ولست أذكر أني أغضبتها بتصرفي ولا مرة، وكان يكفي لوصيفتي أن تذكرني بوالدتي لأحجم عن كل عمل مغاير لإرادتها.
وكان لي أن أرى أمي مرتين بالنهار فقط فأذهب إليها لتسمع مثائلي، فإذا أجدت بحفظها سمحت لي بالبقاء في غرفتها وهي تسرح غدائر شعرها الذهبي المترامي على أكتافها كحلقات تشبه النجوم التي تترجرج في كبد الضحى.
كم كنت أحب في ذلك الحين أن أسمع صوتها الرخيم يكلمني بهدوء، ولكن الأمهات كثيرات الشغف بكل ما لا يدعى واجبا، فكانت أفكارها مشردة تترفع عن السقوط إلى درجة فهم ولدها الذي يعبدها ...
كان لأمي فساطين عديدة تجربها وزيارات متتابعة تقوم بها، وأشخاص عديدون تتلهى بحبهم عني، وكم من مرة ذهبت إلى المراقص بأول الليل ولم ترجع إلا بعد رقادي فحرمت منها قبلة المساء ...
وأذكر بأن مرة سمح لي بالسهر لبعد عودتها من المرقص كي أراها بثوبها الجميل، فلما دخلت إلى البهو الكبير بعد أن أعياني الهجود رأيتها مسربلة بالحرائر، وقد ظهر صدرها كبرج عاج عليه الثديان اللذان أرضعاني مطلوقين لكل ناظر ... فانبهرت عيناي من هذا المشهد، وكدت لا أعرف أمي بتلك الغانية الهيفاء، لو لم ينبض قلبي بشدة فجثوت على ركبتي ولم أجسر أن أمس طرف ثوبها فقالت لي: مالك لا تقبلني يا ولدي؟
فشرقت إذ ذاك بدموعي وأجبت: أنت جميلة جدا يا أماه، أنت أجمل ما أرى ... لا تتركيني ... ابقي معي دائما، فكان جوابها: ألا تريد أن تسكن روعك أيها المجنون، أين الوصيفة لتأخذه إلى سريره؟
ولما بلغت السادسة من عمري أرسلت إلى المدرسة، فكنت أرقد مع بقية الأولاد في غرفة النوم الباردة وأتأسف على حالتي غير ذاكر من ماضي شيئا سوى أمي ...
وكانت تحضر كل أسبوع لمشاهدتي، فأفتخر بها لكونها أجمل كل أمهات رفاقي تستجلب أنظار الكل للتأمل بها، فكنت أتمسك بثوبها مخافة أن يخطفها الناس مني، ولكن وا أسفاه! ذلك الفرح لم يكن ليدوم؛ فإن أمي كانت تخرج من غرفة المقابلة قبل انقضاء الوقت المعين فأتبعها إلى خارج المدرسة وهي ماسكة يدي الصغيرة والجموع شاخصة إلينا كأننا قمران.
وما كانت تتوارى عن إبصاري حتى أعود إلى مقامي مشرد الفكر وقلبي الصغير منقبض يقطر دما، فأذهب إلى فراشي للرقاد دون أن يزور الكرى أجفاني؛ لأن فكرا واحدا كان يتملك عقلي وهو: أمي، فأتساءل بحزن: لماذا أمهات رفاقي يلبثن طويلا عند أولادهن وتقبلنهم بأشد الحنان وتحضرن غالبا لمشاهدتهم، مع أن أمي ترفق حنوها بالضجر، فهل أن الجمال يسبب الفتور في الواجبات؟
وما طال حتى اعترتني حمى خبيثة ذهبت بقواي؛ فأرسلت إلى مستشفى المدرسة ومنه إلى البيت فازدادت آلامي، ولكنني نسيتها إذ رأيت أمي جالسة قرب سريري تمر يدها البيضاء على جبيني المحترق، فكان دائي لديها وهما وأصبح عذابي قربها عذبا، وما عاد إلي روعي بعد ما تحملت من ضنى المرض، حتى رأيت دلائل التعب بادية على محيا أمي العزيزة، فزادت معرفة الجميل قوة حبي وأصبحت وادا لو أنني أبقى مريضا، ولكنني لم ألبث حتى عادت إلي بعض القوة، فلم أعد أرى أمي إلا نادرا وأخيرا تحسنت حالتي فلم أعد أراها أبدا ...
نامعلوم صفحہ