ولئن كان محالا على إنسان أن يلم بمجموعة الخبرات العقلية كلها التي يكمل بها البناء النسقي الذي يصور الحقيقة الكونية كلها، وأن يدرك ذلك البناء النسقي في وحدته بنظرة حدسية واحدة؛ فإن الإنسان ليقترب من هذا الكمال كلما زاد من علمه؛ إذ كلما ازداد الإنسان علما ازداد بالتالي قدرة على إدراك العلاقات التي تربط الأفكار بعضها ببعض في النسق الفكري الكامل؛ فمن القليل الذي أعرفه أستطيع أن ألم بالحقيقة بدرجة تتناسب مع ذلك القليل المعروف.
ولكن ما كل فكرة واحدة أو مجموعة قليلة من أفكار تكشف لنا عن الحقيقة الكاملة ككل فكرة أخرى؛ فالأفكار في ذلك ليست على درجة سواء، بل إن منها ما هو أقدر من سواه على الكشف عن حقيقة الكون الكبرى. خذ مثلا فكراتك عن هذه المجموعات الآتية: كومة من أحجار، آلة، كائن عضوي، مجموعة النظريات في علم الهندسة. هذه كلها مجموعات، لكنها تتفاوت في تصويرها لما تكون عليه مجموعة الكون؛ فكومة الأحجار أقل من الآلة اتساقا؛ لأن الحجر من أحجارها قد زال دون أن تتأثر الكومة في فكرتنا عنها، على حين أن الآلة إذا نقصت جزءا من أجزائها أصابها الخلل. والآلة بدورها أقل اتساقا من الكائن العضوي لجسم حيوان مثلا؛ لأن أجزاء الآلة لا تنمو معا في اتحاد كما تنمو أجزاء الكائن العضوي. والكائن العضوي بدوره أقل اتساقا من أجزاء التفكير الهندسي المنظم؛ لأن تغيير عضو من الكائن العضوي لا يستلزم تناقضا؛ فقد أتصوره ذا عين واحدة أو ذا عينين، أما تغيير النظرية داخل النسق الهندسي الواحد فأمر يستلزم تناقضا؛ لأن النظرية نتيجة محتومة لمقدماتها المفروضة.
وإذن فهنالك من الحقائق العقلية ما هو «أصدق» من سواه على تصوير الحق. وما أشبه الأمر في ذلك بسلوك الفرد من الإنسان في مناسبات حياته المختلفة! ففي كل موقف سلوكي على حدة تظهر طبيعة شخصيته، لكن المواقف السلوكية مع ذلك تختلف في درجة تصويرها لتلك الشخصية، فهنالك السلوك الذي يكشف عن سرها أكثر جدا مما يكشف عنه سلوك آخر. وهكذا تتفاوت الكائنات تعبيرا عن الحقيقة؛ فمنها ما يكون أوفى وأشمل وأصدق تعبيرا عنها من غيره؛ فالعقل الإنساني من غير شك أوفى وأصدق تعبيرا من قطعة الحجر عن حقيقة الكون الكبرى؛ أي إنه أعلى من قطعة الحجر في درجة نصيبه من الحقيقة.
ومعيارنا الذي نقيس به أنصبة الأشياء الفردية من درجات الحقيقة هو مقدار ما فيها من فردية واكتفاء ذاتي؛ فكلما ازداد الشيء فردية واكتفاء بذاته كان أقرب في تصويره للحقيقة الكونية؛ وبالتالي فنصيبه من الوجود الحقيقي يزداد غزارة وعمقا، وإنما تقاس فردية الفرد في درجاتها المتفاوتة، أولا بمقدار ما في الفرد الواحد من تفصيلات، وثانيا ما يكون بين تلك التفصيلات من اتساق يجعل منها كائنا واحدا؛ فالفرد الكثير التفصيلات في مضمونه أعلى في درجات الحق من الفرد الفقير في تفصيلاته، ثم يكون الفرد المتسق الأجزاء أعلى وجودا وحقيقة من مجموعة العناصر التي لا تأتلف ولا تكون فردا. وبعبارة أخرى، كلما ازداد الشيء اعتمادا على غيره في فهمنا إياه كان أدنى درجة في سلم الوجود، وكلما قل اعتماده على غيره كان أعلى درجة في ذلك السلم. وهكذا تصعد في سلم الكائنات حتى تبلغ القمة إذا بلغت معرفة كاملة بالكون كله؛ فعندئذ تراه فردا واحدا كثير التفصيلات، لكنها تفصيلات اتسقت في خبراتنا بها اتساقا يجعل من الكل كائنا واحدا، يفسر نفسه بنفسه، وكل شيء فيه إنما يستمد تفسيره من وضعه في ذلك الفرد الواحد الكبير.
