فلا فرق بين ما يقع مصادفة وما يقع وفق قانون إلا أن الاطراد في الحالة الثانية لا يتخلف على حين أنه في الحالة الأولى قد يظهر وقد يختفي؛ فلو حدث مرة أن ظهرت على شاشة السينما صورة انفجار شديد ثم حدث في الوقت نفسه أن اهتزت الأرض فعلا بزلزال (كما قد تصادف حدوث ذلك فعلا ذات مرة)، عددنا الأمر اتفاقا بالمصادفة؛ لأنه لا يحدث هذا الاقتران بين الحادثتين دائما، ولو اطرد حدوثه دائما وبغير تخلف لجعلناه قانونا كأي قانون آخر من قوانين الطبيعة.
إنه لا إلزام في الطبيعة ولا وجوب إذا كان معنى الوجوب تنفيذ مأمور لأمر آمر، وكل ما في الأمر اقتران بين الحوادث يطرد أو لا يطرد، فإن اطرد كان قانونا وإلا فهو من قبيل المصادفة التي لا يركن إليها في الحكم على الحالات المستقبلة، وإنما نحن البشر قد رأينا لأنفسنا إرادة تفعل هذا وذاك، فشبهنا فعل الطبيعة بفعلنا، وجعلنا لها مريدا يريد لها أن تفعل كذا وألا تفعل كيت.
لو كان القانون العلمي صادقا بحكم الضرورة المنطقية، لا بحكم اطراد الوقوع، لكان نقيضه مستحيلا استحالة منطقية كذلك، فهل القانون الطبيعي نقيضه مستحيل من الوجهة المنطقية؟ كلا، فنقيض أي قانون طبيعي ممكن عقلا، وغاية ما في الأمر أن هذا النقيض لم يحدث، وفرق بعيد بين الحالتين. ولنضرب للمعنى الذي نريده مثلا من العلم الطبيعي الحديث، لنضرب له مثل القانون الذي يسمى بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية،
6
والذي مؤداه أن الحرارة تنتقل دائما من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وأن العكس لا يحدث أبدا؛ فلا يحدث أبدا أن تضع قطعة من الثلج في كوب من الماء فتنتقل البرودة من الماء إلى قطعة الثلج لتزيدها برودة وليزيد الماء بذلك حرارة، إنه لا يحدث أبدا أن تضع قطعة من الحديد المحمى على قطعة من الحديد البارد فينتقل شيء من الحرارة القليلة الموجودة في القطعة الباردة إلى القطعة المحماة فتزيدها حرارة بينما تزيد الأولى برودة، بل الذي يحدث دائما هو أن تنتقل حرارة الماء إلى الثلج البارد حتى يتعادلا، وأن تنتقل حرارة الحديدة المحماة إلى الحديدة الباردة حتى تتعادلا أيضا. وهكذا قل في كل حالة يتصل فيها جسم أكثر حرارة بجسم أقل حرارة؛ فإن الحرارة دائما تسير من الأحر إلى الأبرد، فلماذا؟ لماذا لا يحدث العكس؟ جوابنا هو: هكذا لاحظنا الظواهر كيف تحدث، فجعلنا ما قد اطرد حدوثه في ملاحظتنا قانونا، على الرغم من أن العقل الصرف لا ينفي حدوث العكس.
ولشرح ذلك نقول: إن مقدار الحرارة في جسم ما متوقف على حركة ذراته، ولما كانت هذه الذرات مختلفة السرعة في حركتها، كانت حرارة الجسم متوقفة على «متوسط» تلك السرعات المختلفة؛ فكلما زاد هذا المتوسط ازدادت حرارة الجسم، وكلما قل قلت. والذي يحدث عندما يمس جسم حار جسما أقل منه حرارة، هو التقاء مجموعتين من الذرات؛ فمجموعة متوسط السرعة في أفرادها أكثر من متوسط السرعة في أفراد المجموعة الثانية؛ فماذا تكون نتيجة هذا الصدام بين المجموعتين؟ إن الذرة البطيئة إذا ما اصطدمت بذرة أسرع منها، فهنالك احتمالان؛ فإما أن تزيد سرعة البطيئة وتقل سرعة السريعة حتى يتعادلا، أو أن تفقد البطيئة بعض سرعتها فتزداد بطئا، وتكسب السريعة سرعة تضاف إلى سرعتها فتزداد سرعة، لكنه على الرغم من أن كلا من الاحتمالين جائز الحدوث، إلا أن «الإحصاء» قد دل على أن تعادل السرعة بين البطيئة والسريعة أقرب جدا إلى الوقوع من أن تزداد البطيئة بطئا وتزداد السريعة سرعة؛ ومعني ذلك بلغة الحرارة هو أن التقاء جسم حار بجسم أقل حرارة يميل بالحرارتين المتفاوتتين نحو التعادل؛ فهكذا قد دلت المشاهدات، على الرغم من جواز حدوث العكس، وهو أن تزداد حرارة الحار وتزداد برودة البارد.
