في حالة الاعتقاد التي تهمنا في هذا السياق، يكون هنالك تصور ذهني للأمور كيف تقع، ويكون هنالك أيضا جملة نضع في ألفاظها ما يعبر عن ذلك التصور الذهني؛ فإن كانت هنالك في العالم الخارجي واقعة تقابل بأجزائها أجزاء تلك الجملة، كان التصور الذهني - أي الاعتقاد - تصورا صحيحا لأمور الواقع، وإن لم يكن هنالك في العالم الخارجي واقعة كهذه، كان التصور الذهني لأمور الواقع خاطئا.
على أن الجملة المصورة للواقعة من جهة، والواقعة المصورة بالجملة من ناحية أخرى، قد لا يكون بينهما التشابه المألوف بين الشيء المصور وصورته؛ لأن ألفاظ اللغة لا تشبه الأشياء التي تشير إليها تلك الألفاظ؛ فكلمة «كتاب» لا تشبه الكتاب، ولفظ «أخضر» لا تشبه اللون الأخضر؛ وبالتالي فعبارة «هذا الكتاب أخضر» لا تشبه الواقعة التي جاءت العبارة تصويرا لها، إنما يكون التشابه بين الجملة والواقعة تشابها في «التكوين»، وهذا وحده كفيل لنا بمراجعة الحلة على واقعتها لنتبين صدقها أو بطلانها؛ فإن قلت - مثلا - «سقط الحجر من أعلى البناء على الأرض»، كان الشبه التكويني بين العبارة والواقعة قائما في التقابل الذي يكون بين الأطراف والعلاقات في كل منهما؛ ففي كل منهما أطراف ثلاثة هي: أعلى البناء، والأرض، والحجر. وفي كل منهما علاقة ربطت هذه الأطراف الثلاثة، وهي علاقة السقوط.
إذن فحين يكون المفروض في قضية ما أن صاحبها قد ساقها ليزعم بها زعما عن واقعة من وقائع العالم الخارجي، فلا توصف هذه القضية بأنها «حق» إلا إذا أدركنا ما بينها وبين واقعتها من علاقة تجعل الأولى صورة للثانية، أو تجعل الأولى أداة صالحة للسلوك الناجح إزاء الثانية؛ وبهذا يكون ما نطلق عليه كلمة «حق» هو علاقة كائنة بين طرفين؛ اعتقاد يعبر عنه صاحبه بجملة ما من جهة، وواقعة تقوم في عالم الأشياء مصدقة أو مكذبة لذلك الاعتقاد؛ فليس «الحق» شيئا نلتمسه قائما وحده كما ظن فلاسفة كثيرون، بل هو علاقة بين صورة ومصور، أو بين أداة وموضوع تفعل فيه تلك الأداة.
وقد تسأل: ماذا تعني بكلمة «واقعة» ما دمت تريد للوقائع أن تكون الفيصل القاطع في حكمنا على اعتقاد معين (أي قضية معينة) بالصواب أو بالخطأ؟ وجوابنا هو أن «الواقعة» هي ما يمكن أن نشير إليه، أو ما كان يمكن أن نشير إليه مما قد وقع أو يقع من أحداث؛ فهذه الشمس الطالعة «واقعة»، وهذا الجبل، ونابليون قادما إلى مصر في حملته، وقيصر مقتولا بطعنة من بروتس، وهذا الطعام آكله، وهذا القلم أمسكه بين أصابعي كاتبا؛ كل هذه وقائع حدثت أو تحدث، أو قل هي مجموعات من حوادث وقعت أو تقع؛ وأي جملة أنطق بها معبرا بها عن اعتقاد عندي خاص بأمر من أمور الواقع هي نفسها واقعة من وقائع العالم؛ ومثل هذه الواقعة اللفظية (أي الجملة) التي نزعم لها أنها تشير إلى واقعة أخرى سواها، إنما يعتمد صوابها أو خطؤها على وجود هذه الواقعة الأخرى؛ فإن استحدثت حادثة «لفظية» لتكون رمزا يشير إلى مرموز إليه من جوانب الدنيا، ولم نجد في الدنيا هذا المشار إليه، لبث الحكم على الرمز معلقا، فلا هو صواب ولا خطأ؛ فوقائع العالم هي التي تقضي على جملة نقولها عن العالم بأنها حق أو باطل.
إننا نعيش في عالم واقع، والواقع فيه «صلابة» و«عناد» - كما يقول رسل
3 - فإذا ما قال عنه الإنسان قولا، لم يكن ذلك القول حقا إلا إذا قابله في دنيا الواقع ما يؤيده؛ فأقوالنا عن العالم هي كجدول مواعيد القطارات، فإن نص الجدول على أن قطارا يغادر القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الثامنة صباحا، كان هذا النص صوابا إذا قام القطار المذكور فعلا في الساعة المذكورة، فالواقعة هي التي تحقق صواب ما قد قيل، وليس ما يقال هو الذي يقضي بأن الواقعة قد وقعت فعلا، وكذلك نحن والعالم، فهنالك عالم خارجي من جهة، وهنا من جهة أخرى إنسان يتكلم عن ذلك العالم واصفا إياه زاعما عنه المزاعم؛ فوقائع العالم الخارجي التي تحدث فعلا هي التي على أساسها نقضي بما في أقوالنا من حق أو باطل، والعكس غير صحيح، وهو أن أقوالنا وأحكامنا واعتقاداتنا ليست هي التي تجعل الواقع واقعا والحق حقا والباطل باطلا.