وكلما اتسع علمنا بكائنات الوجود، ازددنا إدراكا لما بين تلك الكائنات من اتساق وتكامل؛ ففي أول عهدنا بدراسة العلوم المختلفة - مثلا - قد يخيل إلينا أن لا علاقة بين علم منها وآخر، وأن لكل منها قوانينه التي لا شأن لها بقوانين سواه، ثم نرقى في معارفنا العلمية، فيتسع أفقنا الإدراكي بحيث نرى هذه المجموعات المتفرقة من القوانين آخذة في الانضواء بعضها تحت بعض؛ فقانون أقل شمولا يندرج تحت آخر أوسع نطاقا، وهكذا، بل إن الإنسان في مراحله العلمية الأولى قد يتوهم أن في بعض قوانين العلوم - منسوبا بعضها إلى بعض - شيئا من التناقض. خذ - مثلا - الأعداد اللامقيسة في الرياضة، فالنسبة بين ضلع المربع ووتره لا يمكن ضبطها في عدد معلوم الحدود؛ ولذلك سميت تلك النسبة وأشباهها أعدادا لا مقيسة؛ أي إن قياسها مستحيل. وكان الظن في أولى مراحل التطور في علم الهندسة أن هذه الأعداد اللامقيسة نشاز في بناء العلم لا يتسق مع بقية أجزائه، حتى تقدم العلم الرياضي وتغيرت نظرية العدد من أساسها، فأمكن تفسير الأعداد اللامقيسة تفسيرا يزيل ما كان بينها وبين سائر أجزاء العلم من تنافر.
وخلاصة القول إن هنالك حقيقة واحدة كبرى تشمل الكون كله، داخلها حقائق فرعية جزئية، يكون تفسيرها وفهمها معتمدا على موضعها من البناء المتسق المتكامل. أو قل إن هنالك قضية أولى منها تنبع كل قضية أخرى، بحيث يكون صدق هذه متوقفا على صدق تلك.
قارن هذا بوجهة النظر الأخرى التي تعدد أجزاء الكون ولا توحدها؛ فالمعرفة الإنسانية في هذه الحالة تكون مجموعة من قضايا لا يتوقف صدق الواحدة منها على صدق الأخرى، بل يتوقف صدقها على مطابقتها للواقعة الجزئية التي جاءت القضية لتصورها؛ فبهذا يكون الكون هو حاصل جمع ظواهره ووقائعه، وليس هو بالكائن الواحد الذي يجعل من تلك الظواهر والوقائع أعضاء من كل متكامل؛ وبالتالي تكون المعرفة الإنسانية قائمة من قضايا لا يشترط لها أن تتساند كلها في نسق واحد يجعلها جميعا نتائج لمقدمة أولى واحدة.
وقائع العالم الخارجي مستقل بعضها عن بعض ولا يستدل بعضها من بعض، وإنما الاستدلال يكون لقضية من قضية أخرى أعم منها وتشملها، كأن أقول - مثلا - إنه إذا لمع البرق قرقع الرعد، وقد لمع البرق، فهنا أستدل أن قرقعة الرعد وشيكة الوقوع. ويلاحظ هنا أنه لو كانت القضايا التي بين أيدينا جزئية بمعنى أن كلا منها يصور واقعة جزئية واحدة، لما أمكن أن نستدل إحداها من الأخرى، ف «هذا القلم أسود» و«تلك البرتقالة مستديرة» قضيتان جزئيتان فرديتان تتحدث كل منهما عن واقعة بسيطة واحدة؛ وبالتالي فلا يمكن استدلال إحداهما من الأخرى.
فإذا نظرنا إذن إلى الاختلاف بين مذهب الواحدية ومذهب الكثرة من زاوية المعرفة الإنسانية، أي من حيث مجموعة القضايا التي يمكن للإنسان أن يقضي بها في أمور العالم، كان الاختلاف بينهما هو أن مذهب الواحدية يضم قائمة القضايا كلها في نسق استنباطي واحد، على حين أن مذهب الكثرة يفرط حباتها ليتم تحقيق كل منها على حدة مستقلة عن الأخرى.
3
نامعلوم صفحہ