ونزيدك توضيحا فنقول: إن مجموعتي الذرات، المجموعة السريعة في متوسطها التي تكون الجسم الحار، والمجموعة البطيئة في متوسطها التي تكون الجسم البارد، حين يمتزجان بالتقاء إحداهما بالأخرى، تكونان أشبه شيء بمجموعتي أوراق اللعب، المجموعة الحمراء والمجموعة السوداء؛ فهاتان المجموعتان بادئ ذي بدء تكونان متجانستين؛ فالحمراء على حدة والسوداء على حدة، لكن ابدأ في «تفنيط» الأوراق ومزجها بعضها في بعض، وامض في هذه العملية ما شئت أن تمضي، فهل يجوز أم هل يستحيل أن تعود المجموعتان كما كانتا أول مرة، فالحمراء على حدة والسوداء على حدة؟ ذلك بالطبع ممكن؛ لأن هذه الحالة إن هي إلا حالة من حالات أخرى تعد بالملايين، غير أن إمكان حدوثها قليل الاحتمال إلى درجة تبرر لنا أن نقول إن مزج أوراق اللعب بعضها في بعض سيظل يبعثر الأحمر في غضون الأسود، ولن يعود النظام إلى حالته التي كان عليها أول الأمر أبدا؛ إن مثل هذا الرجوع غير مستحيل «عقلا»، ولكنه مستحيل تجربة وإحصاء. وهكذا قل في القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يقرر أن الحرارة تنتقل دائما من الأحر إلى الأبرد، وأن بقاء مجموعتي الذرات المختلفتي السرعة على حالهما، بحيث تظل الذرات السريعة مجتمعة معا والبطيئة مجتمعة معا، أمر إن لم يكن مستحيلا «عقلا» فهو مستحيل تجربة وإحصاء.
هكذا الحال في قوانين الطبيعة كلها ، فهي نتائج نستخرجها من المشاهدات على سبيل الإحصاء لا على سبيل القطع واليقين، ونقيضها إن لم يكن مستحيلا من الوجهة المنطقية الخالصة، فهو مستحيل على أساس التجربة وما دلت عليه. خذ وعاء نصفه مليء بالماء ونصفه الآخر خلاء مفرغ، وبين النصفين حاجز، فماذا يحدث لو ثقب الحاجز؟ الجواب الذي يتفق مع قوانين الغازات في علم الطبيعة هو: سينتشر الهواء في النصف المفرغ، بحيث يتعادل انتشاره في نصفي الوعاء على السواء، لكن هل يجوز أم هل يستحيل أن نثقب الحاجز ومع ذلك يظل الهواء في مكانه لا يتسلل إلى النصف المفرغ؟ إن ذلك ممكن «عقلا» ولكنه غير ممكن تجربة وإحصاء؛ فبقاء الهواء متجمعا في نصف المكان وتاركا نصفه الآخر خلاء مفرغا إن هو إلا حالة من حالات أخرى كثيرة جدا كلها جائز في طريقة توزيع كمية الغاز في المكان، لكن احتمال وقوع هذه الحالة الواحدة دون بقية الحالات هو كاحتمال أن تعود أوراق اللعب أثناء عملية «التفنيط» إلى نظامها الأول؛ فهو احتمال ممكن الوقوع من الناحية المنطقية لكنه مستبعد من الناحية الإحصائية. هل يستحيل أن نصبح غدا فإذا دور القاهرة كلها قد احترقت، كل دار منها احترقت لسبب غير السبب الذي احترقت له الأخرى؟ هل يستحيل أن نصبح غدا فإذا كل سكان القاهرة موتى، كل منهم قد مات لسبب يختلف عن السبب الذي أدى إلى موت الآخرين؟ كل ذلك محتمل من الوجهة المنطقية، لكنه مستحيل من الوجهة الإحصائية التجريبية. وهكذا كل قانون طبيعي، فهو إجمال إحصائي لما يقع، نقيضه محتمل منطقيا، لكنه مستبعد تجربة وإحصاء.
وقد يقول قائل: وماذا علينا أن يقال عن القانون العلمي إنه ضروري الصدق ضرورة منطقية جريا مع الفلاسفة العقليين، أو أن يقال إنه محتمل الصدق على أساس تجريبي إحصائي جريا مع جماعة التجريبيين العلميين، ماذا علينا من مثل هذا الاختلاف إذا لم يكن من نتيجته عدم انطباق القانون عند تطبيقه؟ إذا كان القانون العلمي صادقا دائما من حيث التطبيق العملي، فقل بعد ذلك ما شئت في تفسير ذلك الصدق، أهو من إملاء المنطق أم هو من ترجيح الخبرة والإحصاء؛ قد يقال ذلك ويكون للقائل مبرراته العملية، لكن الفرق بعيد جدا من الوجهة النظرية بين رجل يأخذ بضرورة الصدق في القوانين الطبيعية وآخر يأخذ باحتمال ذلك الصدق؛ الفرق بعيد جدا في النظرة التي يكونها كل من الرجلين، فبينما الأول يقبل على العالم وكأنه قد أقبل على حقيقة سكونية قد فرغ صانعها من صناعتها وأعد لها قوانينها فلم يعد أمل في تغيير ما قد كان ولا في ارتقاب جديد بعد قديم، ترى الثاني في النهاية يكون لنفسه رأيا عن العالم بأنه تطوري حركي لا حد لممكناته، ولا نهاية لسيره وأوجه نشاطه.
الفصل الحادي عشر
نامعلوم صفحہ