرى يوضع السياق، وتختمها أسباب القول، عندما ذكر أرسطو في مجلسه مع أن المسلمين لم يعرفوه.
156
وفي نظرية الوجود تروى أحاديث أقل من نظرية العلم، حديث واحد فقط في مقابل أحد عشر حديثا. فالوجود هو كل شيء، والله والوجود شيء واحد لذلك ينتهي التفكر في خلق العالم إلى الوصول إلى الخالق، وفي خلق الإنسان من المني إلى إتقان الصانع.
157
والأحاديث في العقليات أقل منها في السمعيات.
158
فالسمعيات تثير خيال العامة أكثر من العقليات، وإمكانية الوضع فيها أكثر من العقليات؛ فالظن في الإقناع أكثر من اليقين. فلا يعلم جنود الله إلا هو، ولا يوجد في السماء موضع شبر إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، مما يثير الخيال على عظمة الله وعبادة الكون له في نظرية الذات والصفات لا يروى إلا حديث واحد. وفي خلق الأفعال، والحسن والقبح لا يروى إلا حديث واحد في كل من موضوعي العدل. ويسود التيار الأشعري قبل أن يقننه الأشعري. فالهداية والتوفيق والعصمة من الله. والله هو الذي يرزق الطير فتغدو خماصا وتروح بطانا، أشعرية صوفية ضد خلق الأفعال والعمل والكسب. الغرض منها الوصايا والمواعظ والتوجه العملي للعامة. وكثير من الأحاديث يدعو إلى القيم السلبية مثل الفقر والزهد إما عزاء للفقراء أو كرها للأغنياء لا تدعو إلى الثورة الاجتماعية بالرغم من أن الجهاد رهبانية الأمة. وهي لا تشابه الأحاديث الصحيحة الواضحة العملية. إنما يغلب عليها الطابع الأسطوري الخيالي النظري. واختلافات الصياغات في الحديث الواحد كل على وضعه.
159
وقد يكون بعضه صحيح في البداية بتحديد مكان وزمان معينين مثل خضراء الدمن ثم ينتهي بالخيال. وفي بعض الأحاديث ركاكة مما يدل على طابعه الشعبي في التأليف أو التأليف على مستوى العامة في حين أن الرسول قد أعطى جوامع الكلم، وهو أفصح فصحاء العرب ليس بها طابع أقوال الرسول المركزة البليغة. كما يصعب حفظ الأحاديث الطويلة بلا تحريف، والرسول غير معروف بالإطالة. وقد تم صياغة الأحاديث في نوع أدبي مركب بإدخال محاور للرسول مثله أسامة أو عائشة أو أبي هريرة أفقر الفقراء وأقربهم إلى الرسول أو عمر الذي صدقه الوحي.
160
ويبدو الحديث مركبا منقطعا عن طريق تدخل المحاور «زدني» من أجل إعطاء أكثر من فرصة للخلق والتأليف كما فعل المسيح مع حوارييه، وليس من طبيعة الرسول قول الأشياء إلى منتصفها ثم الانتظار كي يعطيه المحاور مناسبة ثانية لاستكمال الحديث. بل الهدف منه الخلق على دفعات. فالخلق بطبيعته قصير، يتكون من عدة دفعات ثم يتم التأليف بينها، وليس من عادة الرسول مخاطبة أصحابه يا أسامة، يا أسامة، بل التوجه نحو الموضوع مباشرة. ومما يدل على وضع الحديث ووجود إخراج له في محاور كما هو الحال في العشاء الرباني للسيد المسيح، وفيها يبدو الرسول ناعيا نهاية العالم ونهاية المسلمين كما تنبأ المسيح بهدم المعبد وتدمير الهيكل، ونقد الدينونة ومظاهر البذخ والترف وكأنه ابن خلدون أو أحد الصوفية. ويغلب على معظم الأحاديث الطابع الصوفي، وقد تكون من وضع الإخوان. لا تعتمد على العقل بل تخاطب التجربة البشرية وتكشف عن مواطن الاغتراب فيها. وتعارض أحاديث أخرى تدعو إلى الدنيا وإلى العمل فيها، والتي تعبر أيضا عن روح القرآن. ويدل على وضع الحديث طوله على عكس الأحاديث الصحيحة القصيرة ذات النزعة الأخلاقية العملية المباشرة متجهة نحو المنفعة والصلاح في العالم، إنما يغلب عليها ثنائية الدنيا والآخرة، أشبه بوصايا الشيخ للمريد. ويعبر البعض منها عن اتجاهات غير إسلامية مثل إنقاذ الجماعة من أجل البقية الصالحة. هي أقرب إلى تاريخ الأدب والإبداع الفني. فالوضع ليس مجرد اختلاف بل هو عمل فني خلاق. ويتكاثر الحديث، حديثا وراء آخر مما يدل على طابعه التركيبي، فالمتن أقرب إلى تاريخ الأدب، والمضمون أقرب إلى التصوف. وكان الحديث يذكر تأكيدا للقرآن فما اتفق معه كان صحيحا، وما اختلف كان موضوعا بالإضافة إلى حكم العقل وصدق التجربة.
وتكثر الأحاديث في النبوة على طريقة الصوفية، محمد الحقيقة. محمد قديم، خلق وآدم بين الماء والطين، وجوده بالقوة قبل الفعل، وعمر الدنيا سبعة آلاف عام، وبعث محمد في آخر ألف منها ولا نبي بعده، النبوة في بداية الخلق وفي نهايته، وتطورها بين الخلق والقيامة. ينتسب الرسول إلى إبراهيم، أبوة روحية إشراقية. ومقامه رفيع مثل مقام الأنبياء آدم وإدريس النبي (هرمس). أعانه الله على شيطانه، فلكل إنسان شيطان يجري منه مجرى الدم، ورواة أحاديث النبوة خمسة: عن جبريل عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم. ومن أجل تعظيم النبوة يتم انتقالها من القلم إلى اللوح إلى إسرافيل إلى ميكائيل إلى جبريل إلى محمد نزولا، ومن محمد إلى جبريل إلى ميكائيل إلى إسرافيل إلى اللوح إلى القلم صعودا، ستة رواة، ويروي الإخوان من السابع.
161
وهناك أحاديث موضوعة عن النسخ، نسخ النبوة بالجبروتية، ويسمون باسم الخلافة، ويسيرون عليها بسيرة الجبابرة، ينهون عن المنكر، ويرتكبون الخدور، ويقتلون الأولياء أولاد الأنبياء ويقيمون بسبيهم واغتصاب حقوقهم وشرب الخمر والفجور واستبعاد الناس وسلب الأموال وخطف الأولاد والاستطالة ونسيان المعاد وبيع الدين بالدنيا، والآخرة بالأولى. فينهار التاريخ مما يؤدي إلى ضرورة الهدى ورفعه. وهو تصور شيعي للتاريخ من الهزيمة في الماضي إلى السقوط في الحاضر إلى النهضة في المستقبل.
162
كما تروي أحاديث الرؤية الصادقة وأنها جزء من النبوة. ينتهي الوحي وتستمر الرؤية. وفي أحاديث أخرى يحدد كم الجزء من ستة وأربعين جزءا، وكأن الكيف يقسم كما إلى هذا العدد الذي قد يجانب الرمزية. وقد نفى الرسول نفسه عندما نزلت آية
اليوم أكملت لكم دينكم ، وأقر بالعودة إلى الله، واشتاق إلى رؤية إخوانه الأنبياء. والسحر حق، والعين حق. ولا تروى الأحاديث في ذلك، بل أيضا أفعال الرسول عندما أخرج السحر من الجب. وقد أمر الرسول بسقي رجل مسحور وغسل آخر لإزالة أثر العين. وقد أنزل القرآن على سبعة أحرف وهو إعجاز الرسول.
163
كلها شاف كاف، وكل آية لها ظاهر وباطن من أجل التأويل ولتفاوت العقول بين الخاصة والعامة، العلماء والجهال، العقلاء والأنبياء، الرجال والنساء، النساء والصبية، وهو أحد معاني الإعجاز الاتصال على جميع المستويات.
164
ويطلب محمد الهداية لقومه لأنهم لا يعلمون، ولا يطلق عليهم اللعنات كما فعل الأنبياء من قبل. بل ينصر كل نبي أمته كما تنصر كل أمة نبيها كما نصر أبو هاشم محمدا والكل له الجنة. النبوة فتح مستمر وإعلان لشعار «لا إله إلا الله». نصرة النبي واجب قومه وفداؤه بأنفسهم. وهو على خلق عظيم، أعانه الشيطان حتى أسلم، وهو قاضي يتبع حجج الخصوم. ولكنهم أقضى لأنهم أعرف بالحق.
165
وتكثر أحاديث المعاد. فمن مات قامت قيامته. والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. والملائكة هي التي توفى الإنسان. إذ يموت الإنسان مرتين، الموتة الصغرى في النوم والموتة الكبرى في الموت ويحيا اثنتين، الأولى في الدنيا، والثانية في الآخرة. وليس للكافرين إلا الموتة الأولى، وتختلط أحاديث المعاد مع الاستعداد له بالإيمان والعمل، ثوابا أو عقابا، اغتنام الفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والصحة قبل السقم، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت؛ فإن خير الزاد هو التقوى. وبالرغم من صدق المعنى إلا أن الحديث قد يكون موضوعا في صياغاته في هذا التقابل الجدلي بين المتعارضات. ويستعمل مثل هذا الحديث كمثل منطقي على تناقض حكمي السلب والإيجاب في اللفظ والمعنى، لا يجتمعان في الصدق والكذب في صفة واحدة، في زمان واحد، من جهة واحدة، في إضافة واحدة. ويقوى المعني بإلحاق الحديث بنصوص مقدسة أخرى، فالوحي واحد، والحديث شرح للقرآن، والصحف واحدة.
166
تموت كل نفس وترى مقعدها في الجنة أو في النار، ويختلط الحس بالمجرد. فالجنة في السماء والنار في الأرض. وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ويرى أهل الجنة ربهم كل يوم جمعة مرة. ويفرح بهم سكان السماء. يقف الرسول على الصراط، ويرد المؤمنون على الحوض وأقربهم منه منزلة يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته دون أن يتغير. وهم الذين يذكرون العهد الأول والميثاق.
167
والجنة تحت أقدام الأمهات. وهي لأولياء الله. فقد أبى الله لهم إلا الخلود. وأرواح الشهداء في الجنة، في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رءوس أشجارها وثمارها وعلى ضفاف أنهارها، تأوي بالليل في قناديل معلقة تحت العرش. ويحشر المرء مع من يحب دليلا على الترابط والمحبة في الدنيا والآخرة. والجنة هي مصير الكل. فلا يزال يخرج من النار قوم من الأمة بعدما دخلوها حتى لا يبقى في النار أحد قال لا إله إلا الله مخلصا في دار الدنيا.
168
وقد كان مكتوبا في الصحف كلها، صحف إبراهيم وموسى عن العجب ممن يضحك وهو يعرف النار، ومن يسيء وهو موقن بالحساب، ومن يثق بالدنيا ويرى تقلبها. لذلك لا تفتح للخاسرين أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط. وقد خلق أهل النار من نار، ويأكلون النار، وعلى النار يتقلبون، ويطلون في النار. وهي مبالغات ضد العقائد وضد خلق الأفعال.
169
ومعظمها أحاديث ظنية أو أقوال مأثورة. وبعضها موضوع. ويدل على ذلك صياغة الحديث وشكله الأدبي مثل أحاديث الجماعة المؤمنة آخر الزمان. إذ ينقطع الحديث ويتدخل أبو هريرة طالبا وصفهم طلبا للمزيد وإفساحا للخيال لمزيد من التحديد أو طلبا للنصائح للاتباع وبكاء الرسول شوقا لرؤيتهم مع وصف أفعال الرسول داخل الرواية. ويتقطع الحديث لمزيد من الاستفهام وتعيين المناط للتفرقة بين الأصحاب (الخارج) والإخوان (الداخل). ولا يذكر السند لأن الحديث لا سند له. يفرض المعنى سنده مثل الوضع بالمعنى عند المالكية، ويمكن وضع مثله من جديد ما دام الوضع النفسي قائما. ومن علامات الوضع التكرار في نفس الشكل الأدبي، فعل الشرط وجواب الشرط.
170
وفي الإيمان والعمل تتوالى الأحاديث عن العمل الصالح والأخلاق الحميدة والإعداد للمستقبل والتربية الخلقية، فالإنسان بعمله وليس بنسبه. ويرد العمل الصالح إلى صاحبه. ومن العمل الصالح طلب الدنيا تفقها وتوسعا على العيال والتعطف على الجار كي يلقى الله كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مفاخرا مرائيا جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال بأي واد يهلك. وقمة العمل الجهاد. وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ويتكرر الحديث المشهور «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» فالجهاد رهبانية الأمة، والدال على الخير كفاعله، والخير فاعله خير. وقد جمع الرسول في حديث واحد شارحا آية
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
بأن مكارم الأخلاق سبعة: العفو عن الظالم، قطع صلة الرحم، الإحسان إلى المسيء، النصيحة لمن غش، والاستغفار لمن اغتاب، والحلم لمن غضب . والتوبة بعد الذنب خلق جديد. والاستغفار من الذنب دائم يستجيب الله له، وخير الزاد هو التقوى.
171
ويأخذ الزهد مكانا بارزا في الأحاديث؛ إذ لا يكفي الزهد في الدنيا بل الزهد في الآخرة أيضا. ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب. والزهد في الدنيا طريق إلى الجنة. الزهد في الدنيا والنظر إلى أسفل وليس إلى أعلى وحب المساكين والرضا من الدنيا بكسرة. الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. ويكون الإعداد للمستقبل بالفراغ قبل الانشغال، والغنى قبل الفقر، والصحة قبل المرض، والشباب قبل الهرم، والحياة قبل الموت. والشعائر نفسها طرق أخلاقية مثل الصوم طريقا للصحة وكذلك السفر من أجل الغنم، والعبادة الصادقة أن يعبد الإنسان الله كأنه يراه فإن لم يره فإنه يراه، من الموضوعية إلى الذاتية أو من الذاتية إلى الموضوعية. وليست الغاية من الشريعة العقاب بل التقوى. لذلك لزم درأ الحدود بالشبهات. والحلف باليمين لا يكون في المعصية.
172
ولا تكفي الأخلاق الفردية. هناك أيضا الأخلاق الجماعية مثل الصلاة في المسجد جماعة، وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه كشرط للإيمان. ونسبة الأفراد في المجتمع كنسبة الأعضاء في الجسم الواحد، نسبة جسمية وليست روحية. والأمة مترابطة، نفس واحدة، دماؤهم وأموالهم حرام فيما بينهم، أقوياء على من سواهم. وكل أمة منقطعة إلا أمة محمد. وكل نسب منقطع إلا نسبه، والنسب روحي لا بدني. طريق الأمان هي أمة آخر الزمان. يحشرون مع الأنبياء. آثرت الجوع بعد أن أشبعها الله، والعطش بعد أن رواها الله، والعري بعد أن كساهم. بل تركوا الحلال. صاحبوا الدنيا في أبدانهم دون تعلق القلوب بشيء منها. وطريقها طريق النجاة، هم صحابة الرسول. وهي وصية الرسول لأبي هريرة في نهاية الرسالة التاسعة مثل وصايا لقمان لابنه. يغلب عليها الوضع لإيغالها في التصوف وترك الدنيا. لذلك كان محاور الرسول أبا هريرة. ويظهر الطابع الإشراقي في الثنائيات المتعارضة بين الدنيا والآخرة، النفس والبدن.
173
وقد يكون الحديث قصيرا في الحث على تقوى الله. ويدخله أبو ذر محاورا مرتين، يطلب الوصايا ثم الزيادة فيها اثنا عشرة مرة. وهو نموذج للحديث المركب الذي يبدأ بالتقوى. ثم ذكر الله وقراءة القرآن ثم الجهاد رهبانية الأمة ثم النظر إلى أسفل وليس إلى أعلى، ثم أقل الكلام في حب المساكين، ثم الغربة في الدنيا، ثم قول الحق ولو كان مرا، ثم الشجاعة الأدبية، ثم الرضا والزهد في الدنيا، ثم كظم الغيظ والإحسان في مقابل الإساءة، ثم التحذير من حب الدنيا، ثم النصح للناس، ثم النصح للنفس عن طريق الصعود الحلزوني من الخارج إلى الداخل من أجل الصعود من الداخل إلى أعلى. وقد يستقل جزء منه ليصبح حديثا مستقلا مثل الجهاد رهبانية هذه الأمة. والتقوى باطنية وليست ظاهرية كما هو الحال في أقوال المسيح. وقد يكون تكرار الحديث صحيحا في المعنى ولكن موضوعا في الصياغة. فالخلاف في الإخراج وتحويله من قول مباشر إلى حوار كي يكون أكثر تأثيرا في النفس.
174
وقد يكون المحاور من أحباء الرسول مثل حواريي المسيح، أسامة بن زيد الذي يتدخل التقطيع الحديث طالبا تحديد الطريق ورمزه الصوم، ودعاء الجائع مستجاب. وتصف بعض الأحاديث أحوال الرسول وأفعاله وبكائه شوقا إلى رؤية جماعة المؤمنين حتى اشتد البكاء وعلا النحيب، تأييدا للمضطهدين وتعاطفا معهم. وقد يدخل عمر محاورا ويسأل إذا كان الناس على الإسلام وهم يقومون بالاضطهاد، ولماذا يقتل من أطاع الله؟ ويجيب الرسول بأنه حب الدنيا. ويقرن الحديث بالآيات تدعيما له وتطابقا معه تغطية للظن باليقين. وتغير المحاور لا يعني تغير الحديث إنما فقط تغير المناسبة. والحديث الطويل لا يتكرر لأن الذاكرة لا تعيه، خلق وقتي فريد. إنما الذي يتكرر هو الحديث القصير الأقرب إلى جوامع الكلم.
175
ويمكن للحديث أن يطابق كل عصر، فسبب النزول يتكرر عندما تلائم بنيته النفسية أي عصر مثل حب الدنيا من فريق واستبعاد فريق آخر.
176
والمجتمع أيضا أخلاق وعمران وسياسة. فالاستعانة على كل صناعة بأهلها. والشورى أساس الحكم والتعددية والخلاف في الرأي. وتتنوع أحاديث الإمامة بين المعنى الضيق أي السياسة والقيادة بالمعنى العام وخصائص الشعوب وحركتها في التاريخ إلى إمامة الدول، وتظهر ألفاظ الفرق مثل الخوارج في مقابل عموم المسلمين دون ذكر للشيعة والإمامية والباطنية وإن كانوا حاضرين على نحو غير مباشر. تكثر الأحاديث في الإمامة لأنها الباب إلى السياسة.
177
كل إمام راع ومسئول عن رعيته، وهو الذي يحمل الراية، كرار غير فرار، ويكون الفتح على يديه، وعلي نموذج الإمام. والرسول وعلي أبوا هذه الأمة. الرسول مدينة العلم وعلي بابها. وعثمان ولي الأمة بعد عمر. وكل أصحاب الرسول هداية وقدوة. ويتم التحذير من القائد المنافق، حلو اللسان مر القلب. وقد يكون الثناء على شعب بعينه مثل شعب فارس المؤمن في أول الزمان وفي نهايته وحامل العلم مما يدل على ارتباط التاريخ بالسياسة والسياسة بالتاريخ. هناك شعوبية في انتقاء الأحاديث عن فضل فارس في مقابل الأحاديث عن فضل العرب. وحتى لو صحت تاريخيا فإن استعمالها شعوبي. ومن علامات الساعة خدمة المسلمين أبناء فارس والروم وقتل الأتقياء وتغير الزمان وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
178
وتظهر أحاديث آخر الزمان والخلاص في المستقبل على يدي المهدي. فقد جاء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. وقد يكون الخلاص على يد أربعين رجلا من الصالحين على ملة إبراهيم الذي عاش فكره، واستمسك بالتوحيد نظرا وعملا حتى النهاية، الإيمان بالله والاستغناء به عمن سواه. ويتحد مجتمع المؤمنين بالطبيعة والكون، بالأرض والسماء، فالخلاص فردي واجتماعي وتاريخي وكوني.
179 (ه) رسالة الجامعة
وفي رسالة الجامعة هبط الموروث إلى النصف تقريبا.
180
وأكثره في الجزء الثالث في حين كان في الرسائل في الجزء الرابع. وتختلف نسب الوافد والموروث في كل جزء.
181
ويبدو التحول من الوافد إلى الوافد والموروث إلى الموروث بلا وافد إلى غياب الوافد والموروث معا من أجل الإبداع الخالص. كما قل استعمال لفظ «القرآن». وقل أيضا ظهور أسماء الأنبياء.
182
وتختلف الآيات طولا وقصرا، والغالب القصر كعامل مساعد. وقد تتوالى الآيات دفعة واحدة كما يفعل الخطيب والواعظ والفقيه وأهل السلف قدماء ومحدثين. وأحيانا تكون الآية بديلا عن العبارة وليس استشهادا على قول. فالقرآن لغة شعرية تكمل الخطاب النثري، وتبدو الآيات بالرغم من كثرتها غير دالة، مجرد تجميع دون توظيف. ويتم الحديث عن الإخوان بضمير الغائب الجمع وكأن الملخص كمي دون أية دلالة كيفية. وقد تبلغ النصوص حد سورة بأكملها واعتمادا على سلطة النص دون تصورات خاصة بل مجرد صلوات وأدعية. وتتحول رسالة الحيوان إلى آيات الحيوان اتجاها نحو التفسير الموضوعي للقرآن. وأحيانا لا توجد قضية لإثباتها بالنص بل مجرد استعمال الآيات كأسلوب إنشائي بطريقة الأزهر وطبعات حواري الأزهريين عن المعاد وعالم الجن والملائكة لا توجد حجج أن استشهادات بل مجرد رصد مادة خام مثل: المعجم المفهرس عن مشاهد القيامة دون تأويل أو فكر جمالي، مجرد تقابل آيات ووقائع.
183
وكما هو الحال في الرسائل من الأقل إلى الأكثر إلى الأقل تغيب آيات العدل، وتقل آيات التوحيد ثم تكثر آيات النبوة والمعاد. ثم يقل من جديد الإيمان والعمل، وتكاد تغيب الإمامة. وقد تنتهي العقليات لحساب السمعيات، والإلهيات لحساب النبوات، وتطغى النبوة والمعاد على الإيمان والعمل. وتكثر الآيات في رسالة البعث والقيامة والحشر والحساب وكيفية المعراج، فالموضوع هو الاغتراب خارج العالم المفقود وتعويضا عنه.
184
وأحيانا لا تذكر عناوين الرسائل بدقة، وتختلط بصلب نصوصها، مما يدل على أن التلخيص قد تم عن وعي وبلا رؤية.
وتقوم كل الآيات المنتقاة على ثنائية الخير والشر، الجنة والنار. وكل آية لها تأويل مقابل من أجل بيان التضاد بين الحق والباطل، العدل والظلم. فالتضاد الديني ما هو إلا تعبير عن التضاد السياسي. وهي مقياس الاختصار، الإبقاء على الآيات الإشراقية وحذف غيرها لأنها عمدة الرسائل.
ولا فرق بين النفس والطبيعة. الكل نماء وحياة وإشراق. وتغيب الآيات الاجتماعية الموجهة إلى أوضاع العصر كما تفعل بعض الحركات السلفية الإصلاحية المعاصرة.
وأحيانا يكون استعمال الآية في غير محلها. ويتحول سبب النزول من الواقع التاريخي الأول إلى الوضع النفسي الحالي لدرجة الافتعال في الاستشهاد. وأحيانا يبدو القصد إيجاد مناسبة للاستشهاد بالآية. وتتكرر الآيات بنفس المعنى وفي نفس السياق وكأن المقصود هو مزيد من الإقناع أو اللازمة الشعرية من أجل ضبط الايقاع النفسي. ويتم التوجه نحو العواطف للتأثير واستبعاد العقل لنزع المقاومة ومنع الاعتراض، واستعمال النصوص للتستر والتغطية اعتمادا على السلطة. لا يوجد إقناع عقلي بل تملق لأذواق الجمهور بطريقة حسية ساذجة، وإيهامهم بالخلاص مع كثرة البسملات والحمدلات لتجريد الفرد من سلاح الفردية. وتكثر الموضوعات الخيالية في المقدمة مثل الجن وإبليس والشيطان وآدم وحواء من أجل إثارة الخيال الشعبي، وتدخل في أساطير السقوط والخلاص في تاريخ الأديان. ومن الغريب ترديد الحكم الشائع أن الرسائل تضمن إعلاء للعقل والحكمة أمام هذه الكثرة من آيات الجن استرعاء للانتباه وإثارة للخيال.
وفي نظرية العلم تذكر آية النور، نور الله كمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة، والزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية كمثل على العلم، ولله المثل الأعلى. هو كشف الغطاء بعد أن يصبح البصر حديدا وكما حدث للرسول في الإسراء والمعراج. والرؤيا أحد مصادر العلم، ورؤى الأنبياء صادقة مثل رؤية يوسف التي حسده عليها إخوته. والقرآن مصدر للعلم بشرط عدم النسيان. فالعلم ذكرى ولا يذكر إلا أولوا الألباب. بل إن الجن سمع القرآن وآمن به استرقاقا ولم يكن الإنسان قبله يعلم شيئا منه عن طريق الوحي.
185
ومع ذلك هناك المعرفة الطبيعية التي تأتي من التأمل في النفس وفي الآفاق، والمعرفة بالقلب، وإدراك الحواس مشروطة به وإلا كان البشر كالأغنام. والسمع والروح والفؤاد ضمن مسئولية الإنسان. والعلم قوة وإلا كان مجرد أسماء فارغة من أي سلطان. لذلك وضع الجدل في العلم والعلماء يخشون الله. ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
186
وفي نظرية الوجود، الخلق صفة لله، ومن أحسن من الله صبغة. قدر فهدى، وأخرج المرعى، وخلق السموات والأرض في ستة أيام. ولا يوجد تفاوت في الخلق؛ فقد خلق كل شيء بقدر. ذلك تقدير العزيز الحكيم، وكل في فلك يسبحون. وخلق آدم من الطين وإبليس من النار. وطور الجنين من العظم إلى اللحم وحسن الخلقة. وهو الذي يصور في الأرحام. لقد جهل إبليس دور الشر فظهر دور التجلي. وخلق عيسى مثل آدم من تراب ثم قال كن فيكون. وخلق الإنسان من نطفة أمشاج، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ثم أهداه السبيل، شاكرا أم كفورا. وخلق الناس من نفس واحدة. والخلق يبعث على التفكير.
187
فلا يوجد شيء باطل في العالم. وينتهي الفكر إلى أن الله خالق العالم. فكل آية تدل على وجوده في النفس أو في الأرض، في الداخل أو في الخارج، بناء على شهادة في عهد الذر الأول. فالمستنكر والمنكر يخرج على هذا العهد. ومن لم يشهد تحول قردا أو خنزيرا وعبد الطاغوت، وتحول إلى حجارة أو حديد، وأوتي من الأموال والأولاد وكل ما وعده الشيطان من شرور. ويضرب القرآن المثل بالشجرة الخبيثة التي ليس لها قرار أو ثمار. وخلق الناس من نفس واحدة.
188
وقد تم الخلق بالحق، وكل شيء خلق زوجين كي تستمر الحياة. والقمر منازل، والإنسان خليفة الله في الأرض، كل شيء في الطبيعة مسخر له، والأنعام بدفئها، والإطعام منها، وحملها الأثقال. ويسير الخلق طبقا لسننه وليس لسنة الله تبديل.
189
ولم يكن لآدم عزم. نهاه الله عن الأكل من الشجرة فظلم نفسه وزوجه وكشف المستور وبان العري. فخرجا من الجنة بعضهم إلى بعض عدو إلى حين، من غرور الناس بعضهم ببعض، وغواية الشيطان إلا عباد الله. وقد طلب إبليس الانتظار تحديا للإنسان لغوايته وليزين له زخرف القول إلا عباد الله الذين ليس عليهم لإبليس سلطان. وقد تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.
190
وفي الذات والصفات تظهر صفة الوجه وهي تعادل الوجود، وصفة البقاء، فكل شيء هالك إلا وجهه، وصفة التنزيه والتسبيح والتعالي عن الوصف. وهو أحد. تسبح له الملائكة، يعملون بأمره، وهم صافون حول العرش، وسعت رحمته كل شيء. وأمره لكل شيء كلمح البصر. علمه شامل، لا يضل ولا ينسى. يعلم السر وما يخفى، ويحصل ما في الصدور، ويعلم مستقر الحب ومستودعه.
191
قدرته مطلقة، يقدر كل شيء بتقديره. ولا تستطيع الجن أن تنفذ إلى السماء إلا بسلطان. ومن عصى منهم فله العقاب. وقد خلقوا لعبادة الله. والله يمسك السموات والأرض أن تزولا، وتأتيانه طائعين . وهو كل يوم في شأن، رزاق ذو قوة متينة. يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. له الأسماء الحسنى، عالم الغيب والشهادة، له الخلق والأمر، يمسك السماء ثم يبقيها، ويفجر في الأرض الماء ويجففها.
192
وفي خلق الأفعال تظهر الآيات التي تدل على الجبر والرضا بالقضاء والقدر أو الكسب على أقصى تقدير. فالله هو الرامي، وهو المتم نوره. يمحو ما يشاء. الهداية من الله، فضل يؤتيه من يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والله متم نوره مهما حاول أحد أن يمنعه. والرزق من الله، وأحيانا يبدو التيار الاعتزالي في بعض الآيات مثل التكليف طبقا للطاقة، وأن الإنسان حر يختار أحد الطريقين، النجاح والفوز والخلود أو الشقاء والفناء والخسارة. فالله بريء من الشر. وأحيانا يظهر لفظ الكسب، كسب الأفعال بعد الإيمان بالله. والله ينصر المؤمنين وجبريل وصالح. ومولى المؤمنين علي. وتغيب آيات العقل إيجابا أم سلبا نظرا للطابع الإشراقي لنظرية العلم.
193
وفي النبوة تظهر عدة آيات أخرى. فالله لا يكلم البشر إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا. فالرسول مجرد إنسان يوحى إليه، يرسل بلسان قومه. وما عليه إلا البلاغ والإنذار. فالنبوة تذكرة وبشارة ونذير وإعلان. وهي أمر وطاعة، امتثال للأوامر واجتناب للنواهي، وقد اصطفى الله أنبياءه فرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل. وشرع الله من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى لإقامة الدين دون تفرق فيه. ثم حرف أهل الكتاب القلم عن مواضعه، يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون من عند الله. والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نزل به جبريل على قلب محمد بلسان عربي مبين. لا يمسه إلا المطهرون. يؤمن به كل الناس. ويصدق ما في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى. وموسى كليم الله، أبلغه الله رسالته، وناداه من جانب الطور. وأبلغ الرسالة إلى أحمد بالوحدة وعدم التفرق.
194
وفي المعاد تذكر آيات البعث والحساب بداية بعلامات الساعة، تكوير الشمس وتسخير البحار، وتزويج النفوس، وسؤال الموءودة عن ذنبها، ونشر الصحف، وكشط السماء، وسعر الجحيم، وأزلاف الجنة. حينئذ تعلم النفس ما أحضرت. وكلها صور حركية يمكن تأويلها بأي مضمون إشراقي أو اجتماعي. فإشراق القدماء يعادل ثورة المحدثين، هروب روحي وعمل سياسي. والآيات تسمح بذلك، لغة الستر والكشف في أيديولوجية الصراع بين الخير والشر، الأنا والآخر، الأصدقاء والأعداء، والمدبرات أمراء ثم إلى الله يرد كل شيء وإليه يرجع الأمر. يبدأ الخلق ويعيده، ويثبت بقياس الأولى. فبعث العظام أصعب من الخلق، والخلق أسهل من البعث. والكل يعود إلى الله.
195
والمسئولية فردية صرفة، لا يعرف المرء أخاه وأمه وبنيه وصاحبته. الخلق فرادى دون شفاعة. تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها. حينئذ يتبرأ المتبوع من التابع. ويغيب قانون الاستحقاق كما هو الحال عند الأشاعرة. الثواب والعقاب مرهونان بالمشيئة الإلهية. ومع ذلك ينفع الصادقين صدقهم ويشهد كل نبي على أمته. ويشهد الرسول على الأمم كلها. وتوضع الموازين بالقسط، وكل نفس حسيبة على نفسها دون ظلم وجور. الخير بالخير والشر بالشر ولو مثقال ذرة. والموازين الثقيلة تنجي، والموازين الخفيفة تؤدي إلى الهلاك. والاختصام يوم الفصل لا يفيد لأنه لا مجال للزمان، وقد تم التنبيه من قبل في الزمان، ووعد الله حق، ولم يستجيبوا له فاللوم عليهم، وتقف الملائكة والأرواح صفا. لا يتكلم أحد منهم إلا بإذن، ويتكلمون صوابا. والكل راجع إلى ربه يسبح له. ولكل مقام معلوم.
196
وكل شيء مسجى ومحصى ومعد. والوعد صادق. وتشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود بما كانوا يعملون فيستحقون جزاء الأعمال دون ظلم.
197
ويأتي مع كل نفس بشهيد من نفسه وجسمه ولا يتكلم أحد يوم الفصل إلا بإذن. ويفرح المؤمنون بالعودة إليه. ويشعر الجميع أنه لم يبرح إلا منذ يوم ومقداره ألف سنة أو خمسون ألف سنة. وتتكاثر الصور الفنية. إذ ينفخ في الصور، ويعصف بالسماء والأرض، وتشرق الأرض بالنور، وجيء بالنبيين والشهداء، وتؤتى كل نفس ما عملت خيرا أم شرا. ويأتي الله في ظل من الغمام. وتزلزل الأرض. وعنده علم الساعة، وما تكسب النفس وبأي أرض تموت . والروح من الله ولم يؤت الإنسان إلا قليل من العلم، ويظهر التقابل بين الخير والشر في المعاد بين أصحاب اليمين في سدر مخصوص وطلع منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة وفرش مرفوعة في مقابل أصحاب الشمال في سموم وحميم. كتاب الأبرار في عليين، كتاب مرفوع، يشهده المقربون، وكتاب الفجار في سجين. البلد الطيب يخرج نباتا طيبا، والبلد الخبيث يخرج نباتا نكرا. وهناك أهل الأعراف، يعرفون بسيماهم، حالة افتراضية للترجيح، وإلى الخير أقرب للميل الطبيعي نحوه.
198
ويعجل المؤمن إلى الله ليرضى. وهي النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية. وطوبى للمؤمنين حسن المآب. يظنون أنهم ملاقوا ربهم، ينالون النعيم الحسي والروحي. يسقون ويطعمون، ويعيشون بلا غل في الصدور، على سرر متقابلين وحسن الرفاق. لهم نخيل وأعناب. يستقبلهم أهل الجنة، تحيتهم فيها سلام وليس فيها شمس ولا زمهرير. صحفهم مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي كرام بررة. يذهب الله عنهم الحزن، ويحلهم دار المقامة دون نصب أو لغوب. فنعم أجر العاملين. والملائكة من حول العرش، يحمله ثمانية، وتوفى كل نفس ما عملت. ينعم الله عليهم ولا يغضب. ويستغفرون، فقد وسعت رحمته كل شيء.
199
وعندما يأتي أمر الله دون استعجال يحجب الكافرون عن ربهم. وتتحسر كل نفس على ما فرطت في جنب الله، وتتمنى لو كانت ترابا. ترى ما عملت من سوء محضرا، وتتمنى لو كان بينها وبينه أمد بعيد. ولا ينفعها جدالها عن نفسها أو القدم. ويعض الظالم على يديه ويتمنى العودة بعد فوات الأوان. ولا يمكن رده كي يعمل صالحا. ويحاسب قوم عيسى عما نقلوه عن لسانه واتخاذه وأمه إلهين من دون الله وإنكار المسيح ذلك. وقد آمن بعض أهل الكتاب بالطاغوت. قتلوا فريقا وكذبوا فريقا، وأشركوا بالله ولم يؤمنوا به، ظلموا أنفسهم وآمنوا بالطاغوت، وقلدوا غيرهم من الأمم حيث لا ينفع الندم والتفريط في حق الله، ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل في سم الخياط.
200
وينكشف الخداع في العمل، العمل للدنيا رياء للناس والذي لا ينفع في الآخرة، ويذهب هباء منثورا. وتبرز الجحيم للغاوين . شياطين الجن والإنس يوحون بالغرور. لم يطعموا المسكين، ولم يكونوا من المصلين. بل خاضوا مع الخائضين، وكذبوا بيوم الدين، وأخذوا أموال الناس بالباطل، وقالوا زخرف القول غرورا، فكانوا كالأنعام أو أضل سبيلا. يأتي السماء بدخان مبين، ويغشى الناس عذاب أليم، ويردون سكارى وما هم بسكارى، ويلقون عذابا شديدا، وتكون السماء دخانا، ولا يخفف عنهم العذاب، وتغير جلودهم لمزيد منه. نار الله الموقدة تطلع على الأفئدة، وأعد الله لهم سلاسل وأغلالا وسعيرا، أئمة يدعون إلى النار كأنهم أعجاز نخل خاوية، مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، تغشى وجوههم النار. حينئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا تنفع نفس إيمانها إلا إذا آمنت من قبل، والأخلاء اليوم بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. تشهد عليهم جلودهم، يملئون النار هم وأتباعهم. لهم مقامع من حديد، ولهم فيها زفير وشهيق. حينئذ يتنصل الشيطان من غوايته ويوقع المسئولية على ظلم الإنسان. والخاسرون في الآخرة رضوا بالحياة الدنيا، أعمالهم حسرات عليهم، ولا ينجون من النار. فخسروا الدنيا والآخرة، يصلون نارا حامية، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أعمالهم حسرات عليهم، يؤخذون بالنواصي والأقدام. ومن ورائهم برزخ إلى يوم البعث، ويعرضون على النار غدوة وعشيا. والتركيز على المعاد على هذا النحو إنما هو رد فعل على مآسي العصر والرغبة في الانتصار كما هو الحال في نشأة الأخرويات في تاريخ الأديان.
201
وفي الإيمان والعمل تذكر آيات تجمع بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح فشرط المحبة اتباع الله، والذكرى والصبر طريق النجاة. وعبادة الله والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وتجنب الفحشاء والمنكر والشكر والتوبة، كل ذلك يؤدي إلى اليقين، وذكر اسم الله والتسبيح له في الغدو والآصال وعدم اللهو بالبيع والتجارة عن ذكر الله. وخير الزاد التقوى، والشريعة نور الله الذي يتم دون إطفاء. والأمانة حملها الإنسان بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال مشفقين منها. ومضمون الإيمان الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل. قمته الجهاد، جهاد النفس، والعزلة عن الظالمين الذين يقتلون الأنبياء، ويكفرون بهم.
202
في مقابل أعمال أخرى تؤدي إلى الهلاك مثل النفاق الذي يؤدي إلى الاستهزاء بالمؤمنين والطمع مثل من له تسع وتسعون نعجة ويطلب من أخيه نعجته الوحيدة، وتكذيب الأنبياء وقتلهم، وهي أعمال الخاسر الذي بيته أهون من بيت العنكبوت.
203
والتجمع طبيعي في البشر بل وفي الحيوان. فالدواب والطيور أمم وفي المجتمع أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون. وحزب الله هو الناجي وحزب الشيطان يريد إطفاء نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون. وينصر الله الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ويهلك فرعون وهامان وجنودهما مما كانوا يحذرون. ويتكون فريق في الأمة للتفقه في الدين وإنذار القوم. وهنا تبرز الإمامة العملية على استحياء.
204
وتذكر في الجامعة عشرة أحاديث يتكرر منها حديث الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر مرتين. وهو حديث ضعيف يحول الجهاد من الخارج إلى الداخل، والعدو من الخارج إلى الداخل.
205
ثم يظهر التشيع خاصة في أحاديث فضائل على وخلافته. فالرسول وعلى أبوا الأمة، ولا إله إلا الله عنوان المسلم. والله هو الدهر، لذلك لا يجب سبه. ولذلك جعل الفلاسفة الزمان قديما. وهناك عدة أحاديث عن آخر الأنبياء وآخر الأمم ووقت ظهورها.
206
ويستعمل لفظ القرآن ليدل على معان عادية مثل ما ذكر فيه من بناء على المؤمنين أو المقارنة بين لفظ الجن والجنان والجنات أو آيات الصداقة والجن. كما تشير إلى ضرورة تأويله والتدبر والتفكير فيه وضرب الأمثلة على معانيه الخفية التي لا يدركها إلا الراسخون في العلم، والموعظة والتذكرة وضرورة تأويله. والمعنى الأهم والجديد هو دور القرآن أي مرحلته التاريخية التي تبدأ بها دولة أهل الخير وزوال دولة أهل الشر إلى أجل محدود في الدنيا ثم استئناف دور آخر في الآخرة. الدور الأول مجرد تذكرة ومثل، والثاني تحقق وتصديق. الأول هو السجن والثاني هو الخلاص. ولا يكون الخلاص للإنسان وحده بل للحيوان والطبيعة. الأول القرآن الرأسي الذي يستغله الظالم والثاني القرآن الأفقي الذي يثور به المظلوم. الأول خارج التاريخ، والثاني داخل التاريخ.
207 (و) قصص الأنبياء
ويعتمد الإخوان على قصص الأنبياء كملحمة تاريخية يظهر فيها الصراع بين الخير والشر ، قراءة للحاضر القريب في الماضي البعيد. فالتاريخ يعيد نفسه في دورات وأكوار. وآدم هو الأكثر ذكرا لأنه أول الخلق وسره، ثم موسى الذي يمثل القوة في مواجهة طغيان فرعون، ثم المسيح الذي يمثل سر آدم في الخلق من جديد ووحدة الروح والطبيعة والنفس مع البدن، ثم إبراهيم خليل الرحمن الذي عارض عبادة قومه للأصنام، ثم محمد خاتم الأنبياء، ثم سليمان الذي علم منطق الطير، ثم نوح صاحب العزم ونجاته وهلاك من عصاه، ثم يوسف الصديق، ثم هارون رفيق موسى وداود صاحب المزامير، ثم لقمان الحكيم، ثم إدريس هرمس الحكيم، ثم يعقوب، ثم إسحاق وشعيب وصالح، ثم يحيى ويونس، ثم يوشع نون والخضر وهود وإسماعيل ومريم وزكريا.
208
ولكل نبي قوم. فيشتق من آدم بنو آدم، ابن آدم، الآدميون، آدمي، وبنو إسرائيل قوم الأنبياء.
209
ولكل نبي عدو، فرعون لموسى، وقارون نقيض لقمان، حب المال في مقابل حب الحكمة، وطالوت لجالوت. ومن الأعداء ابن النمرود، هامان، قابيل وهابيل.
210
وتذكر بعض الأسماء العبرية والفارسية وأسماء الملائكة وأسماء بعض الشخصيات التاريخية العربية الإسلامية. كما تذكر بعض الأسماء الأسطورية كما هو الحال في علم الكلام في آخر فقرة في نظرية الوجود عن الجن والشياطين والقرابين الجرجاس والدعاء له والذي تنقش صورته على الهيكل، وهو جرجاس الجراجسة، وإبليس الأبالسة، وكبير الشياطين، وعظيم الجن أجمعين، رئيس سبعة وثمانين.
211
وتاريخ الأنبياء هو تاريخ الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين النور والظلمة، موسى وفرعون، قابيل وهابيل، إبراهيم والنمرود، نوح وابنه، المسيح واليهود. الصراع سنة الحياة مثل صراع إخوان الصفا مع إخوان الشياطين. ذرية بعضها مع بعض، ومعجزاتهم يؤيد بعضها بعضا بحيث يكونون مسارا واحدا في التاريخ بناء على الاختيار والاصطفاء والاختبار. لذلك يوبخ الله اليهود العصاة. الأنبياء هم شموس بني آدم والشيطان عدوهم أجمعين وقصصهم معه معروفة. لا يحيط بعلومهم أحد من البشر أو الفلاسفة إلا ما شاء الله. لم يذكر الله ذنوبا لهم في كتبه ليكونوا قدوة لغيرهم. اتفقوا مع الفلاسفة في التوحيد والعدل. وعلماء التأويل هم الأئمة وخلفاء الأنبياء، أخبروا عن نعيم الجنات كما أخبر الحكماء عن خلود الأرواح، غرضهم وضع النواميس والشرائع كما أن غرض الحكماء وضع السياسات والصلاح في الدنيا والآخرة. والإيمان إقرار باللسان بما أتوا به. ولم يحرموا إلا الموسيقى التي تضعف النفوس لنيل شهوات الدنيا وليس الموسيقى التي تزهد في الدنيا طلبا للآخرة التي اشتغل بها الحكماء. والعلماء خلفاؤهم، يسيرون على طريقهم وهم الأئمة المهديون الذين يقضون بالحق. الأنبياء والحكماء متفقون في الغاية. والخطورة في جعل الفلسفة أو النبوة المصدر الوحيد واستبعاد الآخر وكلاهما من الله. موضوعهما واحد. ويستعمل الإخوان الشعر حول الأنبياء، إبراهيم ويوسف سليمان ويونس والمسيح وأسماء قابيل وهارون وماروت وأهل الكهف ويأجوج ومأجوج والدجال. وهو شعر ركيك ولكنه قادر على صياغة القصص، ويكشف عن أهم الأنبياء والحكماء خاصة مع توافر الطابع الدرامي للصراع بين الخير والشر، وأثر السحر على الآدميين في أجسادهم، وقصة هاروت وماروت وهبوطهما من السماء إلى الأرض ومفارقتهما جوار ربهما والملائكة مثل مفارقة إبليس للملائكة باستكباره وعصيانه ومفارقة آدم الجنة من خطئه ونسيانه.