علمنا بالعالم الواقع - إن استحق أن يطلق عليه اسم «العلم» - هو في حقيقة أمره مرحلة راقية من مراحل الملاءمة بين الكائن الحي وبيئته، فلا فرق بين الحيوان في تشكيل سلوكه على النحو الذي يوائم بينه وبين الواقع لكي يحيا، وبين العالم في قمة علمه وهو يحاول أن يزداد بالعالم علما، لنشكل سلوكنا تبعا لذلك تشكيلا يزيد من نجاحه في السيطرة على ظواهر الطبيعة، لا فرق بين هذا وذاك إلا في الدرجة وحدها، وأما «الكيف» فواحد هنا وهناك؛ لأنه في كلتا الحالتين محاولة واحدة نحو التكيف لواقع العالم على أساس العلم به علما صوابا.
ولما كان الحيوان والإنسان معا يتفقان من الوجهة الحيوية على أنهما يريدان أن يدركا من العالم الخارجي ما يمكنهما من العيش على خير وجه مستطاع، كان الحيوان والإنسان معا شريكين في الاستعداد والتهيؤ للسلوك في البيئة سلوكا موفقا، وهذا التهيؤ الذي يقتصر عند الحيوان على غريزة فطرية قد يرتفع عند الإنسان إلى أن يصل به إلى «المعرفة» في أرقى درجاتها وأدقها، لكن صميم الأمر واحد؛ مما يبرر لنا زعمنا بأن الحيوان كالإنسان تكون لديه «اعتقادات» معينة عن بيئته، يسلك على أساسها، فيجيء سلوكه موفقا إذا كان «اعتقاده» صحيحا، أو مخفقا إذا كان «اعتقاده» وهما باطلا. نعم إن «الاعتقاد» في أدق مراحله عند الإنسان يتحول إلى عبارات كلامية ينقل بها صاحب الاعتقاد اعتقاده إلى سواه، حتى لقد تعودنا أن نقرن الاعتقاد بالصيغة الكلامية التي تعبر عنه اقترانا يكاد يجعلنا نقصر «الاعتقاد» على الإنسان المتكلم وحده دون الحيوان الأعجم، لكن نظرة تحليلية إلى الوظيفة الحيوية للاعتقاد تكشف عن اشتراك الحيوان مع الإنسان في ذلك، وإن اختلفا في مدى الدقة ودرجة التحديد.
وإنما نقول هذا كله لنغرس في ذهن القارئ غرسا عميقا يربط به بين «الاعتقاد» و«الأمر الواقع» على نحو يجعل صواب الأول أو خطأه معتمدا كل الاعتماد على الثاني؛ فلا صواب في اعتقاد لا تكون له بالواقع صلة. إن قدرتنا على الكلام لتخدعنا وتصرفنا في كثير من الأحيان عن طرفي الموقف الرئيسيين، وهما «الاعتقاد» المكون في الداخل من جهة، والحادثة الواقعة في عالم الأشياء من جهة أخرى، حتى لترانا ننصرف إلى عباراتنا الكلامية نفسها، ندور فيها وندور، كأنما هي العالم الذي لا عالم سواه، على حين أن هذه العبارات - إن أريد بها أن تكون ذوات معنى - ليست إلا مشيرات نشير بها إلى الواقع كما «نعتقد» أنه يقع، هي كمقياس الحرارة نضعه في الماء الساخن ليكون أداة دقيقة تضبط لنا درجة الحرارة التي نحسها إذا ما وضعنا أصابعنا في الماء؛ فالجملة اللغوية ما دامت تشير إلى ما هو خارج الإنسان فهي الصيغة الرمزية التي نشير بها إلى ما نعتقد أنه موجود في العالم.
الاعتقاد - إذن - حالة حيوية تقتضيها الحياة نفسها وضرورة بقائها؛ ولذلك فهي حالة تضرب بجذورها إلى الحيوان الأدنى ، غير أننا إذا ما علونا بالاعتقاد إلى مرحلة الإنسان، حيث يجد وسيلة التعبير عنه بكلمات تفصل أجزاءه وتحددها، وجب لهذه الوسيلة التعبيرية ألا يكون لها معنى يجعلها غاية في ذاتها، بل يكون معناها في إشارتها إلى ما هو خارج عن حدودها؛ إشارتها إلى ما كان الاعتقاد قد تكون عنه من جوانب العالم؛ فعندئذ تقاس دقة التعبير بدقة إشارته إلى ما في العالم من تفصيلات وحوادث.
نامعلوم صفحہ