الغلو إذا أتى بما يخرج عن الموجود فإنما يذهب فيه إلى تصييره مثلًا، وقد أحسن أبو نواس حيث أتى بما ينبئ عن عظم الشيء الذي وصفه.
وإذ قدمت ما أردت تقديمه، فلنرجع إلى ذكر واحد من المعاني الستة التي قلت إنها الأعلام من أغراض الشعراء في المعاني، فأبدأ أولًا بذكر المديح.
نعت المدح
ما أحسن ما قال عمر بن الخطاب ﵁ في وصف زهير حيث قال: إنه لم يكن يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال، فإن في هذا القول، إذا فهم وعمل به، منفعة عامة، وهي العلم بأنه إذا كان الواجب أن لا يمدح الرجال إلا بما يكون لهم وفيهم، فكذا يجب أن لا يمدح شيء غيرهم إلا بما يكون له وفيه، وبما يليق به ولا ينافره، ومنفعة أخرى ثانية وهي توكيد ما قلنا في أول كلامنا في المعاني من أن الواجب فيها قصد الغرض المطلوب على حقه وترك العدول عنه إلى ما لا يشبهه.
ولما كان المدح اسمًا مشتركًا لمدح الرجال وغيرهم، عمدنا بالقول في مدح الرجال، إذ كان غرض الشعراء في الأكثر إنما هو مدحهم للرجال، إلا ما يستعملون من أوصاف النساء، فإن ذلك له قسم آخر سنأتي به فيما بعد إن شاء الله تعالى، وعلمنا أنا إذا أخذنا في التعريف بجودة مدح الرجال كيف يكون، فقد يتعلم من حواشي قولنا في هذا كيف تسلك السبيل إلى مدح غيرهم، فنقول: إنه لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان، على ما عليه أهل الألباب من الاتفاق في ذلك، إنما هي العقل والشجاعة والعفة، كان القاصد لمدح الرجال بهذه الأربع الخصال مصيبًا، والمادح بغيرها مخطئًا؛ ثم قد يجوز مع ذلك أن يقصد الشاعر للمدح منها بالبعض والإغراق فيه دون البعض، مثل أن يصف الشاعر إنسانًا بالجود الذي هو أحد أقسام العدل وحده، فيغرق فيه ويفتن في معانيه، أو بالنجدة فقط، فيعمل فيها مثل ذلك أو بهما، ويقتصر عليهما دون غيرهما، فلا يسمى مخطئًا لإصابته في مدح الإنسان ببعض فضائله، لكن يسمى مقصرًا عن استكمال جميع المدح.
فقد وجب أن يكون على هذا القياس المصيب من الشعراء من مدح الرجال بهذه الخلال لا بغيرها، والبالغ في التجويد إلى أقصى حدوده من استوعبها ولم يقتصر على بعضها، وذلك كما قال زهير بن أبي سلمى في قصيدة:
1 / 20