212
ويذكر آدم أبو البشر بمفرده أو في صيغة ذريته فردا. ابن آدم مرادف للإنسان أو جماعة «بنى آدم» مرادفا للبشر. خلق من طين ثم نفخ فيه بالروح. خلق مرتين، الأولى من الطين، والثانية من الروح. وخلقت به النسب الكونية. فآدم نموذج النسبة والتناسب والمقياس في الخلق. قرنت النفس الإنسانية بجسد آدم الذي خلق من تراب. وقد خلق الله آدم على صورته ومثاله كما جاء في بعض الكتب. فهو مؤهل للطاعة. وخلق آدم عاريا وكانت الكواكب في إشراقها، وأوتاد الأبراج قائمة، والزمان معتدل، وعلى رأسها شعر طويل. وكان قبل آدم الجن وعزرائيل وإبليس أسير، فرعون آدم. كان خلق آدم وحواء من الطين بعد كون الحيوان من الأرض، وآدم وحواء بحذاء الجوزاء من الشرق. اصطفاه الله وكرمه هو وأولاده من بين سائر الحيوانات. ومن فضائله كثرة العلوم.
213
وقد سجدت الملائكة لآدم ساعة الخلق إلا إبليس، رفض واستكبر وقرر غوايته إلى يوم الدين، وأخرجه من الجنة . وظل هو وزوجه في الأرض دون حماية إلا أن الله ألهم عطارد فألهم آدم النطق. وترمز قصة خطيئة آدم من السقوط والخلاص إلى محمد في هذه الدنيا وحاجته إلى العون والخلاص منها، عالم الكون والفساد ومعاونة الإخوان الفصحاء أقرب إلى المسيحية منها إلى الإسلام، وبعد أن سقط آدم في عالم الظلام احتاج إلى عالم النور. وكبر إبليس إحدى المعاصي، وامتدت إلى جسد قابيل، وكبر فرعون وكذلك أخذ ما ليس للإنسان واستحقاقه فسقطت رتبته، وانكشفت عورته، وشمت به أعداؤه. وشر الأخلاق كبر النفس، وحرص آدم، وحسد قابيل. وتقبل الله قربان أحدهما دون الآخر، والقصة كلها لا يمكن معرفتها بالعقل. لذلك أيده الله بالوحي والالهام، وأنزل معه الكتاب ليدعو إلى الجنة التي منها خرج. وعلم الله آدم الأسماء كلها، منافعها ومضارها أي حقائق الكون. وأمر الملائكة بالصعود إلى الجنة. ثم علم آدم أولاده تلقينا وتعريفا لما تكاثروا. خلق الله آدم أبا البشر وجعله ناطقا متكلما فصيحا مميزا بالقوة الناطقة والروح الشريفة والقوة العاقلة القدسية. وأصل الحروف والخطوط خطان ومنهما تركبت الحروف مثل صوت الإنس كلهم من شخصين آدم وحواء، وهي الحروف التي علمها الله لهم. وأصل العلوم وأشكال الكتابات وفنون التأليفات لأهل الهند من الحروف التي خرجت مع آدم والتي بها عرف أسماء كل الموجودات. وعدد حروفها تسعة لمناسبتها للأفلاك التسعة الحاوية لجميع الموجودات. ثم تفرعت بعد ذلك واختص بها أهل الهند لأن آدم هبط بها من الجنة. وظل آدم يحفظ أسماء هذه الحروف ويتكلم باللفظ وينطق بالمعنى ويدل عليه. ولم يخط بيده بالقلم إلى أن ظهر علم الكتابة.
214
ومع ذلك فهو خليفة الله في أرضه منذ الخلق حتى يوم القيامة لما به من مثال باق إلى يوم الدين. هو الإنسان الأول، النفس الكلية، أبو البشر الترابي، له الحكم في هذه الأرض والربوبية على جميع من فيها إلى يوم القيامة. حذره الله من إبليس الذي رفض السجود له والاستخلاف في ذريته بعد التوبة، وهو الأمر الثاني والألوهية الثانية ، وهي خلافة النبوة، ومملكة الرسالة، والإمامة وفي ساعة الخلق. وبعد أن استوى الله على العرش أخذ الميثاق عليه وعلى ذريته ألا يعصون ربهم. وقد عاتب الملائكة الله وراجعته في الخطاب وسجودهم لآدم، فالقصة كلها محكمة الأطراف تفسر سبب كون الظلم ووقوع النفس في غرورها وخلق آدم الأول وسبب عصيانه وحديث الملائكة وسجودهم لآدم واستكبار إبليس من السجود وشجرة الخلق والملك الذي لا يبلى، وسبب أخذ الميثاق إلى ذرية آدم، وأخبار القيامة. ثم أصبح الإخوان نياما في كهف أبيهم آدم مدة من الزمن حتى جاء وقت الميعاد فتفرقت بهم البلاد في مملكة صاحب الناموس. وشاهدوا المدينة الروحية التي خرج منها آدم وزوجه بعد خداعهما من إبليس. فالقصة تعود من جديد، والعودة إلى السماء. السقوط من السماء في البداية، والعودة إليها في النهاية.
215
وابن آدم أصبح عنوانا للإنسان من حيث هو إنسان، مخلوق إلى الأبد. وبطاعته الأوامر وتجنبه النواهي يصبح حيا مثل الله وأن يقول للشيء كن فيكون مثله، وله محلان، الأول فيه عيوب نفسه، والثاني عيوب غيره، ويرتبط به ولداه قابيل وهابيل، استمرارا لقصة الظلم والعدوان والصراع في نشأة البشرية. فقد قتل قابيل هابيل وظن أهل هابيل، أنه قتل بفعل الجن. ومنذ ذلك الوقت استظهر بنو قابيل على بني هابيل. واستمر القتال أخذا بالثأر هو نفس ما فعله السباع بعد ما رأوا امتثال بني آدم.
216
ولبني آدم العلم والمعرفة، والنبوة والحكمة، الكتابة والقراءة، والأخبار المروية وإدراك الحواس. اصطفى الله من بينهم الأنبياء رسلا لإعطائهم الوحي ليدعون الله، يرضون بقضائه، وهم ذرية الأنبياء الذين قربهم الله إليه. والنفوس متفاوتة في طاعة الله في ذرية بني آدم. والأنبياء هم الأولياء والأصفياء منها، بنو آدم أجسامهم ثقيلة إلى أسفل وصورتهم آدمية. أما العلماء والفقهاء فقد تجاوزوا الآدمية الحيوانية.
217
وبنو آدم هم ذرية آدم، وإليهم يتوجه النداء بأن الله حي لا يموت. توالد من آدم وزوجه البشر جميعا. اقترن بها وحملت منه. أبوان، الذكر والأنثى، والأنثى تحت الذكر، ومنهما كان العالم. وكما أن لآدم ذريته فكذلك للشيطان ذريته في غواية بني آدم وعداوتهم له. وهم مطالبون بالتخلص من جناية آدم بعد أن عصى ربه فخرج هو وذريته من الجنة، عالم الأرواح. ولما كانت النسب تختلف بين الأفضل والأقل فضلا فإن البشر أفضل من الملائكة الذين كانوا قبل آدم لأنهم في هذا العالم يصارعون الأضداد الذين بهم سيكون خراب العالم.
218
ويظل بنو آدم في الأرض قادرين على الهداية أو العصيان، على العدل أو الجور، لقد خلق بنو آدم من شعوب وقبائل مختلفة ألوانها وألسنتها. وكلهم خلفاء الله في الأرض، ولهم ملوك يدبرون أمورهم ولكنهم أضلوهم بكثرة اختلافاتهم وآرائهم ومذاهبهم. فالاختلاف مهلكة. وهم الآن الأكثر عددا أفرادا وشعوبا. لذلك تكاثرت لغاتهم وتعددت. كما ركب بنو آدم من الأخلاط الأربعة، وعليها قامت الأخلاق، العزم من التراب، واللين من الماء، والحدة من الحرارة، والأناة من البرودة. لذلك تم الخلق تدريجيا حتى لا تضيق بهم الأرض.
219
وبين بني آدم والحيوان صراع وألفة كما بين الإنس والجن. وقد تم تأجيل الصراع الحالي بين الإنسان والحيوان تاريخيا. بل إن طباع الحيوان قد تغيرت بظهور الإنسان. فالضفدع يداخل بني آدم في منازل، في حين إنه بين الإنسان والحيات عداوة قديمة وحقد كامن. يأكل بنو آدم الحيوان ثم تأكلهم الديدان. وقد تغيرت طباع الحيوان إلى أسوء. فظلت تقاتل بعضها بعضا بعد أن رأت بني آدم يفعلون ذلك. والله يعلم بني آدم من النحل الذي يخلق عسلا من غير هيولي لإثبات قدرته. ويتناظر الحيوان والإنسان أيهما أفضل بعد مناظرة الجن والإنسان. فالإنسان بين الحيوان والجان. الكلاب تجاورهم وتتداخل معهم وتتجانس مع أخلاقهم، وأطعمة الإنسان والحيوان متشابهة. ولهم طباع السباع، ومع ذلك يعتدي الإنسان على الحيوان بالسلاح، ولهم ملوك وطغاة معتدون. ولهم حيل يسيطرون بها على البحار. وللحيوان يد بيضاء على الإنسان. حواه الحوت في بطنه، وتسلط الذباب على الملوك. فأيهما أقوى وأيهما أفضل، الإنسان أم الحيوان؟ وفي قصة رمزية تشكو الحيوانات بأسرها في أيدي بني آدم كما تشكو تعاونهم مع بني آدم ضدهم، وتود البهائم الهرب من بني آدم ، وهي تصلح جنودا للملوك. يجور بني آدم على الحيوان. لذلك جاءت دعوات الرفق بالحيوان عن حق بعد أن تحول الواقع إلى مبدأ شرعي نتيجة لاضطرار الإنسان البدائي الصيد للطعام وأخذ جلد الحيوان للكساء.
220
وهناك عداوة أخرى بين بني آدم والجن، بين بني الإنسان وبنى الجان، عداوة قديمة قبل آدم؛ إذ كان قد أخذه عزرائيل أسيرا وهو فرعون آدم. وكلما تذكره بنو آدم امتلأت قلوبهم حقدا عليه. العداوة قديمة والذاكرة حية. حاولت الشريعة والملة والدين الصلح بينهما، وتراجع بنو الجان إلى ديار بني آدم، فلما طرح إبراهيم في النار اعتقد بنو آدم أن ما فعله النمرود كان من فعل الجان. ولولا معاونة الجن سليمان لكان حكمه حكم بني آدم. تم الصلح بين بني الجان والمسلمين من أولاد آدم إلى اليوم. ويظل الجان يجاور بني آدم في بساتينهم وبني آدم يبغضونه، ويستطيع الجان أن يدخل من أهواء بني آدم.
221
والسماء مسكن لنفوس الجميع؛ الملائكة والشياطين وبني آدم والحيوانات.
ويأتي موسى بعد آدم في الأهمية. وإذا كان إبليس عدوا لآدم فإن فرعون عدو موسى. والمعنى الشعبي لفرعون معنى صحيح، الشر والفرعنة والطغيان. وعلاقة موسى بفرعون مثل علاقة إبراهيم بالنمرود. وقد استطاع موسى إبطال سحرة فرعون بعد أن اتهم بالسحر من هامان وفرعون، وسحر أقوى من سحر، والعقلية واحدة. وأنجى الله إسرائيل من عذاب فرعون، وفلق البحر وأعطى الله موسى النبوة والملك ليجمع فيه الدنيا والآخرة نظرا لتعود بني إسرائيل على الملك، القصد الأول الدين، والثاني الملك. ولفرعون خاصية الكبر التي لإبليس. لذلك أجابه موسى عن أسئلة فرعون عن رب العالمين بجواب يليق بربويته. والوعي الفردي لآل فرعون مستقل عنه. وهو الرجل المؤمن الذي دافع عن موسى في حين استنكف آل فرعون من الدخول تحت طاعة الأنبياء.
222
ولكل نبي صديق مثل هارون لموسى، يسر إليه ما يشعر به. وقد بدأ موسى بالدعوة لأخيه هارون من أولاد يعقوب وغيره من علماء إسرائيل حتى بلغوا سبعين رجلا سرا، ثم أظهروا بعد ذلك الدعوة وبدأ موسى بالفتيان . وكذلك فعل المسيح في بيت المقدس ثم محمد في مكة. تبدأ الدعوة سرية قبل أن تصبح علنية وهكذا يفعل الإخوان، ولما أراد موسى الصعود إلى الجبل وترك هارون لبني إسرائيل خشي هارون أن يحدثوا حدثا آخر بعد عبادة العجل. إلا أن ملك الموت قبض روح هارون فأخذها موسى فاتهمته إسرائيل بقتل أخيه. وبقي موسى بعد وفاة أخيه، وكتب لهم التوراة. وسلمهم إلى يوشع، وصعد إلى الجبل وتوفي هناك. وبقت إسرائيل أربعين سنة في التيه حتى أنقذهم يوشع.
223
وكما أن لآدم علاقة خاصة بالله، فقد خلق آدم بروح منه كذلك لموسى علاقة خاصة بالله؛ فهو كليم الله بعد أن طلب رؤيته بوسوسة الشيطان. فلما ناجاه الله أدخل السرور والفرح على قلبه فصفر وغنى وطرب. كلم الله موسى وناجاه وناداه باسمه. وسأله موسى عن سبب خلقه. فإذا كان الخير فقد سكن الجنة مع الملائكة بشرط ذكر اسم الله وخشيته. وإذا كان لابتلائه فرعون فلأن الله اختاره يخاطبه بلسانه ويعلم بني إسرائيل التوراة. فلما طلب موسى البقاء في الجنة دون الابتلاء بالأرض كان جواب آدم الذي عاش في الجنة ولم يحفظ عهده فعصى وغوى وخرج. أما طلب موسى النظر إلى الله إذا ما استجاب الله فإنه لن يهنأ له العيش بعد ذلك، وتم تأجيل الطلب حتى موعد اللقاء، وهو تحليل في غاية التعقل والاحترام المتبادل في حين أن التوراة كلها لعنات على إسرائيل. ويبدو في التحليل الوضع بالمعنى في الأخرويات وليس في المصالح العامة. ويتجاوز أسلوب التوراة إلى عمل أدبي فني مثل أدب الانتحال، أقرب إلى التأليف منه إلى الترجمة مثل استعمال القرآن الحر لتقوية النثر الفني.
224
وقد جعل الله موسى منذ ولادته قرة عين فرعون. وأتم موسى ميعاد ربه وكان من الشاهدين. آمن موسى مع غيره من الأنبياء بخلود الروح وبقائها وصلاح حالها بعد تلف الأجساد. وأثبت أن الأجسام تقطع بالحديد وليس النفوس. ولكن بني إسرائيل عبدوا العجل في غيبته، وأنكروا خلود الروح. فطلب منهم موسى التوبة. وأمرهم بضرب عنق العجل لأن في تلف الأجساد صلاح النفس وطاعة الرب، لذلك رضي السحرة بتلف أجسادهم استبقاء لأرواحهم. والنبوة رسالة من الله إلى النبي للسيطرة على أهواء البشر. فقد ارتد رسول موسى بعد أن عشق امرأة. وقد أوصى موسى بنى إسرائيل بالخضوع إلى شرائع التوراة التي أنزلها الله، وبالتضرع والدعاء وإقامة التوراة. وأصلح ما بين الجان وبني إسرائيل بالدين والشريعة فدخل كثير من الجن وبنو موسى، وقد أعطى الله موسى الشريعة لما فيها من أمر ونهي وحدود ورسوم وأحكام. وأعطى الخضر السر والغيب والكتمان. ولم يستطع موسى معه صبرا، والشرائع تتغير وتتبدل. فكانت شريعة موسى لزمانه.
225
وبنية النبوة واحدة، وقصة كل نبي لها نفس المغزى، قام المسيح بعديد من المعجزات في حياته عن طريق الإشفاء، ويؤولها الإخوان تأويلا روحيا، مداواة النفوس لا الأبدان. وكان لا يمر بحجر أو شجر أو شيء إلا ويكلمه ويعرفه ما يصلح له بوحي من الله الذي يعطي الحكمة لعباده المصطفين. أحيا الأجسام بعد موتها، وأخرج الأرواح الشريرة من الأبدان. وشريعته لعصره تتبدل كما تبدلت شرائع الأنبياء السابقين. وجاءت شريعة المسيح ودعوته إلى بقاء النفوس كرد فعل على تمسك اليهود بمظاهر الشريعة. يقرءون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها ولا أسرارها. فشرح المسيح صدورهم للمعاد، ووجههم إلى العالم العلوي، فسار معه قوم كثيرون. ودعا المسيح الخلق من الجن والإنس. ونصره الحواريون. وانتصرت دعوة المسيح من أقاصي الأرض شرقا وغربا. ونصح الحواريين بألا يضيعوا الحكمة فيضعوها لغير أهلها أو يمنعوها عن أهلها فيظلمونهم.
226
ويستشهد بأقوال عيسى للحواريين على الزهد في العالم اليوم لمن يريد دخول الفردوس غدا. فطلب الدنيا والآخرة لا يجتمعان مثل المشرق والمغرب في مواعظ كثيرة للمسيح لبني إسرائيل بطريقة حوار الله وموسى حتى حج آدم موسى، هناك إذن دين واحد هو التصوف. الحياة الدنيا استعداد للآخرة. وتلك مسئولية العلماء الذين يصدون عن سبيل الله ولا يسيرون هم فيه، والجاهل أعذر من العالم. الموت مفارقة الجسد. كما أن الولادة مفارقة الرحم. والترهب مثل أعلى.
227
وقد وصف المسيح الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية مثل ملكوت السموات، على يمين الله ولم يرمز لأن التوراة قد هذبتهم، وكذلك كتب الحكماء وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات. وقد طلب المسيح الاستعداد للقتل والصلب، وحذر من عدم الارتداد. وقد نصره الحواريون اعتقادا منهم في خلود النفس. وقد عبر المسيح للحواريين عن هذا المعنى بأنه جاء من عند أبيه وأبيهم، وأنه سيكون على يمين العرش بعد مفارقة الهيكل، يشفع للمؤمنين. ورضي المسيح بقضاء الله، وانقاد للمقادير، وسلم ناسوته إلى اليهود عن طيب خاطر، وهي النفس المطمئنة. فلا فرق بين الإنجيل والقرآن. وعرف الناس أن المسيح لم يقتل، فنبشوا القبر، ولم يجدوا الناسوت فاختلفوا. وتفرقوا إلى بلاد الغرب والحبشة وروما وأنطاكية وفارس والهند ومن بقي في إسرائيل. وما يهم أيضا هو بعث المسيح؛ إذ قال للحواريين في وحيه له أنه إذا فارق الهيكل أي البدن فإنه يكون واقفا في الهواء على يمين العرش؛ ومن ثم فهو حاضر شاهد لا يجب مخالفته حتى يكونوا معه في السموات. وهذه هي الولادة الثانية، وقد اعتقد البعض اعتقادات خاطئة مثل قتل اليهود له. والله هو الذي يحكم بين عباده فيما اختلف فيه أنصاره. فارتدوا وصوروا وعملوا التماثيل لله وللروح القدس وجبريل ومريم والمسيح تذكرة لهم بأحواله.
228
وإبراهيم خليل الرحمن، ناجاه وبحث عنه حتى عرفه. وتلك ملة إبراهيم. اتبعه عليها الناس وهي ملة الإسلام. بنى الكعبة كما بنى سليمان إليا في القدس. ففي كل الديانات مناسك وبيوت وقرابين وهياكل وصلوات. وضع الحجر والمقام وعلم الناس المناسك ليشهدوا منافع لهم. وحج وطاف ولبى وصلى وطاف وسعى ووقف بعرفات وبات بالمزدلفة، وضحى بمنى، وحلق وعرى، تصفية للنفس. وانتقل إبراهيم إلى التأمل في الطبيعة إلى إقامة الشعائر إلى الصعود بالروح، حطم الفتى الأصنام، وكانت نفسه مطمئنة بالإيمان حتى رأى ملكوت السموات والأرض وكان من المؤمنين، وتبعته ذريته. والسحر الحلال هو العلم الذي يعرفه المعلم الواصل أو الحكيم الفاضل.
229
طرحه النمرود في النار. وظن الناس تعليم المنجنيق من الجان ولكن البق قتل النمرود في النهاية. قتل الأضعف قوة الأعظم سلطانا وصولة وتكبرا، وهو اسم النمرود في الثقافة الشعبية. وطرح إبراهيم في النار مثل تخريب نبختنصر إليا وحرقه التوراة وقتل أولاد سليمان وآل إسرائيل وطرد آل عدنان. وقد فعل ذلك نمرود لما أخبره المنجمون بمولود جديد يخالف دينه على عبادة الأصنام. ولو أنه سأل النجوم لأهدته. ولكن إيمان إبراهيم خلصه من جنون الآدميين اعترافا بالوحدانية، فالله هو الذي يهدي ويشفي ويغفر، ولإبراهيم حكاية أخرى مع قارون تمثل التعارض بين الروح والبدن، بين الآخرة والدنيا. وقد امتحن إبراهيم في منامه بذبح ولده إسماعيل، وكان لا بد من تصديق الرؤيا لأن رؤيا الأنبياء صادقة. ثم أعطى الله درسا للبشر بأن الإنسان قيمة، لا ينكر رؤية نبي أو إرادة إله.
230
ويأتي سليمان في الأهمية قبل داود.
231
فالحكمة تسبق الملك، جمع الله له النبوة والملك كما جمعها ليوسف بالرغم من زهدهما في الدنيا. وهو من ملوك العراق وليس من الشام نظرا لظلم الأمويين وعدل العباسيين، وسليمان ملك عادل لا يظلم. عرف سليمان كل اللغات، لغة الطير، الهدهد والنملة، ونقل العلوم من أمة إلى أمة، وأخذ علوم الكلدانيين والبابليين والآشوريين والمصريين واليونانيين. وهو ما فعله الروم حين غلبوا اليونان وما فعله اليونان عندما غلبوا غيرهم، وكان سليمان متكلا على الله، مستندا إليه، مستعينا به، عارفا بفضله على عكس قارون الذي ادعى العلم. عرف سليمان الله وخر له ساجدا، وقد بنى سليمان مسجد إليا الذي يسميه اليهود الهيكل، في عصره وليس بيديه. وقد هدمه نبختنصر كما فعلت الروم مع ثغور المسلمين بالرغم من دفاع المجاهدين حماية للبلدان من الأعداء. كما أطاعت اليمن سليمان. والجن أفضل من الإنس كفرا بظلم البشر، وسخر له الله الجن وأيده بالملك. وافتخرت الجن على الإنسان بمعاونتها سليمان. فلما مات كانت في عذاب مهين. واتصل عن طريقهم ببلقيس عندما غلبوا غيرهم، بل ويحدد الإخوان أسماء الجن. وكانت الجن تخشاه لأنه كان يكلف الطغاة منهم بالأعمال الشاقة.
232
وكان داود يقرأ مزاميره في البيوت في الصلوات وعند القرابين وفي الدعاء والتضرع والبكاء، وكما يفعل النصارى في كنائسهم والمسلمون في مساجدهم لتساعد القلوب على الخضوع والنفوس على الخشوع والانقياد لأمر الله والتوبة من الذنوب. كان الزبور يقرأ في المحراب بألحان طيبة. وكان داود أواها حليما، ونجا آل داود من عذاب نبختنصر. وقد سعى داود إلى التفرقة بين المرء وزوجة أوريا بن حنان. قدمه أمام التابوت بدافع الهوى والحسد الغالب حتى قتل وتزوج بامرأته. ويقال إنها أم سليمان مما يضع قضية عصمة الأنبياء موضع التساؤل.
233
ونوح ضمن أولي العزم من الرسل الخمسة مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ذرية بعضها من بعض. ومن الطبيعي أن يؤمن بالأنبياء أراذل القوم، المضطهدون والمستضعفون والمنبوذون. وكل من يعصي الأنبياء وينكر المعجزات ويكذب ويستكبر يحق عليه العذاب مثل طوفان نوح، وريح هود، وغرق فرعون، وعقر ناقة صالح. كانت المعجزات أداة للإقناع حتى نهاية النبوة، وقد غرق ابن نوح مع الغارقين مع إنه حاول إنقاذ نفسه طبقا لمقاييس العلم والمشاهدة. وقد تطورت الشرائع من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى المسيح إلى محمد طبقا لحاجة كل عصر ومستواه في تقدم الوعي الإنساني.
234
وتمثل قصة يوسف أيضا الصراع بين الخير والشر بدافع الحسد ونزعات الشيطان من أولاد الجن عندما قذفه إخوته في الجب، طبقا لتاريخ الصراع بين الإنس والجن. وهو نموذج الجمال الفني الذي لا يقاوم عند المرأة، والرجل الصادق القادر على المقاومة. كما أنه نموذج الجمع بين النبوة والملك مثل موسى وداود وسليمان ومحمد بالرغم من زهدهم في الدنيا، وهو نموذج للعلم وتأويل الأحاديث والرؤية الصادقة والمقام عند الله، نموذج النفس المطمئنة.
235
أما إدريس وهو هرمس الحكيم فإنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أنواع الفلك. ثم نزل إلى الأرض وأخبر الناس بعلم النجوم، وأصبح في مقام علي. لذلك يسمى إدريس الرفيع. بالرغم من احتمال خطأ بعض المنجمين إلا أن العلم لا يبطل لأنه معجزة إدريس آمن بها ملك زمانه وليكون العالم على أتم حالاته وأكمل غاياته كما هو الحال في السفر الرابع من صحف هرمس. وهو نفس ما فعله هرمس عندما تشوقت نفسه إلى الصعود والاستمتاع بالنظر إلى الموجودات، مجرد الاستمتاع الشخصي، وفي حالة إدريس منفعة الناس. ولإدريس الحكيم فضيلة ثانية، الصلح بين الجان وبين أولاد آدم بالدين والشريعة والإسلام والملة. فتراجعت عنه الجان إلى ديار بني آدم. وله فضيلة ثالثة وهو إنجابه ذرية من القضاة العدول والفقهاء مثل بلقيس. يمثل إدريس وحدة الحضارات القديمة اليونانية والعبرية والإسلامية مثل الدعاء الأفلاطوني، والمناجاة الأرسطاطاليسية، والتوسل الإدريسي.
236
ويذكر لقمان الحكيم في وصاياه لابنه في مجالسة العلماء لأن الله يحيي القلوب بنور العلم دون منازعتهم لأن الحكمة صافية بعيدة عن أهواء البشر على عكس قارون الذي جمع المال كما هو الحال في المثل الشعبي أموال قارون.
237
ويذكر شعيب مع صالح ويونس وهلاك أقوامهم بالريح يندفع كالصاعقة، يخترق السحاب ويقتل كثيرا من الحيوان والناس وكأن معجزة الهلاك قد تمت من خلال قانون الأحوال الجوية. ونجا المؤمنون بقوة رب الفلك كما نجا قوم يونس وصالح وشعيب. ودعا قوم يونس رب النجوم وخالقها ومدبرها ليكشف عنهم العذاب.
238
وأخيرا يظهر محمد في آخر المطاف، خاتم الأنبياء، وأمة محمد أفضل الأمم، والعجيب أن يجعله الإخوان من العراق مثل باقي الأنبياء والملوك رمزا للصراع بين فارس والعرب أو العباسيين والأمويين. وله ألقابه. مثل
صلى الله عليه وسلم ، صلوات الله عليه وتحياته، حاكم الحكام، المصطفى، الرسول، النبي. أما أحمد فليس لقبا بل كنية. ويذكر مرات قليلة بلا ألقاب بل بأوصاف مثل حسن الخلق، له الحوض، رسالته عامة وشاملة للجن والإنس معا فاستجابت طائفة من الجن وحسن إسلامها. ومضت على ذلك مدة من الزمان. ومنعها من استرقاق السمع، أنزل عليه القرآن وبلغ على لسانه، وطالب بالقراءة. يحتوي على كتب الأولين وشرائع المرسلين. أنزل الله عليه الوحي، واستجابت له الكهنة والمنجمون الذين لديهم علم الكتاب. رسالته آخر الرسالات، ونبوته آخر النبوات، وشريعته آخر الشرائع. وعلى شريعته تقوم القيامة؛ إذ تختلف الشرائع حسب العصور والأزمان. وقد بعث على تمام ألف سنة ، وليس له معجزات تخرق قوانين الطبيعة، تفجر ينبوعا من الأرض أو تنزل كسفا من السماء أو تسير الجبال. الرسول مجرد واسطة وليس كل هذه المزايا الشخصية، ومع ذلك اتهمه الجاهلون بالسحر والكذب، إعجازه القرآن، حرف الله دواعي المتحدين.
كما تذكر بعض أحكام القرآن على اليهود ورفض ما يعتقدونه بأنهم أولياء الله وأحباؤه. كما ينبه على أن الآخرة خير من الأولى، واستوت عند المسلمين الأيام فصارت كلها جمعة وعيدا لمشاهدتهم يوم القيامة. ويؤول الإخوان بعض أقواله الفلسفية مثل تأويل العقل المذكور في القرآن على أنه العلة الفاعلة المبدعة بلا واسطة، وإشارته إلى النفس المطمئنة.
239
ويعطي الوصايا لأمته. وكلام الله لجبريل إفهامه للمعاني ثم جبريل لمحمد ثم محمد لأمته ثم أمته بعضها لبعض، وكلها مخلوقة مثل قول المعتزلة. وقد جمع له الله خصال الملك والنبوة كما جمعها لموسى وداود وسليمان ويوسف في محاجة القرآن لليهود والنصارى الذين كانوا ينكرون الملك ويقرون بالنبوة، فجعل الله الملك خادما للنبوة.
240
وأمته خير أمة أخرجت للناس، يعاملها ربها أحسن معاملة. تمنى موسى أن يكون منها نظرا لصلاحها وتميز رجالها كما تصفها التوراة. فأخبره الله أنه منها وهم منه. فكل مسلم منسوب إلى أمة محمد، وكل من تزيى بزي المسلمين وأعذرهم بعروة الإسلام. وهو القدوة. لذلك ترى عائشة أن أول بلاء حدث في الأمة بعد ذهاب نبيها هو الشيع أي حب الدنيا والترف بلغة ابن خلدون بالرغم من اتفاق الإسلام والمسيحية على الزهد والورع، الإسلام الإشراقي بعد تأزم الإسلام الاجتماعي.
241
ويتم الاستشهاد ببني إسرائيل كثيرا. فهم قوم لهم كتب مثل المسلمين؛ أي إنهم أهل كتاب دون تحديدها بأنها مقدسة، ودون تحديد دقيق أي كتب هي خارج التوراة. قد تكون نصوصا موضوعة فيما عرف فيما بعد باسم الإسرائيليات أو ربما من إخوان الصفا أنفسهم، وفي معظمها نصوص إشراقية يهودية مركبة على الفلسفة اليونانية بحيث لا يعرف الفرق بين نبوة اليهود وحكمة اليونان. والنص اليوناني الموضوع على لسان الأنبياء مثل الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول ليس الوضع فقط في نصوص الإسلام، بل أيضا في نصوص الديانات الأخرى بل ونصوص الفلاسفة كما فعل الصوفية من قبل في روايتهم «عن قلبي عن ربي أنه قال.» ولما لم يستطع الإخوان عزو ذلك إلى الرسول فقد تم عزوه إلى الأنبياء خاصة وإن حكم القرآن عليهم أن أقوالهم نقلت محرفة. ويبدو الله في الوضع كأنه فيلسوف طبيعي يوناني متكلم في الأخلاق على طريقة الأخلاط اليونانية. يجمع بين وحي الأنبياء وحكمة اليونان في تأليف حضاري أخلاقي روحي، طبي طبيعي، الصحة في اعتدالها والمرض في اختلالها، ثم تتحول إلى أصول وفطر في أخلاق البشر. العزم من التراب، واللين من الماء، والحدة من الحرارة، والأناء من البرودة. ثم يأتي نفخ الروح ووضع النفس في البدن. فمن النفس تأتي الحواس وباقي الوظائف النفسية والطبيعية، ومن الروح تأتي الإدراكات العقلية أو الخلقية بما في ذلك الأهواء والانفعالات والعواطف. فالله كما يبدو عند الإخوان يوناني المزاج، أفلاطوني النزعة.
242
وإذا كان بنو إسرائيل قد سكنوا الشام فإنهم استطاعوا احتواء حكمة اليونان. فقد استولى سليمان على خزائن الأمم ونقلها وضمها إلى الوحي. فالوحي له مصدران: إلهي وإنساني، ديني ودنيوي. يختلط الوحي بالحكمة والدين بالفلسفة ليس فقط في العقل، بل أيضا في التاريخ. فعلوم إسرائيل أيضا مستمدة من أنبيائهم مثل سليمان والتي أخذها من باقي الشعوب ونقلها إلى العبرانية وإلى الشام. فالحضارات متصلة بعضها بالبعض الآخر. وقد بحث الحكماء في النفس قبل نزول التوراة والإنجيل والقرآن بقلوبهم وقرائحهم. وصنفوا في ذلك الكتب الفلسفية. فالحكمة مصدر أول قبل الشريعة. ثم تم تدوين الكتب الإلهية، ووضع النواميس بالتأييد الرباني وهي أشرف صناعة. معرفة البشر الحقائق إذن من الوحي وكتب الأنبياء أي من الماضي القريب أو من كتب الحكمة قبل الأنبياء منذ آدم أي من تاريخ البشر. ولا تعلم أخبار العالم قبل آدم إلا من النقل، وظيفة القصص إذن إذكاء الوعي التاريخي والبحث عن مصادر المعرفة الإلهية والإنسانية.
ويعتمد الإخوان على تاريخ الأديان ليس فقط قصص الأنبياء بل أيضا الكتب المقدسة في ترجماتها العربية القديمة. ويذكرون التوراة والإنجيل رجوعا إلى المصدر الأول للوحي بعد أن استولى الظلمة على آخر مرحلة فيه، القرآن، واحتكروا تفسيره، ومن ثم جعل الأول ضد الأخير والعودة إلى جذور الوحي لزعزعة استحواذ الحكم الظالم على القرآن. القرآن ليس حالة خاصة بل هو استمرار لوحي تحرري طويل. كل مرحلة سابقة تقترن بالمراحل اللاحقة، وكلها تعترف بمرحلة القرآن آخر المراحل، وتتنبأ بقدوم محمد آخر الأنبياء. ومع ذلك شك النصارى واليهود في نبوته لما رأوا أنه جمع بين النبوة والملك. وكثيرا ما تذكر القصص والأمثال والمواعظ والعقائد والأخلاق في التوراة والإنجيل تأكيدا على وحدة الوحي. وأحيانا تستعمل التوراة وحدها واتفاقها مع القرآن في موضوعات كثيرة مثل التوبة.
243
وتذكر أقوال مأثورة تتفق عليها الأديان جميعا دون صحة تاريخية أو نسبة إلى مصدر معين وسط الآيات. الغاية منها أثرها وليس مصدرها، وأحيانا تعزى إلى صاحبها موسى أو كتب الأنبياء على العموم أو الخبر على الإطلاق أو كما قيل أو المثل السائر. والبعض منها على لسان الحيوان رمزا على أهواء البشر وتعبر عن حكمة الشعوب، تجمع بين الفلسفة والدين، والحكمة والشريعة. ويستدعي القرآن آيات من التوراة والإنجيل، فالحقائق واحدة في كل الأديان مثل تسخير الطبيعة وطلب المسيحيين من الحواريين الاستعداد للقتل والصلب دون مراعاة للصحة التاريخية والانتقال من الرواية المعنوية (القرآن) إلى الخبر المباشر (الإنجيل). والإشارة إلى صحف إبراهيم وموسى نوع من القراءة التراجعية بحثا عن الأصول.
244
وتذكر خصال النبوة في الكتب الثلاثة وإجراء السنة في الشريعة، وبيان الحلال والحرام، وتفصيل الحدود. وقد يختار من التوراة الألحان الداودية أو مزامير داود التي تقرأ مثل القرآن والإنجيل. فالتوراة مصدر للعلم عند اليهود. وأحيانا يذكر الإنجيل بمفرده. وتستعمل أقوال المسيح من القرآن بالعربية في معانيها وليس بألفاظها لأن المسيح لم يتحدث بالعربية لأنها مختصرة للغاية قاصرة على الدلالة. وقد تكون قراءات إسلامية أو رواية إسلامية لأقواله.
وقد يذكر القرآن مع كتب النصارى؛ أي الإنجيل فيما يتعلق بذكر الشياطين وأفعالها مع المسيح. وقد يستعمل الإنجيل وحده. فالنصارى لهم كتاباتهم المستقلة. وقد تأتي من القرآن. فالقرآن مصدر لأقوال المسيح دون مجادلة أهل الكتاب. نصف أقواله من القرآن والنصف الآخر من الإنجيل ودون تمييز بين النوعين من النصيين من حيث الصحة التاريخية. فالمهم هو الاتفاق في المعنى وهو أكبر ضمان للصحة.
245
ويستعمل الإخوان نصوص القرآن في نقد اليهود من أجل إعطاء العظة والعبرة مثل طلب الله التوبة من اليهود، وانتصار الحواريين للمسيح، وتحريف الكتب المقدسة ونقد أخلاق العهد الخاصة، فالأرض يرثها عباد الله الصالحون. وقد تنسخ الشرائع بسبب تحريف البشر لها وعدم حفاظهم عليها والتلاعب بها طبقا للأهواء. ويكفر اليهود، مثل الخوارج، المخالفين ويستحلون دماءهم على عكس الإخوان. وينتقل تاريخ البشر من الوحدة إلى الكثرة كما هو الحال في تاريخ الفرق الإسلامية، وفي نهاية الرسالة التاسعة عن تهذيب الأخلاق بعد اتفاق الآيات والأحاديث تأتي التوراة والإنجيل فتمثل فصلا بأكمله في حسن التكليف مع موسى أولا ثم المسيح ثانيا. مصادرها من التوراة أو الإسرائيليات أو من الإخوانيات إذ تتسم بنفس الطابع الإشراقي بين موسى الصوفي والله. فلا فرق بين رسالة محمد وموسى والمسيح. ومع ذلك يظل السؤال قائما: لم الخلق؟ وهو سؤال الملحد، سؤال الصلاح والأصلح. وقد حج آدم موسى مثل محاجاة الشيطان لآدم في كتب الفرق.
246
كما يذكر في بعض كتب بني إسرائيل وفي القرآن أن الكبر رداء الله. والعظمة إزاره. كما يذكر في التوراة والإنجيل والقرآن وصف الجنان وسعة السموات والروح والريحان والنعمة والرضوان، وفي نفس الوقت ضرورة الاستعاذة بالجن وتوبيخ العاصين. كما يذكر في الكتب الثلاثة آيات الجن ويستعاذ بها في السفر، وفي نصوص أخرى حكايات عنها وأنها موجودات خلقت للبشر، وتأويل النصوص واليقين بها على فنون متعددة.
247
ويفسر الإخوان المعجزات تفسيرا خرافيا كما هو الحال عند بني إسرائيل. فالضفدع هو الذي حمل النار بفمه لاصطناع النار التي وضع فيها النمرود إبراهيم. وكان معجزة لموسى. وهو فصيح اللسان، جيد البيان، كثير التسبيح والتهليل والتكبير، وقد وضع علماء التوراة ورؤساؤهم حساب الجمل يعلمونه للناس.
وتنسج قصص من التوراة لإثبات السحر سواء كانت من الإسرائيليات أو الإخوانيات. ويجزم بصحة التوراة من أجل إثبات السحر مما يدل على الوضع.
248
فإثبات الصحة يعنى نفسيا عدم الصحة عند اليهود والنصارى، ووجودها بعدة لغات عبرانية وسريانية وعبرية تدل أيضا على عدم صحتها بل على مصدرها الشعبي.
249
وهي قصة الصراع بين الخير (عيصو) والشر (ابن النمرود) كما هو الحال في صدى الاسم حتى الآن في الثقافة الشعبية. مما دفع الفقهاء مثل ابن حزم إلى نقد السحر والخرافة في الدين، وتنسج قصة أخرى من التوراة في السحر قصة يعقوب مع لابان مذكورة في التوراة تدل على وضعها لأنها تخالف أخلاق الأنبياء وتجعل يعقوب غشاشا أنانيا مخادعا راغبا في الدنيا طماعا محتالا. ويخلو من السحر بل به بدايات علم الأجنة. والجهل بالموضوع يعتبر سحرا. وهناك قصة أخرى في موضوع السحر وكأن الوحي قد تحول إلى مصدر للسحر من كتاب الملوك الذي في مكانة التوراة في كتاب صمويل. فقد استطاع السحر إحياء الأنبياء والإخبار بالمستقبل ومعرفة قوانين التاريخ. وقد نزعت الساحرة من النبي الذي استدعته لمزيد من الحركة المسرحية.
250
وتنسج القصص ليس فقط مع اليهود والنصارى بل أيضا مع المجوس.
251
فتاريخ الأديان واحد في موضوع أخلاقي عملي، المجازاة على المدح والذم، الثواب والعقاب، الوعد والوعيد، الترغيب والترهيب لأن الفعل مكتسب لصاحبه.
252
وتكشف القصة عن خصوصية إله إسرائيل وعدوانيته وشعبه ورفض الأخلاق العامة الشاملة، والتقابل بين الأخلاق العنصرية اليهودية وأخلاق المجوس الإسلامية. استغل اليهودي مثالية المجوسي لصالحه، وأصبح المثالي ضحية مبادئه. والحق في النهاية هو الغالب. ويحق العقاب الإلهي على الظالم لتصحيح سلوكه في الدنيا. كال اليهودي بمكيالين، انتفع بالمثالية والمادية معا، والعمل هو محك صحة المبادئ، والواقع هو المقياس. كما تكشف القصة عن التعلم من التجارب مثل رسالة حي بن يقطان، ليست في التوحيد بل في العدل. تعلم المثالي في المرة الثانية وترك اليهودي لولا أنه أشفق به من جديد وعاد إلى مثاليته. وقد انتصرت في النهاية الأخلاق الشاملة ضد العنصرية اليهودية. لقد حول الإخوان العقائد النظرية إلى ممارسات سلوكية وطبيعية ثانية. وقد تكشف البيئة الجغرافية، كرمان وأصفهان، عن الصراع بين نظريتين في الأخلاق. والمجوسي هو الذي يبدأ بالسؤال ولديه حب الاستطلاع والرغبة في المعرفة في حين أن اليهودي لديه رغبة إلى المنفعة. والقصة موجودة في نوادر الحكماء مما يدل على اعتماد الإخوان على مصادر مكتوبة.
وفي رسالة الجامعة يأتي آدم أولا ثم المسيح، عيسى، عيسى ابن مريم قبل موسى مما يدل على النزعة الصوفية الإشراقية للرسائل.
253
ثم يأتي سليمان ونوح وإدريس وإبراهيم وكلهم من الأنبياء والحكماء الإشراقيين. فآدم من أولي العزم من الرسل مع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. وكل نبوة تنتسب إليه. وهو أول مخلوق مركب من المادة والصورة، أبو البشر، وإذا كان الله قد اصطفى موسى لنفسه فإنه خلق آدم بيده، وحواء أم البشر. آدم والطبيعة والنبوة بداية واحدة. آدم فان لأن جسمه ذو طبائع متضادة. وكانت الملائكة قبل خلق آدم أشخاصا روحانيين. وهو خليفة الله في الأرض. كل شيء في الأرض مسخر له، الحيوان والطبيعة حتى ولو أتعب الحيوان. وعلم الله آدم الأسماء كلها وأمره أن يعلم الملائكة. والعلوم ثلاثة أصول وجوامع وفروع، شريعة وصناعة وملكة، آدم ونوح وإبراهيم، فآدم من أصول المعرفة. علم الله آدم الأسماء كلها وأمره أن يعلم الملائكة. ودعوته مثل دعوة المسيح تقوم على ضرب الأمثال. فآدم في كل نبي.
254
ولما كان لكل نبي عدو ورفيق فإن عدو آدم هو إبليس منذ خطيئة آدم، وقد تاب وغفر الله له بالكلمات التي تلقاها، مكتوبة بنور القدرة. ولم يظهر إبليس لآدم إلا في صورة النسبة. ورفض إبليس السجود له رفضا لكرامة الإنسان. ولقد عرف الله نفسه للبشر من خلال قصة آدم، وكان إبليس يركله على باب الجنة. لذلك تعني إبليس اشتقاقا المتحير والمتوقف. والعداوة مركبة في البشر منذ عداوة إبليس لآدم، وقابيل لهابيل، وجبار قوم لإدريس، وفرعون لموسى، والنمرود الإبراهيم. آدم يمثل النفس الناطقة وإبليس النفس الشهوانية. وكان حب استطلاع آدم هو سبب الخطيئة، حب الرياسة والاطلاع على ما نهى عنه . لقد اشتاقت نفس آدم للمجهول. لذلك جاءته شريعة ضيقة العلم، حرجة التكليف، قليلة الخيرات، عقوبة له.
255
ولكل نبي رفيق، هارون لموسى، وعلي لمحمد. ولكن تحليل الأعداء يغلب على تحليل الأصدقاء. ويضم الأعداء معا الجبابرة والفراعنة والنماردة، فرعون وهامان وقارون وجالوت ونمرود ومن يتبعهم من المتغلبين على الملك والرياسة ظلما وعتوا بغير حق، في مجالس لم يستحقوها بأعمال ولا علوم. وهنا يبدو الرمز السياسي الأسطوري للواقع السياسي. وقد استذل جماعة المتكبرين جماعة المؤمنين كما فعل فرعون بآل إسرائيل، والإنس للحيوان، والجن للإنس، وبختنصر لآل داود، وآل تبع، وآل حمير، وآل يونان، وآل ساسان، وآل أردشير، وآل عدنان، ونجاة الله الخيرين، وهلاك الأشرار.
وتلك الأيام نداولها بين الناس . فالأيام دول. ويبدو آل يونان أشرارا وآل ساسان أخيارا، وكان هوى الإخوان مع الفرس ضد اليونان. فاليونان بلغة العصر مستعمرون سياسيا وإن كانوا حكماء فلسفيا. وإذا كان الأخيار في الجنان فإن إبليس والشيطان وفرعون وهامان ومالك الغضبان كلهم في النار. فآدم له دوره في التاريخ، مرحلة من مراحله بعد نجاته وهلاك عدوه. وأول من استخلف على دور الستر فانكشفت عورته، وبعث العلوم، وأخرجها من السر إلى العلن. وحواء بقية دور الكشف. ولآدم دور آخر عند شجرة سدرة المنتهي إذا بدأ دور السعادة بظهور النفس الزكية في يوم العرض الثاني إذا تجلت النفس الكلية. فالإقامة رتق للفتق، وإصلاح للخطأ، ورفع للسقوط. ولقد أعلم الله آدم ما أخفى عنه. سكون الأرض نعمة وكرامة مثل تأييده بالإلهام والوحي، وإقامة الشريعة، والسجود لله، والعمل بالجسم، وإظهار الصنائع، وكثرة الأولاد، واتساع الدعوة.
