نابوليون بونابارت في مصر
نابوليون بونابارت في مصر
اصناف
وكانت مقدمة الجيش تحت قيادة الجنرال «ديزيه»، أول من برح الإسكندرية كما قلنا، مع قوة مؤلفة من أربعة آلاف وستمائة مقاتل، وقد قاسى هذا القائد وجنوده، من شدة الحر وقلة الماء وصعوبة السير في الرمال، مر العذاب، وكان العربان قد ردموا الآبار، وألقوا فيها النطرون المالح حتى سار ماؤها مرا وحامضا، ولم تكن المنطقة الخصبة الواقعة الآن بين دمنهور وإسكندرية، كما هي اليوم بعد مد السكة الحديدية، وتطهير المصارف، وحفر الترع والمساقي، بل كانت خرابا ينعق على أطلالها البوم، ليس فيها إلا بضعة أكواخ وعشش للعربان وقطاع الطريق، فداخل قلوب الجنود الفرنسيين الكدر، وشملتهم الكآبة، ولم يجدوا في تلك المهامة القفر ما كان يمنيهم به رؤساؤهم، من أرض مثمرة، وأنهار جارية وأشجار معشوشية، حتى اضطر «ديزيه» وهو القائد البطل الصبور، كما يدل على ذلك تاريخه، أن يكتب لنابوليون قائلا: «إذا لم يجتز الجيش الصحراء بأسرع ما يمكن فقد قضي عليه بالفناء.» وعلى رواية بوريين، سكرتير نابوليون أنه؛ أي: «ديزيه» كتب يقول: «إما أن تأمرنا بالعودة إلى الوراء أو المسارعة في السير، فإن البقاء في هذه الصحاري مستحيل، وقد بدأ الجنود يتذمرون ويتململون» ... وشتان بين هذه الأرض الجرداء المحرقة، خصوصا في شهر يوليو، وبين سهول لومبادريا في شمال إيطاليا، أو مناظر التيرول في جنوب النمسا!! «تلك المناطق التي كانت تحارب فيها هذه الجنود»، ولهذا يطعن كتاب الإنجليز «الذين ما كانوا يريدون لنابوليون نجاحا» على المماليك لعدم إسراعهم لمعاكسة الحملة الفرنسية في سيرها بين دمنهور والإسكندرية، أما نابوليون فإنه بعد أن برح الإسكندرية في الساعة الخامسة مساء استمر مع هيئة أركان حربه سائرا طول ليلة في جو مقمر، إلى أن اختفى القمر في الساعة الثالثة صباحا فسار في الظلام، وكاد يروح ومن معه ضحية لرصاص جنوده فرقة من الفرق المعسكرة في النقط الأمامية؛ إذ خيل للحراس أنهم هوجموا فنادوا بالتأهب، وأطلقت البنادق من الفريقين مدة ما حتى سمعت الأصوات، وتبودلت العبارات والإشارات، وسار نابوليون في طريقه إلى أن لاحت لأنظاره بلدة دمنهور في الساعة الثامنة صباحا، فيكون قد قضى راكبا حوالي ستة عشر ساعة، دون راحة!! وكانت دمنهور في ذلك الزمن بلدة حقيرة تحيط بها أشجار نخيل وسنط كثيرة، وفيها بعض المساجد، وحولها بعض تلول عليها قبور وأضرحة للأولياء، وكان «ديزيه» قد احتل البلدة بلا مقاومة، وهناك استقبل نابوليون في دار، قال عنها المؤرخون الفرنسيون، إنها أشبه بزريبة لا نوافذ ولا أبواب لها، وهناك اجتمع شيخ البلد والكشاف والمشايخ وبعض أعيان البلدة فقدموا له جرعة من اللبن، ولقمة من الفطير الذي يسميه الفلاحون «الدماسي»؛ أي: المسوى تحت رماد النار!!! فما كان أوسع الفرق بين تلك الدار الحقيرة، وقصور إيطاليا وزخارفها!!
وحكى بوريين فقال: «لما وصلنا دمنهور اتخذت هيئة أركان الحرب دارا كانت لأحد أعيان البلد مقرا لها، وكان ظاهر هذه الدار حسنا؛ لأنها مبيضة بالجير، ولكن داخلها كان متهدما، ينم على فقر ومسكنة، وكان نابوليون قد علم أن صاحب الدار ذو ثروة، فلذلك سأله، بعد أن طمأن خاطره بواسطة المترجم: لماذا يحرم نفسه من التمتع برفاهية العيش ما دام غنيا وقادرا على ذلك؟ وأكد له المترجم أن صدقه يفيده ولا يضره، فلما اطمأن خاطر الرجل قال: انظر إلى قدمي! منذ بضع سنوات أصلحت داري، وابتعت بعض الأثاث، فوصل خبر ذلك إلى مسمع الحكام في القاهرة، فطلبوني وطالبوني بالمال؛ لأنهم اعتقدوا أنني ذو ثروة ويسار، فلم أعطهم ما أرادوا فعاقبوني بالضرب إلى أن أعطيتهم ما طلبوا، ولكن بعد أن انكسرت رجلي كما ترون، ومن ذلك الحين هممت أن لا تكون لي دار غير هذه الدار الخربة، والويل ثم الويل لمن يعرف أنه غني في هذه البلاد!! وأضمن الأحوال للسلامة هو الفقر أو ادعاء الفقر.»
