أخذت أخفف عنه آلامه، وأهون عليه خطبه ودعوته للانصراف إلى منزله ما دام لا يرغب في رؤية ابنته وهو على هذه الحالة، ووعدته بتكليف أحد التلاميذ الكبار بمرافقتها، وما عليه إلا أن يكلف من يستقبلها من جيرته وذويه، وصاح الرجل قائلا: لا ... لا ... إني لا أطمئن عليها وهي برفقة تلميذ، إني أخشى عليها من السيارات ...
وما كان مني إلا أن طمنته ووعدته بمرافقتها بنفسي إلى المنزل.
فرح الرجل وأخذ يهذي بخليط من كلمات الشكر والحمد وانصرف يتأرجح في مشيته.
استمر الرجل على هذه الحالة جاعلا من نفسه ميدانا لمعركة عنيفة بين عوامل الخير والشر، فتشن تارة جيوش الخير غارتها يقودها حب هذه البنية، فتنتصر ويكف الرجل عن تناول الخمر أياما يقضيها سعيدا بابنته راضيا عن نفسه، ثم تعيد جيوش الشر غارتها يناصرها جرثوم الخمر المتمكن من نفسه، ويشجعها رفقة السوء من رواد الحانات وعشاق الرحيق، فيعود إلى السكر ويعود إلى البكاء والنحيب ويعود ضميره إلى التأنيب، وكل ذلك من أجل ابنته التي يحبها إلى حد العبادة ويسوءه أن تنتسب إلى والد سكير قذر، إنه يريد أن يقلع عن رذيلة السكر، لا خوفا من الله، ولا حياء من المجتمع، ولكن من أجل هذه البنية؛ لأن ذلك يحط من كرامتها وينقص من قيمتها وهو يريدها كاملة لا تشوبها شائبة نقص.
تركت المدرسة في نهاية السنة الدراسية وتركت السكير في صراعه العنيف مع نفسه، وإني لا أدري إذا ما تغلب جانب الفضيلة الذي تحميه ابنته حورية بما تشعه من أنوراها في دنياه المظلمة، أو تغلب جانب الرذيلة الذي تناصره شهوة النفس وإغراء رفقة السوء.
رجل من الناس
«زمرة الأصدقاء» - كما يسمون أنفسهم - هم عبارة عن نفر من الشبان من أوساط الشعب، وحدت بينهم فضائلهم، لأن الفضائل وحدها هي التي تستطيع أن توحد بين القلوب توحيدا متينا لا يقوى الانفصام على زعزعة أركانه ... وجمعهم اتحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم، وآخى بينهم صفاء قلوبهم ورقة عواطفهم، فأصبحوا مثلا للأخوة الصادقة، والصداقة الخالصة، ورمزا عظيما للمحبة والوفاء، تجمعهم كل يوم - بعد انتهاء أعمالهم - مجالس الأنس والسرور، لا يكاد يغيب واحد منهم إلا افتقدوه وتفقدوه.
كان خالد - الذي لا يفارقهم أبدا، ولا يتخلف عن مجلسهم - رجلا غريب الديار يعرفون أنه نزح إلى هذه البلاد منذ سنين بمفرده، وكل ما يعرفون عنه أنه أعزب، وجاء من بلاد نائية لم يشأ أن يحدثهم عنها طيلة اتصاله بهم، وأنه «رجل من الناس» لا أكثر ولا أقل، كما يقول عن نفسه، كلما سأله أحد عن أصله وموطنه، ولم يخطر يوما على بال أحدهم أن يلح عليه في الكشف عن ماضيه، مكتفيا بحاضره، وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه، وأنه (رجل من الناس) وحسبهم ذلك، ويعلمون فوق ذلك أنه عامل مثلهم، يشتغل بالكتابة عند تاجر جشع بمرتب زهيد، رغم سعة معلوماته وكرم أخلاقه وإخلاصه في عمله الكثير، ويحس الجميع بتألمه من حقارة مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزع جله على الفقراء والمساكين، ولم يعرفوه يوما رد سائلا، أو اشتكى لهم الفاقة والاحتياج ، فالابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه، فهو دائما في مرح وسرور، يمازح هذا، ويحادث هذا، يسأل ذا ويجيب الآخر. وهكذا كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم، يلتفون حوله كل مساء فيتصدر جمعهم ويظل يحادثهم ويباسطهم والجميع سابحين في جو مرح كله غبطة وكله سرور ...
كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من الأصدقاء نظرات مختلفة، فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا الائتلاف، ومنهم الحاسد على هذا الصفا وهذه المودة، وكم حاولت جيوش الحسد بغارتها الشعواء أن تفكك عرى صداقتهم، وكم حاولت ألسنة السوء أن تشتت جمعهم دون جدوى، ولم يزدهم كلام الناس إلا ابتعادا عن الناس وصحبة وارتباطا، ولم تزدهم محاولات الحساد إلا توطيدا لدعائم الصداقة والمودة. ••• «خالد» شاب في العقد الثالث من عمره يتمتع بثقافة متوسطة جامعة، أخذ من كل فن حظا وافرا، سليم الطبع حلو الفكاهة، كريم النفس، ذو همة عالية وأخلاق فاضلة، تعلو شفتيه ابتسامة عذبة لا تكاد تفارقه إلا إذا خلا إلى نفسه وتعمق في بحور أفكاره، فتغمره سحابة من الكآبة والحزن لا يعرف أحد مصدرها ... وكثيرا ما تجده في أشد حالات السرور إذ ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة ويغيب بفكره عن جماعته، فينتبهون لذلك ويصيح الجميع مازحين: كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد! علها كانت تحمل بضاعة كثيرة؟
وينتبه خالد من غفوته، ويعود إلى نفسه ومجلسه، فيرد على النكتة بأحسن منها، ثم تسمع سعلته الخفيفة المعتادة، التي يسميها جماعته «صفارة الإنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم، فينقلب المجلس بغتة من المزاح إلى الجد ويفتح الجميع قلوبهم وآذانهم كأنهم تلاميذ سذج، ويبتدرهم خالد بقوله: إني لا أكاد أفكر في نفسي يا إخواني وأهتم بأموري الخاصة بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة، فكل شيء في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآلامي، تحزنني هذه الفضيلة التي أصبحت قشورا دون لب، مظهرا دون مخبر، أصبحت زيا يتزين به الإنسان أمام الناس، ويخلعه إذا ما خلا إلى نفسه، وبذلك أضاف الإنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة ، أصبحت الفضيلة أثاثا ماديا يرثه الابن عن أبيه، ويشتريه ذو المال بثمن زهيد، فلم تعد الفضيلة شعارا ساميا يرتديه كل من عصمه الله من الرذائل، فمسخت الفضيلة غير الفضيلة وانتزعت روحها، فلم يبق سوى جثمانها جثة هامدة لا روح لها ولا إحساس ...
نامعلوم صفحہ