256
الأنبياء جزء من فلسفة التاريخ وبقرانات الأدوار في الفكر الشيعي كما بدأ عند السجستاني، تحول تاريخ الأديان إلى فلسفة في التاريخ القائم على التحليل النفسي، وقراءة الحاضر في الماضي، والماضي في الحاضر.
واضح تضخم قصة آدم وإبليس في أشكال متعددة لبيان عداوة الشيطان لآدم التي تعبر عن روح المعارضة في الناس لفرعون والفراعنة وكل تفرعن كما هو الحال في معنى اللفظ في الثقافة الشعبية، وقراءة تاريخ الأنبياء قراءة سياسية، من تاريخ الصراع القديم إلى تاريخ الصراع الحالي.
كما تمثل أهمية قصة آدم في التراث الفلسفي، في الكلام ونشأة الفرق والأهواء في الحكمة لخطيئته وضرورة الخلاص، وفي الأصول نشأة القياس وفي التصوف العدو للنفس وضرورة الوحدة. فلما غواه إبليس عرف آدم بدور الكشف وما فيه من الفوائد العقلية الباقية الخالدة، وأدرك قوته على باقي المخلوقات. واستعمل إبليس الحية في إغوائه فكانت الخطيئة
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . فآدم الأسطورة الحية جزء من التراث الشعبي القديم وليست قصة آدم في القرآن. هو استدلال على طريقة الخيال الشعبي والاعتماد على الأخبار المشهورة. ويسيطر إبليس على الإنسان بصور عدة منها جريانه في الدم في العروق كما هو الحال في الخطيئة الأولى في المسيحية. وفرق إبليس بين آدم وزوجه ونفرت منه الوحوش التي كانت قد آنست إليه، أما بنو آدم فهم البشر بعد آدم، ذريته وعشيرته وأهله الذين ساروا في دور الكشف واستحكم العداء بينهم وبين الحيوانات ذات الطبائع الجميلة، وتفاضلوا فيما بينهم كالحيوانات بناء على نفوسهم الشريرة.
257
ويأتي عيسى قبل موسى في الأهمية. استأنف المسيح من الشجرة ونهى قومه. وضرب المثل بالحنطة والزوان على الرعاع والعوام وقتلة الأنبياء والمرسلين، روح الله وكلمته إلى مريم، أبوة علوية وليست بشرية. أعطى الحواريين القوة، وصبرت الآيات والمعجزات على يديه مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ومبشرا برسول من بعده اسمه أحمد، لذلك قال من لم يولد الولاد ويكن لم ير ملكوت السموات. فللنفس ولادتان، واحدة للجسم والأخرى للروح كما فعل آدم. وقد حرف أتباع المسيح كلامه، ويواجهه الله يوم القيامة به بعد أن كذبوا عليه، ولم يقل المسيح إلا الصدق. كانت الدورة الخامسة في عيسى المسيح يسوع مؤيدا بروح القدس. تكلم في المهد. وكان كالمضغة بمعنى مضغة الشرائع وعصارتها ولبابها حتى صار غذاء لمن اتبعه، كانت دعوته شبيهة بدعوة آدم في ضرب الامثال كان ضعيف الجسم مثل المضغة. أراد اليهود إفسادها ولكن الله حماه.
258
وقد أخذ موسى من البقعة والوديعة المستورة ، وتابوت السكينة من شجرة آدم، وكذلك أخذ منها آل هارون إلى مستحقه من ولد إسماعيل إلى خاتم الرسل، وهي الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها بإذن ربها. وقد أمر الله الشجرة بالتوبة. كما قرب إليه موسى وراجت الشياطين تحت امرأة فرعون. جاء موسى وأخوه هارون إلى فرعون حاملا للجنين كواسطة بين القوة والفعل. قبل موسى المولود بالقوة وبعد موسى المولود بالفعل. وشريعة موسى مثل المربية للولد. اصطفاه الله لنفسه كما خلق آدم بيده. النهاية مثل البداية، النشأة الأولى مثل النشأة الثانية.
259
ثم جاء القرآن الثالث في إبراهيم، وأوحى الله له بتطهير بيته للطائفين والعاكفين. فأولوا العزم يمثلون مراحل سبع؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ثم الفاتح. كان إبراهيم مثل العلقة المتعلقة بأمور الأصليين الفرعيين، إسماعيل وإسحاق. ووضع إسماعيل القواعد. وقد رفع إبراهيم رأسه إلى السماء لمشاهدة الملكوت الأعلى. ورأى إبراهيم ملكوت السموات، وفدى إسماعيل بالذبح المستخرج من الجنة.
260
ثم عمل الجن تحت امر سليمان، وأيد الله داود وسليمان بالملائكة. وغلب جالوت، وألان له الحديد. وبمثل ما أوحي به موسى أوحي به أحمد في المقام المحمود. ثم رفع الله إدريس مكانا عليا، وأنقذ روح ذريته. ويبرز نوح المؤمن في مواجهة قومه الذين كفروا به، واتهموه بالجدل وهو يحاول إقناعهم. وقام نوح بالأمر والنهي الجديد الثاني في وقت القرآن الثاني. فالأنبياء علامات على مراحل التاريخ، بيولوجيا الوحي وذرية الأنبياء، ويمثل نوح النطفة التي في قرار مكين متمكنة في أصلها ثابتة في فرعها قائمة بصورتها في القوة النبوية التي تناسلت منها الذرية الطاهرة من عقب نوح ممن كان في سفينته.
261
وتذكر ألفاظ الإسلام والمسلمين عدة مرات.
262
الإسلام دين واحد منذ آدم حتى محمد. وقد أخبر الله موسى في مناجاته له أنه على دين الإسلام، وكان إبراهيم على ملة الإسلام. وهو الذي سمى أمته بالمسلمين. يرتبطون بعروة الإسلام، الإسلام ملتهم، يجعلهم متوادين متراحمين بينهم، وهو مقابل الجاهلية. وتدعي الجاهلية أن محمد قد عمل في الناس السحر ليحولهم من الجاهلية إلى الإسلام. وهو نفس البيت الذي كان في الجاهلية والإسلام الذي ظهر فيه العلم والنبوة والآيات والمعجزات. وكان رؤساء المناقضين في الجاهلية هم رؤساء المناقضين في الإسلام.
263
والإسلام دين وسنة وهداية. وهو في نفس الوقت حرب وقتال واستشهاد. فقد استشهد الحسين بكربلاء فافتضح الإسلام. وهناك من يدخل بلاد الروم لاستنقاذ أسارى المسلمين. والإسلام شريعة أعياد، وأركان خمس، الإسلام أو الجزية أو القتال. وفرض فيه قول
اهدنا الصراط المستقيم
في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة، وهناك خلفاء للرسول في سائر بلدان المسلمين الجباية الخراج وأخذ الأعشار والجزية. فلا بد للمسلمين من قيم بها في ظاهر أمور الدنيا، يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم إليه فيما يعرض لهم من خلاف. ودور الفقهاء والحكماء والقضاة والعلماء وأهل العقل والرأي دور واحد وهو المشورة على الحكام. فالدين لازم للسياسة، والشريعة ضرورة للملك، يجتمعون للفتيا بين العتق والتخلية والبيع والتخفيف والإحسان وهي أحكام الشريعة بالنسبة للحيوان. وقد يجتهد الفقهاء ويتفقه العلماء طلبا للدنيا. وقد يظلم القضاة فليسوا كلهم عدول. ومن بين الجن يكون قضاتها، وقد يكون الملك هو القاضي، وقد يختلفان. فالقضاة خلفاء الأنبياء، والملك حارس الدين.
264
وتكشف فواتيح الرسائل وخواتيمها عن الجو الديني الثقافي العام، البسملة والحمدلة كالعادة والصلاة والسلام على الرسول وآله، في أول الرسالة أو في وسطها أو في نهايتها، وارتباط كل شيء بالمشيئة الإلهية مع بعض الأساليب والعبارات الفلسفية مثل ينبوع الحكمة وصفاء الجوهر، ودعوات بالتوفيق وطلب العون والمدد من الله.
265
وتبدو البيئة الدينية في خواتيم الرسائل، ودعوة الله بالتوفيق في صيغة «وفقك الله» للمخاطب ولجميع الإخوان الطريق السداد والهداية إلى سبيل الرشاد مع صياغات مختلفة تضم أينما كانوا في البلاد، والوصول إلى دار الإسلام برحمته والتوفيق للصواب بفضله وهو نعم المولى ونعم النصير مع الصلاة على النبي. وقد تكون دعوة الله بالتوفيق للصواب. وقد تكون الدعوة بأفعال «أعاذنا الله» أو «نجانا الله» أو أعانك الله. كما تبدأ عبارات أخرى بالله مباشرة مثل الله المستعان، وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، بمشيئته وقوته وحمده. وقد تبدأ بأفعال مثل سؤال الله الهداية وبلوغ الصفاء. وقد يأتي ذلك في نهاية الجزء وليس في نهاية كل رسالة إلا الرسالة الأخيرة. وأحيانا يعلن عن إتمام الرسالة ثم الصلاة والسلام على الرسول، كما تظهر «الله أعلم» كثيرا بالرغم من علم الإخوان الغزير، تواضعا ورغبة في مزيد من العلم.
266
ويظهر هذا الجو الثقافي والديني حتى على لسان الحيوانات والجن والإنس في الرسالة الثامنة في شكوى الحيوان من بني الإنسان، الكل يبدأ بالبسملة والحمدلة، الكل إلى رسول الله منتسب، أقرب إلى الخطب المنبرية الطويلة كما هو الحال في خطبة الصرصار مثل خطب الأشاعرة في مقدمات العقائد، مقدماتها نتائجها، ونتائجها مقدماتها، نموذج للخطب الدينية التي لا تقول شيئا، مجرد تحصيل حاصل، تدعو الله والسلطان معا كما هو الحال في مقدمات كتب العقائد،
267
ولا فرق في استعمال الدين بين الظالم والمظلوم، القاهر والمقهور، السيد والعبد، الغني والفقير. فالدين أداة لتبرير الأوضاع السياسية والاجتماعية للحاكم والمحكوم، الدين أداة للاضطهاد، والدين وسيلة للثورة، والكل إلى رسول الله منتسب، وكلاهما يعتمد على الكتاب والسنة، لذلك كانت الاختلافات في الدين هي في الحقيقة تعبيرا عن تباين المصالح. ووحدة الدين لا تعني وحدة المصلحة، الدين سلاح ذو حدين يقوم بوظيفتين متباينتين بل ومتعارضتين طبقا للتكوين الطبقي للمجتمع، وتغلب على الخطب الاستشهادات القرآنية والأساليب القرآنية بل والتوجهات القرآنية مثل إدراك الطبيعة حكمة التمايز والاختلاف في أسلوب إنشائي خطابي أشبه بخطب المساجد أيام الجمع والأعياد، يصل أحيانا إلى حد السجع الركيك. وتتجه كلها نحو الإشراقيات. والإشارات الإلهية والتصوف والوجدانيات دون فكر أو إشكال ودون تحليل القضايا الواقع وأوضاعه الاجتماعية، تقوم على التصور الهرمي للعالم وقسمته إلى أعلى وأدنى، علة أولى وعلل ثانية، مع بعض الأدعية والأدعية المضادة طبقا لتعارض المصالح، والدرس المستفاد هو أن القوة ليست في الحكم ولا في الجسم بل في العقل، وبالتالي يكون السؤال هل العقل أداة للتبرير أم للتغير، للقهر أم للتحرر؟
268 (4) آليات العرض النسقي الشعبي
يتضح في «رسائل» إخوان الصفا وفي الرسالة «الجامعة»، وفي «جامعة الجامعة » تماثل كل شيء مع كل شيء، الدين، والفلسفة، والعلم، واللغة، والكون، والطبيعة، والتاريخ، والإنسان، والأعداد، والأفلاك، في موسوعة شاملة تعطي صورة وافية عن حالة الثقافة القديمة في النصف الثاني من القرن الثالث، بعد الكندي وقبل الفارابي.
269
فالعرض النسقي الشعبي تاريخيا عند إخوان الصفا سابق على العرض النسقي المنطقي عند ابن سينا في النصف الأول من القرن الرابع. وهو تطور طبيعي من الثقافة العامة إلى ثقافة النخبة، من فلسفة العامة إلى فلسفة الخاصة، ولكن بنيويا يمثل العرض الشعبي انهيار العرض المنطقي، ويمكن تطابق التاريخ مع البنية من العرض النسقي الشعبي في النصف الثاني من القرن الثالث (إخوان الصفا) إلى العرض الجزئي والكلي (الكندي، الرازي، الفارابي) في القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع (إخوان الصفا) إلى العرض النسقي المنطقي في النصف الأول من القرن الرابع (ابن سينا).
وأسباب تأليف «الرسائل» ثلاثة؛ الأول تبديد الأخطاء العلمية الشائعة والتي تجد تبريرات لها في سوء تأويل القرآن والذي لا يقوم على اللغة العربية والمعاني الاشتقاقية للأسماء. وهو سبب يتعلق بالموروث. والثاني التحول من النقل إلى الإبداع ووضع الثقافة الوافدة داخل الثقافة الموروثة بعد أن أصبح الوافد موروثا شعبيا ثانيا يجاور الموروث الأصلي ويزاحمه في قسمة نسقية رباعية جديدة بعد اختصارها وضم العروض الجزئية والكلية، وتوضيح ما غمض منها بسبب نقلها من لغة إلى لغة في عصر الترجمة.
270
والثالث تزكية العقول وتنبيه النفوس وإعطاء دائرة معارف من كل علم.
ومع ذلك اختلفت الرسائل فيما بينها كما. وطال بعضها إلى حد الإسهاب. وأحيانا تكون الفقرات الرابطة طويلة للغاية تعبر عن مسار الفكر كله. كما قد تصل الدعوة للقارئ إلى صفحات بأكملها داخلة في تحليل الموضوع ذاته. وقد تطغى أحيانا على عناوين بعض الرسائل. قد تطول مقدمات بعض الرسائل على طريقة الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى. وقد تكون في البداية أو في الوسط أو في نهاية الرسالة.
وهناك فقرات تبين أن الرسائل كانت مكتوبة من قبل، ربما من مصادر مجهولة أو معلومة، وربما من صياغات سابقة.
271
توحي بعض العبارات بأن الرسائل كانت مكتوبة كمجموعة من الأفكار ثم وزعت حسب كل رسالة على حدة دون تأليف كل منها تأليفا مستقلا.
272
ويظل موطن الإبداع هو وجود الوحي التاريخي في الوعي الجماعي في تفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي، تفاعل الثقافة والسياسة، الماضي والحاضر، الدين والثورة. ويبدو ذلك في شرح معنى قول الحكماء الإنسان عالم صغير، واحتوائه داخل الموروث في ثقافة إبداعية جديدة حتى وإن لم يتم التزاوج العضوي بينهما كما تم بعد ذلك في العرض النسقي، هناك إحساس بإبداع جديد وليس تكرار القديم، بداية الدمج العضوي بين الوافد والموروث، بين علوم الوسائل وعلوم الغايات.
ويغلب على الرسائل كلها طابع الإشراق وهو طابع الدين الشعبي، ترك الدنيا والتوجه إلى الآخرة واحترام الأئمة، وقد تتحول الإشراقيات إلى بكائيات نعيا للعصر وترحما على الماضي كما هو الحال في بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، ويستعمل الإخوان لغة الرمز والإشارة كما هو الحال في كل النزعات الصوفية يتم به التعبير عن مذهب متسق بأسلوب شعبي، الأساطير والخرافات والحكايات والقصص على لسان الحيوانات.
273
ويتدخل الأسلوب القرآني الحر مع النثر الفني لتقوية الأسلوب مع الأدعية والتوصيات. والذي قد يصل أحيانا إلى حد السجع السطحي والأدب الركيك في العصر العثماني المتأخر.
ومن أهم ما يميز أسلوب الرسائل مخاطبة القارئ كما هو الحال في التراث الشعبي فالمستمع جزء من المقرئ والمغني والخطيب في كل الثقافات التقليدية.
274
فهناك مشروع مشترك بين المؤلف والقارئ. مشروع فكري ثقافي حضاري سياسي تاريخي واحد، طالبا تأييده بالروح وإن لم يكن بالمصلحة، الداعي والمدعو، الشيخ والمريد، والمشاركة معه في التحقق من صدق الأقوال. فالكاتب خير من يعبر عن إحساسات القارئ ووضعه المأزوم وهو أسلوب قرآني في مخاطبة الرسول والمؤمنين بحروف النداء وألفاظ القول وبضمائر المخاطب المفرد والجمع. والغاية منه تجنيد الناس للانخراط في سلم الإخوان اعتمادا على فلسفة الإنذار وشفاعة الإخوان، باعتبارها حركة سرية واستدراجهم. فالنص نداء إلى العمل، وتوجه نحو سلوك القارئ ابتداء من فهمه، لا فرق بين مخاطبة النفس «أعاننا الله» ومخاطبة الآخر «وإياك أيها الأخ» نظرا للتوحد بين الأنا والآخر، بين الكاتب والقارئ. وأحيانا يكون الخطاب ناقدا للناس كما يفعل الخطيب المعاصر لإعطائهم الإحساس بالذنب وطلب التوبة والمغفرة بالانخراط في سلك الإخوان. ويطالبه الخطاب بالتأمل في الطبيعة وفي النفس، في الآفاق وفي الأنفس، في الخارج وفي الداخل حتى يتحقق المستمع من صدق القائل.
ويبدأ الخطاب بصيغ النداء المختلفة بحروف النداء أو بدونها والتوجه إلى القارئ مباشرة بضمائر المخاطب، وقد سبق حروف النداء ضمائر المخاطب المنفصلة مثل «أنت»، «أنتم» أو بصيغ نداء الذات فردا أو جماعة مثل «هيا»، «هلم» دون فعل «أنت أيها الأخ» أو بفعل أمر «كن أيها الأخ» أو بحرف جر «فعليك أيها الأخ» أو بفعل الشرط في الماضي «إذا كنت أيها الأخ» أو بفعل الأمر المخاطب «فكن أيها الأخ».
275
وقد تكون أفعال الأمر أفعال التحذير والدعوة إلى الانتباه والاستعاذة بالله من الشر والغفلة والتأمل والتفكر والنظر، والدعوة إلى العلم والاعتقاد وأداء الواجب.
276
وقد تأتي هذه الأفعال في صيغة الأمر مباشرة دون حرف النداء والمنادى.
277
ثم تأتي أفعال الواجب والصبر والبشارة والفتح القريب.
278
وقد تكون أداة استفهام تدعو إلى المشاركة في الفعل واستنكار عدم الفعل.
279
والغالب هو فعل الأمر «اعلم» مما يدل على أن الرسائل للإعلام ونشر العلم.
280
وقد يأتي النداء في صيغة الشرط مثبتا مثل «إذا تأملت»، «إذا سمعت»، «إن بادرت»، «إن أمعنت النظر» أو منفيا مثل «وإن لم يتحقق». ويعني الشرط الأدب في الحوار وافتراض الحرية للمستمع.
281
ويتكرر النداء في صيغه المختلفة أول الفقرة وهو الأغلب ووسطها ونهايتها وهو الأقل. وأشهر «اللازمات» «اعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه.» ويعطي القارئ لقب الأخ في صيغة «أيها الأخ» أو «يا أخي». تتكرر صيغة «يا أخي» كثيرا ثم تكبر بالألقاب والدعوات وطلب تأييد روح الله ويضاف إليه لقب أو عدة ألقاب أشهرها «الأخ البار الرحيم». وأحيانا جمعا «أيها الإخوان الأبرار الرحماء». ويدل لقب «الأخ» على مدى القرب بين الإخوان والجمهور وطلب التأييد لهم وله بروح الله ومدى اشتراكهم معا في هدف أسمى واحد. وهو أخ رحيم بار بأهله، رحيم بالأغراب وهو الغالب، وأحيانا يضاف لقب الرحيم وحده للأخ فالرحمة بالأغراب أولى من البر بالأهل.
282
ولكن المعنى هو الغالب على الجمع، فالخطاب فرد، من فرد إلى فرد، تراسلا للأرواح.
283
والصيغة الأكثر ترددا هي «أيها الأخ البار الرحيم أيدك الله وإيانا بروح منه.» الصيغة الأكمل والأمثل لأنها تصف الأخ بالبر والرحمة وتطلب له وللإخوان التأييد بروح الله. ثم تصغر الصيغة بإسقاط صفتي البر والرحمة أو الدعوة أو تتغير من البار الرحيم إلى البار الحكيم أو إلى البار وحده.
284
وتكثر الدعوات للقارئ بالتوفيق والتأييد من الله في صيغة «أيدك الله»، «وفقك الله». فالقارئ جزء من خطاب المؤلف، يشارك معه في مدلول الخطاب كما يفعل القرآن. وتكون الدعوة والعياذ بالله من الأشرار، وهي دعوة للمتكلم والسامع للمؤلف والقارئ في آن واحد. وتتم مخاطبة القارئ بأدب جم وبتعاطف شديد وباحترام كامل لرأيه وبدعوته إلى الاجتهاد والنظر والتفكر والتأمل والفهم والتفقد والانتباه والمعرفة والاعتبار والصبر على العلم حتى ينكشف في النفس، كما يحترم اعتراضه. فلا إجبار أو قهر.
285
وأحيانا يكون الفعل في صيغة الماضي مثل «علمنا» أو في صيغة المضارع «تعلم».
286
وتظهر أفعال القول مما يدل على شيوعها في التأليف بصرف النظر عن الوافد في الاستعمال الشهير الذي أخذ أكثر من حجمه وهو «قال أرسطو» والذي أصبح في الاستشراق شعارا للتبعية الحضارية. وتكثر في رسالة «الحدود والرسوم» في تعريف المصطلحات بأسلوب «إن قيل ... يقال». وهناك صيغ أخرى عدة كلها تبدأ «فإن قيل»، وجواب الشرط مرة فعل أمر «أقل»، ومرة مبني للمجهول «يقال». وكذلك تستعمل صيغة «تقول» مما يدل على أن المتحدث هو الوعي الجمعي وليس الآخر. وقد تستعمل صيغة «قال» مفردا أو «قالوا» جمعا وصيغة «تقول» هي الأكثر انتشارا وليس القائل أرسطو أو اليونان، بل هي عادة عربية في أسلوب العرض استعملها القرآن في صيغة «قل». وظهر في أسلوب التأليف في العلوم الإسلامية للرد على الاعتراضات مسبقا من أجل صياغة خطاب محكم شامل «إن قيل فعل الشرط، «قل» جواب الشرط».
287
لا تعبر أفعال القول عن التبعية للآخر بل على التحول من النقل إلى الإبداع. وقد يكون القائل «بعضهم»، غير محدد مع الثناء عليه «نعم ما قيل». وقد تكون الصياغة فعلية أو إسمية.
288
وتستعمل ألفاظ البيان والتبيين لشرح الفكر وكان الخطاب نظرية في البيان والإيضاح. ويكون البيان في الماضي والحاضر والمستقبل كأفعال ثلاثة متلاحقة «كما بينا»، «كما نبين»، كما سنبين. وأحيانا يتم البيان في فعلين فقط، الماضي والحاضر، الماضي والمستقبل أو الحاضر والمستقبل. ويكون مع ضمير المتكلم الجمع أو بدونه عندما يتبين الشيء بنفسه. وقد تسبق الإرادة فعل البيان «أردنا أن نبين» للدلالة على أن التبيين فعل شعوري، وقد يضاف ضمير يعود إلى الشيء المطلوب بيانه. وقد يكون البيان سلبا أي ما لم يتبين. وقد يكون فعلا أو اسما، والبيان فعل وجوب، إخراجا للفكر من دائرة الغموض إلى الوضوح.
289
وهناك بؤرة للفكر ومحور رئيسي فيه تعود إليه الرسائل باستمرار وتمنع من الاستطراد والشرح خارج الموضوع. فبعض الموضوعات تحتاج إلى إسهاب في الشرح ويحال إلى كتب أخرى مثل كتب القرانات وأدوار الألف أو كتب أحكام التحاويل أو كتب المواليد أو كتب التشريح. يطول شرح الموضوعات مثل العظام، والأقوال المجملة، والعلل.
290
وهناك ترتيب للشرح، ما يتم شرحه أولا أو آخرا. وأحيانا يضم فعل البيان مع فعل الشرح تأكيدا على أن البيان شرح، وأن الشرح بيان، وأنه شرح موجز مخافة التطويل.
وتظهر أفعال أخرى تحيل الكل إلى الجزء، وترد أول الكلام إلى آخره وآخره إلى أوله مثل «فلنرجع»، «أفردنا»، «أشرنا»، «فسرنا»، «مثلنا»، «وصفنا» في صيغة الماضي، أو في صيغة الأمر «فلنرجع»، «فليعتبر». ويحال الجزء إلى الكل إما إلى رسائل من الداخل أو إلى مصادر في الخارج. وقد تكررت صيغ فعل «ذكر» ومئات المرات مما يدل على وحدة الموضوع. فالذكر حاجة شعورية ورغبة وإرادة من أجل بيان بداية الموضوع ووسطه ونهايته. لذلك تظهر تعبيرات «احتجنا أن نذكر»، «نحتاج أن نذكر»، «نريد أن نذكر»، «وجب أن نذكر»، في الماضي لتذكير ما فات أو في صيغة المبني للمجهول. وقد يكون الفعل في المضارع لبيان استمرار الشرح أو في صيغة إسمية «كما هو مذكور».
291
وقد يحال الجزء إلى الكل، رسالة إلى باقي الرسائل وأكثرها إلى المبادئ العقلية.
292
وتبين هذه الإحالات القصد الكلي والمنظور النسقي بالرغم من نقد السجستاني للإخوان. والغرض من الإحالة عدم التكرار من أجل التركيز على الجديد والتحول من النقل إلى الإبداع.
وتخضع الرسائل لترتيب منطقي متسلسل، البداية بالعدد لأنه أول العلوم، والعدد مقدمة للحكمة التي تسمى الفلسفة. وأحيانا لا تذكر اسم الرسائل بل رقمها مثل الرسالة الأولى أو الثانية مما يدل على ترتيبها الذهني، وتذكر عدة رسائل في نفس الموضوع مما يدل على خضوع الرسائل لموضوعاتها، وقد تكون الإحالة استرجاعا واستدراكا على ما سبق تلخيصه الربط السابق باللاحق، إحالة مستمرة إلى الذات من أجل بيان وحدة المنظور وليس نرجسية أو إنكارا لدور الآخرين.
293
وتدل بعض الأفعال على المسار الفكري، في أول الفقرات أو في وسطها أو في نهايتها وهي أفعال الذكر والبيان والشرح والتعليل والقصد مما يدل على أفعال الشعور وراء عمليات التحول من النقل إلى الإبداع. فالفكر مسار وقصد وغاية مع دفع تهم سوء النية ولعب الصبيان وتخريف الإخوان.
294
ويتم الحديث عن المسار السابق والإحالة إلى شرح طويل ثم يتكرر في شرح صغير ليقرب للمتعلمين فهمها بداية بشرح الألفاظ.
295
وقد يذكر الأصل ثم تأتي الفروع. كما يبدو مسار الفكر في فعل الشرط وجواب الشرط. والدليل أحد طرق البرهان. لذلك تكثر الصيغ الاسمية للفظ الدليل.
296
وقد يستعمل التعليل من أجل بيان مسار الفكر، فالفكر يصف موضوعا في العالم.
297
وتتحقق الرسائل من صحة الأقوال السابقة. تمارس العلم ولا تكتفي بنقله. فالتجربة الإنسانية واحدة، وتحاجج الخصوم، وتبطل نظريات قدم العالم، وتثبت حدوثه، ليس بالضرورة على طريقة المتكلمين. ويقوم التحقيق على ثلاثة معايير العقل والتجربة والنقل الصحيح من أجل تبرأة الحكماء من سوء التأويل. وتدعو الرسائل إلى التحقق من صدق أقوالهم بممارسة العلم نفسه، ومعاودة نفس التجارب من أجل الانتهاء إلى نفس النتائج، العلم النظري يعتمد على العقل، والعلم التجريبي يقوم على معرفة العلل والأسباب، لا فرق في ذلك بين الرياضيات والطبيعيات. كل العلوم قابلة للتحقق من صدق نتائجها بما في ذلك الإلهيات. ويقوم التحقق على الاستدلال بكل أنواعه النظري والتجريبي والتاريخي. فتصديق القول في العقل وفي الواقع وفي النقل الصحيح. وقد يحتاج التحقيق إلى عمل كما هو الحال في الهندسة من أجل البرهان. ويتم التحقق أيضا من تراث الأمم السابقة بنفس المقاييس. ويشمل العقل النظر والاستدلال والبرهان والرد على الاعتراض أو تخيله سلفا والبداهة والقياس. ولا ينفصل العقل السليم عن صفاء النفس وتجردها. فهي شرط النظر لما كانت الأخلاق شرط المعرفة. وسكون النفس لحكم العقل مقياس لصدقه. والعلم الشعوري هو الحامل للعلم النظري والعلم التجريبي على حد سواء، والتجربة المقياس الثاني للتحقق من صدق القول. وهو سبيل العلماء وأهل الصناعة. والمقياس الثالث هو الدليل النقلي أي الخبر الصحيح. والدليل النقلي لا يستقل بذاته بل بتطابقه مع الدليل النقلي والدليل التجريبي، وبالتالي يظهر تطابق الوحي والعقل والواقع. وتظهر كلها في النفس. يظهر الوحي في آيات الطبيعة وأفعال الأنبياء وأحيانا يشخص الإخوان الوحي للاقتراب من ثقافة العامة. فالشريعة محمدية، والملة هاشمية، واستعمال بعض تشبيهات الشيعة مثل الركن والمقام.
298
وبهذه المراجعة يبطل الخطأ، ويتبدد الوهم، ويتحول الفكر من الظن إلى اليقين. الظن زعم وادعاء علم.
299
وبالرغم من أن فكر الإخوان فكر فلسفي شعبي إلا أنه أيضا يراجع الأفكار الشائعة عند العامة مثل أوهامهم عن قوس قزح.
300
الفصل الثالث: العرض الأدبي
أولا: الفلسفة الأدبية (أبو حيان)
(1) الفلسفة والأدب
يعني العرض الأدبي في مقابل العرض النسقي، المنطقي أو الشعبي، عرض الفلسفة بأسلوب أدبي في حوارات ومناظرات ومناقشات تصف أحاديث الصالونات الأدبية في موضوعات فلسفية. وأشهر نموذج على ذلك أعمال أبي يحان التوحيدي (403ه) «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء». وهو أقرب إلى العرض النسقي الشعبي عند إخوان الصفا. إنما الفرق أن الفلسفة الأدبية عند أبي حيان عرض أدبي خالص في حين أن العرض الشعبي عند إخوان الصفا عرض نسق الحكمة في اقسامها الأربعة.
والفرق بين العرض الأدبي والتأليف هو أن التأليف رسائل ومقالات فلسفية يغلب عليها الطابع النظري المجرد في حين أن العرض الأدبي الغاية منه ترويج الفلسفة للعامة وإخراجها عن دائرة النخبة إلى الجمهور العريض. وينطبق عليه تحليل المكونات الثلاثة: الوافد والموروث وآليات الإبداع.
1
وقد ارتبطت الفلسفة الأدبية بحياة الفلاسفة الأدباء أو الأدباء الفلاسفة وبشخصياتهم. يعبر فكرهم عن أزمتهم وهي أقرب إلى الحكمة الأدبية منها إلى الحكمة النظرية. تجعل من أزمة العصر مصدرا للتفكير، ومن تجارب الإنسان منبعا له. فكره تجاربه، وحياته قدره مثل الحلاج والغزالي والسهروردي وكبار المفكرين والصوفية الشهداء وابن الراوندي وأبي العلاء وكبار المفكرين والشعراء أصحاب المواقف الفكرية.
2
وعادة ما يتهمون في التاريخ بالكفر والخروج من أهل الاستقامة، أهل السنة والجماعة. ومن مظاهر أزمته النفسية حرق كتبه، وربما نسخت في حياته قبل إحراقها حتى لا يبقى إلا الأصل، الإنسان أو الله أو العمل دون النظر. وقد كان ذلك سنة كبار الزهاد والعباد الذين يصلون إلى عين اليقين. ومن ثم لا يحتاجون إلى علم اليقين، ويعجزون عن التعبير، ويلجئون إلى الصمت. إلى هذا الحد بلغ الصمت وربما التشاؤم. أليس الإنسان سيرته، وعمله حياته؟
3
يستمد علمه من حياته ومن تجاربه وليس من الكتب المدونة الميتة. فالتجربة الحية لها الأولوية على النص الميت.
ولا يهم أصله فارسيا أم غير ذلك. فالفكر ابن عصره وليس ابن نسبه. واسم أبي حيان كان شائعا في عصره. وهو كنية مثل حي بن يقظان. ولا يهم أيضا إذا كان أبو حيان ومسكويه شيعيين، وإن كان لدى أبي حيان شعور بالاضطهاد، والاستشهاد بالإمام علي يجعله أقرب إلى التكوين النفسي والشعور بالشقاء عند الشيعة. وأبو حيان راو عن رواة، يعبر عن حال الثقافة والأدب في القرن الرابع بحيث يبدو الوافد قد أصبح موروثا بعد أن تم تمثله وتأصيله داخل الموروث قبولا أم رفضا. ويمثل روح عصر واحد ظهر عند العامري والسجستاني ومسكويه وإخوان الصفا.
كان قريبا من إخوان الصفا والفكر الشيعي، نظرا أو عملا . يغلب عليه التصوف مع الأدب. الزهد في الدنيا موضوع غالب. فهناك صلة بين التصوف والأدب. التصوف حالات نفسية، والأدب وسيلة للتعبير عنها. الكتابة نوع من الصلاة. شاعري المزاج، صوفي النفس مثل الحارث المحاسبي والحلاج ومناجاة الفرد الكامل لصدر الدين القونوي، فن المناجاة الإلهية. كما أنه بين الكلام والفلسفة ناقلا الكلام إلى الفلسفة كما فعل الفكر الشيعي. جمع بين اللغة والتصوف فأصبح إمام البلغاء وشيخ الصوفية ضد قسمة العلوم العقلية وإحصاء العلوم عند الفلاسفة.
4
وجد هذا الفكر في الصالونات الأدبية، في بلاط الخلفاء والأمراء كمنتديات ثقافية. كانت الفلسفة في الشوارع والحلقات، موضوعات للأسواق، تناولها الحرفيون كما فعل المتكلمون من قبل، الغزالي والنجار والعلاف والصواف والرزاز. لذلك تعكس أعمال التوحيدي صورة العصر الاجتماعية والثقافية وما به من صالونات أدبية وليال ثقافية أشبه بليالي ألف ليلة وليلة في تعددية فكرية وحوار نظري دون تكفير أو استبعاد بل الشراب مع الخصوم كندماء، لا فرق بين أمراء، وحرفيين، بين سلاطين وفقهاء، أمراء وظرفاء. الفكر إمتاع ومؤانسة، تسلية وقضاء وقت، وليس ثورة أو غضبا. يدور في ليالي ثقافية في مجالس العلماء ورجال الأعمال، أقرب إلى الصحافة الفلسفية الأدبية. يغلب على التدوين الأسلوب الشفاهي وطلاقة اللسان، يتحول بعدها إلى نص مدون ينقل حرفيا، فتقل نبرته. فالشفاهي أوسع نطاقا من المدون، والتلقائية غير الروية، والطبيعة غير الصنعة، ولكن التدوين للأجيال القادمة أبقى. يغلب الأسلوب الشفاهي في التدوين طبقا لفيض الخاطر دون ترتيب وتداعي الذكريات. يمتاز بالوضوح والسهولة، بعيدا عن المصطلحات الفلسفية مع أن أبا حيان كان صديقا لابن زرعة. هو مثل أسلوب الجاحظ شكلا ومضمونا، الفلسفة في ثوب الأدب. يكثر الاستشهاد بالكتاب المقدس في ترجمته العربية القديمة لحنين بن إسحاق الأفضل من الترجمات الحالية عن اللغات الأوروبية، لذلك أتى الأسلوب متأثرا بأسلوب مزامير داود وبعض آيات الإنجيل.
5
ويستعمل أبو حيان الهزل في موطن الجد، والجد في موطن الهزل، وأسلوب السخرية. فالإمتاع والمؤانسة يقوم على جدل نفسي قبل أن يقوم على جدل عقلي.
6
يمتاز أسلوب أبي حيان بثلاثة أشياء ؛ الأول السجع من أجل موسيقى العبارة والقدرة على التعبير عن الفكر بأسلوب أدبي. ويتفق السجع وموسيقى العبارة مع الحالة النفسية وليس مع المعنى العقلي بالضرورة، وتصف العبارة الحركة كما هو الحال في الصورة المرئية. ومع ذلك لا يخلو أسلوبه من التأدب والافتعال والمحسنات اللفظية والتكلف والتزين باللفظ مما يدل على أهمية الجانب الأدبي. والثاني الشعر العربي كمصدر رئيسي. فينتشر الشعر للتعبير عن الرؤيا. يقيم البرهان، ويروي الخبر، ويستشهد بالحاضر والغائب وبقول المناقض، ويضرب المثل، ويأخذ ذلك مأخذ الجد لا الهزل دون عجمة. فإذا كان في النثر تكلف ففي الشعر صدق، والصدق أبلغ من الكذب، وافتعال الأسلوب لا يقنع. والثالث تصور الحياة العربية وأزمة العصر عن طريق رواية الأحداث قدر الجهد دون استبعاد إبداع الذاكرة وإكمال النقص، فالتاريخ تحكمه البنية، والموضوع يحكمه العقل، مع حرص على الفهم الموضوعي قدر الإمكان للحديث بأسلوب الأدباء ورؤية الحكماء ودون تحريف للروايات كما هو الحال في روايات القرآن والحديث. ويصور حياة «الأرستقراطيين» من علماء وفقهاء وأمراء ووزراء وخلفاء وفقهاء وحكماء ومتكلمين وسلاطين.
7
وله القدرة على رسم الشخصيات والتعبير عن تصورها للعالم وفي سلوكها وفي علاقاتها بالآخرين. فالمجوسي معجب ذميم، لا يعرف الوفاء، يباهي بدنياه وليس بآخرته. والنصراني أرعن خسيس لم يأت بخير في نظر أو عمل، منهمك في اللذات، وثالث مغرور يرى أنه لولا رأيه ومشورته لكان كل شيء خرابا شريرا، ويدعي كل الخير لنفسه. ويقارن بين أخلاق العصر، ما يتفق معها وما يختلف.
8
ومنهج التأليف هو استدعاء الذكريات أو الإملاء، وفي الذاكرة يتوحد الواقع والخيال، الحدث والصورة، الموضوعي والذاتي، التاريخ والأدب، ويتفاعل الماضي مع الحاضر، الجزء مع الكل، الرواية والقص، النقل والإبداع. لذلك يصعب معرفة إذا كانت «المقابسات» من إملاء أبي سليمان أم أن التوحيدي كانت لديه مذكرات اعتمد عليها في كتابته ولم يروها شفاها، قد تكون مؤلفاته جمعا لا تأليفا، والجمع إحدى مراحل التحول من النقل إلى الإبداع عن طريق العرض النسقي المنطقي (ابن سينا) أو النسقي الشعبي (إخوان الصفا) أو الأدبي (أبو حيان) أو حكمة الشعوب ومأثوراتها (مسكويه). وقد يكون مقياس الاختيار للعروض وتبويبه تأليفا غير مباشر. فالمناظرة الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي اللغوي ومتى بن يونس المنطقي حقيقة أم خيال؟ واقع أم مثال؟ تاريخ أم بنية؟ وفي كلتا الحالتين لا تقل البنية واقعية عن التاريخ لأنها تكشف عن إشكال حقيقي فعلي، إشكال الوافد والموروث. لا ينقل أبو حيان فقط عن القدماء بل يتجاوزهم نقدا وتطويرا. البداية بالتاريخ والنهاية بالفكر. البداية بالنقل والنهاية بالإبداع. يعيد بناء الواقع التاريخي بناء للفكر، لذلك لا تهم تاريخية الوافد أو الموروث بل دلالته. وقد تنتقل الدلالة إلى حدث آخر دون أن يكون في ذلك تعارض مع التاريخ. لذلك غلب أسلوب الرواية «قيل» و«قال». ليست الغاية من الرواية السرد بل الكشف عن الدلالة زيادة أو نقصانا في الرواية.
9
وتمثل عناوين مؤلفات أبي حيان نوعا من الجماليات والإيقاع الثنائي يعبر عن ثنائية التوحيد عند الصوفية وأحوالهم: الإشارات الإلهية، الإمتاع والمؤانسة، البصائر والذخائر، الصداقة والصديق، الهوامل والشوامل في مقابل عناوين أحادية اللفظ مثل المقابسات. وتعبر هذه الثنائيات عن صراع حاد بين الحق والباطل، المعارضة والسلطة، الصدق والكذب، الضمير والعصر. وكل كتاب له مناسبة تتضح من العنوان. «الصداقة والصديق» أقوال ومساجلات تم تدوينها إلى الوزير. ويتضح فيها الدفاع عن النظام والمتكلمين دفاعا عن الانفتاح على ثقافة العصر. وربما كان لهذا الإيقاع الثنائي أثر على صياغة «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا.
10
وتدل آثاره ومروياته ورسائله على أن التأليف كله في الموروث وليس في الوافد. وتكشف عن ثقافته في الآداب العربية والكلام خاصة الاعتزالي وتقريظه للجاحظ. ألف في النوادر التي تجمع بين الشكل الأدبي والمضمون الفلسفي. ولا يكاد يظهر أحد من اليونان إلا إقليدس في الهندسة والزندقة. وربما هي منتحلة نظرا لافترائها على الهندسة. ويبدو في كتاباته الحديث عن الحكام مدحا أو ذما. كما يتهم مسكويه بالحسد.
وعندما يكون الفكر تعبيرا عن أزمة شخصية وسيرة ذاتية بهم معرفة الترتيب الزماني للمؤلفات باعتبارها مؤشرات على مراحل حياته. ويسهل ذلك عن طريق الإحالة إلى باقي المؤلفات في كل مؤلف تأكيدا على وحدة المشروع الفلسفي، مثل الإشارة في «المقباسات» إلى «الهوامل والشوامل».
11
ولا يعني الترتيب الزماني إغفال البنية. فالمؤلفات كلها تعبر عن جوانب متعددة لنسق فلسفي واحد أو رؤية فلسفية متسقة «الصداقة والصديق» يجمع بين الأدب والأخلاق.
12
و«المقابسات» أكثر عمقا وفلسفة وإسهابا وبرهانا من «الهوامل والشوامل». وإذا كان أبو حيان قد وجهت إليه تهمة التكفير فلأن «المقابسات» تتضمن تعاطفا مع الفلاسفة. وبالرغم من نقد العصر وما به من نفاق، وبالرغم مما يشعر به أبو يحان من غربة إلا أنه أيضا يؤلف «الإمتاع والمؤانسة» للأمير.
13 (2) الوافد والموروث
وبالرغم من أن العرض الأدبي نوع أدبي واحد إلا أن عرض المؤلفات لمعرفة مكوناتها الثلاثة: الوافد والموروث وآليات الإبداع أفضل في التعرف على مسار علوم الحكمة من النقل إلى الإبداع بالرغم من تقطيع الموضوع وتجزئته. وإذا كان أرسطو ومدى ظهوره في الفكر الفلسفي مقياس الترتيب من الأكثر إلى الأقل يكون ترتيب المؤلفات طبقا لهذا المقياس: «المقابسات»، «الهوامل والشوامل»، «الصداقة والصديق»، «الإمتاع والمؤانسة»، «الإشارات الإلهية». وربما كان الترتيب البنيوي طبقا لنسبة حضور الفلسفة أكثر عن ترتيب المؤلفات طبقا لمدى حضور الوافد والموروث. باستثناء تبادل المواقع بين «الصداقة والصديق» و«الإشارات الإلهية».
14 (أ) المقابسات
وهو أكبر عمل يظهر فيه الوافد، عشرة أعلام يونانية، أرسطو، ثم أفلاطون، ثم الإسكندر وسقراط وفيلون أحد قواد الإسكندر، ثم بطليموس، ثم أنباذقليس وبقراط وجالينوس وزينون الفيلسوف وفرفوريوس الصوري.
15
ويتم التعامل مع الوافد من خلال رواية الموروث، إملاء أبي سليمان وليس من الوافد مباشرة. فقدم تمثله في الموروث وأصبح وافدا موروثا أو موروثا وافدا. وأبو حيان ذاته ليس مجرد راو بل هو فيلسوف أديب تمثل الوافد الموروث. واستطاع هو أيضا تحويله إلى موروث وافد، وتحويله خطوة من الوافد إلى الموروث. ويذكر أرسطو مع الأوائل وليس بمفرده أي كجزء من التاريخ العام وليس لحظة مقطوعة منه. ففي موضوع الخلاء وهو مكان عادم لجسم طبيعي بين النفي والإثبات يذكر أرسطو نموذجا للنفي مع آخرين نموذجا للإثبات في مقابل رأي ثالث يقول إنه معنى مثبوت في العالم به يكون الانقباض والانبساط، والتخلخل والتكاثف، والخفة والثقل، والطاقة والغلظة، والحركة والسكون. وهناك رأي رابع يثبته خارج العالم ولا نهاية لها، ثم يأخذ أبو سليمان وأبو حيان موقفا قد يكون مع أرسطو وقد يكون مناقضا له. فأرسطو هنا جزء من كل، رأى ضمن مجموعة من الآراء والموضوع طبيعي علمي مجرد وليس فقط إنسانيا أخلاقيا عمليا.