واستمر الجيش في طريقه قاصدا الرحمانية، حتى وصلها في نفس ذلك اليوم 10 يوليو، ولما وقعت عيون الجنود على نهر النيل فرحوا وطربوا، وخلع الكثيرون من الضباط والجنود ملابسهم، ونزلوا للاستحمام بماء النيل، ووصل بونابرت وهيئة أركان حربه، واستقر معظم الجيش في جوار الرحمانية وعلى شاطئ النيل طلبا للراحة، حتى تصل العمارة البحرية التي قامت من رشيد كما سبق لنا القول.
وكان المماليك قد سارعوا بإرسال نحو خمسمائة خيال على جناح السرعة لتعويق نابوليون عند دمنهور، فوصلت هذه القوة بعد أن ارتحل معظم الجيش الفرنساوي ووصلت مقدمته إلى الرحمانية، ولم يبق إلا فرقة الجنرال ديزيه، التي تركت في المؤخرة، فالتقى المماليك بالفرنسيين، ودارت معركة غير مهمة بين دمنهور والرحمانية خسر فيها الفرنسيون أربعة من الجنود، وخسرت تلك الفصيلة من المماليك نحو خمسين.
وقد خلط الشيخ الدحداح، فيما ترجمه في كتابه تاريخ فرنسا الحديث، فروى حكاية التمرد الذي وقع بين الجنود الفرنساوية، وكاد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كأنها وقعت في المنطقة بين الإسكندرية ودمنهور، وهذا غير صحيح، ورواية هذا التمرد ستأتي في مكانها بعد انهزام المماليك في واقعة شبراخيت، وقبل وصول الجيش الفرنساوي لإمبابة، بنحو يومين، كما رواه نابوليون نفسه تفصيلا، في مذكراته التي أملاها وهو أسير في سانت هيلانة.
موقعة شبراخيت
قال صاحبنا الجبرتي متهكما على مراد بك «وما كان أكثر تهكمه عليه»: «لما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية التخن «كذا» والمتانة، طولها مائة ذراع وثلاثون ذراعا، لتنصب على البوغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر، لتمنع مراكب الفرنسيس من العبور لبحر النيل، وذلك بإشارة علي باشا، وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنا منهم أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر، وأنهم يعبرون في المراكب، ويقاتلونهم وهم في المراكب، وأنهم يصايرونهم ويطاولونهم حتى تأتيهم النجدة.»
وكيفما كان غرض الجبرتي من هذه العبارة فإن مراد بك، بعد أن ألقى تلك الأوامر، سار بجيشه المؤلف من نحو ثلاثة آلاف فارس من المماليك، وألفين من الإنكشارية، ونحو ألف وخمسمائة أو ألفين من البحارة، في القوارب التي سبقت الإشارة إليها، وتابع سيره ملازما ضفة النيل حتى وصل إلى قرية الطرانة، وهناك وصلت إليه الأخبار بما تم للفرنسيين في أرض مصر، وعلم لأول مرة أن الجيش الفرنسي احتل رشيد، وأن فرقة المماليك التي بعث بها إلى دمنهور تفرقت شذر مذر، بين تلك البلدة وبلدة الرحمانية، وأن كتلة الجيش الفرنسي زاحفة على مصر.
فسار إلى شبراخيت وأخذ في الاستعداد الحربي على قدر معرفته وكفاءته، لملاقاة القوة الفرنسية، فبدأ بإقامة طابيتين في بلدة شبراخيت، ووضع في كل طابية 9 مدافع، وأخذ كذلك في حفر الخنادق حول تلك البلدة حيث وضع للدفاع عنها مشاته من الإنكشارية، ووقفت عمارته في النيل منتظرة قدوم السفن الفرنسية.
والآن نترك الكلام في وصف هذه الواقعة المهمة، التي ذكرها الجبرتي في بضعة سطور، وتابعه المؤرخون الحديثون لنابوليون نفسه، فيما أملاه من مذكراته وهو في منفاه قال ما خلاصته: «كان الجيش في يوم 12 يوليو عند الساعة السابعة مساء معسكرا عند قرية منية سلامة، على بعد فرسخ من الرحمانية، وصدرت إليه الأوامر بأن يسير عند الساعة الواحدة صباحا؛ لأنه كان من المهم كثيرا أن لا نعطي مراد بك الوقت الكافي للتحصن والتترس، وجمع شتات جيشه، فما كاد يظهر ضوء القمر حتى تحرك الجيش، ثم لم تأت الساعة الثامنة صباحا حتى كان وجها لوجه مع جيش مراد بك المرتكز جناحه الأيمن، المؤلف من المماليك، على بلدة شبراخيت، وجناحه الأيسر يتألف من نحو ألفين من العربان، ممتدين إلى داخل الصحراء، وكان مع كل مملوك ثلاثة أو أربعة من الجرال لخدمته وكذلك كان العربان في حركة مستمرة متنقلين من مكان لآخر، بحيث يخيل للنظار أن هذا الخط مؤلف من خمسة عشر ألفا إلى ثمانية عشر ألفا.»
نامعلوم صفحہ