16
كما يذكر أرسطو في إطار النقل كتاريخ لبدايات الإبداع كما يفعل الوحي في قصص الأنبياء قبل خاتم النبوة.
17
فالطبيعة تدل على عدة معان تغطي جوانب الموضوع، وأرسطو مثل إحداها. طريقة العرض تنتسب إلى الموروث لأن الطبيعة اسم مشترك طبقا لمباحث الألفاظ عند الأصوليين. إذ تدل على أن لكل شيء عرضا أو جوهرا، بسيطا أو مركبا، وعلى المركب منهما، وعلى المزاج الأول اللاحق لكل مركب، وعلى المزاج المتنوع، وعلى المزاج العام عند الطبيب، وعلى المزاج الخاص عند الإنسان. ويدل عند أرسطو على المعنى عند الفيلسوف الطبيعي، مبدأ الحركة والسكون في الشيء بالذات لا بالعرض، وهو المركب من المادة والصورة. والأولى الصورة لأنها مبدأ الحركة والسكون كرد فعل على جعله المادة عند بعض القدماء، ثم يتحقق أبو سليمان وأبو حيان من صحة هذه المعاني لاختيار أحدها. فهناك إبداع أول في لحظة التمثل ووضع الوافد داخل الموروث. وهناك إبداع ثان في لحظة التحقق من صدق هذه المعاني، ومعيار التحقق مبادئ اللغة العربية وهو معيار موروث.
18
كما يذكر أرسطو من خلال الترجمتين، عيسى بن زرعة، بعد أن أصبح النص عربيا متاحا للجمهور، وجزءا من الثقافة العامة. فالإنسانية أفق، والإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع، دوائر على مركزه، إلا أنه مشدود أيضا بطبيعته إلى أخلاق بهيمية. ومن ترك نفسه لها خرج عن أفقه. وهو نص مباشر لأرسطو يعلق عليه أبو حيان استحسانا. ويجد أنه يشابه الموروث في مواعظه وإرشاداته. يمكن أن يأتي بمثله الحسن البصري ومنصور بن عمار مع مخاطبة القارئ ودعوته إلى المشاركة في الحكم. فلا خلاف بين الوافد والموروث من حيث المضمون الأخلاقي، العقل اليوناني الخالص والعقل الإسلامي المطابق للوحي. بل إنها نوع من الفلسفة الخالدة التي يصل إليها العقل الإنساني بمفرده، وتوجد في حكمة كل الشعوب.
19
وتتم المقارنة بين الوافد، أرسطو، والموروث، المتكلمين، في طريقة البرهان. فقد أحسن أرسطو عرض الجدل وما به من تمويه ومغالطة بطريقة أفضل مما وصل إليه المتكلمون، اعترافا بالحق. فقد أكمل أرسطو ما تركه المتكلمون ناقصا كما يكمل الفلاسفة أحيانا ما يتركه أرسطو ناقصا، فالوافد والموروث يكملان بعضهما بعضا بنيويا وليس تاريخيا.
20
ويذكر أرسطو في نموذج آخر في موضع السؤال والجواب كما هو الحال في علم أصول الفقه في أبواب المفتي والمستفتي وأحكام السؤال والجواب. فيسأل أرسطو: لم لا تذكر العالم العلوي ومنه هبطنا إلى هذا العالم؟ وهو سؤال إشراقي صوفي موضوع يعبر عن الموروث أكثر مما يعبر عن الوافد. ويعطي فرصة لأرسطو الموروث فيلسوف الإشراق الصوفي. السؤال إبداع والإجابة إبداع من أرسطو المنتحل دون تحديد أي كتاب لأرسطو يتضمن هذه الإجابة. فالهبوط من العالم العلوي إلى العالم السفلي ليس سؤالا يونانيا بل سؤال صوفي إشراقي فارسي. ويجيب أرسطو مدافعا عن نفسه ضد السؤال-الاتهام بأن السبب في ذلك هو اختلاطنا بالمادة في العالم السفلي والعالم العلوي هو الدهر وكل الزمان، ماض وحاضر ومستقبل. بل كله حاضر في حين أنه في العالم السفلي هناك زمان، ماضي وحاضر ومستقبل. ومن ثم لزم تذكر الماضي في الحاضر. ويدل جمال الأسلوب وحسن العبارة على الانتحال، إبداع أرسطي دون أرسطو، والتعبير عن روح الحضارة الإسلامية من خلال روح أرسطو. ومع ذلك يمكن العودة إليه عن طريق التذكر على الطريقة الأفلاطونية، العلم تذكر والجهل نسيان. وتستمر الأقوال المنتحلة في هذا المعنى، وكان أرسطو الحكيم أصبح إشراقيا صوفيا. ثم يتم الاعتراض عليه بطريقة الفقهاء والمتكلمين بالسؤال عن حاجة النفس والعقل إلى العلة الأولى والإجابة عنه ببقاء العلوم. يدرك العقل الأولي الأشياء بالحدس، وكذلك العقل الثاني باتحاده بالعقل الأول. فإذا أعاقه شيء احتاج إلى التوسط بالحواس والوهم والأجسام. للعقل الإنساني طرفان، العقل الأول والوهم. فإذا مال إلى الوهم كان فكرا وروية. وإذا مال إلى العقل كان حدسا مباشرا. يبدو أرسطو هنا من أنصار الفيض، الله، فالعقل، فالنفس، فالمادة.
21
وقد حول الموروث علاقة الإسكندر بمعلمه أرسطو، كما تحولت العلاقة بين الإسكندر وأصدقائه، والإسكندر وأمه إلى علاقة مثالية بين الشيخ والمريد. وكلاهما أخذ لقب حكيم، فالإسكندر يراسل معلمه، يصف له ما رآه في الهند من الأمور العجيبة. ويناديه الإسكندر الحكيم أي المعلم الأبدي لا شخص أرسطو. ويروي له كيف أن صديقه فيلون أراد يعبر الخليج أولا مضحيا بنفسه وحتى لا يصاب الإسكندر بمكروه. فلما غرق فيلون جزع الإسكندر عليه، وكانت هذه الحادثة فرصة لأرسطو أن يتناول موضوع الصداقة والصديق، والعشق والمحبة، والمعرفة والعلم، والتوحيد والفتوة، والمروءة والعقل، والروح والرأي، والسعادة والغنى، والجود والظن، والوعد والوعيد، والحكمة والعالم، والدنيا والإنسان، والشريعة والوجود، ثقافة واحدة لا تمييز فيها بين الوافد الموروث، وبين العقل والنقل. فيها التوحيد والشريعة كما أن بها العقل والحكمة. يبين أبو حيان شيئا أشبه بالمناسبة التي فيها تحدث أرسطو، شيئا شبيها بأسباب النزول.
22
وقد يذكر أرسطو بطريقة غير مشخصة، الفيلسوف الحكيم، انتقالا من الشخص إلى العالم في حده للصديق. فالصديق هو الآخر المتحد بالأنا إلا أنه بالشخص غير الأنا. ويناقش النوشجاني هذا الحد وينقده. الحد صحيح إلا أن المحدود غير موجود فلا داعي للتسرع لقبول حد أرسطو. فالعقل الذي به يتم الحد بين العقل الصوري والحسي والمادي، ولو كان العقل صوريا فقط لاكتفى بالأجناس والأنواع. والإنسان ذو مزاج وطبيعة، قد تتفق أو تختلف مع إنسان آخر. فالصداقة بمعنى الهوية بين الأنا والآخر لا وجود لها إلا بمنطق الهوية لا بمنطق الاختلاف. والهوية تؤدي إلى التبعية وهي خلاف الصداقة. لذلك كله حد الفيلسوف لا حقيقة له ولا دلاله عليه، ولا يطابق شيئا في الشاهد. وقد قصد بهذا الحد المبالغة في بيان الهوية الكاملة بين الصديقين من أجل شحذ الهمة والوصول إلى الغاية، وإن لم يطابق شيئا في الحس.
23
يتم عرض أرسطو من خلال النوشجاني وهو صاحب رأي مثل باقي الآراء، وهو رأي مثالي لا يطابق الحس، يعبر عن قصد ومثل وليس عن واقع ومشاهدة. وهنا تبدو مثالية الوافد وواقعية الموروث. ويبدو أرسطو موضوعا للتحليل والمناقشة والإكمال والإنقاص. وهنا يحاول الموروث أن يؤصل الوافد، ينقده ويبين حدوده، ويفسر غايته وبواعثه. ويتم التساؤل عن حدود هذا الحد للإجابة عليها من أجل تعميق حد الحكيم وفهم بواعثه. فلا يوجد فرق بين شرح أرسطو وتعقيله وبين الإبداع الخاص. الشرح والنقد والتحليل مرحلة متوسطة بين النقل والإبداع. وينقل عن الفيلسوف عدة أقوال إشراقية كما ينتقل عن غيره من الأوائل في موضوعات عقلية فلسفية فكرية خالصة مثل تعريف الذكر بأنه حركات الفكر على الوهم الجاري، وتعريف العقل بأنه لا يعني تمييزا له عن قوى النفس النامية والحسية.
24
وقد قرأ أبو حيان كتاب النفس للفيلسوف على أبي سليمان. فالوافد حدث ثقافي في الموروث، مجرد حدث أو مناسبة للحديث دون نقل ولكن بإبداع مباشر في موضوع النفس والأخلاق حتى المعاد والخلود. ويكمل الموضوع أبو يزيد البلخي في كتابة «اختيار السيرة».
25
ويذكر كتاب الفيلسوف «الخطابة». فالكتاب هو المقصود وليس الشخص، من خلال الموروث وهو اللغة العربية. فالمنطق اليوناني محمول، واللغة العربية حامل. ونظرا لارتباط المنطق باللغة فإن خصائص اللغة العربية تجعلها أولى بالمنطق اليوناني. ومن يقول ذلك هو الأعجمي أبو سليمان السجستاني، وهو نفس موضوع المناظرة بين السيرافي ومتى بن يونس.
26
ويذكر أفلاطون في رواية أبي حيان عن أبي سليمان في موضوع إسلامي وهو تعدد وجهات النظر في الموضوع الواحد. فلا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مطلق في وجهات النظر الإنسانية. كل إنسان مصيب من جهة رأيه. ويضرب أفلاطون مثلا وهو انتحال إسلامي بفيل يتحسس كل إنسان جزءا ويحكم على الكل بما عرف من الجزء، طول الخرطوم أو استواء الظهر أو انبساط الأذن، وهو مثل يستحسنه أبو سليمان، يشير إلى تعدد طرق الاستدلال ضد التعصب والاستئثار بالرأي وأحادية الطرف.
27
ويتكرر نفس النموذج. إذ يذكر قول أفلاطون في رواية أبي حيان عن أبي بكر القومسي أن من لم يعرف الشر لم يعرف الخير. فالنقيض لا يعرف إلا بالنقيض. وهو موضوع إسلامي عند إخوان الصفا (إيجابا) ومحمد بن عبد الوهاب (سلبا)، موضوع الرقى والعزائم، ويوضع في سياق إسلامي، السؤال والجواب مثل أسباب النزول في علوم القرآن وأحكام السؤال والجواب في علم أصول الفقه. ويؤيد القومسي ما ذكره أفلاطون تأييدا للوحي بالعقل والتجربة.
28
ويذكر أفلاطون مرة ثالثة من خلال الموروث، علي بن عيسى، وليس مباشرة بعد أن تحول إلى وافد وموروث عن طريق المترجمين الوسطاء بين الوافد والموروث، النقل والإبداع. ويذكر أفلاطون مع غيره مثل سقراط وبطليموس وليس بشخصه كجزء من التراث اليوناني، والموضوع إسلامي خالص. الحكمة، نظرا وعملا. ويتكرر نفس النموذج مع اختلاف الإخراج. فقد يكون الراوي أبو سليمان، وسياق أفلاطون الطبيعيون الأوائل، والموضوع الإسلامي الفضيلة وسط بين طرفين. من اتصلت الحكمة بطباعة فتحتها وأخرجت منها أنواع البيان. امتلاك المنطق حلم، وامتلاك الغضب شجاعة، وامتلاك الشهرة عفة. ثم يدخل أبو حيان في مناقشات الوافد وينتصر لإحداها.
29
ويعاد ذكر قول أفلاطون في نوع أدب إسلامي هو السؤال والجواب. السائل يسأل وأفلاطون يجيب كما هو الحال في أبواب المفتي والمستفتي وأحكام السؤال والجواب في علم الأصول وبطريقة الكتب المقدسة في حوار الأنبياء مع الحواريين والصحابة. وأحيانا تكون الرواية مزدوجة أو مثلثة. قال أبو حيان من إملاء أبي سليمان أو قال راو لأبي حيان أن أبا سليمان قال كما هو الحال في سلسلة الرواة في علم الحديث. فقد أصبح الوافد موروثا في سلاسل متداخلة، منقولا جيلا عن جيل بحيث لم يعد مطابقا بين الجيل الأول والجيل الثالث. وفي هذا الانتقالية تم التحول من النقل إلى الإبداع. ويذكر أفلاطون كعالم طبيعي يحتج به الموروث باعتباره تراثا علميا من الأسلاف. ففي البدن ثلاثة ينابيع، وفي كل ينبوع جداول تفيض في أقطار البدن. الكبد ينبوع الغذاء، والجداول عروق الدم لجميع الأعضاء، والقلب ينبوع الحياة، وجداوله العروق. والدماغ ينبوع الحس، وجداوله العصب، وهو نفس تصور إخوان الصفا .
30
ويذكر سقراط في رواية أبي سليمان مع غيره وليس بمفرده. فليس هناك وافد أولى من آخر. ويذكر الوافد عن طريق تداعي المعاني بعد أن أصبح حاضرا في الموروث ومحمولا عليه. وفي نفس الوقت يعطي الموروث مزيدا من التنظير العقلي والعمق الإنساني، ونقل مستواه من الطبيعيات، الحركة والمتحرك إلى الإلهيات، من الوافد إلى الموروث. ويذكر سقراطيس على نفس المنوال مرويا داخل الموروث في قوله عن إمكانيات تحول العناصر الأربعة إلى بعضها البعض عن طريق الحركة. فلو قبل الماء السكون كان أرضا، ولو قبلت الأرض السكون كانت ماء، ولو كان الهواء حاد الزاوية كان نارا، ولو كانت النار منفرجة الزاوية كانت هواء.
31
كما قرأ على أبي سليمان كلام أنبادقليس عن المحبة والغلبة. إذا استولت المحبة على الأجسام كان العالم كريا. وإذا استولت الغلبة كان العالم فاسدا مركبا من أسطقسات. فالوافد يعرض على الموروث، فيفسر أبو سليمان أن استيلاء المحبة بالقوى العقلية اعتزازا بحضارة العقل. وذكر أبو سليمان كلمات لبطليموس واستحسن قوله في الثمرة كالشذور المنتخبة والدرر الثمينة وبين الحاجة إليها في الفلسفة الإلهية والطبيعية لمعرفة واجب العقل. وهنا ينقل أبو سليمان مستوى الطبيعة لبطليموس إلى مستوى الإلهيات والتصوف. ويتكرر نفس النموذج. فأبو سليمان هو الراوي عن بطليموس، والموضوع، الاختيار والطبيعة إسلامي. ثم يشرح كاتب آل طولون الوافد بالموروث. فالوافد محاصر مرتين من البداية والنهاية تأكيدا للوافد ودفاعا عنه. وقال بطليموس قولين في الثمرة متشابهين يدلان على أنهما منتحلان أي من عمل الإبداع على لسان الوافد.
32
مهمة الموروث التحقق من صدق أقوال الحكماء ونسبتها لهم في التاريخ. فقد زعم بعض الأولين أن للجسد مواتا هو مقدار من مقادير المزاج ثم يكون حيوانا إذا تغيرت الهيئة والمزاج، وأن الطبائع الأربع كانت مقادير معتدلة في الحيوان القابل للحس ويكون البدن حيا. فإذا ما تغيرت هذه المقادير انقلبت وكانت مواتا. ومنهم من زعم أن البدن على قدر المزاج يحدث في البدن عرضا يكون حياة أو نفسا. وينسب هذا الزعم إلى زينون. وهو ظن زائف ورأي ضعيف في رأي الموروث. فالنفس مستقلة عن البدن. والبدن آلة لها. وهي موطن النطق والعلم والحكمة والبيان والفكر والاستنباط والعقل والنظر. وربما نسب هذا الرأي خطأ إلى زينون الشيخ اليوناني الذي جعله الفارابي معبرا عن الفلسفة الإشراقية، وهو زينون الرواقي. فإذا كان رأيه فإنه يكون منسوبا إلى زينون الإيلي.
33
وذكر قول فرفوريوس المفسر لأرسطو في كتاب النفس أن العقل النفساني إذا اتصل بالعقل الأول الخالص كان عقلا دائما، وإذا فارق البدن لزمته هذه الصفة. ويبطل الحس والنماء والتوهم ببطلان الجسم لأنها من أثر النفس فيه. ليس العقل من الجسم ولا من النفس بل النفس من أجله وهو صورتها وهو ما يتفق مع رأي الحكماء. ويذكر قول أبو قراط رواية عن القومسي رواية عن الأوائل أن الحمية ترك الشهوة. وأحيانا يكون الوافد هو الدافع على سؤال الموروث. فقد بلغ جالينوس في منافع الأعضاء حدا من الدقة بحيث يبدو وكأنه ملهم من الله وموحي إليه في وصفه للعين. فالوحي والعقل والطبيعة شيء واحد. والفرق أن جالينوس يجعل العلل تابعة للأشياء في حين أن الأشياء تابعة للعلل. ويسأل أبو حيان عيسى بن زرعة بحضور أبي علي وابن عبدان الطبيب عن الأشياء المدركة بالحس والعقل واتباعها العلل.
34
ومن الوافد ما زالت بعض المصطلحات المعربة مثل الهيولي. كما تذكر التسميات العامة مثل القدماء، الحكماء، الفلاسفة، الأوائل، الفيلسوف، يونان؛ إذ يروي ابن زرعة من كلام القدماء ما يتفق مع الموروث مثل دلالة العقل على الفضيلة كدلالة الجهل على الرذيلة دون الإشارة إلى سقراط. وكلام الأوائل منقول ومترجم، وهو في حاجة إلى تفصيل وشرح، مما يقتضي إعادة صياغته لمزيد من البرهنة وتعميم للفائدة. البداية هو الوافد، والوسط هو الموروث، والنهاية هو الواقع العملي من أجل توحيد الثقافتين بدلا من ازدواجيتهما ثم التوحيد بين الثقافة والواقع بدلا من عزلتها وانفصالها عنه. وهناك شيوخ عرضوا علوم الأوائل وهضموها وتمثلوا مثل أبي القاسم عيسى بن علي بن عيسى، وقد يكون لفظ الأوائل عاما للغاية بحيث يشمل الوافد والموروث بمعنى السابقين. فأبو بكر القومسي كان كبيرا في الأوائل مما يدل إلى الاحترام الشديد. علوم الأوائل مفهومة ومعروفة وليست صعبة ولا عويصة. ويمكن التسليم بها لمن يعرفها. فالعقل قاسم مشترك بين الوافد والموروث. وكثيرا من الأقوال المروية عن القدماء يقبلها العقل، ولا تعارض الوحي، وأقرب إلى العلوم الطبيعية مثل معرفة الدواب أولادها بالرائحة، ومعرفة الطير أفراخها بالألوان، ومعرفة الناس بالصورة. وتروى هذه الأقوال على لسان أبي سليمان، ويحكم عليها بالصواب والخطأ. وأحيانا يروي القول بلا تعليق. كما يروي أبو سليمان قول بعض الأوائل أن الحد يكون من الصورة والهيولي في حين أن الإيضاح يكون من الصورة والعلة ثم يحكم بصحته. وهو الصناعي خارج عن حد الطبيعي. فالصناعي يصدر عما له صورة نفسية بأداة روحية. فالطبيعة من الآلهة. ويكون المحرك مساكنا كالمغناطيس للحديد، والشهوة للبدن، وصياغة الرواية في شكل سؤال وجواب كما هو الحال في علم الأصول وفي أسلوب التساؤل القرآني.
35
وأهم الموضوعات التي تروى فيها الأقوال على لسان أبي سليمان في الموضوعات الإنسانية مثل العلم والعمل وهما حد الفلسفة، ولكل منهما ضدان. العلم بين الصدق والكذب، والعمل بين الخير والشر. والإنسان الذي لا يعمل بعلمه كشجرة مورقة لا تثمر. وهو تشبيه وارد في أساليب الموروث، والإنسان ليس العالم وهو في الوسط. قد يعلم بالمماثلة ويهبط بالمشاكلة. والبخيل والغني كالجبان والقوي، وهو تعريف يقوم على المشابهة. ويذكر موضوع القول إنه في السياسة والأخلاق. فالأقوال ليست متناثرة بل تنصب في موضوعات مثل ضرورة أن يكون لكل ذي سلطة تحصين العقل من العجب والوقار من الكبر والعفو من تفضيل الحدود، وتبدو مفاهيم الموروث في انتحال الوافد، إذ لا يمكن فصل الحق عن العدل. والنفس والعقل صورتان. والعلم علم فحص وعلم فكري مثل القياس. وإذا قويت الهيولي على النفس تظل النفس قادرة على التجرد والحرص، والفكرة تقع على المفقود والعلم يقع على الموجود، وتعلم العلوم الشريفة يؤدي إلى الإحساس بالنفس.
36
وأحيانا يتم استعمال الموروث التصحيح الوافد مثل ما رواه القومسي عن بعض الأوائل أن الرقي باطلة ودفاع الموروث عنها لأنها كلمات تدخل على الطبيعة فتشغلها عن عملها كما تشهد بذلك المشاهدة. فالوعيد يقطع العرق. ووصف الموت والحياة على أنه تحول في مزاج البدن زعم من القدماء وإغفال لموضوع النفس. وقد روى أبو سليمان قول بعض الطبائعيين أن منزلة الكواكب من الشمس منزلة الحديد من حجر المغناطيس. واعترض بعض الحاضرين بأن الحجة للدين. ورد أبو سليمان بأن كل من لا يعرف ما يجب عليه فلا يعرف. فللوافد أصله وللموروث أصله. وأحيانا أخرى يتم استعمال رأي الوافد لتصحيح الموروث خاصة ولو كان منفردا لا يتفق مع آراء موروثة أخرى أو مع رأي الأوائل مثل رأي أبو بكير في وجود فلكين دون فلك القمر هما سبب المد والجزر. فعند الأوائل البرهان على خطأ دعواه. وهو قول بلا برهان، وصورته القياس مخالف لرأي الأوائل. فالموروث أحيانا لا يرتفع إلى مستوى الوافد، وثقافة العامة لا تصل إلى مستوى ثقافة الخاصة، والنفس لا تصل إلى مستوى العقل، ولا الدين إلى مستوى الحكمة كما يقول العامري.
37
ويروي الموروث (الصابي) عن الوافد (الأوائل) أقوال أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد، تتحدث عن الشكر والإقرار بالنعمة للمعبود في الضمير والنية والفعل. يتكون الضمير من النية والمحبة والطاعة. ويتكون القول من الثناء والدعاء والنشر. ويتكون الفعل من الصبر والسعي لرضاء المنعم، وقد يشير لفظ الأوائل إلى الموروث لأن الأقوال أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد. وقد تكون وافدا منتحلا أي روح الموروث منسوبا إلى الوافد. وقد تكون ترجمات حرة لبعض أقوال الأوائل وهو الاحتمال الأبعد. والنسبة المطلقة إلى الأولين توحي بانتحال في ثقافة ترى أن السلف خير من الخلف، وأن الخلف أشر من السلف. والطبيعة والعقل مكان النفس، والباري محيط بالكل. ويستضيء الجسد من النفس كما يستضيء القمر من الشمس، وتستضيء النفس من العقل كما تستضيء النفس من النفس. وتستضيء الروح من الطبيعة كما يستضيء المركز من المحيط. ويستضيء العقل من العقل كما يستضيء العاشق من المعشوق. وهنا تبدو لغة الإشراق المعروفة في نظرية الفيض. وللعقل ثلاث جهات: جهة إلى ربه، وجهة إلى معقولاته، وجهة إلى ذاته إبرازا للبعد الإلهي بالإضافة إلى العقل والمعقولات مثل «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
38
ويشير لفظ الحكماء إلى الموروث خاصة. فلفظ الحكمة قرآني. القومسي من الحكماء البينة لديه إدراك الشيء من جهة علته المحيطة به كما قال بعض بلغاء الحكمة، فالحكمة بلاغة، ولكل شيء علة تربط الجوهر بالأعراض، وتحرك الكواكب والأفلاك، وتباين العقول والأزمان، وتعرف الليالي والأيام، وهي وضع المهاد ومركز الأوتاد. كما يستعمل لفظ الفلاسفة بوجه عام دون تحديد لهم، وهم الفلاسفة الكبار، البررة الأخيار، يكثرون الخوض في معنى الإمكان، في شكل سؤال وجواب، وهو شكل الرواية الموروث.
39
أما الموروث فيتجاوز الوافد. وتعطي كثرة الأعلام من الموروث في «المقابسات» صورة للفكر والمفكرين في القرن الرابع وموضوعات النقاش والحوار، وصورة الفلسفة كحوار بين العلماء.
40
وإذا كان أرسطو قد أتى في مقدمة الموروث ثم يحيى بن عدي لا فرق بين مسلم ونصراني، فكلاهما يشاركان في ثقافة واحدة، ويبدو أبو سليمان الراوي الأول الذي يعتمد عليه نصف المقابسات.
41
والعجيب عدم ذكر أسماء الكندي والفارابي وابن سينا. ربما لم يكونوا فلاسفة الصالونات الأدبية والمنتديات الثقافية بل فلاسفة البلاط وحكماء الدواوين مثل فقهاء السلاطين، مفكرو السلطة في مقابل مفكري المعارضة، مع إنهم كانوا شعراء وأدباء وأطباء وموسيقيين وظرفاء، وفي المقابل يذكر أعلام الشيعة مما يدل على دورهم في تكوين الفكر الفلسفي في القرن الرابع. ويذكر المترجمون باعتبارهم فلاسفة مثل يحيى بن عدي مما يبين أن المترجمين لم يكونوا نقلة فحسب بل كانوا أيضا مبدعين، والعجيب عدم ذكر متى بن يونس وهو صاحب المناظرة الشهيرة مع الصيرافي في «الإبداع والمؤانسة». ويذكر أنبياء الشرق وحكماؤهم وملوكهم مثل أنو شروان، وماني المجوسي، وتبدو أهمية الأعلام أن اثنين منها أبو سليمان السجستاني في مناظرته مع ابن العميد وأبو الحسن العامري عنوانان في مقابستين. ويبدو التراكم الفلسفي في المقابسات في الإحالة إلى أبي يزيد البلخي وكتابه اختبار السيرة. ويذكر ثابت بن قرة على لسان الموروث عن الخرافات الأربع: عجائب البحر، حديث السحر، حديث العشق ، حديث الجن.
42
ويبدو التراكم الفلسفي في «المقابسات» في الإحالات إلى أعمال أخرى مثل في «النسك العقلي» للعامري، «وتدبير المنزل» وكتاب «الأخلاق» لمسكويه. كما تبدو وحدة فكر أبي حيان في الإحالة إلى «الهوامل والشوامل».
43
وتخلو «المقابسات» من الآيات والأحاديث في بيئة فيها الآيات والأحاديث المصدر الأول للمعرفة. بل تعتمد على العقل الخالص. فقد وصل التنظير للموروث إلى حد الاستغناء عن أصله ذاته، اعتمادا على العقل والتجربة تجربة الفرد وتجربة العصر. يوجد فقط تفسير جديد الحديث «أنتم أعلم بشئون دنياكم» للدنيا لا للدين.
44
وتبدأ بالبسملة وتنتهي بالحمدلة وتتخللها عبارات المشيئة والتوفيق والعون. (ب) الهوامل والشوامل
يتوازى المصدر إن «الوافد والموروث» من حيث الأهمية. فمن الوافد يذكر الحكيم أكثر من أرسطو مما يدل على التحول من الشخص إلى الرمز.
45
ويستشهد بأحد أقوال أرسطو مثل أعجب الأشياء ما لم يعرف سببه ليتم التعليق عليه بأن كل مجهول سببه عجب طلبا لمزيد من التعقيل. كما يذكر قوله بأن المعقولات تصير كذلك إذا ثبتت صورها في النفس وهو قول لأفلاطون أن النفس مكان للصور استحسنه أرسطو. ومن ثم يوضع أرسطو داخل الفلسفة اليونانية كلها كما هو الحال في العرض الكلي. ويستشهد بقوله عن ضرورة الاضطراب عند نزول المكروه، فمن لم يجزع من هيج البحر وهو راكبه، ومن الأشياء التي فوق طاقة الإنسان فهو مجنون. ويستشهد بقول له في المنطق بأن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة والزمان المستقبل لا تصدق ولا تكذب معا، ولا تقتسم الصدق والكذب. وهو قول محير وضحه أرسطو بعد ذلك. فالموروث يتبع مسار الوافد من الاشتباه إلى الأحكام، ومن الغموض إلى الوضوح. كما أن العلة الكمالية عنده أشرف العلل. وهو أول من نبه عليها وذلك لأن العلل الثلاث خوادم لها. يحلل الموروث العلل بعد أن استقل عن الوافد ثم يستشهد بالوافد على نتائجه. ويستشهد بأرسطو في النسبة العادلة والمساواة في المعاملة بين البائع والمشتري كما بين في كتاب الأخلاق. ويستشهد به في أسماء النذل والروقح مبالغة في الذم . وهو ما يتفق أيضا مع اللغة العربية وأمثلتها. يحال الوافد إلى الموروث على مستوى الموروث اللغوي. فالموروث يقوم بدراسة الموضوع ويحيل إلى أدبياته من أجل إكمال مادته، التاريخ من أجل البنية، والبنية بلا تاريخ لا تظهر، والتاريخ عام، من التراكم الداخلي والتراكم الخارجي بعد أن أصبح تراكما داخليا.
46
ويشار إلى الحكيم انتقالا من الشخص إلى الرمز في أن النفس تكمل بصور المعقولات لتصير عقلا بالفعل بعد أن كانت عقلا بالقوة المنطقية في الألفاظ الخمسة وشرحها المفسرون وسموها المتفقة والمتباينة والمتواطئة والمترادفة المشتقة، وهي الألفاظ الموجودة في أول مباحث العبارة كثقافة عامة. وهي تميز الأسماء الخمسة في مقدمة فرفوريوس. ويذكر الحكيم على أنه هو الذي روى أقوال القدماء وأستاذه في الزمان والمكان في السماع الطبيعي وتحقق من صدقها. وقد نقله المفسرون إلى العربية، وانتقل إلى المتكلمين. فقد كثر الكلام في الموضوع، وقد تم توضيح هذه المسائل كلها منذ زمن الحكيم ومفسريه. ولا داعي للتكرار إحساسا من أبي حيان بضرورة التحول من النقل إلى الإبداع. ولا داعي لإعادة العرض بعد أن بين الحكيم الموضوع في كتاب الأخلاق.
47
ويذكر أفلاطون في معرض الحديث عن الموروث بعد أن أصبح وافدا موروثا. فقد تبين في المباحث الفلسفية أن العلم إدراك النفس صور الموجودات على حقائقها. وقد قال بعض الأوائل نفس الشيء إن النفس مكان للصورة، واستحسن أفلاطون هذا القول وصوب قائله لأن النفس إذا اشتاقت إلى العلم الذي هو غايتها نقلت صورة المعلوم إلى ذاتها حتى تكون الصورة المحصلة مطابقة لصورة المنقول منه وإلا لم تكن علما، فأفلاطون يأتي في الدرجة الثالثة بعد الموروث والأوائل ثم يأتي الموروث من جديد على لسان مسكويه لتأكيد هذه الحقيقة مرة رابعة، ويبدأ الموروث بالحديث عن القوة في الأشياء التي تسمى الإلهية والتي لها الرياسة، ثم يستشهد بأفلاطون الذي لاحظها في الذهب وفي الحديد وفي الإنسان تأكيدا للحقيقة بالثقافتين معا، الموروث والوافد بعد أن أصبح موروثا.
48
ولا يتعرض الموروث لموضوع إلا بعد استيفاء ما كتب عنه، لا فرق بين موروث ووافد. وهنا يدخل الوافد كمصدر للعمل. ففي موضوع العدل لم يوجد فيه إلا رسالة لجالينوس مستخلصة من كلام أفلاطون لا تكفي لتغطية الموضوع. فقد تم التراكم الفلسفي في الوافد أولا ثم في الموروث ثانيا. فالموضوع مستقل. ويتم له البحث عن أدبيات في شروح جالينوس على أفلاطون وهي غير كافية لأنها مجرد موعظة وليست تحليلا عقليا.
49
ويذكر جالينوس وحديث القفل وتعجبه من جهل من يفعل ذلك أو يرفس الحمار ويلكم البغل مما يدل على غلبة البهيمية على الإنسانية وسوء التمييز وقلة استعمال الفكر. وفي تأكيد الموروث على أن البدن آلة للنفس يذكر مذهب جالينوس المطابق لذلك. وفي تأكيد الموروث للمزاج يحال إلى جالينوس أيضا لبيان مطابقته. فالموروث هو الذي ينتهي إلى النظرية والوافد يؤكد عليها ربطا للحقيقة بتاريخها والبنية بتطورها، الدراسة أولا والإحالة ثانيا، وقد بلى جالينوس بمرض طويل لم يستطع إبراء نفسه منه حتى ضحك عليه من حفظ مذهبه.
ويذكر أفليمون باعتباره أول من وضع مصنفا في علم الفراسة قبل كتاب الرازي أو الاعتراف لصاحب الفضلة فضيلة. كما دخل على أبقراطيس متخفيا فتعرف عليه.
50
وما زالت تظهر بعض المصطلحات المعربة مثل الأسطقسات مع الترجمات مثل الأركان الأربعة، العناصر الأربعة، الموسيقى، موسيقار، الكيموس، السوفسطائي، الماليخوليا، السكنجبين، الكوسج.
51
ومن الفرق يذكر الحكماء ثم الفلاسفة والأوائل والمتقدمون ثم القدماء والآخرون والأولون ثم الفيلسوف. ومن أسماء المؤلفات يحال إلى الأخلاق ثم إلى السماع الطبيعي وتدبير المنزل.
52
والقدماء دليل ومقياس. هم أهل الحكمة. لم يتركوا شيئا إلا وعرفوه، رضي الله عنهم. يسترشد بهم المحدثون، ويسأل عن قول أحدهم إن العالم أطول عمرا من الجاهل، وإن كان أقصر عمرا منه فطول عمر العالم بعلمه وآثره على الناس. فالحس التاريخي هنا يبين أن القدماء لم يتركوا للمحدثين شيئا. ويذكر المتقدمون في مقابل المتأخرين، وهو تدبير إلهي سمح بنقل الأخبار وحفظها. دون المتقدمون ونقل المتأخرون. وقد يتناقض ظاهر بعض أقوال المتقدمين مثل «المحتفل ملغي والمسترسل موقى».
53
وقد قال بعض الأوائل: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع، كما يذكر الأولون والآخرون وهويتهم في النفس وما قيل من أعجب الأشياء: إكدار الوافر ومنال العاجز.
54
والحكماء مؤيدون للأنبياء بألفاظهم لتشبيهاتهم. ويستشهد الموروث بأقوالهم تأييدا من الأوائل للأواخر، يدعون إلى تطهير النفس، ويعرفون الله. وأطلقوا لفظ العلة على الباري تقدس اسمه، وعلى العقل والنفس والطبيعة كعلل ثانية وثالثة ورابعة. وميزوا بين العلل القريبة والعلل البعيدة. ويصور الحكماء التشوق إلى الشهوات مثل من أعتق فاشتاق إلى الرق أو من أفلت من السباع فاشتاق إليها. والمجتهد لعلوم الحكمة إنما يكون بالرياضيات (المنطق) والطبيعيات والإلهيات ثم الإنسانيات، النفس والعقل.
55
ويقرن الحكماء بالأنبياء، الحكماء من الوافد والأنبياء من الموروث، يؤديان إلى غاية واحدة. فلا فرق بين أخلاق الحكماء وشرائع الأنبياء. كلاهما تظهر من الهوى بالعقل. إنما يعادي الناس الحكمة، لاستعمالهم الألفاظ على الاتساع وخطأ فهمهم لها حرفيا. وليس صحيحا ما يروج من أن الحكماء جعلوا أنفسهم أعلى قدرا من الأنبياء.
56
وإن أقوال الحكماء في صفة الرجل العاقل العادل إنما نزل عليهم من الوحي القديم الذي أنزل الله على الإنسان منذ «اعرف نفسك بنفسك». ولا توجد عبارة أقصر ولا أبلغ منها. فما المانع أن يكون سقراط نبيا؟ وما المانع أن يكون حكماء كل قوم أنبياء هم
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .
57
وهو نفس الحديث على لسان الرسول من عرف نفسه فقد عرف ربه تحويرا للمحور الأفقي إلى المحور الرأسي. وتعطي الأمثلة من أقوال الحكماء في النفس والعقل والخير والشر والصداقة والنفور من الخمر وأن الإنسان مدني بالطبع رواية عن الموروث مثل أبي زيد البلخي فالصديق هو الآخر، وهو الأنا ولكنه مغاير بالشخص. وهو تعريف صعب المنال. وإن لم يكن الأخ صديقا فهو نسيب بالجسم. وإن لم يكن الصديق أخا فهو نسيب بالروح. كما تحيل النفس الفاضلة إلى الصدق وتنفر من الكذب. وإن أعجب الأشياء السماء بكواكبها.
58
والفيلسوف هو الذي يبحث عن الوضوح. فقد يكون القول الرشيق سببه متوار والدليل عنه مزاح. ويذكر الفلاسفة بوجه عام وليس بالضرورة فلاسفة اليونان بل يشمل اللفظ الإشراقيين والصوفية . هم الفلاسفة الإلهيون والزهاد والذين يجمعون بين الحكمتين والنعمتين وتخلوا عن نقائصهم وبهم تصلح المدن فالإنسان مدني بالطبع. وكثرة الملك. وقلة الرزق خير من كثرة الرزق وقلة الملك. والفلاسفة هم القادرون على التمييز بين الاسم والمسمى، وكان المأمون نموذج الملك الفيلسوف الذي يدير الآفاق ويعجز عن تدبير قطعة الشطرنج.
59
أما الموروث فإن الشعر يأتي في المقدمة مما يدل على أهمية المصدر العربي الأول ثم القرآن مما يدل على أهمية المصدر الجديد الذي ورث المصدر الأول، ثم العرب وكلام العرب وأمثلة العرب ثم الحديث ثم المصادر المدونة والمروية قبل أن تأتي الأعلام.
60
يستشهد بشعر ابن الرومي على الفأل ويتعصب البعض الشعر البحتري وتشببه، ويستعمل الشعر نموذجا للصواب وسهولة حفظه عن حفظ الخطأ مستشهدا بشعر أبي تمام والبحتري وليس بشعر الطرمى أو أبي العبر. وينقد أبو حيان امرئ القيس للغته الأعرابية وعجمية ملكه وشبابه وذهابه في طرق الشعر طريق التصنع والهيام في الوادي والانغماس في المعاني. ويستشهد بأقوال المرقش وأبي تمام.
61
ويذكر من الأعلام ما يزيد على الخمسين من الأدباء والمتكلمين والمغنين والمؤرخين والشعراء والحكماء والمترجمين والصوفية والأمراء والخلفاء والصحابة والعلماء والأنبياء.
62
ويخص بالذكر متى بن يونس (328ه) باعتباره منطقيا، ومناظرة أبي هاشم المتكلم في الصلة بين اللغة والمنطق. فالمنطق عند أبي هاشم أحد أوزان اللغة. ويؤيد أبو حيان أبا هاشم، وهو نفس موقف السيرافي.
63
ولأبي يزيد البلخي كلام في تفسير انتصاب قامة الإنسان من بين الحيوان. وله رواية لبعض الحكماء عن معنى سكون النفس الفاضلة إلى الصديق ونفورها من الكذب. أصبح الوافد الآن رواية عن الموروث وأخذ البلخي لقب الفيلسوف. ويحضر الجاحظ والبلخي في «الهوامل» كما يحضر أبو سليمان في «الإمتاع» و«المقابسات». فالجاحظ أقرب القدماء إلى أبي حيان، كلاهما يجمع بين الأدب والفلسفة ويزيد الجاحظ العلم فتذكر أقواله في الحياء لباس وحجاب وستر من المساوئ شقيق العفاف، وحليف الدين، يذود عن الفساد، وينهي عن الفحشاء وإن كان أحيانا يبدو تصنعا. ويذكر حسد أحمد بن عبد الوهاب له في «التربيع والتدوير » حول الصدق والكذب والتولد في الحيوان دون النبات.
64
ونظرا لأهمية المناظرة فقد جمع أبو حيان في «الهوامل والشوامل» مجموع مناظراته مع مسكويه. بل إن الهوامل المسكويه والشوامل لأبي حيان. ويحيل مسكويه إلى الفوز دون تحديد الأكبر أم الأصغر. والأصغر أقرب إلى علم أصول الدين. كما يحيل إلى باقي كتب المنطق والأخلاق وكتب النفس، فالمناظرة في الموقف كله. كما يحيل أبو حيان إلى «تدبير المنزل» لمسكويه (أرسطو)، فالمناظرة في الموضوع كله وتراكماته الفلسفية.
65
والعنوان مستمد من البيئة. الهوامل سائمة الغنم أي الأسئلة الشاردة والشوامل الإجابات عليها ورد المسائل إلى أوضاعها الصحيحة. فهو تأليف مزدوج. ويتضح أن أبا حيان هو التلميذ ومسكويه هو الأستاذ. فلماذا الهجوم على شخصية مسكويه؟ وتدل الأسئلة والإجابة على مستوى رفيع للمناظرة كنوع أدبي، الأسلوب الأدبي وشكوى الزمان. ويقرع مسكويه الأستاذ أبا حيان التلميذ بسبب شكواه. فمسكويه أقرب إلى الفيلسوف الرواقي. ومع ذلك يبدو أفق أبي حيان متسعا، فيلسوفا مع الفلاسفة، متكلما مع المتكلمين، لغويا مع اللغويين، متصوفا مع المتصوفين على عكس مسكويه الذي يبدو ضيق الأفق، سيئ التعبير، لا يحسن الإلهيات، بل يكتفي بالأخلاق العملية وتدبير المنزل في فلسفة أرسطو. كانت شهرة مسكويه في العلم أكثر من شهرة أبي حيان، وكان أغنى منه لأنه كان خازن بيت المال وخازن كتب. وربما طمع أبو حيان في علمه وماله. لذلك هاجمه في «الإمتاع والمؤانسة»، مغتر بين أغنياء، وعيي بين أدعياء ... إلخ، كما يهاجم ابن سينا مسكويه ربما لسلوكه الخلقي على عكس انغماس ابن سينا في العالم. ربما لم يكن مسكويه عالما ولكنه كان زاهدا في الدنيا التي طمع فيها ابن سينا.
وقد سأل أبو حيان أسئلته كلها دفعة واحدة أجاب عليها مسكويه متفرقه. ويتصرف مسكويه في الأسئلة، يجيب عن بعض أجزائها دون البعض الآخر، وأحيانا يسقط السؤال كلية ويعيد وضعه حتى يصبح أكثر دقة. يسأل أبو حيان عن شيء فيجيبه مسكويه ثم يسأل نفس السؤال مرة ثانية ليعرف هل سيعطي مسكويه نفس الإجابة ليعلم صدقه كفيلسوف وهل الإجابة وقتية أم بناء على تجربة فردية أو مشتركة. وتبدو بعض المسائل الأصولية عن وحدة الحق وتعدده، اختلاف الحكم حسب الزمان والمكان والعادة ومصالح الناس كما هو الحال في الفتاوى مثل صبغ الثواب سوادا هل يقلل أو يزيد من قبحه. فأبو حنيفة قبل العباسيين وأبو يوسف أيام العباسيين يعدان السواد شعارا، ومثل دوران الحكم مع المصلحة، والاجتهاد حتى ولو خالف النص. فالاجتهاد حسن في ذاته واستحالة خروج الشريعة عن مقتضى العقل. وهي تعطي صورة لمشاكل القرن الرابع في العراق والحالة الاجتماعية للناس. والإجابات نفسية واجتماعية وليست صورية آلية. وتدل إجابات مسكويه على أنه ليس غبيا بين أذكياء، دعيا بين أدعياء. وهناك أسئلة عن العلل والمصلحة كما هو الحال في علم الأصول بالإضافة إلى تحليل العواطف والتجارب الحية العامة. وما يهم هو الفكرة لا الشخص، الإبداع لا المبدع. وتكثر الأسئلة عن العلم، وكلها لأبي حيان والأجوبة لمسكويه. ويتم الاعتماد على العقل الخالص والتجارب المحضة دون وافد أو موروث ولا حتى الموروث الأصلي. ويخلو الكتاب من الشعر الذي يكثر في «الصداقة والصديق». وله أسلوب غير الأسلوب الشائع لأبي حيان في باقي مؤلفاته. ربما ألفاه سويا، وهو أسلوب واضح بسيط، أقل افتعالا وأكثر عقلانية. يبدو طويلا ولكنه واضح لا يبرر اتهام مسكويه بالغباء والسعي وراء الدنيا ربما حسدا من أبي حيان. وإذا كان غبيا فلماذا يسأله أبو حيان ويستفتيه؟ والأسئلة إنسانية عقلية مفتوحة إبداعية. ولا يهم الجواب. فالسؤال الجيد أفضل من الإجابة السيئة. وتذكر حكايات عن الأدباء والرواة مثل سؤال ابن العميد عن عدم الاتفاق على المثامنة بالياقوت والجواهر أو بالنحاس والحديد والرصاص دون الفضة والذهب، ربما لندرة الأول وشيوع الثاني، وتوسطا ثم الاتفاق عليه.
66
ويبين أبو حيان أسباب الإلحاد في الإسلام، الشك عند أبي سعيد الحصيري، حرمان الفاضل وإدراك الناقص عند ابن الراوندي مثل أيوب، فالمؤمن المصاب، ومساواة الإسلام بالحكمة ثم الكفر بهما أو الإيمان بهما مثل أبي عيسى الوراق. وقد عرضت لأبي سالم البصري شبهة أن الله تعالى لم يزل ناظرا إلى الدنيا رائيا لها وهي معدومة. فالذات لا تحتاج إلى الموضوع. وقد تورط الرازي في مذهب بعيد عن الحق، سببه معاني الألفاظ التي أطلقها الحكماء على الاتساع بعد أن ضاقت الألفاظ القديمة طبقا لمنطق التشكل الكاذب، ويقيم أبو حيان بعض العلماء مثل الكندي والأصمعي وبعض الموسيقيين مثل إسحاق الموصلي. فالكندي لم يخرج كلامه من القوة إلى الفعل. ولم يصنع الآلة التي تتطلب مهارة العازف عليها. كما أنه أبطل صناعة الكيمياء، ورد عليه الرازي مدافعا عنها.
ويذكر أبو حيان حكاية الرشيد حين سأل عن حال إسحاق الموصلي مع الفضل بن يحيي وجعفر بن يحيى، الأول الوصول إليه صعب، والثاني سهل، والأول أفضل لأنه صاحب الشرف في العطاء، وجعفر صاحب الطلاقة والبشر. وقد فضل الموصلي الثاني. ويعطى أبو حيان لنفس الفضل في الكيمياء وليس لخالد بن يزيد منها شيء، ويذكر أبو حيان الأصمعي والإمام علي لارتباط الشيعة بالثقافة الشعبية.
ويذكر أبو حيان من الفرق المتكلمين مع أصحاب الكلام الإسلاميين ثم النساك والمعتزلة والمانوية والإسلام، ومن أسماء الشعوب العجم والترك والفرس والروم والهند والسودان والحمران والزنوج وليس منهما يونان.
67
ويذكر أبو حيان بعض أقوال الصوفية في وصف الطريق ومراحله الثلاث: المرحلة الخلقية (الرياضة والمجاهدة)، المرحلة النفسية (المقامات والأحوال)، المرحلة الإلهية (الشهود والوجود). وينتقل إلى التصوف الاجتماعي المدني. إذ تقوم المدينة بالمعاونة، ويصح معاش الإنسان الذي هو مدني بالطبع. وهم طبقات الزهاد وأهل الأديان والمذاهب. وقوم من الفلاسفة، وسموا في الإسلام بالصوفية، وقالوا بتحريم المكاسب. وسبب الصيت الذي يحصل عليه الصوفي بعد موته أنه يعيش خاملا ويشتهر ميتا مثل معروف الكرخي. هم أهل التقشف ولهم فيه أقوال كثيرة، والتشف من الشرف، والترف من السرف عند بعض النساك. وقد يعيش الصوفية في بعض الأحوال مثل «حمى الربع» أربعين سنة حتى إذا فارقته استوحشها. وسر الصوفي أنه إذا صفا لم يحتمل الجفا. وإذا صفي السر انتفى الشر إيحاء إلى مراتب النفس من المعارف ومنازل اليقين وكذلك حالات الوجود والتواجد، ويتحدث بعض الصوفية عن المشاهدة والمناظرة، البعيد الذي لا يجحد والقريب الذي لا يشهد، الحق الأحد.
68
وهو الذي قال فيه أبو حنيفة الصوفي ببغداد:
قلت غدا موعدنا
ضحكت وقالت بعد غد
ويستعمل أبو حيان عديد من الآيات القرآنية لتأييد العلم اللدني كما هو الحال عند إخوان الصفا. وهو رزق الموقنين بكرة وعشيا، دولة بينهم دون إيثار. والطريق إليه هو ترك العاجلة والتوجه إلى الآجلة، والتدليل على حب العاجلة بالشعر، فلا فرق بين التجربة الدينية والتجربة الشعرية. وقد تحصل الفضائل في التركيب من صحة المزاج ثم تهمل فيصير الإنسان من الأخسرين أعمالا وهو من انحط على مرتبة الصور الإلهية. والعبادة هو الطريق إلى الله. وهنا تكون العجلة والسرعة فضيلة. وقد يتحول ذاك كله هباء منثورا إن لم يشفعه العمل الصالح. ميزة القرآن الاختصار في اللفظ والإيضاح في المعنى مثل المثل الشعبي والبيت الشعري. ومن شروط الاجتهاد العلم بالقرآن والسنة، ويمكن إثبات الصفات الإلهية عن طريق تحليل التجارب البشرية مثل نفي الشركة مما جعل أبي حيان عرضة إلى الاتهام بالإلحاد.
69
ويستعمل الحديث في موضوع التطير والفأل. فالفأل الحسن مجرد إيحاء، وقائع تطابق التمني، وأن يكون حامل الرسالة حسن الاسم حسن الوجه. كما تستعمل بعض الأحاديث الحرة مثل الثناء على يوم الجمعة. فأيام الراحة أيام طعام وشراب أو الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان منعا للحسد، وإن رثاثة الهيئة من الإيمان، وتكاتف المسلمين فيما بينهم. ويستشهد بقول المسيح من الرواية العربية مفسرا الروحي بالحرارة الغريزية. ويستعمل أبو حيان بعض التراث اليهودي مكررا من باقي مؤلفاته عن حدة طبع اليهود.
70
ويبدأ الكتاب بالبسملة والاستعانة بالله والاعتراف له بولاية النعمة. وتنتهي بالحمدلة والصلاة والسلام على محمد النبي وآله الطاهرين والدعاء للقارئ بإدراك الحق وشرح صدره له. بل وتستمر بعض العبارات الدينية عبر الكتاب كله مثل إن شاء الله وبالله التوفيق، أعزك الله والدعاء بالتوفيق والعصمة والشكر والتوكل والنصر.
71 (ج) الصداقة والصديق
ويظهر الوافد في «الصداقة والصديق»، أفلاطون، ثم الإسكندر وديوجانس ثم أرسطو مع الحكيم ثم سقراط ثم أنكساجوراس ثم أبارينوس، وثيفايون، وثامسطيوس وهرمس، وبقراط، وثيغانوس . ومن الفرق بعض المتقدمين والحكماء والأوائل والحكماء القدماء.
72
تذكر أقوال أرسطو مثل باقي الحكماء والصوفية والعلماء والفقهاء دون تمييز له عن غيره. فهو صاحب أقوال وحكم وأمثال وليس صاحب مذهب مثل رابعة العدوية إبرازا للعلاقة بين الإنسان والله. فأخلص الإخوان من لم تكن مودته عن رغبة أو رهبة. وتعهد الإخوان بالملاطفة يمنع من الهجر، وتعهد إخوان الإخوان دليل على الوفاء، وتعهد أهل المكاشرة المتشبهين بالإخوان أي المنافقين بالصبر عليهم إما لتحويلهم إلى أصدقاء أو لاتقاء شرهم. وقد عرف أرسطو معلم الإسكندر الصديق بمنطق الهوية والاختلاف. فالأنا هو الأنت، والأنت غير الأنا كما قال أبو بكر في عمر، أنا الخليفة إلا أنه هو أنا، ويظل أرسطو مع أفلاطون وسقراط وبقراط، هو الحكيم الزاهد في الدنيا، البعيد عن الكبر والخيلاء ومجالس اللهو والشراب المعروفة عند مدعي العلم في بلاط الخلفاء. وتذكر أقوال أرسطو في صيغة نصائح ومواعظ في ضمير المخاطب المفرد على طريقة الصوفية المسلمين. ومعظم الروايات عن أرسطو عن طريق أبي سليمان وليس مباشرة منه أي الوافد من خلال الموروث. فقد تفاعل الوافد والموروث بحيث أصبح الوافد محمولا والموروث حاملا. فإذا كان النقل يبدأ بأرسطو فإن التحول يبدأ بالرواية التي تحمل الوافد على لسان الموروث، ويعود رمز الحكيم في الصديق مرات عديدة، الآخر هو الأنا ولكنه بالشخص غيره، وهو شبيه بقول روح بن زنباع عندما سئل عن الصديق فقال لفظ بلا معنى. فقول الحكيم مشابه لقول آخر من الموروث. ومجموع أقواله إشراقية صوفية منتحلة تعبر عن روح الحضارة الإسلامية. هنا يصبح الوافد حاملا والموروث محمولا. ويستأنف الموروث شرح عبارة للوافد ويعمقها ويتحقق من صدقها.
73
وتذكر أقوال أفلاطون في معرض الصداقة والصديق تقريبا في سياق واحد. ومعظمها منتحلة. فهي أقرب إلى المواعظ الخلقية وأقوال الصوفية وتحويل المجردات اليونانية إلى أخلاقيات عملية إسلامية وتأصيلها بشعراء العرب، والانتحال أحد مظاهر الإبداع، صياغة الموروث الروح الوافد.
74
فصديق المرء عقله، وعدوه جهله، وعمر الدنيا أقصر من أن تطاع فيها الأحقاد. وإرضاء الحازم بإسخاط الحاشية، وإسخاط الأحمق برضاء حاشيته. والشرير يتبع مساوئ، الناس لا محاسنهم، ولا يتمنى العاقل لصديق الغني بل المساواة.
75
وعلاقة ديوجانس بالإسكندر مثل علاقة أرسطو أو علاقة أمه به، مناسبة لإبداع الحضارة الإسلامية حوار بين صديقين أو بين شيخ ومريد فيما يتعلق بالصداقة والأخوة والنبوة تأكيدا للفيلسوف الملك وانتقالا من الوافد إلى الموروث بسهولة ويسر، وعدم الإحساس بالغرابة أو الغربة أمام الوافد بعد أن أصبح موروثا غارقا في الدين والأدب والأخلاق. كما اندمج الإسلام نفسه داخل تاريخ الأديان عند السجستاني وإخوان الصفا. وتذكر أقوال ديوجانس أحيانا في شكل سؤال وجواب من سائل معروف أو يكون ديوجانس نفسه هو السائل مثل الإسكندر. ويخص ديوجانس باليوناني تمييزا له وتحديدا بأنه وافد في مقابل موروث. وكلها حكم تدور حول ضرورة التحفظ من حسد الأصدقاء ومكر الأعداء، ومعرفة الأصدقاء في الشدائد، وفرح الإنسان بأخيه في حياته لأنه يموت وحزنه عليه بعد وفاته لأنه لا يعيش. والأخوة بين صديقين أبقى من علاقة مواطن يملك إذا استمرت الصداقة في الباطن والتبعية في الظاهر. وخير صديق هو العقل في حين أن الصديق حتى ولو قام بالنصح قلاب. وتذكر أقوال الإسكندر في الصداقة في صيغة سؤال وجواب. فقد نال الملك في حداثة السن باستمالة الأعداء وتعهد الأصدقاء، والحزن على موت صديق ليس لموته بل لأنه لم يوفه حق بره وصداقته.
وتذكر أقوال سقراط في الصداقة. فالإنسان لا يكون كاملا إلا إذا أمنه عدوه وبالأولى أن يأمنه الصديق. كما أن من رجحان عقل الصديق أن يدل على عيوب صديقه، ويعظه بالحسن، ويمنعه من السيئة، وبتعبير الموروث، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. كما تذكر أقوال هرمس أن القرابة تحتاج إلى المودة في حين أن المودة لا تحتاج إلى القرابة. فالمودة أعلى من القرابة وأكثر استغلالا. كما يذكر قول ثامسطيوس عن ضرورة الصداقة، وأن الإنسان بلا أصدقاء كالشيء بلا عين. ويستشهد بقول أنكساجوراس بأن الشدائد التي تنزل بالمرء محنة إخوانه أكثر من محنته هو لو كانوا أصدقاء، وصعوبة الصداقة أنها خلق واحد، والصديق ذو طباع أربعة. وتذكر أقوال الفلاسفة أقل شهرة مثل أبارنيوس فيما يتعلق بما يلحق الإنسان بالنفع أو المضرة من صديق مقبل أو مدبر. فالإنسان لا ينفع ولا يضر إلا نفسه ولا يملك أحد لأحد نفعا ولا ضرا وهو المعنى الموروث. ويذكر قول آخر لثيغابون (أسطيفانوس) عن قضاء الحاجة من الصديق قبل طلب ذلك منه. كما يذكر الكاتب على الإطلاق لا يهم سمه ولا شخصه بل راويا للفكرة وهي الصداقة.
76
والموروث في الصداقة والصديق يفوق الوافد، شعر عربي وأسماء محلية وشعراء بالمئات، بالإضافة إلى الآيات والأحاديث.
77
ويستشهد ببعض أئمة الشيعة باعتبارهم تراثا شعبيا ولأنه تراث حاضر ومسيطر، ويرى علي بن القاسم أنه يمكن النفاق بالدين دون الفلسفة. ويجيز الدين قتل النفوس دون الفلسفة، ويذكر مسكويه أقل مما يذكر في «الإمتاع» ونقده لانفصال قوله عن عمله، و«تهذيب الأخلاق» عند ذميم الأخلاق. يتدخل في كل شيء دون أن يبدع شيئا. لا يكتفي بعمل ما يحسن، بليد الطبع.
78
ويستشهد بأقوال المرقشي وأبي تمام والجاحظ وأبي داود بقتل الصديق الصديق إذا رآه مع عدوه. كما يستشهد بابن المقفع في كليلة ودمنة.
ويستلهم أبو حيان من التصوف مصادره عن الصداقة والصديق تبين استحالة الصداقة وصعوبة الحصول على صديق. فالصداقة عطاء لا أخذا توحد بالروح والمشيئة والإرادة. وحسن الخلق من فاجر أفضل من سوء الخلق من عابد، ونقل الحجارة مع الأبرار أفضل من أكل الخبيص (الحلوى) مع الفجار. الصداقة شهادة بالقلب وليست خبرا بالرواية. وهي مقابلة السيئة بالحسنة والمساعدة على الحسنة. والصديق من لم يجد الإنسان سواه ولم يفقده من هواه. والرفيق ما يكون الإنسان غاية شغله وأؤكد فرضه. والشقيق من أن دهم الإنسان محنة قنيت عينه له وإن شملته منحة قرت عينه به. والوافي من يحكي بلفظه كمال الإنسان ويرعى بلفظه حاله. والصاحب من غاب اشتاقت الأحباب إليه، وإن حضر تلفحت به الأبواب. والنديم من نأى ذكر الإنسان عن الكأس، وإن دنا ملك الاستئناس. الصداقة التداري بالرثاء إلى أن يأتي فرج الله، والتخلص من الرياء والنفاق وإلا أصبح مكاشفة ثم مقارحة. وهذه الأمثلة عن الصداقة المثالية لا تمنع من وصف الصداقة الواقعية من مالك بن دينار أنها في هذا الزمان مثل حرفة الطباخ حشيشة الريح لا طعم لها.
79
وتجارب المتقدمين مرايا للمتأخرين. المتقدمون هم المقياس والمعيار والهادي للمتأخرين أئمة الهدى، عنهم تنقل التدابير الإلهية. وقد قال بعض المتقدمين أنه لا صلاح للمالك إلا نفسه ووزراؤه وأعداء يخرجون عليه فيصلح نفسه من أجلهم. كما قال الأوائل أن الإنسان مدني بالطبع لابد له من الإعانة والاستعانة. والحكماء جماعة واحدة يخرج بعضهم من بعض بصرف النظر عن مضاراتهم وشعوبهم. وقال بعض الحكماء إن لم يكن الأخ صديقا فهو نسيب الجسم، وإن لم يكن الصديق أخا فهو نسيب الروح، وقد سمى أبو داود حكيما.
80
ويروى عن فيلسوف قوله عن إخوان السوء أنهم ينصرفون عند النكبة ويقبلون مع النعمة. ويتواصلون بالمحبة إلى أن يظفروا بالثقة ثم يتحولون إلى الشر. لا يشكرون على الخير، وينشرون الشر. صداقتهم شر، وتحجرهم شر، وحسن النية دليل على الصداقة والهجر دليل الموت، واعتزال العدو، والحذر من الصديق واجب. الصديق في الزمن الصالح الحسيب اللبيب الأديب، وفي زمان السوء المكاشر (المضاحك) بين الحياء والنفاق. ومن عاشر الإخوان بالمكر كافئوه بالغدر. والسفر في طلب صديق أطول سفر. وليس العاقل بأفضل من الصديق لأنه إن كان فاضلا تزين به وإن كان سفيها قابله بالحلم. وخير الأصحاب من ستر الدين وعدم المن. ولا يجوز لأحد مصاحبة الكذاب إلا مضطرا دون تصديقه ودون إعلامه بذلك حتى لا ينتقل عن طبعه. والعدو هو القادر. ولا تجوز القطيعة مع أحد إلا بعد العجز عن إصلاحه، ولا إيقاعه حتى يمكن عودة، وغاية المودة الثقة والتناصح.
81
ويستشهد أبو حيان بأقوال أهل السلف الذين يستشهدون بدورهم بالقرآن والشعر أكثر من النثر. وهم أقرب إلى إخوان الصفا بالمعنى الواسع. ويقتبس من أقوالهم في فضيلة الصداقة وتحييد العداوة. وتعريف الصديق بأنه الآخر الذي هو الأنا. وأحيانا يتحدد السلف بالسلف الصالح من أجل إعطاء سلطة للتراث. وهو تراث نوعي يغلب عليه الإشراقيات والأخلاقيات والنفسانيات.
82
وقد يذكر السلف الصالح على الاتساع دون تحديد في التواضع وطريقة التعامل مع النفس أو على التحديد، ابن مجاهد عن الفضل والرزق، وأبو عثمان الهندي عن الأمل، وابن الخليل عن الخير، وعامر بن الظرب حكيم العرب عن الرأي النائم والهوى اليقظان. فالفكر الفلسفي ينشأ بشروح على أقوال السلف وليس فقط على أعمال اليونان. وقد تذكر أعمال حكماء العرب الذي حرم أحدهم على نفسه الخمر، وحكم في الخنثى بما جرى فيه الحكم في الإسلام، مما يدل على قدرة الواقع على الوصول إلى ما انتهى إليه الوحي، وعلى تأييد الوحي لما توصل إليه الواقع.
83
ويذكر الصحابة باعتبارهم مصدرا للموروث، لا فرق بين سنة وشيعة.
84
ويستشهد بالقرآن في معاني الشهادة والتحاب والتآلف بين القلوب. فالصديق بمنزلة العين. كما يستشهد بالحديث على أن الصديق لا يرضى لصديقه إلا ما يرضاه لنفسه، وأن مداراة الناس صدقة دون مجاراة، وأن المؤمن صديق ألوف، وضرورة الاستعاذة من شرار الناس، والحذر من خيارهم، وإعلان الصديق بالمحبة للتبادل بينهما، وأن التهادي يوثق أواصر المحبة، وأن رأس العقل بعد الإيمان التودد للناس، وأن حسن العهد من الإيمان، وأن أفضل الصديقين من كان أكثر حبا لصديقه.
85
ويستشهد بالأنبياء أيضا باعتبارهم تاريخ الوحي السابق. فتذكر أقوال عيسى ابن مريم من خلال الروايات الإسلامية وأحيانا المنتحلة تعبيرا عن روح الحضارة الإسلامية. فمن علامات تلاميذ المسيح حب بعضهم البعض، وحب الله بكل القلب، وحب الجار مثل حب النفس، وحب الصديق للنفس، وحب النفس للرب. صيانة الصديق وصيانة للنفس، ووجود النفس وجود للرب، وتروى قصة لقاء بن زكريا بعيسى ابن مريم عندما تبسم يحيى وعبس عيسى؛ لأن الحياة ليست آمنة، في صيغة حوار وليست قولا مباشرا. كما يستشهد بقول لقمان عن صحبة الخير وصحبة الشر. كما يستشهد بتراث اليهود الديني والأدبي مثل سبعين بن عريض اليهودي وكعب الأحبار تحذيرا من أن يكون الإنسان كلب أصحابه.
86 (د) الإمتاع والمؤانسة
لا يتجاوز الوافد في «الإمتاع والمؤانسة» واحدا وعشرين اسما يونانيا. يأتي ديوجانس في المقدمة ثم أفلاطون ثم سقراط ولا يأتي أرسطو إلا في المرتبة الرابعة مع الإسكندر، ثم كنتس (أبقوس) ومنقاريوس ثم فيثاغورس وزيموس، ثم جالينوس، إقليدس، أوميرس، أنكساجوراس، حوريس، أربوس، أسطفانوس، أسقليبوس، ثيوديسيوس، زيودورس، طيماثاوس، غالوس، يونان.
87
ويكتب أرسطو أحيانا بالألف أرسططاليس وأحيانا بالواو أرسطوطاليس. ولا يذكر فقط في أقوال أبي حيان بل في أقوال مناظريه. يذكر أرسطو في المناظرة الشهيرة التي يرويها أبو حيان بين السيرافي ومتى بن يونس حول اللغة والمنطق. فعند السيرافي المعنى مستقل عن اللفظ، والمنطق من حيث هو معنى ليس ملكا لأحد؛ لأن المعاني في الذهن ومن يعرف منطق أرسطو لا يمكنه أن يجحد ذلك. وهي حجة جدلية ضد متى بن يونس دفاعا عن اللغة العربية ضد هجوم المنطق عليها، وقلب الحجة عليه باسم المنطق الذي يدافع عنه. كما يعجز منطق أرسطو أن يحدد معاني حرف الواو في اللغة.
88
ويستعمل أئمة الكفر، فرق الشيعة، أرسطو وسقراط وأفلاطون؛ للتمييز بين الظاهر والباطن للقدح في الإسلام وإدخال الفتنة فيه. وهي حجة ضعيفة فكما يستعمل منطق أرسطو في تدعيم الكفر يستعمل أيضا في تدعيم الإيمان. لم يعد الأمر شرحا لأرسطو أو إكمالا له بل نقدا له ورفضا لأهميته ما دام في منطق اللغة ما يغني عنه. وأرسطو مذكور مثل غيره وإن كان أقل ذكرا. ويعطي شرح إيساغوجي وقاطيغورياس لصديق بالري لاختبار مسكويه، الفقير بين الأغنياء، العيي بين الأنبياء. الوافد هنا مذكور من خلال الموروث، وأرسطو من خلال ابن سينا وليس مباشرة. ولمسكويه تذوقه للموروث لا للوافد، للأخلاق لا للمنطق، للعمل لا للنظر، لتحليل الفضائل والنفس لا للطبيعيات أو الإلهيات. ويذكر أرسطو على أنه صاحب حكايات وروايات في طلب الشفاعة لرجل لم يعطها له، وإن أراد ولم يقدر فله العذر، وإن قدر ولم يرد فسيجيء وقت يريد ولا يقدر. وهي ألفاظ محملة بالكلام الأشعري عن القدرة والإرادة والشفاعة. والأقرب أنها من المنتحلات لبيان أرسطو الحكيم في الحياة اليومية. كما يروى عنه أن العقل والفرح بالدنيا لا يجتمعان مما يدل على صورة أرسطو الأخلاقي الصوفي. كما يذكر صاحب المنطق تأكيدا على هوية أرسطو أو المستعمل للمنطق بوجه عام انتقالا من الشخص إلى العلم. ويذكر الحكيم وليس أرسطو انتقالا من الشخص إلى الرمز، ورواية عن العامري وليس مباشرة. فقد تحول الوافد إلى ثقافة داخل الثقافة. علة الأنواع والأجناس ودوامها الفلك المستقيم، وعلة كون الأشخاص وحوادثها الفلك المائل. أما الكليات المنطقية فطبيعتها من القوة القياسية المستتبة لها. وقد نقد أبو النضر النفيس هذا الرأي واعتبره حكما بالوهم ورجما بالظن، وأنه لا فرق بين الفلك المستقيم والفلك المائل في أثرهما على الأجناس والأنواع. وللحكيم هفوات كما أن للجواد عثرات، وكما أن للنائم هذيانا، عيب العامري أنه قلد الحكيم. وقول الحكيم توهم، ومحبة الرجال للرجال فتنة تؤدي إلى قبول الباطل كما أن بعض الرجال للرجال فتنة تؤدي إلى رد الحق. ولا مخرج من هذا المأزق إلا الدعاء إلى الله بالتضرع للخروج منه. وهنا يتوجه الموروث لنقد الوافد والتبعية للوافد وعدم التحقق من صدقه. ويذكر أرسطو في معرض لا نهائية العلم. فالعلم نقص في الجهل، والجهل بلا حدود، ومن ثم كان العلم بلا حدود، ونقيض العلم هو الذي له حدود. والإنسان لا يطلب إلا ما لا حد له، وهو قول أشبه بقول سقراط في العلم، وأقوال المسلمين عنه تعبر عن روح اليونان وروح الإسلام.
89
ويذكر أفلاطون في معرض الاتفاق بين الشريعة والحكمة أو بين الدين والفلسفة أو بين الموروث والوافد. فالموروث يستعمل ألفاظ التنزيل والتأويل والسنة والأمة، والوافد يستعمل ألفاظ الهيولي والصورة والطبيعة والأسطقس، والذاتي والعرضي، والأيس والليس. فالخلاف في اللفظ. الفلسفة والشريعة شيء واحد، الفلسفة فرع من النبوة، والنبوة فرع من الفلسفة. والفيلسوف والنبي يقولون نفس الخطاب والفلسفة أم العلوم، والنبي في حاجة إلى الفلسفة لإتمام نبوته، والفلسفة غنية بنفسها. يرفض أبو سليمان هذا الموقف المدافع عن الفلسفة ليس فقط عدم تقليد الوافد بل رفض إدخاله في الفلسفة. إلا أن أفلاطون وضع كتاب النواميس لتعليم الخطاب وطريقة البحث والتقديم والتأخير. ويستعمل أبو سليمان تشبيهات أفلاطون الأدبية التي تستهوي المزاج الأدبي العربي وتشبيهات القرآن وأمثاله. فالحكيم مثل النملة تجمع في الصيف للشتاء وهو يجمع في الدنيا للآخرة. والعلم مصباح النفس ينفي عنها ظلمة الجهل. حبذا لو ضم مصباح النفس إلى مصباح الغير. ويعلق أبو سليمان ويضيف تشبيه المشكاة والمصباح في القرآن. كما يذكر أمثلة من السياسة، سياسة النفس الواحدة قبل سياسة الآخرين، وموت الرؤساء أصلح من رئاسة السفلة، وإذا بخل الملك كثر الإرجاف به، ومن صحب السلطان يجزع من قسوته. ويرفض أبو سليمان مضمون هذه الأقوال بالرغم من قبول أشكالها الأدبية، ويرفض التمثيل كأداة للبرهان. فالمثال يستجيب إلى الحق كما يستجيب إلى الباطل. وينقد الفكرة ذاتها التي تضر أكثر مما تنفع. تجنب السلطان أولى من مصاحبته خاصة إذا فسد الزمان. ويعطي أمثلة محلية جديدة لتأصيل الفكر القديم ونقد الفكر الجديد والرد عليه عقلا وواقعا. ويصلح العصر إذا كان الدين طريا، والدولة مقبلة، والخصب عاما، والعلم مطلوبا، والحكمة مرغوبا فيها، والأخلاق طاهرة، والدعوة شاملة، والقلوب سليمة، والمعاملات متكافئة، والسياسة مغروسة، والبصائر متقاربة. قد تكون هذه الحالة افتراضية خالصة من أبي سليمان ومحاوره الأندلسي؛ فالزمان خصب وجدب، صلاح وفساد، إقبال وإدبار، زيادة ونقصان. فلا يوجد في السياسة خير مطلق أو شر مطلق. ويذكر أبو سليمان قول أفلاطون، ويعلق عليه قبولا أو رفضا. فإذا قال أفلاطون إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع من الرزق فإنه يزيد هذا القول تعقيلا لأن العلم والمال ضرتان قلما يجتمعان، المال للنفس الشهوية والسبعية، والعلم من النفس العاقلة، وهما متعاندان ضدان. العلم مدبر والمال مدبر، العلم نفسي والمال جسدي، العلم خاص بالإنسان والمال عام. آفات المال كثيرة، والعلم يزكو على الأنفاق، ويهدي إلى القناعة. الإبداع هنا إيجاد تعليل للوافد الموروث وتركيبه على الواقع الجديد وتأصيله في تجارب إنسانية جديدة. فأبو سليمان السجستاني هو الذي يقوم بالتحول من النقل إلى الإبداع، من الوافد إلى الموروث إلى الموروث المبدع.
90
وتقتبس كثير من أقوال ديوجانس مع مناقشتها وعدم التسليم ببعضها، والبعض منها في صيغة سؤال وجواب، الشكل الأدبي الموروث. وكلها في قالب الحكم مثل تلك التي أرخ لأشكالها الأدبية المبشر بن فاتك، ولا يمكن التمييز فيها بين الوافد والموروث، البداية بالوافد والنهاية بالموروث، البداية بالدنيا والنهاية بالآخرة. ويمكن تصنيف أقوال ديوجانس إلى ثلاثة أنواع؛ الأول ما يتعلق بالغذاء وأمور البدن مثل صلاح الملح وفساد الذباب، أكل العبد من رزق الرب، ليس المهم كثرة الأكل بل ما يتواءم مع البدن، والتحري في غذاء النفس أولى من التحري في غذاء البدن، إذا كان المأكول للبدن فالموهوب للسعادة، والمحفوظ للعدو. إذا كان الملاح لا يطلق سفينة لكل روح فالأولى بالنفس أن تكون كذلك. وكلها أقوال تفتح البدن إلى النفس وإلى الله توسيعا لمفهوم الغذاء البدني. والثاني ما يتعلق بالأمور الفردية والاجتماعية، التفرغ والوحدة، والحديث مع من يفهم، وترك اختزان الذهب والفضة في الدار، ورؤية النفس في المرآة لعدم قبح حسنها أو زيادة قبحها، واستعداد المرأة لتلقين الشر للمرأة. والثالث ما يتعلق بالآخرة، الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، من طلب الغنى إلى طلب الحكمة، ضرورة تفلسف الملوك أو تملك الفلاسفة، الدنيا سفر لا يؤخذ فيه إلا حد الكفاف، أولوية الحمام السمائي على الحمام الأرضي، طالب العلم والمال في الدنيا؛ فالعلم يقدره الخاصة والمال يقدره العامة. ويتم التعليق على بعض هذه الأقوال مثل تشبيه الذهب والفضة في الدار كالشمس والقمر في الحال؛ لأن الشمس والقمر يكسفان فيكونان سببا لفساد كثير، والذهب والفضة يذيبان ويحميان تكملة للناقص. كما يتم التعليق على تفلسف الملوك وتمليك الفلاسفة؛ بأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وتفرغ للآخرة. ومن ثم استحالة الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك عند الحكماء، ويوافق على ارتفاع ثمن الحمام السماوي على الحمام الأرضي، وما زال المجال مفتوحا لمزيد من التعليق اليوم على موقف جالينوس المعادي للمرأة ومقارنة هذه الأمثال بالآداب السامية القديمة ومواعظ الكتب المقدسة.
91
وتذكر بعض أقوال سقراط، وأغلبها منتحل، في موضوع موروث مثل الطرب على الغناء والعزف في صيغة سؤال وجواب كما هي العادة في الأسلوب القرآني وبداية الآيات بالسؤال والإجابة وأحكام السؤال والجواب رواية عن المترجم أبي عثمان الدمشقي بعد أن أصبح الوافد موروثا عبر الترجمة. وتروى الأقوال في أسلوب عربي رصين يدل على تأليفها ابتداء من المعنى وليس ترجمتها ابتداء من اللفظ. لا يعني الانتحال الوضع والانحراف عن النص الأصلي بل استئناف معناه بألفاظ مؤلفة وليست مترجمة اتفاقا مع معاني الموروث لمزيد من العمق والاتساع، وفي موضوعه الرئيسي، صلة العلم بالفضيلة، وإعطاء الأولوية للأخلاق على المعرفة تعبيرا عن موقف الإسلام، وتأكيدا لموقف اليونان، وتحويلا للثنائية الأخلاقية اليونانية الوافدة إلى إشراقيات صوفية موروثة. فالإنسان يطرب للغناء والسمع؛ لأن نفسه مشغولة بالدنيا وهي لا تساوي شيئا. والأولى الانشغال بالنفس، والبدن مجرد آلة لها. وهي عالمة بكل ما أعد لها. والكلام اللطيف ينوب عن الفهم الكثيف، والوعظ لا يبغي الانتقام من الأعداء بل يعالج الأصدقاء. والعلم في الصغر أفضل من العلم في الكبر، وكما يبدأ النقل عن المترجمين ينتهي أبو سليمان بالتعليق والتعميق، فيحسن المرء بالتعلم ما حسنت به الحياة والنفس الفاضلة لا تطغى بالفرح، ولا تجزع بالحزن؛ لأنها تنظر إلى الأشياء كما هي دون زيادة أو نقصان. فلكل محاسن مساوئ ولكل مساوئ محاسن
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، تداعيا للمعاني. الوافد مجرد البداية وليس النهاية، مجرد خيط وافد لحبات العقد الموروث.
وتذكر أقوال فيثاغورس بعضها في صيغة السؤال والجواب. وكلها إشراقية صوفية؛ مثل الفرق بين عمى البدن وعمى النفس، بين شهوة البدن وفضيلة النفس، بين الكلام غير المعروف والطريق المجهول من ناحية، والكلام المعروف والطريق المعلوم من ناحية أخرى.
92
ويذكر إقليدس في موضع المقارنة بين العرب واليونان أو بين العرب والعجم كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس. فيعير الجيهاني العرب بأن ليس لهم كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقى ولا كتاب الفلاحة ولا الطب ولا العلاج ولا ما به علاج الأبدان والأنفس. ويرد أبو حيان على هذه الشعوبية التي تعطي الوافد أكثر مما يستحق، والموروث أقل مما يستحق . فهذه العلوم كلها تأتي الوافد عن طريق العقل البشري في حين تأتي العرب عن طريق النقل الإلهي. طريق العقل هو الطريق الاصطناعي في حين أن طريق النقل هو الطريق الطبيعي؛ فالله هو الطبيعة والعقل الصنعة. ولا يوجد طريق إلهي خالص دون أن يمتزج بالإنساني كما لا يوجد طريق إنساني خالص لا يمتزج بالإلهي، مما يؤدي إلى اتفاق العلوم والثقافات. ولا يحق للفرس الفخر على العرب؛ فليس لهم أيضا المجسطي. تمثل الوافد إذن صار بعد معركة رفضه وحصاره أو قبوله وتقليده. وتروى أقوال هوميروش الشاعر باعتباره حكيما له مواعظ وحكم مثل: علم الإنسان بشيء إذا عير به غضب فيكون كالقاذف لنفسه، ومثل الصبر على عيب الناس لاستوائهم مع الإنسان فيه. وأحيانا يكون القول مفهوما عند اليونان وليس عند العرب مثل هلاك كلب الملك أويوس وهو ابن العشرين. ويذكر قول لأنكساجوراس بفيض الماء إذا امتلأ الإناء وكذلك الذهن، ويستعمل ضد من يريد حشو الذهن بالحفظ. فكما يقوم الموروث بتصحيح الوافد وتعميقه وإكماله يقوم الوافد أيضا بتصحيح الموروث.
93
والصلة بين الإسكندر وأرسطو صلة العمل بالنظر، الأستاذ بالتلميذ. وقد طلب الأستاذ من الإسكندر أن يرد حياته لرجاله لا أن يرد رجاله لحياته. ويضرب المثل بدورة الإسكندر على أن لكل أمة زمانا وربما تفسيرا لا شعوريا لآية
وتلك الأيام نداولها بين الناس . ويروى عن جالينوس حكيما لا طبيبا. فجالينوس الأخلاقي أفضل من بقراط الطبيب طبقا لنفس النموذج، الرواية من الموروث للوافد الذي أصبح موروثا في صيغة موعظة موجهة للمخاطب ضد المفاسد الأخلاقية للعصر مثل حب الذات والعجب بها وهو رذيلة في حين أن حب الناس لها فضيلة. ويذكر قول موريس رواية عن عيسى بن زرعة يؤكد على التعددية في الفكر والرأي والمنهج، ويستنكر إجبار الناس على رأي واحد ومنهج واحد. ويتم التعليق عليه بضرورة التعددية حتى ولو كان هناك ملك يأمر وينهى والناس تسمع له وتطيع مع إنه لا بد من التعاون والمعارضة للرأي بالرأي حتى يكون التصالح والتشاور بين العالم والمتعلم والأمر والمأمور، ولا يهم شخص مورس بل المهم التعبير عن روح الموروث
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
على لسان الوافد.
94
ويروى قول لأبوقراط لا فرق بين طب وفلسفة، بين طب الأبدان وطب النفوس؛ فكلاهما حكمة. وطب بقراط يجمع بينهما. فلطافة القلب في الأبدان مثل لطافة الناظر في الأجفان. آفة القلب الغم والهم، الأول يؤدي إلى النوم والثاني إلى السهر. ويضرب المثل بالإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد؛ فهو مقياس للمقارنة وليس مجرد معلومات وافدة مخزونة. فهو الملك الفيلسوف، تلميذ أرسطو، ولا يعقل أن يكون هو النبي وأستاذه ليس كذلك. كما أن الإنسان هو المسئول عن ذم الناس أو مدحهم له، وقوته على مكافأة من أحسن إليه بإحسان أعظم في صيغة حوار بين الإسكندر وندمائه.
95
وتذكر عدة أسماء أخرى أقل شهرة مثل مقاريوس (مكاريوس) ومنقاروس من أجل صياغة حكاية متعددة الشخصيات تقوم على الحوار الثنائي وليس قولا منفردا. كان مقاريوس في حاجة، ومر بزيموس وقد تعلق به رجل يطالب بمال أخذه منه متظاهرا بالزهد والنسك وباطنه سقيم. وقد أخذ المال ووعده بالذهب، والإنسان لا يقدر إلا على قدر الوسع، والإنسان الذي يختلف عن المعدن كالمعدن. فكما يلفظ المعدن الذهب فإن الإنسان يبتلع الذهب. ويتم اختيار الأقوال الموافقة لروح الموروث ونسبتها إلى بعض أعلام الوافد مثل إسقلبيوس في ضرورة اجتماع الهمة مع القدر. ويذكر قول ثيومورس في زهد المال الذي يحضره البخت، ويحفظه اللؤم، وتبدده النفقة، وإن قل يحضر الهم، وإن كثر تقاسمه الناس. يجلب الحسد من ليس عنده، والخداع من يطمع فيه. وقد يكون في اسم «هبة الله» دلالة. وربما لم تقع الحادثة، ولا يوجد شخص بهذا الاسم، وإن وجد فليس حكيما زاهدا. وإذا كان فإنه لم يقل هذا القول، مما يدل على الإبداع الحضاري بناء على تعامل الموروث مع الوافد. ويذكر قول صولون، العلم صغير كما كبير كيفا. ويشرحه أبو سليمان ليس بطريقة الشراح بل يبين إمكانيات المعنى، حسن استعمال القليل في إيتاء النفع والغاية المحمودة والأثر الباقي.
96
وقد يتكرر نفس القول على لسان أكثر من شخصية وافدة مما يدل على الانتحال. فليس المقصود هو الحامل بل المحمول، المثل بل الممثول، الشخص بل الفكرة.
97
فقد تكررت على لسان أسطفانس أن الصديق هو الذي يقضي حاجة الصديق قبل طلبها. وقد تكرر القول من قبل على لسان تيفابون. ويذكر قول طيماثاوس عن عدم الإساءة للناس بالفعل لا بالقول. ويذكر قول غالوس عن وجهة الاهتمام بما لا منفعة فيه أو منفعة قليلة أو منقطعة وكأنه أصبح معروفا في الثقافة العامة وأصبح وافدا موروثا. ويذكر الوافد وكأنه معروف، جزء من الثقافة الشعبية في هيئة حكم ومواعظ كما قال آربوس في أن الولاية تظهر بالوالي، ولا يظهر الوالي بالولاية في صيغة سؤال وجواب، وهو الشكل الأدبي للموروث. ويذكر أبو سليمان حكاية ثيودوسيوس ملك اليونان إلى كنتس الشاعر عندما يطلب منه كتبا في الفلسفة، فجمعها له الشاعر إلا أن قطاع الطريق قتلوه، وطلب من الكراكي في السماء الانتقام. وفي الهيكل أتت الكراكي في الهواء تصيح للانتقام فسمع البعض ذلك فأخبر السلطان. فتم تركيب الوافد على الموروث والحضارة اليونانية على الحضارة الإسلامية دون تحرج من ذكر الأساطير أو إسقاطها ووضع حكاية عربية محلها. كان أبو سليمان على علم بالوافد ويصبه في الموروث.
98
وبالإضافة إلى أسماء الأعلام ذكر لفظ «يونان» عشرات المرات خاصة في المناظرة بين اللغة العربية والمنطق اليوناني وصفا للشعب والمنطق واللغة.
99
فاليونان قوم مثل الفرس. وكلاهما من العجم أي غير العرب أي الوافد من أجل إثبات خصوصية الشعوب وإبداع كل منها وعدم حصر الإبداع في شعب واحد هو اليونان. لكل شعب إبداعه، إبداع العرب في اللغة، وإبداع اليونان في المنطق، وإبداع الفرس في السياسة. وقد تصل التبعية الحضارية إلى حد جعل كل فرح وحزن من بركات يونان، وكل حيوان من أرض يونان. ولو تدارس كل شعب لاستغنى عن منطق اليونان ولغة اليونان. بل إن واضع المنطق ربما يكون قد أخذه ممن سبقه كما أخذ منه من أتى بعده. المنطق اليوناني مرتبط باللغة اليونانية. فاللغة أساس المنطق مما يجعل اللغة العربية منطقا خاصا بالعرب. وكيف تستطيع باقي الشعوب العرب، والفرس، والهند النظر في منطق يوناني مرتبط باللغة اليونانية؟ ولا يمكن تعلم المنطق إلا بعد تعلم اللغة اليونانية. فالدعوة إلى المنطق دون تعلم اللغة اليونانية مستحيلة. وقد قدمت اللغة اليونانية، وانتقلت إلى السريانية ثم إلى العربية، ولم يبق إلا المعاني. وليست اللغة العربية مجرد النحو يضاف عليه منطق اليونان، بل هو منطق أيضا. والمعاني ليست يونانية أو هندية أو فارسية أو تركية أو عربية.
100
ولم تذكر ديانات أو الشرائع اليونان أو تقتبس شيئا منهم، ولم يتعرض لهم موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى حتى محمد. والعجيب أن يكون هذا رأي أبي سليمان المنطقي من تلاميذ يحيى بن عدي وقرأ عليه كتب اليونان. وليس ليونان نبي ولا رسول، بل لهم حكماء وملوك. بل إن الإسكندر نفسه لم يقل إنه نبي أو تابع لنبي. كانت لهم شرائع قدمت وأبلاها الزمان فجددوها طبقا لتغير المصالح وكأنهم مجتهدون. والحقيقة أن عدم إشارة الوحي إلى اليونان أنه خاطب بني إسرائيل أو العرب، ولم يكونوا على علم باليونان. خاطبهم الوحي بما يعرفون، دين إبراهيم، وأنبياء بني إسرائيل. كما أنه ليس من المستبعد أن يكون لليونان أنبياء مثل سقراط وأفلاطون وفيثاغورس وأرفيوس وأرسطو والإسكندر
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وبالرغم من وجود بعض الألفاظ اليونانية المعربة مثل الكيموس والموسيقا والسوفسطائي والماليخوليا والقنطوريا توجد بعض ألفاظ أخرى بين اليونانية والفارسية مثل السكنجبين والكوسج. فقد أصبحت الأسماء المعربة يونانية أو فارسية جزءا من اللغة العربية والحضارة الإسلامية. كما تظهر بعض الأسماء الفارسية مقابل اليونانية مما يدل على حضور الجناح الشرقي للتراث الإسلامي قدر حضور الجناح الغربي.
101
وتذكر ألفاظ الحكيم والحكماء والفيلسوف والفلاسفة على العموم وليس على الخصوص، تدل على الموروث والوافد على السواء وليس على الوافد وحده. أقوال الحكماء بسيطة موجزة، ومع ذلك قد تحتاج إلى بعض البسط مثل قول بعض الحكماء إن التمني فضل حركة النفس، وهو جواب رشيق في حاجة إلى بسط ، لذلك كان الحكماء أقرب إلى الصمت منهم إلى الكلام مثل الصوفية. والحكماء جماعة يخرج بعضهم من بعض بصرف النظر عن حضاراتهم وشعوبهم، وقد روي حبيب عن بعض الحكماء أن أمراض النفس مثل أمراض البدن إلا أن أمراض النفس تؤدي إلى الشر. لذلك نصح الحكماء بإصلاح النفوس؛ وذلك بالابتعاد عن الدنيا والزهد فيها، ومعرفة الفرق بين الخير والشر وما تشابه بينهما. ويمكن الاستفادة في ذلك من طباع الحيوان، سرعة قضاء حوائج الخنزير، ونصح الكلب لأهله، ولطف الهرة عند المساءلة. وإذا كان الإنسان مدنيا بالطبع فإن المدن تبنى على الماء والرعي والمحتطب والحصانة. والحذر من العامة واجب. فلا يجب سبها لأنها تخرج الغريق، وتطفئ الحريق، وتؤنس الطريق، وتشهد السوق، وإن لم تكن أهل حكمة، والحكماء ليسوا قصرا على اليونان بل عند الفرس والمسلمين. فأبو الحسن العامري حكيم، وهناك حكماء فارس، ومن أقوالهم، الملك السمح الجواد تجود به السماء والأرض، والملك البخيل تنحل به السماء والأرض. قد يشير اللفظ إلى صوفية المسلمين لا فلاسفة اليونان. ليس اللفظ وقفا على اليونان خاصة وأنه لفظ قرآني، بل إن الأقوال المروية من الحكماء يمكن نقدها بعد عرضها على العقل. وقد اتفق الحكماء على أن الروح جسم لطيف منبت في الجسد أما النفس الناطقة فهي جوهر إلهي، ليست في الجسد بل مدبرة له. الروح أقرب إلى حياة البدن في حين أن النفس أقرب إلى حياة العقل على عكس اليونان والعبرانيين الذين جعلوا النفس أقرب إلى البدن والروح أقرب إلى العقل.
102
كما طالب بعض الحكماء بعدم ترفيه السفلة فيعتادون الكسل والراحة ولا توسيع الرزق لهم فيطلبون السرف ولا تعليم أولادهم الأدب فيسيئون الأدب وكأن التعلم لا يكون إلا لذوي الطباع الخيرة. العامة عامة، والخاصة خاصة، والعودة إلى الأصل والطبع تجسد الكسب والفرع.
103
ويذكر الفلاسفة بوجه عام وليس بالضرورة فلاسفة اليونان، بل يشمل اللفظ الحكماء الإشراقيين والصوفية. هم الفلاسفة الإلهيون والزهاد الذين يجمعون بين الحكمتين والنعمتين وبهم تصلح المدن. فالإنسان مدني بالطبع. وتذكر أقوالهم في النفس التي تفعل في ذاتها دون حاجة إلى البدن. وكثرة الملك وقلة الرزق خير من كثرة الرزق وقلة الملك. والفلاسفة هم القادرون على التمييز بين الاسم والمسمى، ولم يخصص فيلسوف يوناني إلا مرة واحدة في طرق العلم: التقليد في الإحصاء، والتوسط في المجامع، والتعرف في الصناعات واستماع فنون الأقوال مما يزيد الإنسان بصيرة وحكمة وتجربة ويقظة ومعرفة وعلما. وتذكر أقوال الفيلسوف بطريقة لا مشخصة. فما يهم هو القول لا الشخص، ولا يهم إن كان وافدا أو موروثا، بل ضم الأقوال المتشابهة في موضوع واحد. وغالبا ما يكون القول متعلقا بالنفس أو العلم أو الصداقة. فللنفس خمس قوى. والقوة المميزة هي التي تبعث الحواس والحركات على الفعل. ولكل حيوان ثلاثة أرواح في ثلاثة أعضاء؛ نفسية في الدماغ، وحيوانية في القلب، وطبيعية في الكبد. وتدور أقوال أخرى حول الزهد في الدنيا، والاستغناء عن الماديات مروية عن أبي سليمان، وحديث الرموز بين الفلاسفة عن المعرفة ومستويات عمقها. ويفرح المريض بالطبيب لأنه يعلم ما لديه في حين لا يفرح الجاهل بالفيلسوف لأنه لا يعلم ما لديه، ومن يستعمل الحكمة بلسانه دون قلبه كمن يمسك بطرف الثوب دون لباسه. والفيلسوف هو الذي لا يرد على الطعن فيه حتى لا يزيد الشر شراء الكاظم الغيظ، والعافي عن الناس. وإذا صفي السر انتفى الشر. والقول اللين يتضمن دليله.
104
ويتجاوز الموروث الوافد في «الإمتاع والمؤانسة» عدة أضعاف.
105
في الجزء الأول يأتي في المقدمة أبو سعيد السيرافي ممثل الثقافة العربية، ثم أبو سليمان المنطقي، ثم متى بن يونس وأبو حيان، ثم الصاحب بن عباد، ثم ابن العميد الكاتب. وتكثر الأسماء لدرجة أن الفكر يبدو غارقا في البيئة الثقافية الموروثة. والوافد اليوناني لا يكاد يذكر. بل إن الوافد الشرقي لا يعتبر وافدا بعد أن دخل العجم الإسلام، وأصبحت الزرادشتية والمانوية جزءا من ثقافات الأمة مثل النصرانية واليهودية. بل إن الوافد اليوناني أصبح ثقافة عربية بعد أن قام بترجمته نصارى الشام. فالوافد المنعزل المقابل المغاير المتحدي، عنصر الاستقطاب مجرد افتراض، لا وجود له في الواقع الثقافي. ويظهر الرسول مرة واحدة وسط مئات الأعلام. كما يظهر بعض الحكماء مثل الكندي تائها بين كثرة الأعلام وكأنه واحد منهم دون تمييز يختلط فيه الخليفة بالعالم بالأديب بالمترجم بالملك بالفيلسوف بالأمير.
106
ويشارك في الفكر الحكيم وغلامه لا فرق بين سيد وعبد. أستاذ وتلميذ، وفي إطار مدح السلطان تذكر إبداعات الموروث في كل الميادين؛ فمن خمس وثلاثين مبدعا وإبداعا لا يظهر إلا أرسطو في المنطق في مقابل أربع وثلاثين مبدعا وإبداعا في الموروث. بل إن إبداع أرسطو في المنطق أصبح وافدا موروثا.
107
ويلاحظ أن مفهوم العلم واسع للغاية بحيث يشمل العلم الكلي مثل العروض واللغة والتفسير والمنطق والخط والحيوان والفقه والقضاء والقراءات والطب والرواية والعلم الجزء مثل الجزء وهو جزء من علم الطبيعة. والبديهة واستخراج العمى جزء من العلم الرياضي، والفردوس والآراء والديانات والموازنة والكهانة والتنبي جزء من علم الكلام، والخطرات والوساوس والعبارة وتفسير الأحلام والحفظ وهو جزء من علم النفس، والنوادر والفقر وهو جزء من الأدب، والحفظ وهو جزء من الرواية، والتدبير والجود جزء من الفلسفة، كما يظهر الإبداع عند العرب والعجم مثل ابن نوبخت وابن سيرة وابن ثوابة ومن النصارى مثل يوحنا في الطب وابن ربن في الفردوس.
ويتفوق الموروث على الوافد في الجزء الثاني. فبينما لا يذكر من الوافد إلا ثمانية عشر علما يذكر من الموروث حوالي ثلاثمائة وثمانية علوم أي سبع عشرة مرة ضعف الوافد. ومنهم الفلاسفة والحكماء والعلماء والخلفاء والأمراء والصابئة والمحدثون والفقهاء والمؤرخون والشعراء والقواد وإبليس والأنبياء والصوفية والمتكلمون وبعض النساء. البعض مشهور والبعض ليس كذلك.
108
وفي الجزء الثالث يفوق الموروث الوافد بأكثر من مائة ضعف، ويتداخل الفيلسوف والعالم والفقيه والقاضي والمتكلم والصوفي والمؤرخ والنحوي والخليفة والحاكم والقائد المعروف وغير المعروف والمفسر والمحدث والراوي والشاعر والصحابي والتابعي والعربي والعجمي، والمسلم والنصراني واليهودي مع بعض النساء والغلمان والحكماء يكونون ثقافة الخاصة في حين أن ليالي بغداد تمثل ثقافة العامة. ولا ريب من نقد التصوف باعتباره طرقية تجند الغرباء والمجندين والأدنياء والأردياء، لسوء مخالطتهم، ويجلب الضعف والخسة.
109
ويظهر التراكم الفلسفي للموروث خاصة في الجزء الأول في الجملة الثانية عند الحديث عن المترجمين والحكماء الأوائل على لسان أبي سليمان يظهر فيه دقة التصوير. لا يقرأ أبو سليمان كثيرا ولكن له بصيرة بالناس. أسلوبه متقطع أعجمي، ولم يقل أحد أنه من دعاة الشيعة. ويعطي أبو حيان صورة للعصر ورجاله كما يصوره أبو سليمان. وهو أدقهم نظرا ولكن أقصرهم غوصا نظرا لأنه يقدم الحكمة الشعبية للناس وليس للخاصة، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقعهم على الضرر. نظره في الكتب قليل؛ لأنه ينظر لثقافة الناس ويعتمد على الخاطر لأنه يجمع بين الفكر والأدب. يحسن استنباط العويص. وله جرأة على التفسير الرمزي وإن لم يؤلف كثيرا بخلا بما لديه وهي إحدى سمات الفكر الشيعي.
110
وكل مؤلف له مشروع فكري واحد متعدد الجوانب تتم الإحالة إليه بما في ذلك أبو حيان الذي يحيل إلى باقي أعماله الستة الأخرى المعروفة وغير المعروفة. كما يحيل إلى أقرانه مثل أبي الحسن العامري وكتابه في التصوف الذي وضع فيه علم أبي حيان وتصوفه. وكان من الجوالين في البلاد للاطلاع على أسرارها. فهو منظر مباشر للواقع لا متمثلا للوافد أو منظرا للموروث. ويرسم أبو حيان شخصيته كأديب يجمع بين الفكر والمزاح، والرأي والطباع، والعلاقة مع نفسه ومع الآخرين، وثنائية الفكر في القول والعمل والعامري غليظ الطبع، جفاء الخلق. ينفر الناس من نفسه ولكنه إذا طلب منه فإن كتابته تأتي في غاية الكمال.
111
وينقد أبو حيان الكندي بأن فكره وهم بلا ترتيب، يتقبل الوافد بلا تمحيص، وهو مريض بالعقل، فاسد المزاج. وهو نقد ظالم وكان السيرافي قد أصبح ابن الصلاح. الموروث ضد الوافد واعتبار الحكماء امتدادا للوافد.
112
ينقد السيرافي الفلسفة في شخص الكندي على أنها مجرد اجتهاد وظن، بحسب الاستطاعة والإمكان من ناحية الوهم، وغياب الترتيب مع أنها تضم المنطق، غلط الفيلسوف وعدم صموده في الجدل واعتقاده أنها صحيح، وهي وافدة وهو تابع من هو أعلم منه، إنه مريض بالعقل فاسد المزاج، مائل الغريزة، مشوش اللب، أجوبته ركيكة ضعيفة وفاسدة وسخيفة، ويخطئ في التمييز بين حركة الإبداع التي لا من موضوع وحركة السكون التي عن فساد.
113
ونظيف متوسط بين العلو والسفل، وأكثر تخصصا في الطب، ويجول في باقي العلوم، وله حذق في الجدل. وابن الخمار فصيح سهل الكلام، صحيح النقل، كثير التدقيق. فالمدح للأسلوب ولطرق التعبير، والنقد للسلوك في الخلط بين الغث والسمين والزهو والصلف، والمغالاة والكذب، والعنف واللطف، ومصاب بالصرع. والقومسي حسن البلاغة، حلو الكناية، متسع الثقافة، نقله صحيح، مقدام شجاع. يجمع الكتب الغريبة لكنه كثير التردد في الدراسة، غير صحيح في الحكمة. المزاج ترابي، والفكر سحابي، مقلد وتابع، محب الدنيا وحسود للآخرين.
114
وكما ينقد أبو حيان الكندي لتبعيته للوافد كذلك ينقد مسكويه منذ البداية. يبين السلب بالإيجاب، مقارنة بالآخرين، وقياسا على باقي الفلاسفة. يجمع بين الصفات الخاصة والصفات العامة، ويحلل مشاعر الفيلسوف مباشرة أو من خلال الحوار، ويعبر عن أمانيه ويدعو له في إطار من التحليل النفسي الاجتماعي جامعا بين المزاج والفكر والعلاقات العامة. يدقق في رسم الشخصيات نظرا لارتباط الفكر بأصحابه. فمسكويه مثلا فقير بين أغنياء. والفقر هنا معنوي وليس ماديا، وعيي بين أنبياء أي أنه لا يحسن التعبير لأنه شاذ. وهو غير قادر على شرح الوافد أو شرح الشرح أو التعليق على الشرح مثل شرح إيساغوجي أو قاطيغورياس من تأليف الصديق بالري أبي القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري؛ فالغلام كان يشتغل بالفكر مع الحكيم بالرغم من مصاحبته لابن الخمار وربما لأبي سليمان ربما لانشغاله مما جعله يشعر بالحسرة والندم. صحب ابن العميد وصحبه. وانشغل بالكيمياء مع الرازي وافتتن بكتبه وبكتب أبي حيان وهو خازن لمكتبتهما. كان منشغلا بقضاء الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية بالرغم من قصر العمر، صاحب العامري خمس سنوات ولم يأخذ منه شيئا فندم من جديد. قضى عمره في خدمة السلطان. كان بخيلا يمدح الجود باللسان، ويأتي الشح، ويمجد الكرم بالقول ويفارقه بالعمل، ووحدة القول والعمل مقياس فقهي. ومع ذلك فهو ذكي، حسن الشعر، نقي اللفظ . وهو تصوير قد يخالف ما هو معروف عن مسكويه أنه لم ينشغل بالعلوم الطبيعية مثل الرازي وأبي حيان بل بالأخلاق من علوم الحكمة ولا بالإلهيات مثل العامري وابن سينا بل بالنفس أولا. وتذكر محاسنه كما تذكر مساوءه. فهو لطيف اللفظ، رحاب الطرق، رقيق الحاشية، سهل المأخذ، مشهور المعنى، كثير الثواني، شديد التوقي، ضعيف الترقي، بطيء السلك وقليله، يقرأ أكثر مما يكتب، يشتد جهده ويضعف، طموحه أكثر من أفعاله، يحصد قبل أن يزرع. ومع ذلك له باع في الفلسفة، نادم بخيل كاذب مائل العقل لشغفه بالكيمياء. لا يعرف النحو، عقله ضعيف وسواس، ساقط، مخدوع في أول العمر وخادع في آخره.
115
وفي نفس الوقت الذي يعاب فيه على الكندي أنه من أنصار الوافد يمدح أبو حيان الجاحظ؛ لأنه من أنصار الموروث، فقد اجتمعت فيه خصال قلما تجمع في غيره، بعضها بالطبع والمنشأ والأصول والعادة والقريحة وبعضها بالعمر والفراغ والعلم والعشق والمنافسة والبلوغ والثقافة والتربية والحوار مع الآخرين. ومع ذلك لا يوجد عالم قد حوى كل شيء. وقد تطورت الأمور وتبدلت الأحوال منذ زمن الجاحظ واستدعت علما أوسع. وقد تم «استكتاب» الجاحظ كتاب الحيوان حرصا عليه وتقديرا له. فوضع نوعا أدبيا يجمع بين الباطل والمحال، والعجيب والمضحك، والخرافي والطريف.
116
ويضم أبو حيان المترجمين مع الفلاسفة. فالترجمة في المرحلة المتوسطة التي يتحول فيها الوافد إلى موروث فيصبح موروثا وافدا أو وافدا موروثا خاصة فيما يتعلق بالأسلوب. فابن زرعة جميل الأسلوب صحيح النقل، مستوفي الموضوع وموثقه إلا أنه ليس عميق النفاذ. جهده موزع في التجارة وحب الربح، حريص على جمع المادة والتبذير وكأن الفكر يفرض سلوكه وقيمه وتفرغه. وابن السمح أقل من المستوى العام للأصحاب، أقل في الحفظ والنقل والنظر في الجدل. مقلد وليس مبدعا، مبدع وليس أصيلا، محب للدنيا مشغول بها، وكأن الحرف مضيعة للفكر على عكس المتكلمين الذين جمعوا بين الحرفة والفرقة. ويحيى بن عدي شيخ لين الطباع، متأن في تخريج المختلف، بارع في الجماعة، مبارك في المجلس، منبهر بالآليات إلا أن ترجمته مشوهة، وعبارته رديئة. أوضح الغامض ولكنه ضل في الإلهيات. فهو مفكر وليس فقط مترجما مثل حنين وإسحاق اللذين لا يذكرهما أبو حيان. ويصور يحيى رئيسا لجماعة والمترجمون حوله وأصحابه، وأبو سليمان من غلمانه. كان يقرأ عليه كتب يونان. كان في إصبعه خاتم من فضة زاعما أنه عمل بين يديه. وشهد بذلك أصحابه ابن زرعة والخمار وأبو سليمان. وأحال ذلك أبو يزيد البلخي سيد أهل المشرق في الحكمة؛ لأنه مفسدة والله لا يحب الفساد. وعيسى بن علي (391ه) عبارته واسعة، ونقله صحيح، ومنصرف في فنون اللغات والمعاني والعبارات، واسع الاطلاع، ولكنه بخيل في الكلام، سوداوي المزاج.
117
وأهم نص عند أبي حيان يكشف عن الصراع بين الموروث والوافد هي المناظرة بين أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس التي يبدو فيها الوافد مدافعا عن النقل ومستبعدا الموروث، والموروث مدافعا عن الإبداع ومستبعدا النقل. فالوافد بسيط والموروث عميق. وتكشف المناظرة عن خصوصية الحضارات اليونانية، بين خصوصية اللغة وعموم المنطق. خطورة المنطق اليوناني ليست فيه بل في تبعيته وتقليده ونسيان خصوصية اللغة واللغة منطق دون ما حاجة إلى منطق خارجي، والمنطق اليوناني لغة وليس له هذا الطابع الشمولي العام. وإذا كان النحو يعتمد على النقل والمنطق على العقل فالتفرقة بين اللغة والمنطق تظل قائمة بالرغم من وجود عناصر الربط بينهما في منطق اللغة ولغة المنطق والفطرة، ويبدو إبداع العجم في اللغة العربية واضحا؛ لأن العربي يتكلم بالسليقة وليس في حاجة إلى تنظير. والعجمي يجتهد بوضع القواعد وينظر للنحو من أجل التعليم المنطق بالفطرة واللغة أيضا بالسليقة. ويوحد المسلم بين المنطق والعقيدة، ويفرق النصراني بينهما. وتمثل المناظرة تطورا في علاقة الوافد بالموروث. فلم يعد الموروث شخصا، أرسطو، ولم يعد الموروث أيضا أسماء أبو سليمان، بل يمثل كل منهما موقفا فلسفيا وخصوصية حضارية. وهذا ما يجعل الموضوعات الغالبة في «الإمتاع والمؤانسة» ليس فقط الدين والفكر والجنس بل أيضا رأى العلماء في الشعوبية والمفاضلة بين الأمم وهو ما يدخل في فلسفة التاريخ.
وقد ظهر الموروث أيضا تحت مصطلح المتقدمين أي السلف في مقابل المتأخرين من السلف أيضا. يشير اللفظان إلى السلف والخلف في الموروث في حين أن لفظ الأوائل يشير إلى المتقدمين من الوافد. فأقوال المتقدمين أمثلة من الحضارة الإسلامية، ثم يتحول الأمر إلى مفاضلة بين القديم والحادث. فالتعجب منوط بالحادث، والتعظيم والإجلال بالقديم. وقد يكون القديم بالزمان أو بالذهن كالعقل والنفس والطبيعة. الزمان هو الوقت المحدد أما الدهر فهو كل الزمان. أما العتيق فإنه ما له أول؛ لأن القديم ما لا أول له، ومن ثم لا يطلق على العالم، لذلك وصف الله بأنه قديم بالرغم من أن هذا الوصف ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة والتابعين. وتعني العرب بالقديم الزمان المجهول. ويبدو أن الموروث هنا هو مقياس معاني الألفاظ، القرآن والحديث والصحابة والتابعين واستعمال العرب لغتهم. وفي نفس السياق يتم التمييز بين الحادث والمحدث والحديث. الحادث ما يلحظ نفسه، والمحدث ما تعلق بالذي كان عنه محدثا، والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلق بالزمان ومن كان منه. والحدثان فعل مضارع للحادث والحدثان اسم للزمان فقط. وحدث تابع لقدم. وحدث أي وقع شيء في الزمان.
118
وفي مقابل اليونان يذكر العرب والأتراك والترك والهنود والفرس والعجم والروم مما يدل على الثقافات المحيطة بالعرب حتى الشرق في الهند وفارس، والشمال عند الترك والغرب عند الروم، وفي الجنوب عند الزنج.
119
ومن أسماء الفرق يذكر النحويون والنصارى والصابون والقرامطة والمعتزلة والمنطقيون ثم الجبرية والخرمية والزيدية والشافعية والشيعة الأمامية والصوفية والطبيعيون والمتكلمون والملاحدة والمهندسون واليهود.
120
وتذكر أيضا بعض المؤلفات من الموروث.
121
كما تذكر الأماكن العربية مثل بغداد ثم الري ثم همذان والهند وعشرات الأماكن الأخرى تدل على الجغرافيا المحلية للفكر، مدنا ومناطق وأقاليم.
122
وأخيرا يأتي الموروث الأصلي، القرآن والحديث ممتزجا بأقوال الصحابة والصوفية كمصدر لفكر أبي حيان. يستشهد بالآيات أحيانا دون تأويل كمجرد أسلوب، حرف وعبارة شارحة مثل أي خطيب استكمالا للخطاب الأدبي بحجة نقلية. فإذا كان العقل أداة العلم، والتخلي عن العقل تخليا عن العلم فتستدعى آيات تذكر أولي الألباب ، واعتبار أولي الأبصار، وتدبر القرآن، وتذكر القلب والسمع، ومشاهدة الآيات، والحياة بالنور، وتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، والتوكل على الله، والموت بالأجل. وتذكر آيات لبيان شرف النثر على النظم، في اللؤلؤ المنثور وليس المنظوم، وعلى الإيجاز في التعبير في وصف الله نفسه بأنه الظاهر والباطن. وتستعمل الآية كدليل نحوي على استعمال حرف الواو مقحمة مثل
وناديناه ، أو حالا مثل
وكهلا
أو للتقديم والتأخير في تقديم الإناث على الذكور، وتعريف الذكور وتنكير الإناث أو الجمع بين الاثنين بالتذكير، ويستعمل القرآن كأسلوب في الحوار وعدم الرد على ما لا يستحق الجواب؛ لأن خطاب الجاهلين يقابل بالسلام. كما يستعمل في الصياغة وكأسلوب في التعبير مع خلفية من تراث الخلفاء وأقوالهم البليغة وصورهم. فالقرآن عمل أدبي، ويستعمل في نطاق التراث الأدبي. وتحول التراث الأدبي الشعري إلى تراث فلسفي منطقي هو في حد ذاته من مسارات الإبداع، تحول شعب بدوي أمي إلى شعب مدني قارئ بفضل الوحي الجديد. العلم والعقل والكتابة بتوجيه القرآن. وأحيانا يستعمل القرآن الحر بديلا عن اللغة نظرا لجمال العبارة. فالقرآن مخزون أدبي في الشعور. ويضرب بالقرآن المثل في البلاغة. وترفض تأويلات الفرق والطوائف لآيات القرآن بعيدا عن التورية والحيلة والإيهام والكناية لا يتصل بالإرادة، والإرادة لا تتصل بالتصريح. فالناس أحرص على الدين. وتذكر تأويلات منهم بتبديل الله يوم القيامة سيئات المؤمنين حسنات بعد الندم، وعقاب من يعود إلى السيئات ولا ينفعه الندم.
123
وتذكر أسباب النزول في بعض الآيات للاستدلال بها على فضائل الإسلام مثل الإيثار. وأحيانا يتم شرح القرآن استنباطا أي بداية بالآية لتحديد ألفاظها مثل «متكئا» أو «طعاما» لمعرفة معانيها أو لتحقيق مناطها مثل
الأخسرين أعمالا
أو تحديد معاني «البلاء المبين» أو «الشيء العجاب». ويتم التأليف في مسائله وفي أمثال العرب ومسائل اللغة العربية. فالقرآن مقياس للمقارنة. ويذكر لفظ القرآن باعتباره ضمن العلوم الموروثة، علوم القرآن مع باقي علوم الفقه والحديث والأخبار والنحو واللغة والعروض والقوافي والعلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة. كما أن التأليف فيه جانب من الإبداع الحضاري العام.
والقرآن مصدر للعلم عند أبي حيان مثل أن يكون الملك مبعوثا، وأن كرامة الوجه كرامة الضعيف، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأن الله مع المتقين والمحسنين. والعلم فضل من الله يؤتيه من يشاء. فقد فسر سيبويه الشعر من أوله إلى آخره، بغربيه وأمثاله وشواهده وأبياته. ويؤدي هذا العلم إلى العمل كما ينتهي العقل إلى الإيمان، والتفكير في الدنيا إلى معرفة الآخرة. والقرآن أداة للتوجيه وأمر للتنفيذ مثل الأمر بإنذار العشيرة. ويستنبط من القرآن السلوك مثل السلام على أهل الكتاب والاستعداد للأعداء، والدعوة إلى الصبر كما قال بعض أهل السلف وفضل الله على الناس والرزق على الله، وتستعمل الآية لتأكيد تجربة نفسية تحقيقا للمناط. فالنبيذ يذهب الحزن كما قيل في الآية من ذهاب الحزن، ومن الضروري الحفاظ على الجوهر أو الروح من البلى. فماذا يفيد الأعمى نور الشمس وهو لا يبصر. ويستعمل القرآن للدفاع عن النفس أو تحقيق المصلحة في سبب نزول جديد مثل استعمال آية تخفي البصر من فتاة دفاعا عن نفسها ضد من ينظر إليها، وطلب ابنة عمران استئجار القوي الأمين. ويستشهد به على قوانين التاريخ وانتقال الملك من العجم إلى العرب كانتقام إلهي أو تعبيرا عن الإرادة الإلهية، وهي قوانين ثابتة تفسر نهضة المجتمعات وسقوطها.
124
ويستعمل أبو حيان مثل الإخوان والشيعة قصص الأنبياء. ويستشهد بما ورد في القرآن عن إبراهيم وموسى وعيسى، سخاوة إبراهيم، وزهد عيسى ولقمان وعزيز. وقد طلب الله لموسى أن يجيبه إلى عباده عن طريق ذكرهم لنعمه، وقال لقمان إن الذهب يجربه بالنار والمؤمن بالبلاء. وأوصى الله إلى عزيز عدم شكواه إلى خلقه كما أن الله لم يشكه إلى ملائكته، وإن أهمية الذنب ليس في حجمه بل فيمن وقع عليه. ويستعمل أبو حيان آيات من الإنجيل والتوراة، من أقوال المسيح وأنبياء بني إسرائيل في ترجمات عربية سليمة وكأنها من روائع الأدب العربي بخلاف الترجمات الحالية الركيكة عن اللغات الأوربية الحديثة. فهي شواهد من خلال الموروث أي الترجمات العربية. كما أن هؤلاء الأنبياء مذكورون في القرآن. تاريخ النبوة جزء من النبوة ، وتذكر مع أقوال حكماء اليونان، لا فرق بين شرق وغرب، وافد وموروث، وتفيد كلها الحكمة الإشراقية، الثنائية المتعارضة بين الخير والشر، النفس والبدن، الآخرة والدنيا. وهما كالمشرق والمغرب كل ما يقرب واحد يتباعد الآخر، وقد تتضاعف الثنائية إلى رباعية، دلالة على مراتب الارتقاء. فالإنسان مطمئن في ثلاث مراحل، في رحم الأم وحين الرضاعة وبعد الفطام ثم يقلق حين البلوغ ويحيد عن طريق الصواب. وقد تكون أقوالا منتحلة، لا فرق بين الرواية والتاريخ، بين النقل والإبداع. كلاهما يكشف عن الحالة الذهنية. وكان أبو حيان على وعي بذلك نظرا؛ لأن مضمون أقوال المسيح قد لا تتفق مع بيئته التي نشأ فيها. فالتقابل بين الشرق والغرب، والرزق من السماء، وحمر وبقر الوحش كلها من البيئة العربية تدل على الانتحال دون طرح قضية التحريف كما يفعل الفقهاء.
125
وقد يذكر القرآن في معرض شرح الحديث البيان اتفاق المصدرين في موضوع ما مثل الفتح على الأشرار. ثم تستقل الأحاديث وتكثر إلى درجة التحول من الفلسفة إلى الدين، ومن العقل إلى النقل.
126
ليلة للمجون وليلة للأحاديث، لا فرق بين الدين والحياة، بين الإيمان والجنس. وأحيانا يتكلم الرسول وأحيانا يجيب على سؤال وأحيانا يوجد في موقف يسمح له بالتعليق. فيستشهد بأحاديث قدر الاستشهاد بالقرآن. فإن كان صحيحا سمي حديثا وإن كان مظنونا سمي أثرا.
127
وهي مصدر للعلم؛ لأنها نبوة محمد مع إنكار نبوة زرادشت الذي لم يرد ذكره في القرآن وكأن الأنبياء هم المذكورون وحدهم في القرآن مع أن القرآن لم يتحدث إلا عن أنبياء بني إسرائيل المعروفين في الوعي العربي للاستفادة بهم في الإقناع، ووضع قوانين للتاريخ، قيام الأمم وسقوطها. وربما كان غيرهم أنبياء لم يقص القرآن عنهم شيئا،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .
128
ومع ذلك فقد قاسهم النبي على أهل الكتاب بالرغم من أنهم لا كتاب لهم.
وتغيب الأحاديث التي تتعرض لموضوعات غيبية نظرا لطابعها العملي باستثناء القليل عن قوانين الطبيعة واطرادها وعدم خرقها بموت أحد، والنهي عن الخوض في التكهن بالمستقبل ومعرفة الغيب . لذلك حرمت العرافة والكهانة والتنجيم، وعدم جواز الخوض في القدر؛ لأنه سر الله الأكبر. وعن طريق الفراسة يعرف الرسول إمكانيات الصحابي في القتال راجلا أم فارسا. كما أدرك ضعف أبي ذر وأنه ليس له في الرياسة والإمارة والولاية. وكان الوحي يأتي للنبي مثل صلصلة الجرس تشبيها وليس حقيقة بالصوت لا بالصورة، وبدأ بإنذار عشيرته الأقربين طبقا لتوجيه القرآن له. وكان الرسول صاحب بلاغة وفصاحة، والرسول مجرد نبي يرفض الإطراء والمدح. ولله أمناء على خلقه يضن بهم على القتل، يعيشون ويغيبون في عافية. وهو حديث يوحي بالتشيع.
129
وهناك بعض الأحاديث الخاصة بالنبي مثل ما يتعلق بفدك والبعض الآخر عام له ولباقي المسلمين، وهناك عادات له يجوز أن تكون خاصة أو عامة مثل حبه أكل «الهريسة» ليلة بعد ليلة من قصعة تعد خصيصا له، والأحاديث العامة سنن للرسول. يقبل الرسول السباق مع الأنصار، ويجعل النصر لناقة أسامة مع أنه السابق حرصا على معنوية الأنصار. ويقسو على بيته لإعطاء النموذج في الزهد حتى على ابنته فاطمة. ومن سنته إطعام الضعيف، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب. والعجلة من الشيطان إلا من هذه الأمور الخمسة. وليلة الضيف حق، وكل من له فضل فليرده إلى من لا فضل له. والدفاع عن أصحابه قدوة لباقي المسلمين. وكان يخرج مع أصحابه ويداعبهم على الطعام. وكان يدعو لنفسه ولباقي المسلمين بالهدى وإصلاح ذات البين وتأليف القلوب والهداية إلى سواء السبيل، والإخراج من الظلمات إلى النور، وصرف الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والتوبة، والتمتع بالأزواج والذرية والمعايش، والشكر للنعمة.
130
ويستعمل الحديث لإثبات الولد للأب ولمعرفة الحكم الشرعي عن ضالة الإبل أو الغنم أو الدنيا وبناء على سؤال، إما تركها فمعها غذاؤها حتى يأتيها صاحبها أو أنها لمن وجدها أو لأخيه أو للذئب أو الاحتفاظ بها سنة حتى يتعرف عليها صاحبها. فإن لم يظهر فإنها تصبح لمن وجدها، وكلها أحكام عقلية أكثر منها شرعية، واجتهادات النبي. وهناك أحاديث الرفق بالحيوان، رهف الشفرة حين الذبح وإراحتها وتركها تخب وتشخب فذلك أمرأ للدم وأفضل للحم. وهو ليس طبا فقط بل هو موقف إنساني وإن أتى الطب بعد ذلك على نحو مباشر. فالحيوان ليس فقط للنحر والطعام؛ بل هو موقف إنساني تجاهه. وهي أحاديث تنظم علاقة الإنسان بالطبيعة خاصة الحيوان.
وتتعلق معظم الأحاديث بالأخلاق الفردية والاجتماعية، وهي أقرب إلى التحليل النفسي الاجتماعي وفهم أخلاق البشر أو أقرب إلى الحكمة الخالدة وأخلاق العامة. فأشد الأعمال إنصاف الناس من النفس ومواساة الأخ من المال وشكر الله على كل حال وكثير منها لتطهير النفس مثل كراهية حمل الهم. وما جاء للإنسان من معروف يقبل ولا يرد، رزق ساقه الله إليه من الله والمرض والشفاء وليس من الصحة والمرض. ويتعلق البعض منها بالإيمان والتقوى والحياة الباطنية تشبيها. فظهر المؤمن مشجبه، وبطنه خزانته، ورجله مطيته، وذخيرته ربه. والإيمان أفضل من الكفر، الإيمان صدق وبراعة، والكفر خداع وحقد. ومن عرف الله وعبده وطلب رضاه وخالف هواه فاز بالرحمة والسيطرة على النفس أفضل من الغضب؛ لأن الغضوب يبيح ظهره وعرضه، ولا داعي للحلف بالإيمان بالرغم من صدق الحلف. أما الحلف الكاذب لأخذ مال الغير فإنه يؤدي إلى الهلاك. والتوبة من الحلف إذا ما رأى الحالف غير ما حلف به فضيلة. ثم تأتي أهمية الصدقة. فهي تزيد المال ولا تنقصه، والعفو عن الظالم زيادة في العزة. والسؤال يزيد الفقر. والصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة. وأجود الأعمال. الجود في العسر، والقصد في الغضب والعفو عند المقدرة، وتجاوز ذنب السخي؛ لأن الله يأخذ عبده كلما عثر، فلا فضيلة بلا هفوة.
131
وتنتقل الأخلاق الفردية من الداخل إلى الخارج، من النفس إلى البدن. فالحماية من الغواية حماية للشباب. والخيانة بئس البطانة في حين أن الدفاع عن عرض الصديق حماية من النار. والرجل أحق بمجلسه، وصاحب الشيء أولى به. والإقلال في الطعام فيه صحة البدن وصفاء النفس، الثلث للطعام، والثالث للماء، والثلث للنفس. وإكرام الخبز لأن الله أكرمه وسخر له بركات السموات والأرض. وما يقدم للضيف لا يقل عما يقدم للنفس. والبداية برعاية أقرب الناس، والطاعم الشاكر كالصائم الصابر، وليس من الإيمان من بات شبعان وجاره طاو. أما الطعام فالحلو أفضل من الحار، والتين يرق القلب. وهو أقرب إلى الطب النبوي منه إلى الطب العلمي. يعتمد على مزاج بيئي طبيعي وعلاج طبيعي. والقيام إلى الصلاة مبكرا أفضل منها مؤخرا. ويوم الجمعة زينة كيوم الفطر والنحر، عيد أسبوعي وفرح بالأعياد مع الأعياد الموسمية. والمرأة لا تسافر في ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم نظرا لتعب السفر والتعرض للغواية.
132
وتتوجه الأحاديث الاجتماعية إلى العصر. قد يكون السند غير متواتر ولكن المتن فعال ومؤثر، ومعظمها موجه إلى مساوئ العصر خاصة السلطة دون طلبها بعد الاقتتال عليها، وأهمية العدل ضد الجور، وليست أحاديث عذاب القبر ونعيمه. البعض منها حول أخلاقيات الفقر والغنى، فاللوم ناشئ عن تغير الأخلاق بتغير المستوى الاقتصادي، المهانة في الفقر والعزة في الغنى، وخير الناس الغني الحفي المتقي. وقد يكون الرزق الواسع للعاصي استدراجا وتأييدا لما ذكره القرآن، والتاجر الأمين إن مات في السفر فهو شهيد وفي الحضر فهو صديق! والمرعى يكفي كل الرعاة، ولا يضيق بأحد. والمشاركة في المرعى تؤدي إلى الحلف الاجتماعي والحياة في سلام بلا عدوان. وتتجلى الأخلاق الاجتماعية في العدل في الإمارة. فالإمارة لا تطلب. فإن كانت بعد طلب كانت وكالة وإن كانت دون طلب كانت إعانة. والعقاب للجائر في الدنيا والآخرة. والحرص على مصالحهم يؤدي إلى الثواب. وكل راع مسئول عن رعيته في المنزل وفي الأمة، أحسن أم أساء، نفع أم ضر، ائتمن أم خان، عدل أم جار. ومهما كان القاضي حريصا على العدل فقد يجور. فمن الأفضل أن يكون العدل بين الناس وليس طبقا لحكم القضاء بالرغم من أن الرسول قاضي عادل. والخوف على الأمة من الأئمة المضلين وليس من الدجال، العلماء الفساق والقراء الجهال، واختلاف القول عن العمل. والأئمة من نوع المأمومين وكما يكون الناس يولى عليهم، والجهاد صلب الحياة العامة. فإذا تباطأت المغازي، واستؤثر بالغنائم فخير الجهاد الرباط.
133
ويستشهد بالحديث لمعرفة أحوال آخر الزمان، صعوبة الأمر على الناس، واتباع الهوى، وزيادة الشر، وغربة الإسلام كما كان وكأن غربة أبي حيان هي التي استدعت حديث الغربة. وفي نفس الوقت تستدعي أحاديث لطمأنينة المؤمنين على الخاشعين خشية من الله أو جهادا في سبيله أو رعاية لمحارمه. كما تستعمل أحاديث للتنبؤ بالمستقبل عن فتح الشام امتدادا للجزيرة العربية بعد استدعاء الماضي بالرغم مما في الحديث من ألفاظ عربية جاهلية قديمة لا يمكن فهمها بعد تطور اللغة عكس القرآن الذي يمكن فهم لغته عبر العصور.
134
كما يتنبأ الرسول بحرص المسلمين على الإمارة فتكون الندامة. وهناك عدة أحاديث تبين اتساع الجنة، أن يكون بين مصراعيها مسيرة مائة عام، وزحامها شديد مما يدل على كثرة المؤمنين. وهي دار غنم المؤمنين، تعبيرا عن الفأل الشعبي حتى ولو كان الحديث مشهورا بين الناس.
135
ومدحا للسلطان فإن إبداعه يفوق إبداع الحضارة الإسلامية كلها في كل العلوم، والعجيب أن المداح هو الغريب البائس الذي لم يظفر بشيء ونقد المداحين مثل مسكويه.
136
وينتهي الموروث بالبسملة والحمدلة في بداية ونهاية كل جزء من الاستعانة بالله وطلب العون والتوفيق.
137 (ه) الإشارات الإلهية
يغيب الوافد كلية باستثناء ذكر لفظ «الحكماء» مرتين على العموم ودون تخصيص بحكماء اليونان.
138
وواضح أنه كلما كان الموضوع التصوف أي خاصا بالحضارة الإسلامية اختفى الوافد. ولفظ «الإشارات» مستعمل في الفلسفة والتصوف على حد سواء.
139
ويذكر قول منتحل للحكيم، قول إشراقي عن ترك عواقب الدنيا، ترك الهوى والدنيا البالية إيثارا للتقوى والقناعة. ولا فرق في الموت بين الغني والفقير. وهنا يبدو الحكيم صوفيا يعطي المواعظ ويستحث الناس على ترك الدنيا والتوجه إلى الآخرة. وهي أقوال مؤلفة وليست مترجمة لما بها من سجع وأسلوب أدبي مصطنع. يرسم أبو حيان في هذا الكتاب كلاما للحكماء في صفة الرجل العاقل العادل وكيف يحصل على هذه الفضيلة وصفة الرجل الحائر الجائر، وكيف تدخل عليه هذه النقيصة. وقد زعم الحكماء أن آراءهم تأتي من الوحي القديم النازل من الله ممثلا في قول الإنسان «اعرف نفسك بنفسك» وهو قول قصير اللفظ عميق المعنى؛ فالحكمة من النبوة.
140
ويغلب على الموروث الشواهد الشعرية والآيات القرآنية، والشعر هو الذي يعبر عن تجارب النفس. وقد احتواه القرآن أسلوبا ومضمونا، تعتمد «الإشارات» على التجربة الشعرية والقرآنية. ويغيب الحديث لأنه أقل ألغازا. كما تغيب أسماء الأعلام لأنها ثقافة متوسطة بين الأصول والفروع باستثناء المسيح وأرمن بن أبي ربيعة بالإضافة إلى البيئة الجغرافية المحلية. «الإشارات الإلهية» أدخل في التصوف منه في الفلسفة؛ وذلك لأن العلوم القديمة هي مقياس التصنيف وليس الأشخاص. تتخلل العلوم الأشخاص ولا تتخلل الأشخاص العلوم. والتصوف تنزيه عن طريق الوجدان في حين أن المتكلمين وقعوا في التشبيه. والقلب أكثر إحساسا بالتنزيه من العقل. لم يقدر المتكلمون الله حق قدره بل سعوا في آيات الله معجزين. والعمل السيئ يظلم القلب ويصدأ عليه.
141
وتعتمد «الإشارات الإلهية» على التجارب النفسية أكثر مما تعتمد على المنقول وافدا أو موروثا كنوع من التفسير الشعوري عند أبي حيان بعد نقد التفسير اللغوي الأصولي، والبداية بالتجارب الخلقية والأحوال النفسية وتخليص النفس من البدن للحصول على الإشراقيات كما هو الحال عند إخوان الصفا. يحال إلى الكتاب المبين لتأكيد ما وصلت إليه التجربة البشرية. وقد تكون الآية في أول الفقرة ويكون التالي شرحا لها أو في وسطها فتكون الآية استشهادا بها أو في آخرها فتكون خاتمة لها. والعجيب مناهضة العقل في القرن الرابع وبلوغ الذروة في كل شيء، في العقل والقلب في آن واحد. فمثلا بعد آية
وسكنتم في مساكن
ينبه أبو حيان على ضرورة حضور البال ويقظة الفؤاد، وظهور الفكر، وحضور الاعتبار. وتستعمل الآية خارج «أسباب النزول». الواقعة في البنية الذهنية والنفسية التي تعتمد عليها الآية. أسباب النزول في النفس ليس في البدن، في الداخل وليس في الخارج، في الزمان وليس في المكان، يشعر بها القلب ولا يدركها العقل كما هو الحال في الأصول. ويضرب القرآن الأمثال كما يستعمل أبو حيان الإشارات، وكلاهما رمز له مرموز، مثل له ممثول، مجاز له حقيقة، ظاهر له مؤول.
142
وتستعمل الآيات القرآنية للكشف عن الطريق الصوفي، من الطريقة إلى الحقيقة، ومن النفس إلى الله، ويستشهد أبو حيان بآليات الإشراق. فلا يقنط من رحمة الله إلا الضالون. وهو الذي يذهب الحزن، وهو الغفار. والتقابل في الانفعال هو التقابل في المواقف كما تبدو في الأحوال. و
كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل له دينه. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة. ويدعو إلى التعاون على البر. فالوعي الجماعي امتداد للوعي الفردي.
143
ثم ينكشف الله في النفس، الله واحد خير من الآلهة المتفرقة. وهو
ملك الناس * إله الناس . والكل آت للرحمن عبدا، وبه تكون الاستعاذة، وله يكون الشكر. وهو المنتقم العزيز الجبار، يأتي بأسه بغتة. المؤمنون مشتاقون، والأشرار في جهنم خاسئون ولا يتوبون. ويعطي الله من فضله ما يشاء، ويعلم الإنسان ما لم يعلم،
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . وفي النهاية يعود الأمر إلى البداية، ويلتف الساق بالساق إلى الله المساق.
144
ويستعمل كثير من القرآن الحر كأسلوب في التعبير وصور بلاغية مثل ران على القلب، ما كسبت يداك لقصر الكلم خاصة في أمور المعاد للتشويق، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، التفاف الساق بالساق. ولا فرق بين القرآن وسائر كتب الأنبياء. فيستشهد بعيسى ابن مريم، روح الله للحواريين، رمز أن الإنسان لا يصل إلى ملكوت السموات إلا بعد ترك نسائه وأولاده والدنيا. وهو نفس المعنى القرآني أن عبادة الله مشروطة بترك الأولاد والنساء والأموال. وأحيانا يستعمل الإنجيل أيضا حرا بلا أقوال كنوع أدبي.
145
وينقل كلام من كتب أخرى لربط المخطوطات بعضها ببعض في مشروع حضاري واحد أو تلخيصا من نفس الكتاب تشويقا للقارئ وإبرازا لأهم الأفكار مع ذكر ملكية الكتاب لأنه وقف. (و) آليات الإبداع
وهي في مؤلفات أبي حيان آليات واحدة يمكن تجميعها في منطق واحد. قد يبدو تحليل آليات الإبداع بناء على تحليل المضمون جهدا لا طائل وراءه وحصيلة قليلة. ومع ذلك فإن درأ تهمة النقل تجعل من الضروري تحليل فعل القول حتى في الفلسفة الأدبية، وتبدو آليات الإبداع في نص أكثر من نص آخر. فتبدو أفعال القول في «الهوامل والشوامل» مما تبدو في باقي الأعمال؛ لأنه هو المعني بالحوار، السؤال والجواب بين مسكويه وأبي حيان. وقد تتداخل آليات الإبداع معا، أفعال القول والبيان والشرح والإيضاح والتقديم والمسار المنطقي والإطالة والإيجاز والسؤال والجواب ومخاطبة القارئ إلا أن التمييز بينهما ضروري لبيان طرق الإبداع.
ويظهر فعل القول، قول أبي حيان وليس قول أرسطو أو غيره. ويبدو المؤلف هنا راويا لفكر. وما يهم هو الفكرة لا روايتها، المتن لا السند. بل تتكاثر أفعال القول إلى درجة الملل من كثرة القيل والقال، ويغيب البناء الموضوعي أو الروائي ولا يبقى إلا مجرد الأسلوب والاصطناع، التأليف الأدبي. وتكون أفعال القول بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب، مفردا أو جمعا، فعلا أو اسما، إثباتا أو نفيا، مبنيا للمعلوم أو مبنيا للمجهول. ولم ترد صيغة «قال» الشهيرة إلا مرتين. وليس الفاعل أرسطو. بينما تصل الصياغات الأخرى عشرات المرات.
146
وفي مسار الفكر تظهر عدة أفعال مثل: تعلم، أخبر، شرح، وعد، في الماضي والحاضر والمستقبل، لبيان الاتجاه نحو الغاية والقصد.
147
وقد لا يحتاج الموضوع إلى بيان وبالتالي تقل أفعال البيان والشرح؛ لأن الموضوع واضح بذاته عند المؤلف والقارئ. وقد يكون البيان فعلا أو اسما.
148
وفي نفس الوقت يحرص أبو حيان على الاقتصار دون التطويل. تكفي الإجابة على السؤال دون التوسع فيه أو الخروج عليه؛ لأن التوسع موجود في كل مكان. فالموضوعات تنتظم في نسق واحد. ويعني المسار الترتيب المنطقي، ترتيب موضوع على موضوع أو إقامة الفرع على الأصل كما هو الحال في علم الأصول. يكشف المسار عن الاستدلال من المقدمات إلى النتائج ومنطق البرهان. وهذا يقتضي تقسيم الموضوع إلى موضوعات أصغر متوالية. وبهذا يتم البرهان واكتشاف الصواب والخطأ.
149
ويستدعي الإحساس بالاستطراد إلى العود على بدأ والإحالة إلى ما سبق.
150
ويضم التأليف عدة موضوعات حية غير مجردة عرض تراث الموضوع وأدبياته. كل موضوع له مكانه الخاص نظرا لتقسيم الموضوع الواحد على عدة أماكن لتعميق كل جزء. ويظهر أسلوب الرد على الاعتراض مسبقا.
151
ويبدو الأسلوب الأدبي في الفكر الشعبي الإنشائي مثل «هيهات هيهات».
152
وقد استطاع أبو حيان إيجاد أنواع أدبية لتأليفه مثل «المقابسات» وهي حكايات فلسفية «الإمتاع والمؤانسة» وهي ليال فلسفية، «الهوامل والشوامل»، وهي الأسئلة الضالة والإجابات الهادية، «الصداقة والصديق» وهي الصلة بين الذات والموضوع، الإشارات الإلهية وهي وصف للأحوال النفسية.
153
ولا تهم الأماكن والأشخاص. فأحيانا يذكر المكان دون الشخص، وأحيانا الشخص دون المكان، وأحيانا يذكر كلاهما، وأحيانا أخرى يسقطان. ويمكن ضم هذه الأنواع كلها تحت نوع واحد هو «المقابسة» أي الحكاية الفلسفية التي تجمع بين الفلسفة والأدب والدين في أسلوب سهل سائغ بها عنصر التشويق، يفهمها كل الناس، ولا تخلو من مدح أو ذم وتهكم وسخرية. فإذا ما طالت خرجت عن هذا القالب ولم تعد حساما قاطعا. المقابسات كالطلقات السريعة في المعارك الفكرية تتمثل فيها فنون القول. قد لا تطابق حدثا تاريخيا وتكون من نسج الخيال أو جمعا بين الواقع والخيال. لا يكاد يرفضها السامع لأنها تعبر عن حالته الشخصية وموقفه النفسي، ولما كان الدين والأدب موروثين والفلسفة وافدا تحول إلى موروث إلا أن المقابسة تعبر عن فكرة واحدة ذات طابع عملي تربوي. وتبدأ المقابسة بالدعوات كما تنتهي بها ثم بشكوى الزمان بعد الاستهلال، وفي نفس الوقت مدح السلطان. وبعد ذكر المسألة ينوه بالدرس المستفاد منها والتعليق عليه. تبدأ المقابسة بالتجربة الحية والواقعة الجزئية؛ فالسؤال عياني، وفي الغالب مستمد من حياة أبي سليمان وخروجه يوما من بغداد إلى الصحراء مع تحديد الأشخاص في الزمان والمكان. وفي خاتمة المقابسة يذكر أبو حيان عناصر فنها، وكيفية جمعها، ويعتذر عن قصورها وعن مدح الإخوان وذم الأهواء دون أن يكون في ذلك كشف لعيوب الأعداء أو إظهار الشمائل الأصدقاء.
154
ليس الهدف فقط تسلية النفس، وتفريغ الكرب، وشحذ الهمة، بل أيضا الدرس الأخلاقي، وتأييد العقل، وإصلاح السيرة، وتعود الحسنة، ومجانية السيئة وراء الألفاظ والجمل. المقابسة حدث طريف أي نكتة ولكن لها دلالتها، وضوح الفكر وجمال الأسلوب من إبداع أبي حيان وليس من المادة المروية. فالفكر صياغة المقابسة إبداع يجمع بين الوافد والموروث والعصر. ما زالت ناقصة، ويمكن تحسينها. لذلك يعتذر أبو حيان عما بها من قصور. ربما كتبها في آخر حياته بعد أن أختار التصوف طريقا له كالغزالي، وهروبا من تشاؤمه وفشله في الحصول على مغانم الدنيا. وبالرغم من قصر المقابسات إلا أن ضم بعضها البعض جعلها كبيرة الحجم. مسائلها صغيرة، وأسلوبها سهل عادي مما يجعل إفادتها لأكبر قدر ممكن من الناس ممكنا. تتميز بالإيجاز بالرغم من الرغبة في الاستطالة في عرض مسائل شعبية تخيلية وليست موضوعات يقينية للخاصة. والاختصار يقطع الطريق على الشغب والجدال. والتأمل في النفس يستغني عن الإطالة التي قد تصدر عن المعنى، وتمنع من تحقيق المراد. والكلام الزائد يفتح باب الشك واللبس حتى في الأمور الواضحة. والغموض أحيانا يثير المعنى ويشحذ الذهن، وينشط الهمة، ويجلي القصد.
155
لذلك تتفاوت المقابسات فيما بينها طولا وقصرا ولكنها إلى القصر أقرب مثل الومضات الفلسفية القصيرة.
156
وتستمد المقابسة مادتها من الأفكار المطروحة في المجالس الثقافية. وأبو حيان مجرد راو أو حافظ لها. يقتصر دوره على الصياغة والتقنية مع بعض الزيادة أو النقص. من أجل تعميم الفائدة الأكبر قدر ممكن من الناس. وقد تكون هذه الليالي مروية شفاها أو البعض منها يعتمد على مصادر مكتوبة طبقا للتراكم الفلسفي عبر الزمان، البعض معروف مثل السجستاني والعامري، وأحيانا تكون الرواية بلا زيادة تسهيلا وإيضاحا وتجنبا للمزالق وإيثارا لما يتفق عليه العلماء. مادتها مناقشات الفلاسفة حول الفلسفة، الوافد، الإلهيات المحضة، ونقل مستواها من الإلهيات العقلية المجردة إلى الإنسانيات العملية العيانية بحيث لا يتغير المقصد والمغزى بل بقصد توضيح المعنى وجعله أكثر دلالة على العصر. المقابسة تصوير لحوادث العصر وبيان صحيح عنها في أسلوب أدبي يقوم على السخرية دون التضحية بالموضوع لصالح الأسلوب، والتاريخ لحساب الفن.
157
كما تعبر المقابسة عن الحالة النفسية للمؤلف وعن رؤيته المتشائمة للعالم. فهي تصور حال عصر بأكمله ساده النفاق والشراء بالمال. كتابة أبي حيان تشهد على العصر والتاريخ، للعصر لا للمال. يخطئه الناس إذا أصاب، ويصوبوه إذا أخطأ. ونظرا لصدق التصوير الأحوال الناس فقد عاداه البعض تحت ذريعة ضرورة التستر على العيوب مما يخرج على أدبيات الحوار. والتأويل أفضل لإقالة الناس عثراتهم تعتمد بعض الحكايات على التجارب الشخصية، صداقة أو رياسة. وقد لا تذكر أسماء الإعلام على عكس «الإمتاع والمؤانسة». فما يهم هو الفكرة لا الشخص. وتكشف عن بعض التجارب الإنسانية وتصف ماهياتها.
158
كما تعتمد المقابسات على الشعر والأمثال العربية لمزيد من الإيحاء والإيصال. فلم يكن الوافد إلا أحد المصادر بالرغم من أن الفكرة واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى أمثلة، ولكن النقل عنصر في الإبداع وبدايته. والشعر طبيعة العرب وعلمهم. وأكثره في رسالة «الحنين إلى الأوطان» نظرا لما يهيجه الشعر في النفوس.
159
وكل مقابسة لها موضوع واحد إلا نادرا، وأحيانا تتضمن الليلة الواحدة أكثر من موضوع أو يمتد الموضوع على أكثر من ليلة، فيتقطع الموضوع.
160
ويظهر التأليف في آخر الليلة وليس في أولها بعد الإعداد المسرحي وعناصر التشويق الأولى. وكل آخر ليلة يرتبط بأول الليلة التالية مثل خيط العقد في كتابة فن الليالي، وأحيانا تكون المقابسة مجرد كلمات متفرقة لا تنسب إلى شيخ واحد لأنها أصبحت مشهورة غير مشخصة مثل الأمثال العامية والأقوال الشعبية والسير التي أصبحت مجهولة المؤلف. الشرف في جمعه، والفائدة لمتلقيه. ورب سامع أوعى من مبلغ. والحق مبين منهاجه، ومنير سراجه، ومعقول بيانه، ومعلوم برهانه.
161
كل مقابسة لها وحدتها الذاتية، وجميع المقابسات وحدة أكبر، يؤيد بعضها بعضا نحو الهدف الأعظم وهو نيل الأبدية. وقد تنتهي بشكوى الزمان من الحساد والشامتين منتقلا من مقابسة إلى أخرى واصفا حال الكاتب. ينقسم الكلام إلى موضوعات مستقلة كلها مشروطة بطهارة النفس، ومكتوبة بحساسية مرهفة خوفا من عثرة اللسان ونزوة القلم وإيثار الحيطة من الراوي والمفسر من الوقوع في الاشتباه. وقد تمتد المقابسة على أكثر من ليلة. فالموضوع ما زال حيا حتى يعود آخر الكلام على أوله مما يتطلب حضور البديهة وحسن المزاج وصفاء النفس، وتوفر الوقت، وخلو البال .
وتعني المقابسة الانتقال من المثل إلى الممثول ، ومن النقل إلى الإبداع، ومن الوافد إلى الموروث، وتكرار الفكرة في تطبيقات متعددة كنوع من القياس الفلسفي. يمثل النقل الانفتاح على الآخر بعد فتح الأرض، شعوبا وثقافات ثم إدخال الأجزاء المتناثرة داخل الكل الواحد، والقيام بعملية الإكمال الحضاري ووضع التاريخ داخل البنية من أجل خلق وحدة الثقافة، لا فرق بين ماض وحاضر، بين أوائل وأواخر. يمكن التمييز في التنقل بين موضوعات إبداعية خالصة لا نقل فيها مثل الصلة بين الحكمة والشريعة، وموضوعات إبداعية تبدأ من النقل بطريق غير مباشر مثل النقل عن ابن سيرين، وموضوعات إبداعية تقوم على النقل كنقطة بداية فقط.
ولأبي حيان فواصله بين إبداع وآخر، وملاحظاته حول صعوبة الأسلوب، وعمق الفكر، والتعبير عن الحال النفسي، وإبراز الدرس المستفاد، ومخاطبة القارئ والدعوة له. فالغاية من المقابسة إثارة النفس وإيقاظ الوعي مستعملا مصطلحات الصوفية ومؤثرا مناهجهم الذوقية. ومخاطبة القارئ للوصول إلى الغاية، والوصول عسير، والعائق عظيم، والسير وشيك، ولولا لطف الله لتمسك اليأس من القلوب القارئ هو الطرف الآخر للمؤلف، والفكر حوار بين طرفين بل ومشروع مشترك. وتتحول مخاطبة القارئ في «المقابسات» إلى لازمة دائمة؛ لأن الغاية منها توجيه القارئ ونصحه وهدايته. بل وتوحي المقابسة بالإيماءة والإشارة من أجل ربط الفكر بالشخص. وتتحول إلى حديث للنفس يتوجه نحو الآخر في دعوات وابتهالات، فتتحول الفلسفة إلى دين، والأدب إلى تصوف، ويجتمع كل الناس على نفس الهدف. ويتحول الخطاب من حوار بين المتكلم والمخاطب إلى حديث بضمير المتكلم الجمع. وتأتي مخاطبة القارئ في الفواصل وليس بالضرورة في أول الخطاب كما هو الحال عند إخوان الصفا.
162
ثانيا: الحكمة الشعبية (مسكويه)
(1) الوافد الشرقي
إذا كانت الفلسفة الأدبية من إبداع الأفراد فإن حكمة الشعوب من وضع الشعوب كما هو الحال في الآداب الشعبية حتى لو رواها أو جمعها أفراد والتي يمتزج فيها الواقع بالخيال. ولما كانت «الحكمة الخالدة» تعبر عن الثقافة الشعبية فقد برز أبطالها حكاما ومحكومين كعناصر مكونة فيها مثل المأمون وما عرف عن حلمه الذي ظهر له أرسطو فيه طالبا منه نقل كتب أرسطو إلى العربية مما دفعه إلى تأسيس ديوان الحكمة ووضع حنين بن إسحاق على رأسه.
1
وهي قصة خيالية بها كل عناصر التشويق الشعبي، بطلها الخليفة المأمون محب الحكمة مثل الإسكندر الملك الفيلسوف.
2
ولما كان الخضر يعرف الأسرار كما هي صورته في القرآن قرأها الخضر بن علي الذي يعرف الفارسية أو الفهلوية في نصف نهار ثم أملى الثالث في ترجمة فورية حسنة بليغة بلا قواميس أو تعثر في مصطلحات. والحكمة البالغة جزء من العلوم الباطنية، المضمون به على غير أهله، لا يمكن إخراجها إلى من هو غير أهل لها، وهو أفضل كتب العجم كما أن القرآن أفضل كتب العرب، ومؤلفات أرسطو أفضل كتب اليونان. قرأه المأمون حتى كاد أن ينسى الصلاة، فالعلم أشد جذبا للإنسان من العبادة. وقام إلى صلاته وهو يخشى السهو لانشغال قلبه بالحكمة الخالدة. إلى هذا الحد بلغ تعظيم الحكمة البشرية الموازية للحكمة الإلهية وليس الحكمة التي تتشوق بها الأفواه. حكم الوافد أحيانا خير من ترهات الموروث. الملك الفيلسوف كالقاضي الحصيف يحكم بالعدل حتى على أهله، وعدو عاقل خير من صديق جاهل. لقد تم نقل الوافد الشرقي في نفس الوقت الذي تم فيه نقل الوافد الغربي، حلم المأمون أي حاجة الواقع. فالشرق ليس أقل فضلا من الغرب.
مسكويه إذن مجرد جامع وعارض ومنسق، في تأليف غير مباشر يجعل الآخر لسان حال الأنا كما يتعامل بعض المفكرين المعاصرين مع التراث الغربي.
3
لذلك كثرت المادة أو تشعبت وصعب احتواؤها وتحليلها أو إيجاد نسق لها. ومع ذلك جاءت الترجمة العربية رصينة بأسلوب بليغ مؤثر في النفس وكأنها مؤلفة وليست مترجمة.
4
ويبدو أن الاتفاق في المضمون وفي التجارب الحية بين الشعوب جعل الترجمة وكأنها نابعة من المترجم بما له من رصيد مشترك فأصبحت تأليفا ثانيا. ليس أنصار حكمة الشعوب إذن مجرد مواطنين برجوازيين طيبين دون أن يكونوا روادا بارزين. فوظيفة العارض لا تقل أهمية عن المؤلف والمبدع. فلولا التمثل لما كان الإبداع.
وكان يمكن أن تضم حكمة الشعوب إلى تاريخ التدوين ولكن الغاية لم تكن التدوين والتاريخ أي تصنيف العلوم بل جمع الحكمة الشعبية دون نسق منطقي أو شعبي. فهي أقرب إلى التدوين الشعبي منها إلى التدوين العلمي. لم تكن الغاية التاريخ مثل «الفهرست»، بل الترويج لحكمة خالدة تتفق عليها الشعوب جميعا غربا وشرقا ووسطا، يونان وفرس وعربا.
لم يقتصر الوافد إذن على اليونان والرومان غربا، بل ضم أيضا الوافد شرقا، فارس والهند. بل ظهر حكماء مثل ابن سينا يخصون الشرق بالحكمة في «الحكمة المشرقية»، وبالمنطق في «منطق المشرقيين». ومسكويه يتعامل مع الوافد الشرقي في فارس قدر تعامله مع الوافد الغربي عند اليونان. كما تعامل البيروني مع الوافد الشرقي في الهند قدر تعامله مع الوافد الغربي عند اليونان. كان الوافدان الغربي والشرقي متعادلين في الحكمة القديمة، ثم فقد هذا التعادل في ثقافتنا المعاصرة لحساب الوافد الغربي نظرا للاستعمار الحديث على مدى قرنين من الزمان. فقوى الجناح الغربي على حساب الجناح الشرقي. وكلما نهض الطائر اتجه نحو الجناح الأقوى، مما سبب رد فعل لدى الحركات السلفية المعاصرة في عدائها للغرب. ومن ثم تصبح «ريح الشرق» ضرورة لإيجاد التوازن بين الجناحين. فإذا ما نهض الطائر اعتمد على نفسه كميزان الثقل بين الغرب والشرق. «الحكمة الخالدة» لمسكويه نموذج لعرض حكمة فارس تجاوزا للترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والانتحال.
5
ولا يهم قائليها، فلا فرق بين التاريخ والانتحال، بين النقل والانتحال، بين الواقع والخيال. لا يحط من شأنها أنها منحولة، فالانتحال قمة الإبداع الحضاري.
وقد استمد مسكويه في حداثته معلوماته عن فارس من الجاحظ، وعرف الوافد من خلال الموروث وليس من خلال المراكز الأجنبية كما هو الحال في عصرنا. كان الجاحظ نموذج المثقف الأديب، المتفتح المستنير على حضارات الغير، مفكر في السياسة والتاريخ قدر إبداعاته في الكلام والفلسفة والأدب والعلم.
6
لقد أعجب الجاحظ بحكمة الشعوب. وأشاد، وهو الناقد، بكتاب «جاويد خرد» في كتابه «استطالة الفهم» الذي يدل عنوانه على الانفتاح على حضارة الغير وبلغة العصر «اتساع الأفق». بحث مسكويه عن الكتاب حتى وجده في فارس. ثم وجد نظائر له عند باقي الشعوب، الهند والعرب والروم. فلم يتعصب لفارس، وجمعها كلها في حكمة واحدة هي «الحكمة الخالدة»، ومع ذلك يظل للفرس السبق الزماني في التاريخ فإن كتاب «جاويد خرد» أقدم الكتب المعروفة عند القدماء قبل الغرب اليوناني بعيد الطوفان والغاية تعليم الأحداث، وتذكير العلماء، وتهذيب النفس في الحاضر والمستقبل، والأجر والثواب من الله. فبالرغم من شخصية مسكويه الدنيوية كما رسمها التوحيدي وابن سينا إلا أنه يؤلف باعثا دينيا، طلب الأجر والثواب من الله، وليس بباعث دنيوي من مال أو سلطان.
7
والعجيب أن يكون واضع علم الأخلاق النظري في تهذيب الأخلاق لا أخلاقيا في سلوكه، النظر في جانب والعمل في جانب آخر.
وكما اكتشف الموروث عظمة الوافد ولم يفرض الوافد نفسه على الموروث من أجل حصار الوافد داخل الموروث حتى لا يظل الوافد بؤرة جذب فيقسم الثقافة إلى قسمين متصارعين كما هو الحال في ازدواجية الثقافة في عصرنا اعتمد الموروث على الموروث. فأخذ الجاحظ من الحسن بن سهل أخي الرياستين الفضل بن سهل والذي قام بترجمة جاويذان خرد إلى العربية فقرأه الجاحظ ثم مسكويه. الموروث يعرض الوافد ويعلم نهايته بعد أن تحول إلى ثقافة شعبية مكتوبة بلغة عربية سليمة. الموروث مصدر الرواية للوافد، الجاحظ عن الفضل بن سهل عن الواقدي.
8
وبعض الأمثال في الحكمة الخالدة في كتب الجاحظ مثل «التاج والمحاسن» و«الأضداد» المنحولين. فالانتحال في الموروث وليس فقط في الوافد، ضرورة حضارية في التحول من النقل إلى الإبداع.
ويحيل مسكويه في «الحكمة الخالدة» إلى «تهذيب الأخلاق» كتابه الشهير مما يدل على أن له مشروعا كليا واحدا. «الحكمة الخالدة» عرض حكمة الشعوب و«تهذيب الأخلاق» تأليف. الأولى أقرب إلى النقل أو التحول من النقل إلى الإبداع بينما الثاني أقرب إلى الإبداع. الأولى تفصيلات جزئية عن حكم الشعوب أو عرض موضوعي لها، والثاني ضمها إلى أصول كلية. وقد يوحي ذلك ببعض الترتيب الزماني، أسبقية الأولى على الثاني في حين أن «تهذيب الأخلاق» سابق على «الحكمة الخالدة» وكأن الإبداع يكون قبل النقل أحيانا.
9
وفي نفس الوقت الحكمة الخالدة استقراء للكليات من الجزئيات، والأصول من الفروع من أجل نفع الناس فيشاركون حكمة الخاصة، وإرجاعها إلى مصادرها في حكمة الشعوب، ليس فقط في العقل بل أيضا في الطبيعة. قد تتكرر المعاني والألفاظ والمقاصد؛ وذلك لاتفاق عقول الأمم كلها على حكمة واحدة لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهي الحكمة الخالدة. الغرض منها إنزال الحكمة إلى الجمهور، ونقلها من الخاصة إلى العامة في صيغة أمثال يمكن استيعابها ونقلها جيلا وراء جيل واستعمالها قواعد للسلوك.
10
الغاية من هذه الأمثال ليس البحث النظري المجرد بل الحث على الفضيلة، ووضع معايير للسلوك. وبالرغم من تعدد كلمة الشعوب إلا أن الغاية منها واحدة، تعليم الأحداث والمبتدئين علوم الحكمة. فالغاية تعليمية تهذيبية للنشء. وهي في مجموعها أقرب إلى حكمة الشعوب والثقافة الجماهيرية، المادة الخام التي تحتاج إلى صقل وإعادة بناء، تراث في حاجة إلى تجديد. لذلك كانت أقرب إلى الأدب منها إلى الفلسفة وإلى الحكم والمواعظ والأمثال منها إلى التحليلات المنطقية للمفاهيم. وطريقة فهمها ليس في منطقها الصوري بل في تحويلها إلى تجارب حية مباشرة. كما يفعل الصوفية مع آيات القرآن، وأن يتمثلها القارئ أو السامع في نفسه وأن يحياها في أفعاله وأن ينفعل بها في كيانه، وأن يحيلها إلى تجربة شخصية وكأنها مواعظ استخرجها لنفسه بنفسه عن نفسه أو حكم قبلت في شأنه واستنبطت من حاله. ليست صيغا نهائية أو نواميس ثابتة للسلوك، بل هي أقرب إلى البواعث والدوافع على السلوك، تحتوي على عنصر تطورها وتجددها في ذاتها بتجدد الحياة وتطورها.
ويمكن إدراك الصلة بين «تهذيب الأخلاق» و«الحكمة الخالدة» في أن الأول تحليل للأخلاق الفردية، الوعي الفردي، في حين أن الثانية تحليل الأخلاق الشعوب، الوعي الجمعي، واتسم كلاهما بطابع صوفي عام، «تهذيب الأخلاق» بمعنى الفضائل الفردية وحدها فإن الحكمة الخالدة تتعرض للأخلاق الجماعية، وتضم الدين والسياسة والاجتماع، الدين والسلطة والجنس، المقدسات الثلاثة في الثقافة الشعبية. ويشمل الدين الصلة بين الله والعالم ، بين الدنيا والآخرة، بين مصير الإنسان والقضاء والقدر. وتشمل السياسة الصلة بين الملوك والعامة، بين الحكام والوزراء في إطار من الطاعة والولاء، طاعة الشعوب للحكام والولاء للسلطان دون الثورة على الحاكم الظالم أو الخروج عليه. كما تتعرض الحكمة الخالدة إلى نهضة الأمم وانهيارها في التاريخ دون أن يكون ذلك علامة خاصة على انحلال الشرق أو «الاستبداد الشرقي».
وأحيانا أخرى لا يعني سحر الكلمة أي عزاء عن الواقع والاستبداد، بل قد تعني أيضا سهاما موجهة نحو الحكام من المضطهدين والمعذبين. لذلك كثرت النصائح للملوك والحكام. لقد نشأت الأمثال والحكم من أتون الحياة والسياسية والاجتماعية تعبيرا عن رغبات الحكام وتبريرا لحكمهم أو عطفا على البؤساء ورغبات المحكومين، رضاهم أو ثورتهم. قد يتوجه المثل إلى الصغار والمقصود منه الكبار، «إياك أعنى واسمعي يا جارة». وقد تدل على نفاق الحكام كأحد وسائل التكيف مع الحياة طبقا لغريزة حب البقاء كما قال الفريسيون «طأ بقدمك ودعني أعيش «في مقابل» تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها»، وكما بين ابن المقفع في «يتيمة السلطان»، والفارابي في «السياسة المدنية» على نحو نظري في مقابل أبي العلاء المعري على نحو شعري. التياران موجودان إذن في حكمة الشعوب، تيار الرضا والاستكانة، وتيار الإباء والرفض.
11
ففي الأمثال تواكل وخداع وعجز ورضا وقبول وطاعة ونفاق ومداهنة، وفيها أيضا ثورة وغضب وتمرد وكل ما هو إيجابي كما هو الحال عند كل الشعوب. فالأمثال تعبر عن الأوضاع الاجتماعية المتباينة وتعبر عن كل الطبقات.
وقد استمر هذا النوع من التأليف في التراث الإسلامي منذ «فصوص الحكم» للفارابي وابن عربي وابن عطاء الله السكندري. بل إن الأحاديث النبوية وربما بعض آيات القرآن الكريم واصلت هذا النوع الأدبي استئنافا لأمثال العرب وتحديا بالإعجاز.
12
ولم يكن هو النوع الأدبي الوحيد الذي استعمله مسكويه. فقد جمع بين الحكم والأمثال والطب والتاريخ والغالب عليه مؤلفاته في الأخلاق. فهو فيلسوف الأخلاق بلا منازع.
13
وليست الأخلاق معيارية، فقط بل هي أيضا وصفية تقريرية تجعل الأخلاق علما للعادات. كما ترتبط الأخلاق بالنفس والتربية. ويظهر الجمع بين الفلسفة والأدب مثل أبي حيان في نوع الحكم والأمثال والسير والأشعار مما يتجاوز الأسلوب المجرد والتحليل الصوري متحدا مع الأسلوب الفقهي في السؤال والجواب، والتاريخ في تجارب الأمم وليس مجرد وثائق روايات وأخبار، ويدل وضع العنوان المعرب مع العنوان المترجم على مدى حضور الشرق في موازاة مع الغرب. فالتأليف في الوافدين. ربما غلب العرض على الوافد الشرقي للتعريف به كما غلب التأليف على الوافد الغربي تجاوزا للعرض عند الكندي والفارابي. كما يظهر التراكم الفلسفي للموروث في الإجابة على سؤال علي بن عمر أبي حيان الصوفي في حقيقة العمل. وتتنوع مؤلفات مسكويه بين العرض (جاويدان خرد)، والتأليف (معظم المؤلفات) والإبداع (الرسائل).
14 (2) ثقافات الشعوب (أ) الدوائر الحضارية الخمس
ويذكر مسكويه خمس دوائر حضارية: فارس، والهند، والعرب، والروم، والإسلاميين المحدثين. اثنان من الشرق، فارس والهند، وواحدة في الغرب، الروم أي اليونان، واثنتان في الوسط العرب والمسلمون كطائر بجناحين. ويعني بالعرب قبل الإسلام وبالإسلاميين المحدثين بعد الإسلام، وهما دائرتان حضاريتان متداخلتان أو دائرة حضارية واحدة في زمنين متتاليين قبل الإسلام وبعده. فما هو مقياس هذا التصنيف؟
هل هي مناطق جغرافية؟ الشرق والغرب والوسط؟ وماذا عن الشمال والجنوب؟ هل يدخلان في الشرق والغرب باعتبار أن شبه الجزيرة العربية جنوب غرب فارس والهند، واليونان شمال غرب بلاد العرب؟ وماذا عن مصر والصين وبلاد ما بين النهرين والعراق وفلسطين وبلاد الشام. ربما دخلت مصر ضمن الإسلاميين المحدثين، وربما العراق والشام، وربما لأن الصين لم تصل أخبارها لمسكويه. ألا توجد دوائر حضارية أخرى في أواسط آسيا أو في جنوبها في الملايو وإندونيسيا والفلبين وقد دخلها الإسلام مبكرا أم أنها تدخل ضمن الإسلاميين المحدثين أي حضارة الإسلام المترامية الأطراف؟ وماذا عن الدائرة الإفريقية التي كانت على اتصال بشبه الجزيرة العربية عبر القرن الإفريقي أم أن الإسلام الإفريقي لم يكن قد أنتج حضارته في هذا الوقت مبكرا؟ وهل الرومان مجرد امتداد لليونان دون أن يكون لهم حضارة مستقلة أم أن اليونان تشمل الرومان بطريقة التغليب أم أن اليونان والرومان لفظان لحضارة واحدة؟ وماذا عن حضارة بني إسرائيل التي يذكرها صاعد في نفس الفترة أم أنها جزء من الحضارة الإسلامية في تاريخها الطويل عبر اليهودية والنصرانية؟
وربما يكون المقياس تاريخيا وليس جغرافيا، الحضارات القديمة أو لا في الشرق، الهند وفارس ثم الحضارات الحديثة بعد ذلك في الغرب، الروم ثم الحضارة الأحدث، العربية الإسلامية قبل الإسلام وبعده. وعلى هذا النحو تنتقل الحضارة من الشرق إلى الغرب ثم يرثها الوسط أي العرب والمسلمون المحدثون بين الشرق والغرب. ولماذا يبدأ المسار من فارس قبل الهند وحضارة الهند أسبق؟ هل لأن مسكويه فارسي الأصل فانتقلت الحضارة من فارس إلى الهند شرقا ومن فارس إلى العرب والروم غربا، ففارس مركز الحضارات القديمة؟ هل انتقلت حضارة فارس إلى الهند، الزرادشتية والمجوسية والمانوية أم أن الهند هي منشأ ديانات الشرق الهندوكية والبوذية؟ وهل انتقلت حضارات فارس والهند إلى بلاد العرب قبل الإسلام بدليل وجود الألفاظ الفارسية في القرآن بعد أن تم تعريبها؟ وهل انتقلت حضارة العرب إلى بلاد الروم، أثينا السوداء، المصادر الإفريقية الآسيوية للحضارة اليونانية، ثم عادت الحضارة من بلاد الروم إلى المسلمين المحدثين؟ وعلى هذا النحو يكون مسار الحضارة من الشرق إلى الغرب وإلى الشرق تعود، من فارس والهند والعرب إلى الروم ثم إلى المسلمين المحدثين لو كان العرب والمسلمون جزءا من الشرق، ولو كانوا جزءا من الوسط مع جناحي الشرق والغرب فإن مسار الحضارة يكون من الشرق إلى الوسط ومن الوسط إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الوسط. فالعرب هم الوسط الأول والمسلمون والمحدثون الوسط الثاني. الوسط هو الممر من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق مرتان، مرة عند العرب ومرة عند المسلمين المحدثين. الوسط في تلك الحالة هو شبه الجزيرة العربية، المركز وجناحاه الشرقي والغربي هما الأطراف.
ومن تحليل الدلالة الكيفية يبدو الإسلام جزءا من تطور حضاري عام، آخر حلقة من حلقات التطور البشري وليس جزيرة منعزلة أو فترة واحدة في التاريخ. لم تسبقها ولم تتلها فترات أخرى. الإسلام نهاية المسار الحضاري الذي استطاع تمثل كل الثقافات فانصهرت فيها ثقافات الشرق والغرب والجاهلية ومراحل الوحي السابقة اليهودية والنصرانية. وقد حضر الوافد الشرقي، فارس والهند أكثر من حضور الوافد الغربي، الروم، على عكس الموقف الحضاري الآن، حضور الوافد الغربي، الأوربي الأمريكي أكثر من الوافد الشرقي، إيران والهند والصين واليابان والملايو وإندونيسيا وأواسط آسيا وباقي دول الشرق. الغرب يسأل والشرق يجيب، الغرب المريد والشرق الشيخ حتى «المسائل الصقلية» لابن سبعين عندما سأل فردريك الثاني وأجاب ابن سيعين.
15
وليس كما هو الحال في عصرنا، الغرب المعلم ونحن التلميذ. وقد أثرت الأطراف القديمة شرقا وغربا في المركز وصبت فيه، أثر الهند وفارس والروم في العرب والمسلمين وليس كما هو الوضع حاليا أثر المركز الغربي الأوربي الأمريكي في الأطراف، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما يلاحظ الحديث عن العرب كآخر وليس كأنا كما يفعل بعض المفكرين العرب المعاصرين من أصل غير عربي بعد أن تعربوا وكأن هناك تمييزا بين العرب العاربة والعرب المستعربة. كما لم يذكر المسلمون المحدثون من الأمم الأربع وكأن الإسلام حضارة العرب الحديثة وليس حضارة كل الشعوب الإسلامية، عربية أو غير عربية.
كما يتفق التحليل الكمي مع التحليل الكيفي في أولوية العرب والمسلمين المحدثين على فارس والروم والهند. العرب الأكثر كما والهند الأقل.
16
فالوسط بمرحلتيه، العرب والمسلمون، أكثر من نصف الحكمة الخالدة. وقد تكون أولوية العرب على المسلمين المحدثين كما إسقاطا من شعوبية الفرس سلبا إن لم يكن ترتيبا زمانيا. وربما كان السبب في قلة ثقافة الهند قلة الترجمة عنها. ربما لم تكن ثقافة منافسة للعرب قدر منافسة الفرس، وربما لانتشار الإسلام بها مؤخرا بعد فارس أو لأنها لم تكن قوة سياسية مثل قوة الموالي من فارس، يؤسسون الدولة مثل العباسيين إلا متأخرا في دولة المغول.
ويبرر مسكويه ترتيبه والبدء بحكمة فارس نظرا؛ لأنها في الزمان وإن «جاويذان خرد» أول الكتب ثم تتلوه آداب الأمم الأخرى؛ فالمقياس زماني تاريخي.
17
ولم يذكر مسكويه كل حكم هذه الشعوب بل اكتفى بالكليات دون الجزئيات وبالأنساق العامة. كما تتفاوت الحكم فيما بينها طولا وقصرا بحيث لا تزيد أحيانا عن بضعة أسطر. (ب) الوافد والموروث
ويصعب تحليل المضمون لنصوص الحكمة الشعبية نظرا لكثرتها ولتشعبها ولضمها أدباء وشعراء وصوفية ورواة وصحابة وتابعين وأمراء وسلاطين وعلماء وأنبياء ومتكلمين وفقهاء وظرفاء ومشاهير وخلفاء من الشرق والغرب. ومع ذلك يمكن حصر حوالي 155 علما لا يمثل الوافد اليوناني أكثر من 14 والشرقي 10 مع أنها حكمة الشرق، ويمثل الواقع العربي الإسلامي حوالي 131 علما مما يدل على أولوية الدائرة الحضارية العربية الإسلامية على الدوائر الحضارية الشرقية والغربية، ولبعض هذه الأعلام أقوال مذكورة والبعض الآخر ليست له أقوال لوجودها في الثقافة الشعبية بإيحاءاتها ودلالتها دون ما حاجة إلى اقتباس. أصبحت هي الفكرة دون ما حاجة إلى دليل عليها. وقد يكون للبعض منها أكثر من قول؛ ومن ثم يتضاعف تردده، وقد يكون للبعض أكثر من كنية مثل أفلوطين والشيخ اليوناني، والمسيح عيسى. وفي هذه الحالة تبقى كل كنية على حدة لأنها تدل على تصور مستقل بالرغم من وحدة الشخص. وأحيانا يذكر القول دون صاحبه ويبينه الناشر دون الاكتفاء بالنص زيادة في العلم والتعالم.
ومن الوافد الغربي اليوناني يأتي الإسكندر الأكبر في المقدمة ثم سقراط لارتباطهما بالحكمة الشعبية ثم أرسطو في المرتبة الثالثة، ثم أفلاطون ثم أوميروس وأيروقليس، ثم فيثاغورس وجالينوس وقابس والشيخ اليوناني، ثم أفلوطين وبطليموس وهرمس، لا فرق بين الرياضي والطبيب والفيلسوف الإشراقي والفلكي والحكيم الإلهي، بين الإنسان والإله، بين الواقع والأسطورة، بين الشعر والحكمة.
18
ومن الوافد الشرقي فارس والهند يأتي ذوبان في المقدمة الذي يعادل الإسكندر من حيث الكم ثم أوستهنج ثم برزجمهر وكسرى أنوشروان ثم أورباذ، كيخوز، بهمن، ثم حجشيد، خرشيد، كسرى قباد.
19
والصعوبة في تتبع الوافد والموروث في الحكمة الخالدة أنهما متجاوران وليسا متداخلين، حكمة وراء الأخرى، فارس ثم الهند ثم العرب ثم الروم ثم الإسلاميين المحدثين، مجرد تجميع وعرض ورواية دون تأليف. ومن ثم يغيب التداخل بين الوافد شرقا أو غربا وبين الموروث، ومن ثم غياب آليات الإبداع.
أما الموروث فله النصيب الأوفر من الأعلام؛ فالقلب له الصدارة على الأطراف. ويأتي في المقدمة علي بن أبي طالب والحسن البصري مما يدل على حضور التشيع والتصوف في الحكمة الشعبية، ثم المسيح والأحنف بن قيس والمأمون، مما يدل على حضور المسيح في الثقافة الشعبية أكثر من موسى ومحمد نظرا لما يكتنفه من معجزات وإشراقيات وكذلك شعراء العرب وحكماؤهم، وأهمية المأمون باعتباره راعي الحكمة، ومؤسس ديوانها، ثم الحسن بن علي مما يدل على حضور آل البيت في الثقافة الشعبية لا فرق بين سنة وشيعة، ثم الفضيل بن عياض مما يدل على استمرار حضور التصوف الأخلاقي ثم الرسول والجاحظ وسفيان الثوري وابن المبارك، مما يكشف عن صورة الرسول في الثقافة الشعبية كأحد العلماء أو الصوفية، وأحاديثه أقوال مأثورة مثل أقوالهم، ثم بشر بن الحارث، وابن السماك مما يبين أهمية الصوفية الأوائل الذي خرجوا من قاع الشعب، ينادون بالفضيلة كرد فعل على الفساد الاجتماعي منذ عصر الأمويين، ثم الحجاج، الحسن بن سهل، وداود النبي، وابن عباس، وعمر بن الخطاب وابن المقفع، وذي النون المصري، ومحمد بن واسع، مما يدل على تداخل الحكام مع قواد الشرطة والعلماء والأنبياء والصحابة والخلفاء والأدباء والصوفية والفضلاء في الثقافة الشعبية لا فرق بين ما يأتي من الله وما يأتي من الناس، من الحاكم أو من المحكوم، من الشرطي أو من الشيخ، ثم أحمد بن خالد، وإبراهيم بن أدهم، وأكثم بن صيفي، وجعفر الصادق، وأبو حازم المدني، وحذيفة بن اليمان، والحسين بن صالح، والخليل بن أحمد، وعمر بن عبد العزيز، والفضل بن سهل، ومسكويه، ومعاوية، والنبي، ويحيى بن معاذ مما يدل أيضا على حضور الصوفية والأئمة وآل البيت واللغويين والخلفاء والحكماء والحكام والأنبياء في ثقافة العامة، بالإضافة إلى أعلام عشرين، ثم أعلام سبعة وسبعين تكشف عن حضور الصوفية والفقهاء والعلماء واللغويين والصحابة والخلفاء والأمراء وامرأة واحدة وسط هذا الجمهور الفقير بل وحضور المترجمين والمتكلمين والمؤرخين والأطباء والخلفاء والأمراء والقواد والأطباء والفقهاء والمحدثين والأئمة والأنبياء، والصحابة والحكماء والعباد. ويزداد الأعلام من النساء كلما عمت الثقافة الشعبية من العباد والصوفية والأتقياء والأقارب، لا فرق بين مسلم ونصراني ويهودي. فالكل عرب عاربة أو مستعربة.
20
وتستعمل آيات القرآن والأحاديث وآيات التوراة والإنجيل على نفس المستوى من الأقوال المأثورة التي تتفق مع الحكمة الخالدة، ثقافة كل الشعوب. ويتصدر الحديث على القرآن لأنه أقرب إلى أمثال العرب.
21
فقد أوتي الرسول جوامع الكلم. والحديث في صياغاته ما هو إلا استمرار لجمهرة أمثال العرب مع تأويل للمضمون وقراءة له وإكمال من أجل التعبير عن التصور والقيم الجديدة.
22
فلا خلاف في حضور النص في الثقافة الشعبية بين نص القرآن أو الحديث أو التوراة أو الإنجيل عن المثل الشعبي والسير والأمثال والأقوال المأثورة. الكل مصدر حكمة للعامة. ولا فرق بين الآية القرآنية وحكمة الشعوب مثل
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، وما يقابل ذلك في الأمثال العامية عند كل الشعوب. ويمكن ضم حكم الشعوب في عواميد موازية لإيجاد التقابل بينها كما هو الحال في الأناجيل المتقابلة، لا فرق بين حكمة في الشرق، وحكمة في الغرب، وحكمة في الوسط. هناك حكمة واحدة للشعوب يلتقي فيها الوحي والعقل والطبيعة، الفرد والمجتمع والتاريخ، ويوضع القرآن والحديث وأمثال العرب وأقوال الأنبياء السابقين في اليهودية والنصرانية ونصوص الديانات الشرقية وأقوال الحكماء في عواميد متوازية أكبر لمعرفة مدى التوافق بينها في خبرة بشرية واحدة.
23
ويمكن في نفس الوقت معرفة خصائص الشعوب على حدة، كما يمكن معرفة حكمة البشر كلها وهي التي صاغها الوحي في المرحلة الأخيرة.
24 (ج) آليات الإبداع
وهي حكم متفرقة لا رابط بينها إلا تيار عملي أخلاقي واحد يبعث على الفضائل، وينبه على الرذائل، متعددة المواضيع وقصدها واحد. لا برهان ولا دليل عقلي عليها، ولا استدلال منطقي فيها، بل إيحاء مباشر إلى النفس، تصب كلها في بؤرة واحدة وأفق واحد، افتتحته الحضارة الإسلامية الجديدة كمصب نهائي لحكمة الشعوب. تظهر أحيانا الألفاظ والتعبيرات الإسلامية وكأنها تأليف إسلامي مباشر.
وتكشف البدايات والنهايات في «الحكمة الخالدة» عن البيئة الثقافية الجديدة التي يتم فيها التجميع والعرض للوافد والموروث في المخطوطات الأربعة. ففي المقدمات يذكر المؤلف رفض الدنيا والزهد فيها والاشتياق إلى عالم أفضل مما يكشف عن التيار الإشراقي، النوع الأدبي للكتاب أي العرض والتجميع والضم. تضم إليها بعض التعبيرات الدينية مثل طلب العصمة والتوفيق.
25
والخواتيم أكثر تحميلا للدلالات من البدايات؛ لأنها ساعة الفراق بين المؤلف والناسخ والقارئ والمالك، مسك الختام. ويذكر التاريخ الهجري مع تواضع الناسخ إلى حد الافتقار والمحو في مقابل غرور المحدثين، وطلب العفو والمغفرة. ومع الحمدلة والصلاة على النبي نبي الرحمة وشفيع الأئمة وآله وعشيرته على عادة العصر والدعوة بحسن التوفيق، يكون الإهداء للأمراء والسلاطين على عادة مؤلفي البلاط في كل عصر مع ذكر ألقابهم التي تكشف عن مذاهبهم كسنة أو شيعة. ومع الملكية الشرعية للوثيقة التاريخية في مقابل حقوق التأليف عند المحدثين تظهر العلاقة بين المؤلف والناسخ والمالك في مقابل الترقيم الدولي والناشر والمدينة والسنة والتوقيع والختم عند المحدثين الغربيين، بل وبيان الوضع الاجتماعي، حر أو مملوك، والدعوة للمالك والتعظيم له في مقابل استعباد الشعوب من الغرب الحديث، والدعوة للمؤلف والناسخ وطلب العفو والرحمة لهما وصلاح الشأن والهدي إلى الرشد خاصة في العصر المملوكي مع المقابلة بين النسخة الأصلية والنسخة الفرعية وإضافة بعض الأشعار في النهاية المناسبة لموضوع الذكرى والتذكر للأجيال القادمة بعد وراثة المخطوط من مالك إلى مالك وعن حكمة الحياة تقابلا أو تشافعا، إيقاظا للنائمين، وتنبيها للغافلين، ومثل كل المؤلفات، تبدأ الحكمة الخالدة، وتنتهي بالبسملة والحمدلة وطلب العون والصلاة على الرسول وآله، وطلب التوبة من الله ولي الخيرات والمثيب على الحسنات. فلا قوة إلا بالله، بيده مفاتيح الخيرات والعصمة والتوفيق، وهو نعم الوكيل مع تحديد تاريخ النسخة ومالكها وتحديد وضعه الشرعي مملوكا أم حرا وطلب الرحمة له.
26
وهناك عدة أشكال من أفعال القول في حكم العرب خاصة عندما يكون القول مجهولا. هو تحليل مبدئي حتى يأتي جيل قادم فيقوم بتحليل أدق وأشمل للنصوص الفلسفية، كما هو الحال في النصوص الأدبية والسياسية. وتنوع أشكال فعل القول يدل على أن «قال أرسطو» التي أصبحت عنوانا للنقل بمعنى التبعية إنما هي عادة وأسلوب قرآني أولا ثم تراثي ثانيا؛ للتركيز على أهمية القول في أشكاله المتعددة في الشخص الثالث، مبنيا للمعلوم أو للمجهول، مفردا أو جمعا أو وصف نوع القول وأنواع الكلام مثل الدعاء والتعزية.
27
ولا ينفرد فعل القول بل تتبادل معه أفعال الإيضاح والسؤال أو أفعال الشعور المعرفي مثل تكلم، وصف، وحي، حكم، فعل.
28
وتتكرر نفس أفعال القول في رواية كل حكمة من حكم الشعوب. ففي حكم الفرس يظل فعل القول هو الأغلب.
29
ثم تأتي مشتقات السؤال في المبني للمجهول مثل أحكام السؤال والجواب في علم أصول الفقه.
30
وفي حكم أنوشروان يقلب لفظ القول أكثر من السؤال.
31
وفي آداب برزجمهر تطغى أفعال القول الشرطية وهو أسلوب إسلامي لتوقع المعترض والرد عليه سلفا، وأحيانا يكون القول مثل أحكام السؤال والجواب مباشرة دون ما حاجة إلى سؤال أو اعتراض. وفي آداب الروم تتراوح أفعال القول بين قال وسأل في المبني للمعلوم أو للمجهول، مرة في الماضي ومرة في المضارع. وبالنسبة لأفعال القول للإسلاميين المحدثين يغلب عليها الشخص الأول الجمع في المضارع «نقول»، ونادرا «قال».
32
وللفواصل أهميتها في معرفة مسار الفكر واتجاهه ومراحله ومقدماته ونهاياته واستدلالاته أهم من مضمونه. فصورة الفكر تكشف عن آليات الإبداع. وإن تقطيع الناسخ للنص كنوع من الإخراج يدل على أن الكتابة مشروع مشترك بين المؤلف والناسخ والقارئ الذي يضع تعليقاته على الهوامش والمالك الذي يضع ختمه وأشعاره على الصفحات الأخيرة. وأحيانا تكون الفقرات قصيرة للغاية عبارة واحدة.
33
وتدل حكاية كتاب جاويداد وخرد على كيفية التحول من النقل إلى الإبداع من شعب إلى شعب، وليس على مستوى الفرد وحده بل أيضا على مستوى الشعوب والحضارات.
ويتجلى الإبداع في العرض في اقتناص الأنفع والأفيد والأكثر دلالة وترك ما لا يفيد، أخذ الأصل وترك الفرع، الجوهر دون العرض، الفكرة دون حواشيها، المعنى دون ألفاظه حتى يمكن تمثله والبناء عليه وتطويره حتى ولو بدت الاقتباسات متقطعة غير متصلة. يتم إسقاط كثير من الكلام المتقطع حتى يكون المعنى واضحا. فالمعنى هو الذي يضبط النص بصرف النظر عن تنظيم الأوراق. فالكيف يضبط الكم، والغرض الانتفاع.
34
وتتسم الحكمة الشعبية بالتفصيل والتقسيم للفضائل والعد والإحصاء للخصال ما دامت غايتها تربوية تهذيبية للأفراد والجماعات. وأحيانا تجتمع كلها في خصلة واحدة هي أم الفضائل، ومثلها في الرذائل، قسمتها وعدها وإحصاؤها ثم جمعها في واحدة هي رأس الرذائل كلها. ثم تتفاوت الأعداد بين خمسة وعشرين قسما لحكم بهمن الملك في أمور الدنيا في خمس مجموعات كل منها خمس، بالقضاء والقدر، وبالاجتهاد والعمل، وبالعادة، وبالجوهر، وبالوراثة، واجتناب عشرة عيوب، وتمثل ثمانية وعشرين خصلة فقط. وعند حكيم آخر من فارس الخصال أربع، والغالب القسمة الرباعية والثلاثية. وأحيانا تكون خمسة أو سبعة وكأنها باستمرار عدد فردي؛ خمسة أشياء من سجايا العلماء، خمسة أشياء تقبح بأهلها، سبعة خصال من طباع الجهال. وقد تزداد الأقسام ويكثر العدد الإحصاء، والحقيقة أن هذا التقسيم العملي هي البنية النظرية للموضوع إذا ما تحولت إلى فلسفة عملية، فقراتها أقرب إلى القصر منها إلى الطول كما هو الحال في صياغات الأمثال.
35
وقد يصعب إيجاد نسق لها وكل ينتظم الأجزاء على عكس حكمة الهند التي يمكن معرفة نسقها الذي ينتظم حكمها المتفرقة. وقد يأتي الرقم من خصال الحيوانات. فالحكمة في الإنسان وفي الحيوان وفي النبات وفي الطبيعة حكمة الكون. لذلك أعجب الجاحظ صاحب كتاب «الحيوان» بحكمة فارس التي وضع البعض منها، كما هو الحال في حكمة الهند، على لسان الحيوانات.
36
والحكمة الشعبية أيضا تجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ. فالتأليف للقارئ لهدف مشترك وقصد عام من أجل ثقة القارئ بنفسه وقدرته على الإبداع وفتح الطريق له، لذلك تأتي الحكمة طلبا للإيضاح استفسار عن قول وإجابة لسؤال.
37 (د) الوافد الشرقي (فارس والهند)
وتبدأ حكمة فارس من التاريخ ولا تنتهي إليه. فالتاريخ خيال واقع يتحول إلى مثال. فإذا كان ملوك الفرس وحكماؤهم ينطقون بالتوحيد فلماذا انتشر لديهم الإسلام وفتحهم المسلمون الأوائل؟ ولماذا انهزم الفرس أمام المسلمين وعندهم كل هذه الحكم التي تدعو إلى التوحيد؟ ربما كانت حكمة الخاصة مثل الدين الجديد. إنما جاء الإسلام ضد نظام العبودية لكسرى. فبداية التاريخ بالطوفان كبداية للحكمة قراءة إسلامية لحضارة فارس، تنتقي حكمتها برؤية إسلامية. هي تأليف إسلامي غير مباشر. الصياغة إسلامية، والألفاظ إسلامية مثل وصايا لقمان لابنه وهو يعظه في مواعظ أذرباذ الذي قال لابنه وهو يعظه. والترجمة أيضا في ثقافة عربية إسلامية، والاختيار طبقا لمقاييس إسلامية حتى يبدو الاتفاق بين الحكمتين، حكمة فارس وحكمة الإسلام. كما حاول الفلاسفة الذين يتعاملون مع الوافد الغربي بيان الاتفاق بين حكمة اليونان وحكمة الإسلام. فإذا كان العلم فضيلة في الإسلام، وإذا طلب الرسول العلم في فارس فإن أنوشروان يأخذ صورة الخلفاء والأمراء الذين يجالسون العلماء ويمدحون العلم ويحثون عليه. ويختم حديثه بحسبان الله والتوكل عليه. وكان الملك بهمن مشغوفا بحلو الكلام مع أهل زمانه من أهل العلم والمعرفة وكأنه خليفة عربي.
38
وفي مادة الكتاب يختلط الواقع بالخيال، التاريخ بالأسطورة. فأوشهنج أول من عمر الأرض، وأمر بقتل السباع واتخاذ اللباس والفرش من جلودها. وهي صور قرآنية مثل صور حي بن يقظان، صورة أسطورية له في التراث الإيراني مثل هرمس عند اليونان، نسب إليه دين خاص مثل الروايات حول نقل الكتب الأجنبية إلى العالم العربي لتبرير التعرف على الآخر إيجابا أم سلبا، وتشويقا للقارئ وحثه على الاطلاع عليه مثل رواية «كليلة ودمنة» في الحصول على كتب الهند، وحلم المأمون في معرفة كتب اليونان، ومثل «جهار مقالة» للعروض السمرقندي، و«تذكرة الأولياء» للعطار و«نفحات الأنس» للجامي. وهو نفس أسلوب القصص القرآني الذي تغلب على الحضارة كلها على عكس النزعة التاريخية التي سادت الغرب في القرن الماضي، وهو جزء من الآداب الساسانية في كتب المواعظ، كتب الشرق المقدسة. كما تحول برزجمهر إلى شخصية مثالية في الحضارة الإسلامية، الحكيم الذكي الذي أدخل الشطرنج، وترجم كليلة ودمنة.
ويضم كتاب «الحكمة الخالدة» عدة نصوص، بل إن نص «جاويدان خرد» الذي أعطى الكتاب كل عنوانه هو جزء يعطي الكل عنوانه.
39
وهو الجزء الأول من حكم الفرس التي تضم تسعة فصول أخرى ولا يزيد على الربع . آداب الفرس متنوعة وكثيرة، ولبرزجمهر كتابات. ثم يأتي بعدهما من حيث الكم حكم أنوشروان، بعضها معروف صاحبه مثل برزجمهر، كسرى قباذ، أنوشروان، بهمن، أربعة في مقابل أربعة أخرى مجهولة، أصغرها صفحة واحدة. وقد ترك العنوان معربا «جاويدان خرد» لارتباطه بالثقافة الفارسية، ثقافة المؤلف الأولى. ويضع معها العنوان المترجم عبارة بأكملها تشير إلى إضافة حكم الفرس والهند والعرب والروم، انتقالا من الخاص إلى العام، وربما من المركز إلى الأطراف.
40
كما تكثر أسماء الأعلام مثل تأليف أوشهنج، وترجمة كيخور من اللغة الفهلوية القديمة إلى اللغة الفارسية ثم ترجمة الحسن بن سهل إلى العربية، وهو أخو الفضل بن سهل صاحب الرياستين، الدنيا والآخرة. فالمترجم يعرف بأخيه المؤلف. وتعني «تممه» جمعه ونسق بنية واختار واقتبس منه وربما نقحه. فالكتاب بين الترجمة والاقتباس، في مرحلة التحول من النقل إلى الإبداع.
41
وحكم الهند لا تفصيل فيها، وأقل حكم الشعوب كما، وموضوعة في العنوان الفرعي تحت «جاويدان خرد» وكأن الهند حالة خاصة لفارس تقاس عليها.
42
وهو نص واحد تقريبا وليس مجموعة نصوص كما هو الحال في حكم الفرس. وتوضع تحت عنوان واحد فقط «شرائط صحبة السلطان» بالرغم من تقسيمه إلى عدة موضوعات. لم تذكر الهند إلا مرة واحدة بعكس الفرس التي ذكرت عدة مرات.
43
ولا تذكر أعلام هندية كما ذكرت أعلام فارسية. وتقسم الحكمة فيها ثلاثة وهي أكثرها ثم رباعية ثم سداسية وعشرية ثم سباعية ثم خماسية وهي أقلها.
44
وواضح أن القسمة المثلى التي يعيها الذهن وتكشف عن بنية الموضوع هي الثلاثية والرباعية ومجموعها 38 حكمة بالإضافة إلى ست حكم أخرى متناثرة لا تدخل في الإحصاء. وأحيانا يتكرر نفس الموضوع مثل الحزن مرة إيجابا في ثلاثة، ومرة سلبا في أربعة. ومع ذلك فالسلب أقل من الإيجاب في جدل افعل ولا تفعل.
45
وقد تمت صياغة الأحاديث النبوية على نفس المنوال في البدء بالقسمة العددية مثل الثلاث «لا يظلهم الله ...» وموضوعاتها المقدسات الثلاث في الثقافة الشعبية: الدين والسلطة والجنس. ويشمل الدين الأخلاق والمعاد وأثره الأخلاقي. وتشمل السلطة الحرب. ويتناول الجنس وهو الأكثر شيوعا المرأة الجميلة التي يتركها الذكر فتشبع نفسها أثناء غيابه. فإذا غلبت السياسة في حكمة فارس يغلب الجنس في حكمة الهند، وربما ضم العرب المقدسات الثلاث، المحرمات في الظاهر والمباحات في الباطن في جدل واحد، رؤية الآخر في مرآة الأنا ورؤية الأنا في مرآة الآخر، المرآة المزدوجة في الحضارات المقارنة. (ه) الوافد الغربي (الروم)
أما حكمة الروم فهي حكمة اليونان. وقد سمى مسكويه اليونان الروم ربما لأن صورة اليونان في فارس هي روما نظرا للصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وربما لانتقال الفلسفة من اليونان إلى الرومان طبقا لحكم المحدثين. والحقيقة أن وضع حكمة الروم مع حكمة فارس لا تعني صراعا بين أنصار الفرس وأنصار اليونان في الحضارة الإسلامية كما يروج لذلك الاستشراق وامتداداته في الدراسات العربية الإسلامية المعاصرة بل التوازن بين الجناحين الرئيسيين للحضارة الإسلامية ومركزها في القلب في الجزيرة العربية شمالا وجنوبا. وأحيانا يتم التمييز بين اليونان والروم عند المتأخرين مثل الشهرزوري، والحقيقة أن لا خلاف بين الفلسفتين من حيث الجوهر، العقل والطبيعة والقانون.
وتتضمن حكمة الروم ثلاثة عشر نصا لأفلاطون وأرسطو وسقراط، ولهرمس وديوجانس وبطليموس وفيثاغورس وقابس، ونص مجهول من الأدب.
46
مما يدل على سيطرة أفلاطون وأرسطو من جملة سبعة أعلام، وأولوية أفلاطون على أرسطو، والإشراق على العقل، والشرق على اليونان. وتختلف فيما بينها كما. أطولها نص قابس الأفلاطوني، وأصغرها نص ديوجانس ونص بطليموس.
47
وأحيانا يذكر اسم العلم فقط وأحيانا أخرى يذكر ما يحكي عنه، ما حفظ عنه، وصيه، ذكر، حكايات عن، آداب، رسول، مما يدل على طابع الانتحال من خلال الروايات التاريخية. وأحيانا يكون العلم واحدا مثل سقراط وهرمس وديوجانس وبطليموس وفيثاغورس وقابس وأفلاطون، وأحيانا علمين، وصية أفلاطون لتلميذه أرسطوطاليس أو وصية أرسطوطاليس للإسكندر أو آداب لأرسطوطاليس كتبها في صحيفة ليعلمها للإسكندر أو رسول أرسطو والإسكندر، والعلاقة الثنائية عادة ما تكون علاقة الأستاذ بالتلميذ مثل أفلاطون وأرسطو، وأرسطو والإسكندر طبقا لعلاقة الشيخ بالمريد في الثقافة الإسلامية وطبقا للنماذج الشعبية في علاقة المعلم والمتعلم أو الفيلسوف بالقائد أو النبي بالصحابة أو المسيح بالحواريين، سقراط وأفلاطون، أفلاطون وأرسطو، أرسطو والإسكندر. والنوع الأدبي الغالب هو الوصية (أربعة) اثنان منهما لأفلاطون: أفلاطون لأرسطو، وأفلاطون في تأديب الأحداث، وواحدة لأرسطو للإسكندر، وواحدة لفيثاغورس. وأحيانا يذكر المترجم حنين بن إسحاق الذي نقل وصية أفلاطون في شريعة الأحداث.
ما تم تقديمه على أنه حكمة الروم هو قراءة إسلامية للفلسفة اليونانية إما في الانتحال أو في مقاييس الاختيار من المنحول أو في إدخال بعض الموروث داخل عرض الوافد مثل الحس البصري، فتقسيم الحكمة بين الشعوب ليس حدا فاصلا مطلقا. وقد يكون أحد المقاصد الإسلامية، الوحدة من خلال التعدد، أحد الدوافع،
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . فأفلوطين هو الشيخ اليوناني، صورة الآخر في مرآة الأنا.
48
ولم تذكر له أقوال ربما لأن فلسفته لم تتحول إلى أمثال. كما أن صياغة المنحول تمت في تصور إسلامي لعلاقة الشيخ بالمريد، علاقة أرسطو بأفلاطون في وصية أفلاطون لتلميذه أرسطوطاليس وعلاقة أرسطو بتلميذه الإسكندر أو علاقة الإسكندر الأستاذ بأمه في التعلم وهو يوصيها بمعان قرآنية
لا تحزن إن الله معنا ،
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . لا يهم الموضوع بقدر صلة الذات بالموضوع. ولا يهم الزمان ولا المكان. ففي نطاق الحكمة الخالدة يتناظر جميع الحكماء عبر العصور. فديوجانس تلميذ أفلوطين في الحكمة وإن لم يكن كذلك في التاريخ. وأفلوطين تلميذ سقراط مثل ديوجانس يبحث عن الإنسان.
49
وفي النصوص الثلاثة عشر من المنتحلات التي تقدم الغرب في صورة الشرق، واليونان في ثوب فارس كل نقل قراءة. وقد ساعد المنقول نفسه على ذلك نظرا للطابع الشرقي الصوفي لأفلاطون وسقراط وهرمس وديوجانس وفيثاغورس وقابس. كما أن هذه المنتحلات قد تمت من قبل في العصر الهلينستي حيث أخذ مسار الفلسفة اليونانية طابعا شرقيا جعلتها أقرب إلى الشرق منها إلى الغرب، وأكثر تعبيرا عن فارس منها إلى اليونان.
فالانتحال ليس ترخيصا إجراميا لتغيير النص ابتغاء لتصحيح مزعوم فرضه الجهل وأملاه ضيق الثقافة. ليست القضية في الانتحال أنه تزييف لوثائق تاريخية طبقا للنزعة التاريخية التي كانت سائدة في القرن الماضي في الغرب والتي سادت الاستشراق هناك والذي قام بنشر هذه النصوص، والذي تابعه الاستشراق العربي تقليدا للغرب موطن العلم وتعالما على المجتمعات العربية البادئة في تكوين علومها وأبحاثها، اعتزازا بالعنصرية الغربية الثقافية العقلية في مقابل الشرق الصوفي الإشراقي، معلومات لكسب الشهرة. دون فهم جديد. النقل سهل، والتأصيل صعب.
50
والمنتحلات كثيرة تعبر عن روح الحضارة المنقول إليها وقدرتها على الإبداع، البداية بالنقل والنهاية بالإبداع.
51
ولا يهم الزمان والتاريخ بل الإبداع الفكري عبر العصور. تجتمع الفلاسفة من عصور مختلفة وأماكن متعددة، وتتحاور فيما بينها مثل آلهة الأولمب أو حلقة الجامع بما في ذلك النبي، لا فرق بين حكم البشر وحكم الأنبياء. كلاهما إبداع حضاري، لا فرق بين ما ينسب إلى الله وما يعزى إلى الأنبياء وما يروى عن الحكماء. وهناك زيادات في الترجمة العربية عن الأصول اليونانية المنتحلة. فكل حضارة تبدع ما تريد وما تشعر بحاجة إليه. ليس الانتحال شرقيا فقط في التعامل مع الغرب بل غربي أيضا في التعامل مع نفسه، وشرقي أيضا في التعامل مع نفسه بما في ذلك الأحاديث النبوية. والأسلوب عربي سليم، أدبي رصين. وتبرز المصطلحات الإسلامية لتوحي بالجو العربي الإسلامي وإن كان النص يونانيا منتحلا، تأليفا لا نقلا. والفقرات طويلة وليست مجرد حكم وأمثال قصيرة. وأرسطو أديب يستشهد بأشعار أوميروس وليس فقط واضع المنطق، وكثير من النصوص وصايا متصلة غير متقطعة وأخرى متقطعة.
52
ونموذج آخر للانتحال، الإخراج اليوناني والتأليف الإسلامي، وصية أفلاطون في تأديب الأحداث. وقد أحال إليها مسكويه في تهذيب الأخلاق. وهي تجميع النصوص وليست فقط أقوالا متناثرة، وقد تمت صياغتها أيضا طبقا لوصايا الشيخ للمريد في النموذج الإسلامي، عباراتها طويلة، والأهم مضمونها وتقسيم الأخلاق طبقا للطبقات، العليا والوسطى والدنيا، فلكل طبقة أخلاقها، ويظل السؤال: ما مقياس الطبقة: المال أم السلطة، الاقتصاد أم السياسة؟ وهل العلماء طبقة؟ ويخاطب أفلاطون الأجيال القادمة بضرورة التوسط بين الأجيال وبين الطبقات، فيرقي الطبقة العالية، ويؤدب الطبقة الدنيا دون أن يتعسف مع الأولى أو أن يبكت الثانية. لا يكرم الأولى ولا يخيف الثانية، لا يتساهل مع الأولى ولا يقسو مع الثانية. يستعمل مقياسا واحدا للطبقتين المؤدية والمؤدبة، وتنتهي الوصية بحمد الله على نعمته والصلوات على الرسول وآله الطاهرين. فالتربية عملية متواصلة بين الأجيال وعمل مشترك بين الحضارات، بدأها أفلاطون، واستمر فيها المسلمون، والمجال ما زال مفتوحا. وليس عند المسلمين القول الفصل.
53
ورسالة أرسطوطاليس إلى الإسكندر في السياسة أيضا من المنتحلات. في أولها التوقف عن الإعجاب بمناقب الإسكندر نظرا لتواترها فصارت معروفة ومشهورة، أما الجديد فهو موضع إعجاب بعد ظفر الإسكندر بدار. وعند العامة لا يكذب ثناء، إحساسا بالانتحال. وتبدو بعض مصطلحات الموروث مثل النسخ، وبعض الخيال الشعبي في تواتر الصورة المثالية للإسكندر في الثقافة الشعبية عند العامة. وتتضمن دعاء يعقوب نبي الله مما يشير إلى البيئة الدينية التي يتم فيها الانتحال، ونقل بطولة الأنبياء على بطولة الإسكندر. كما تنقد الرسالة المرأة كجزء من الثقافة الشعبية، ضلعة عوجاء في حاجة إلى استقامة ولو بالكسر. وتذكر المصادر التي يتم منها الانتحال مثل الحسن بن إبراهيم الخالدي. وتنتهي الوثيقة بالملكية الشرعية وتواضع مالكها ورجاء الإحسان له والعفو عنه، والبسملة والحمدلة والثناء على الله والصلاة على النبي وآله الطيبين الأخيار.
54
وما قيل على لسان قابس الأفلاطوني في «أمر لوح وجد موضوعا في هيكل زحل كان منسوبا إلى رجل فيه يدل على الهدى» كأنه كتاب مستقل لشخصية تاريخية يونانية خيالها إسلامي.
55
يستعمل أسلوب المحاورات الأفلاطونية ويأخذ كنية الأفلاطوني للدلالة على اتجاه الفكر، الأفلاطونية الإشراقية، اليونانية الشرقية. واللوحة صورة فنية مثل الأناجيل بها عناصر الإخراج: رموز الدولة، فالمدينة رمز الدولة، والملك والحجاب والوزراء، ثنائية الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، النقاء والغواية، نساء في الداخل ورجال في الخارج، عضو الأنثى بالداخل وعضو الرجل بالخارج، الصلة بين الفن والأخلاق، ويحيل إلى موقف القرآن من الشعر، ويمكن وصف آليات الإبداع، البداية اليونانية والنهاية الإسلامية، التاريخ اليوناني والدلالة الإسلامية، الأنا والآخر في وضع اليونانيين في مقابل الغرباء. الموضوع نفسه إسلامي، التصوير ووجوده في الديانات القديمة، والمعركة حول الأيقونات في القرن الخامس الميلادي وإن كان الإسلام قد قضى على الأصنام والتماثيل والتصاوير إلا أنه أبقى على الشعائر والحركات، وإن كان القسم ما زال بحق هرقليس. وبالرغم من أن إيرقليس لم يشأ تفسير اللغز إلا أن المترجم قدمه لما فيه من فوائد للعقل المؤيد للإنسان، طالبا التوفيق والعصمة من الله. ويتم تحميل هذه اللوحة التي بها هذا اللغز بالمعاني الإسلامية مثل رفض النحت والشهوة والدنيا والمال والبنون والسلطة، ورفض الشره والشبق والملق والخداع والبذخ والنهب والسرقة والتعدي على الحرمات واليمين الكاذبة والسعي والنميمة، والدفاع عن الحسن والقبح العقليين، والدفاع عن المساجد والسقايات. وفي النهاية يتم مخاطبة القارئ ووصايته طبقا للأسلوب الإسلامي في الفكر كتجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ. المضمون أخلاقي اجتماعي، فردي أكثر منه اجتماعيا، على عكس حكمة الفرس التي يغلب عليها الطابع السياسي، في ظاهرها يونانية وفي حقيقتها إسلامية.
56 (و) العرب والإسلاميون المحدثون
أما حكم العرب فهي أكبر حكم الشعوب الأربعة. ولا يوجد تحيز خاص للعرب في جدل الأنا الفارسي والآخر العربي، بل تتساوى الشعوب الأربعة. إنما يتم الحديث عنهم كغائب مثل الهند وفارس والروم، ولهم مرحلتان: ما قبل الإسلام في أمثال العرب وما بعد الإسلام في أقوال الرسول والصحابة والصوفية. الرسول عربي، والإسلام عربي، والصحابة عرب مما قد يوحي ببعض الشعوبية المقلوبة. ومع ذلك فقد ذكرت حكم أنوشروان مع حكم العرب بعد أن تم تعريبه وتعريب أقواله لدرجة أنها أصبحت عربية. وان وضع العرب بعد فارس والهند قد يعني أن العرب ورثوا حضارة القدماء ثم صب ذلك كله في الحضارة الإسلامية الحديثة.
وهي حكم متفرقة وقصيرة وأحيانا طويلة في أربعة وعشرين مجموعة، كل مجموعة لها عنوان. نصفها من النص والنصف الآخر من الناشر من مضمونه. بعضها عام مثل حكم للعرب وأمثال سائرة وبعضها خاص يعبر عن المضمون مثل ذم الهدية. أكبرها الكلمات المتفرقة. عناوين البعض أسماء وأعلام مثل علي، لقمان، قس بن ساعدة، أكثم بن صيفي، الحسن البصري.
57
لا فرق بين عربي ونصراني؛ فكلاهما عربي. ولا فرق بين جاهلي وإسلامي، بين ما قبل الإسلام وبعده وليس كما يشيع في عصرنا من التعارض بين الجاهلية والإسلام.
وبالرغم من أن علي بن أبي طالب عنوان المجموعة إلا أن حكمه تظهر في باقي المجموعات. ومن حيث الأهمية يأتي بعد الرسول مباشرة مما يدل على تشعبه في الحكمة الشعبية وانتشاره فيها وتداخل الحضور الشيعي مع السني مع إبراز صورته وصفاته الخاصة في الثقافة الشعبية. ويثني عليه بعبارة «عليه السلام» وليس «رضي الله عنه» أو «كرم الله وجهه». يظهر مع الرسول والصحابة والصوفية مما قد يكشف عن هوى التشيع، الرسول ثم الإمام، وفارس مهد التشيع، وهو العربي الأول بعد الرسول بالرغم من تشيع فارس وسنة العرب. وأحيانا يذكر أمير المؤمنين عليه السلام دون ذكر اسم علي مما قد يحدث خلطا بينه وبين جعفر الصادق. فهو أيضا يثني عليه بعليه السلام.
58
وتأتي حكم الحسن البصري في المقدمة؛ حيث الكم والكيف بعد علي بن أبي طالب كصوفي وليس متكلما. ثم تأتي أقوال الصوفية. فهم أقرب الفرق إلى ضرب الأمثال واستعمال الرموز دون غيرهم من المتكلمين والفقهاء نظرا لارتباط التشيع بالتصوف أم أن التصوف هو علم الأخلاق الإسلامية، أقوال للحجاج، ونصائح للحكم؛ فالأنبياء والملوك والصوفية والأدباء واللغويون والصحابة والخلفاء كلهم أصحاب حكم وأمثال في الثقافة الشعبية ومعها حكايات ونوادر مثل تلك المنسوبة إلى الفلاسفة والتي ترجمها حنين ويختتم بالحمدلة.
والموضوع الغالب عليها الأخلاق الاجتماعية، الكمال الفردي والاجتماعي، والاغتراب أي التوجه نحو الآخرة بعيدا عن الدنيا. أما السياسة، العنصر الغالب في حكمة فارس، والجنس، العنصر الغالب في حكمة الهند فنادران على عكس ما هو معروف في ألف ليلة وليلة ربما لانتصار الدولة السنية التي لا تحتاج إلى نصائح الملوك وربما خوفا من السلطان. وربما غاب الجنس لغلبة أقوال الصحابة والصوفية. كما تظهر قيم العلم والثراء على المستوى الإنساني وليس الاغتراب الديني أو الدنيوي في الجنس.
وتغيب الآيات القرآنية مع أنها أيضا بلسان عربي مبين لا بمفردها ولا من خلال الأحاديث. وتبدأ الحكم عند العرب بالأحاديث النبوية.
59
فالنبي عربي، وأوتي جوامع الكلم. وأحاديثه أمثال عربية محورة ومكملة ومتممة بالتصور الإسلامي مثل «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». وهي أحاديث تصور حياة العرب والبيئة البدوية بما بها من إبل ونخيل وخيل وكأنها أحاديث على نمط أمثال العرب. تتسم بالقصر حتى تصبح أمثالا يسهل تذكرها. ويمكن تصنيفها طبقا لموضوعاتها وألفاظها. وكما بدأ مسكويه حكم العرب بأحاديث الرسول أنهاها بأشعارهم في أنصاف أبيات. فالأحاديث مثل الشعر.
60
كما تذكر حكم الأنبياء مثل وصايا لقمان لابنه بصرف النظر عن مصادرها إسلامية أو من الإسرائيليات. وكثير من الحكم غير مشخصة تذكر فقط أنها من كلام الحكماء أو الصوفية أو العرب في الجاهلية أو من قديم كلام العرب أو العرب فقط أو الصوفية والنساك أو البعض أو مجرد مبني للمجهول في صيغة «قيل». وغالبا ما يستعمل العدد والإحصاء في الحكم والأمثال وقسمة الناس والخصال، فضائل أو رذائل، قسمة ثلاثية أو رباعية أو خماسية والأغلب الثلاثية.
61
وتمتزج في حكم العرب الواقع بالأسطورة، الحقيقة بالخيال، التاريخ بالانتحال كما هو الحال في حكم الروم. فالانتحال ليس في الوافد فقط، بل في الموروث أيضا لأن روح الإبداع في الحضارة، وتنسج الحكم والأقوال في أنماط إسلامية مثل وصية قس بن ساعدة لابنه على منوال وصايا لقمان لابنه.
62
أما حكم الإسلاميين المحدثين فإنها استئناف لحكم العرب. والعنوان من الناشر مستقى من النص. والمحدثون من الفلاسفة والعلماء والباحثين من طلب العلم من الإسلاميين. فالإسلاميون ورثة العرب الذين ورثوا الروم الذين ورثوا الهند التي ورثت فارس. وهم في نفس الوقت موروثون من أجيال جديدة من طلاب العلم، وتتضمن أقساما خمسة: وصية وفصلان غير منسوبين إلى أحد ثم آداب ابن المقفع ووصاياه ثم كلام الفارابي من وصاياه. وأكبرها كلام ابن المقفع ثم الفارابي. والخاتمة تضم ثلاثة أقوال لأفلاطون والعامري والجاحظ وقولا رابعا غير منسوب إلى أحد. وأكبرها كلام العامري، وكأن حكم المسلمين المحدثين من ثلاثة، ابن المقفع والعامري والفارابي، والثلاثة من غير العرب.
63
وهي نصوص طويلة وليس مجرد مجموعة من الأقوال المتفرقة، من الحكمة الشعبية وليست من الحكمة العقلية الرفيعة للكندي وابن سينا. والعجيب أن تعود حكمة اليونان من جديد، أفلاطون نموذجا في الخاتمة مع العامري والجاحظ مما يدل على أن أفلاطون أصبح جزءا من الحكمة الشعبية، ولم يعد جزءا من الثقافة العالمة. قبل الجاحظ ثقافة العرب، وقبل العامري ثقافة المسلمين. وقد اختارت الخاتمة ممثلا لحكمة اليونان وليس للهند أو فارس، ربما لبيان مدى التقارب بين المسلمين المحدثين واليونان بالرغم من أن مسكويه فارسي الأصل. والحديث عن طبقات الناس عند الفارابي تدل على رؤية صائبة لفكره كما عرضه في آراء أهل المدينة الفاضلة. وربما السبب هو الخاتمة ببعض النوادر والحكايات لا يهم مصدرها، اليونان أو العرب أو المسلمون المحدثون مما يدل على وحدة الحكمة الشعبية.
64
وابن المقفع فارس أو هندي الأصل.
65
واختياره من المسلمين المحدثين يدل على أن الثقافة الإسلامية الحديثة لها جذورها في حكم فارس أو الهند. وهو مترجم «كليلة ودمنة» من الأدب الهندي، وعلم من أعلام الأدب العربي، ونموذج التقاء حكمة الشعوب. نصوصه مقتبسة من الأدب الكبير. فتجميع مسكويه من الفلسفة والأدب والشعر والتصوف. تغلب على حكمه السياسة، نصائح للوالي وللمواطن في علاقاته مع السلطان والوالي. ولا توجد نصائح مباشرة للسلطان خوفا أو طمعا. والنصائح للوالي أكثر، وهي الوظيفة العامة والنصائح للمواطن عند السلطان، وعند الوالي وعند النساء. ولا توجد نصائح دينية. ويستعمل ابن المقفع السلطان بمعنى مجازي، سلطان البطن وسلطان اللسان وسلطان الفرج. السلطة هو اللفظ الموجه. قد تكون مصادر النصائح فارسية أو هندية أو نتيجة لتجارب ابن المقفع الخاصة ومحنة البرامكة.
66
ويحدث التراكم الفلسفي الداخلي بإحالة مسكويه إلى الفارابي؛ فكلاهما فيلسوف الإنسان وليس ابن سينا المتعالي عليه. الفارابي وسط بين الفلسفة المتعالمة والفلسفة الشعبية. وتتوجه وصاياه، وهو من أصل تركي صنو الفارسي، إلى جميع طبقات الناس. فيحلل الأخلاق تحليلا طبقيا، أخلاق الطبقة العليا وأخلاق الطبقة الوسطى وأخلاق الطبقة الدنيا، العليا للقهر، والوسطى للنظام والقانون، والدنيا للطاعة أو المعصية للاستسلام أو الثورة، والغرض من هذا التقسيم الطبقي منافسة العليا، والفضل على الوسطى، وعدم الانحطاط إلى الدنيا أي الصعود الاجتماعي للفرد وليس لإحداث تغير طبقي في المجتمع. ويقوم التقسيم الثلاثي الاجتماعي الطبقي على قسمة أخلاقية ثنائية لقوى الإنسان العاقلة والبهيمية، وللقانون المحمود والمذموم، وللدين الله والعالم. أما السياسة فإنها تأمل في النفس وفي أحوال الغير،
وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وبصرف النظر عن الصحة التاريخية لهذا النص، تاريخيا أو منحولا، حرفيا أم معنويا، موجود أو ضائعا، كاملا أو ناقصا إلا أنه يعبر عن روح الفارابي وتصوره الهرمي للعالم.
67
وأما أبو الحسن العامري (380ه) الذي يمثل مرحلة انتقال من الفارابي إلى ابن سينا فتمثل آدابه ووصاياه حكمة المسلمين المحدثين، حملها المسلمون من أصل ثقافي فارسي يجمع بين الفلسفة والأدب مثل أبي حيان، وأقرب إلى الأمثال والحكم القصيرة منه إلى النثر والفقرات الطويلة، ضمن المشروع الحضاري العام لتحويل الموروث إلى حكمة شاملة، تبدأ ببيان على الديانة وتصحيح الاعتقاد والنسك العقلي والبرهان وخلق الأفعال.
68
والنص مأخوذ من منتخب صوان الحكمة للسجستاني. فالحكمة الشعبية سلسلة واحدة تبدأ بالسجستاني (331ه) إلى العامري (380ه) إلى التوحيدي (401ه) إلى مسكويه (420ه). وجزء منها بالفارسية. غايتها الدفاع عن الموروث ضد شبهات الملحدين واعتراضات الطبيعيين وشكوك المتكلمين ومطاعن أعداء الدين، وهو الدور الذي يقوم به الفقهاء، وفي آخر الحكمة تظهر الأمثال والحكم والعبارات القصيرة.
69
ولم يشأ مسكويه ترك حكم الشعوب متجاورة ومتشابهة دون أن يبين طريق وحدتها وكشف اتفاقها اعتمادا على الموروث، تأملا في النفس، واكتشافا لله، الاتجاه إلى الداخل من أجل الاتجاه إلى أعلى، «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ومن الخارج إلى الداخل
وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، بعيدا عن رجال الدين، واقترابا من أهل الحكمة. وهنا يظهر فعل القول في صيغة ضمير المتكلم المفرد «أقول». فالهدف هو تغيير العصر، ومن الانغماس في العصر يتم اكتشاف النفس، والطريق هو جدل السلب والإيجاب، الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، النفس والبدن، الروح والجسم، الله والشيطان، الطاعة والعصيان. وهي الثنائية الدينية التي تقوم عليها ديانات فارس، المانوية والمجوسية والزرادشتية والتي أصبحت أساس كل حياة دينية بما في ذلك دين التوحيد، والحكمة طريق إلى الله، ورأس الحكمة مخافة الله، والدين هو الحسنات وحسن النية، والقول والفعل، وليس دين العقائد والشعائر والحدود والنظم الدين طهارة القلب، وتمثل الفضائل مثل العقل والعفاف والصبر والرجاء والدين والنصيحة، والبعد عن الرذائل مثل البخل والحسد، والسيطرة على الأهواء بدل إن يظفر الشيطان بها. إرادة الله من الناس أن يعرفوه، فإن عرفوه أطاعوه. وإرادة الشيطان من الناس أن يجهلوه، فإن عرفوه عصوه. يحسن العاقل الثقة بالله، ولا بر أبلغ من الإخلاص والشكر لله، وتطهير النية من الفساد. رأس الفضائل طاعة الله، وإيثار الآخرة على الدنيا. ورأس الكبائر الاستهانة بحدود الله. يحصي العاقل مساوئ نفسه في الدين والرأي والأدب، ويكملها بالعلم والدين والأخلاق في الحكمة الشعبية تتحول الفلسفة إلى نصائح، والحكمة إلى آداب، والنظر إلى عمل، والعقل إلى سلوك. وتنتقل من الخاصة إلى العامة، ومن الدوائر المغلقة إلى قارعة الطريق.
70
ثم يفصل مسكويه هذا التيار الديني الصوفي الإشراقي الأخلاقي العملي في الأصول الأولى للموروث، القرآن والحديث. ويختار منها ما يؤيد رؤيته واختياره، اكتشاف النفس من أجل اكتشاف الله، وهو ما عرف عند اليونان باسم الأفلاطونية.
71
كلام الله هو حديث النفس، والأحاديث النبوية يرويها القلب كما هو الحال عند الصوفية، وكأن مسكويه يكتب رسالة قشيرية أخرى، ويعتمد على تفسيرات الأئمة من آل البيت مثل محمد بن الحنفية وعلى مفسرين آخرين مثل سهل بن أسلم العدوي، ومجاهد، والحسن، وهشام بن عبد الملك، ويونس بن حبيب النحوي، وأبي يزيد البسطامي، والشبلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الملك بن مروان، فبعض الأمويين أتقياء. ويبدو التفسير أقرب إلى التفسير بالمأثور حتى ولو كان تفسيرا مجازيا مثل
وأما السائل فلا تنهر ، أي السؤال ليس عن الطعام بل عن العلم. القرآن به السؤال والجواب، البداية والنهاية، هو النفس والله والعالم. والله عالم الغيب والشهادة، الآخرة مع الدنيا، العقل مع الحس. الغيب كل ما غاب عن الحس، غيب على العامة وشهادة الخاصة. ويأتي التفسير الباطني للقرآن من الصوفية ومن مسكويه مباشرة ومن بعض الأمويين الأتقياء ربما كأحد وسائل المقاومة الشيعية للحاكم الأموي بسلاح لا يمكن رده، نفس السلاح الذي تعتمد عليه شرعية السلطة.
72
وتدور معظم الأحاديث حول نفس المحاور الثلاثة: معرفة النفس، معرفة الله، ثم معرفة المجتمع والدنيا، علاقة الإنسان بنفسه أي العمق، ومعرفة الإنسان بالله أي التعالي الرأسي، ثم معرفة الإنسان بالآخرين أي التعالي الأفقي، ومع معرفة النفس يظهر التفسير الصوفي للأحاديث، من معرفة النفس إلى معرفة الله، ومن معرفة الله إلى السعادة. فالإنسان موقف بينه وبين الله في الزمان. قوة النفس اطمئنان. وبلاؤها تذهبه العافية من الله والزهد طريق إلى الله وإلى الناس، والعبادة طريق إلى الجنة. والوحي ليس لجمع المال بل للتسبيح والسجود. وغض النظر طريق إلى التقوى على عكس حكمة الهند. فالمرأة ليست فقط موضوعا بل ذات. والسلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه المظلوم، إن عدل وجب على الرعية الشكر، وإن ظلم وجب عليها الصبر طبقا للأموية وطاعة الحكام في الثقافة الشعبية ولا يعتمد مسكويه على أحد في تفسير الأحاديث أو صحتها فكلها صحيحة وواضحة.
73
أما التعالي الرأسي فإنه في الظاهر ديني وفي حقيقته كمال فردي واجتماعي؛ إذ لا يمكن الفصل بين التعالي الرأسي والتعالي الأفقي، بين الإيمان الديني والكمال الخلقي الفردي أو الاجتماعي. في التعالي الرأسي ينزل الكرم والجود، ويعطي الثواب، ويوفق للطاعة والمغفرة، والتذكر بالموت، والشكر لله وكأننا في أحوال الصوفية ومقاماتهم، عندئذ يصبح الدين تقوي باطنية وحسن طوية بعيدا عن الشعائر والطقوس والمراسم، السمات المعروفة في الدين الشعبي، وأحيانا يقصر الحديث كالمثل، وأحيانا يطول كرواية مما يفقدها قيمتها في الأثر الشعبي المباشر، وتختلط الأحاديث بالأقوال المأثورة، وتروي بلا إسناد ودون حكم على درجة صحتها. والعدد والإحصاء فيها قليل؛ ومن ثم يصعب استيعابها وتذكرها.
74
أما الكمال الفردي فإن الأحاديث فيه تركز على يقظة الشعور وطلب العلم وتحقيقه في العمل والتعبير عنه بسحر البيان، الكمال البدني من حيث الصحة ثم الفعل والتخلص من الرذائل، البخل والذل، ثم مجاهدة النفس، الدنيا والبخل ، ومعرفة قدر الرجال والكمال الخلقي، والتخلي عن الدنيا، والحنث باليمين. والأحاديث أيضا غير مسندة، ولا تعرف درجاتها من الصحة. وشكلها الأدبي الغالب هو الجملة الخبرية. ويتطلب الكمال الفردي نوعا من التأويل، وتجاوز الظاهر إلى الباطن وما يرمز إلى ذلك من حياة البدو ومثل الخيل والنخل، بطون الخيل وظهورها وجذور النخل وثمارها، والقلة الخيرة والكثرة الضالة، والسهر والنوم، والعقل والإيمان.
75
ويضم الكمال الاجتماعي عدة أحاديث تبدأ بالكمال الفردي ثم بالكمال الأسرى ثم بالكمال الاجتماعي. ويتمثل الكمال الفردي في الكرم وقول الخير أو الصمت وخشية الله والعلم والعدل والشكر. وتبين عدة أحاديث مدى التراحم الأسري، الأخ بأخيه، حقيقة أم مجازا، والإنسان بمن يعول، والاحترام الواجب لرب الأسرة، والتحرر من سلطة الولد بحيث لا يبحث على الجبن والبخل وطاعة الأمهات، واحترام الأخوات، وتربية الولدان، وصلة الرحم، ورعاية الصبيان. والمجموعة الثالثة للكمال الإنساني رعاية الأمة، وضرورة الأمانة، وغض الأبصار، ورد السلام، وهدي الضال، وعون الضعيف، وعبادة الله، والاعتصام بحبله، وعدم التفرق، والنصيحة لولاة الأمور، وكراهية القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، والتهادي من أجل المحبة، والمصارحة من أجل البقاء، ورحمة الأعزاء بعد ذل، والفقراء بعد غنى، والعلماء بعد جهل، والحب المتبادل، ودور الأجيال المتعاقبة، والخدعة في الحرب، وهناك مجموعة أخيرة من الأحاديث توجه علاقة الإنسان بالعالم وبالمال حتى لا يخرج عن حدود التعفف. فلا عيب في فقر التاجر الصديق. ولا حاجة لما يزيد عن الطعام واللباس والصدقة، وأهمية الفضل للناس وإيتاء الزكاة. وتذكر الأحاديث دون تبويب ودون تفسير وكأنها أمثال شعبية. لا تسند ولا تبين درجة صحتها، ولا ينقد متنها مثل «علق سوطك حيث يراه أهلك.» والذي يتعارض مع أحاديث الرحمة والتعاطف بين أفراد الأسرة.
76
ولا يقتصر على الاستشهاد بالقرآن والحديث بل يمتد الاستشهاد إلى ما وراء ذلك بنصوص الوحي القديم. فالحكمة الخالدة واحدة. والوحي واحد، لا فرق بين أنبياء العهد القديم ونبي العهد الجديد وخاتم الأنبياء لمعرفة النفس واكتشاف الله استئنافا لروح إخوان الصفا ولمقاصد الصوفية والترجمة العربية القديمة عن اللغة الأصلية أفضل من الترجمات اللبنانية الحديثة عن اللغات الأوربية، وأحيانا يتم التمييز بين الوحي القديم من ناحية، والتوراة والزبور من ناحية أخرى، ويتم عرض ذلك كله داخل حكم العرب قبل الإسلام وبعده. كما تتم الإحالة إلى الكتب المنزلة. والمعنى المذكور وارد في عديد آخر من النصوص الدينية والدنيوية، الإلهية والبشرية.
77
ويخص السيد المسيح عيسى ابن مريم بأقوال منه في معرفة النفس وإنقاذها أفضل من كسب العالم وخسارة النفس، وعدم النطق إلا بالخير، وعدم الاستعجال بالأجر في الدنيا، وعدم الارتباط بأي شيء فيها حتى ولو كانت قطعة حجر. وكل ذنب يغفر لصاحبه، ومن يستبطئ الرزق يفتح الله عليه الدنيا. فليس لرجل من قلبين في جوفه. الغني يخاف الموت، والفقير يطلبه ويشتاق إليه.
78
وأحيانا يذكر بعض الأنبياء على الإطلاق دون تحديد من الوحي القديم أو من الوحي الجديد عن اعتراض الإنسان إذا ما استخار الله واستجاب الله لاستخارته واختار، وأن من قصد الله وصل إليه. وأحيانا يتحدد النبي داود حين يطلب الله منه أن يطهر ثيابه الباطنة لا الظاهرة. فالجنة خير من الدنيا، وكشف الحجاب أفضل من الجنة، وبشرى للمذنبين؛ لأن الله يغفر لهم، وإنذار للصديقين لو دخلهم العجب والخيلاء بأعمالهم. كما يقبل الله الثورة على الأنبياء ونقدهم احتراما لاختيار الإنسان الحر وتصديقا للنبي، كما أوحى الله لبعض الأنبياء وحدة الدين والعقل والعلم؛ أي الوحي والعقل والطبيعة. واختيار العقل وحده يرفع الدين والعلم، ويكون بلا وحي وبلا طبيعة، بلا ضمان وبلا موضوع، لذلك لا يتفق العقل والسكر. فالسكر يذهب العقل ويقضي عليه، وواضح أنها كلها أقوال منتحلة بدليل عدم تحديد الأنبياء والكتاب، وإنما هي معان وقيم إسلامية على لسان السلطة النبوية.
79
نامعلوم صفحہ