ب ...
نسبة اقتران الجانبين: ...
وهكذا تمضي في قائمتك متمشيا مع تجاربك وملاحظاتك خطوة خطوة، وفي كل خطوة تخطوها تعرف إلى أي حد تستطيع أن تتوقع حدوث الظاهرة التي وضعتها موضع البحث. وواضح أن نسبة الاحتمال ستتغير مع اختلاف ما تجيء به التجارب، وتظل تتراوح زيادة ونقصا حتى تستقر على مقدار يوشك أن يكون ثابتا. ويشترط أن يكون اختيارك للأفراد اختيارا عشوائيا. ولكي تطمئن في نهاية الأمر إلى صواب النتيجة التي انتهيت إليها، فاختر مجموعات صغري من مجموعتك الكبرى التي سجلتها في قائمتك الأصلية، وليكن اختيارك لهذه المجموعات الصغرى عشوائيا أيضا، كأن تأخذ مثلا حالة وتترك حالتين، أو أن تأخذ حالتين متجاورتين وتترك خمس حالات وهكذا، حتى تتكون لك مجموعة صغري من داخل المجموعة الكبرى؛ فإذا وجدت أن نفس النسبة التي وصلت إليها في المجموعة الكبرى هي هي التي تصل إليها مهما تكن المجموعة الصغرى التي تقع عليها بعملية اختيار جزاف، كانت نتيجة البحث مرجحة الصواب.
تلك حالات يمكن فيها قياس الاحتمال على شيء من الدقة، فماذا نقول في الحالات التي نتحدث فيها بلغة الاحتمال ومع ذلك يختلف في أمرها الباحثون؟ ففريق يجعلها هي الأخرى ممكنة الحساب، على حين يجعلها فريق آخر مستعصية على التقدير الكمي؟ خذ مثلا قولي عن أخي إنه يحتمل أن يكون قد سافر أمس، وأمثال هذا القول الاحتمالي في الحياة العملية كثير، فهل تقاس درجة احتماله؟ وكيف تقاس؟
لقد أسلفنا لك القول إن «كينز» و«فون ميزس» كانا ممن يظنون أنه حتى هذه الحالات يمكن قياس احتمالها؛ وذلك لأن درجة الاحتمال - عندهم - منصبة على القضية لا على الحادثة نفسها؛ فقضية معينة أقولها تزيد درجة احتمالها أو تنقص بناء على نسبة القضية المزعومة إلى سائر تفصيلات معلوماتي الأخرى؛ فالقضية الواحدة قد تكون قليلة الاحتمال جدا، حتى إذا ما وقع في علمك شيء معين زاد احتمال تلك القضية زيادة كثيرة أو قليلة. خذ هذا المثل الموضح؛ ما درجة احتمال الصدق في قول قائل إنه رأى أسدا يسير في شارع بالجيزة؟ إنها درجة من القلة بحيث تكاد تبلغ درجة الصفر؛ لأننا ننسب هذا القول إلى بقية معلوماتنا عن الجيزة وما ينتظر أن يسير في شوارعها وما لا ينتظر، لكن افرض أن القائل أضاف إلى قوله السابق قولا آخر ، فنبه به السامع إلى أن حارس حديقة الحيوان قد ترك للأسد باب القفص مفتوحا، فها هنا على ضوء هذا العلم الجديد تزيد درجة احتمال القضية الأولى زيادة كبيرة؛ وهكذا يمكن قياس درجة الاحتمال في كل قضية مهما يكن نوعها بنسبتها إلى تفصيلات أخرى من معارف الإنسان، ثم هكذا - في رأي هذا الفريق من الباحثين - نزيل عن الاحتمال صبغته الذاتية لنجعله حسابا لشيء موضوعي صرف.
لكن أمثال هذه المحاولات كلها كانت تستهدف - أساسا - تدعيم المنطق الاستقرائي بإيجاد صلة الشبه بينه وبين المنطق الاستنباطي حتي يكون لذلك ما لهذا من يقين. أليست النتيجة في الاستدلال الاستنباطي - كالرياضة - يقينية؟ فإذا كانت قوانين العلوم الطبيعية لا تصطنع ما تصطنعه الرياضة من استنباط تستولد فيه النتائج من مقدماتها، بل تنهج منهجا تجريبيا يلاحظ حالات جزئية ويحاول أن يعمم منها قانونا مطلق الصدق، فلنبحث لهذا المنهج التجريبي الاستقرائي عن مصدر لليقين يدعم نتائجه؛ فإذا جاء «كينز» وغيره من رجال المنطق يدافعون عن أن كل فكرة تجريبية هي - كالفكرة الرياضية - ممكن قياس احتمالها قياسا دقيقا، كان موضع الخطأ عندهم هو نفسه موضع الخطأ عند الفلاسفة العقليين، وهو عدم إدراك الفرق الجوهري بين ما تقوله الرياضة وما تقوله العلوم الطبيعية، حتى ليتوهموا أن النوعين يمكن ردهما إلى مجال من القول واحد، وإلى منهج في البحث واحد.
وإمعانا منهم في تشبيه المنهج الاستقرائي بالمنهج الاستنباطي، كانوا يحاولون أن يلتمسوا للمنهج الاستقرائي «مقدمة كبرى» تكون بمثابة الفرض الأولي الذي يجيء كل شيء بعده بمثابة النتائج؛ وبهذا يصبون المنهج الاستقرائي كله في قالب الاستنباط، كأن نقول - مثلا - كما قال «مل» إن هنالك مقدمة كبرى يبدأ منها المفكر الاستقرائي، وهي «ظواهر الطبيعة مطردة». هذا زعم لم نستخلصه من التجربة، بل فرضناه فرضا لنفهم التجربة على ضوئه. وتحت هذه المقدمة الكبرى أضع مقدمة صغرى هي أن حوادث الماضي جاءت على النحو الفلاني، فتكون نتيجة «الاستنباط» في هذه الحالة هي: إذن فحوادث المستقبل ستجيء على النحو نفسه. أو أن نقول - كما قال كينز - إن هنالك مقدمة كبرى ومبدأ أوليا تنضوي تحته خطوات البحث العلمي؛ فإذا هي بالنسبة إليه كالمقدمة الصغرى بالنسبة إلى المقدمة الكبرى في القياس، بحيث يمكن بعد ذلك استدلال النتيجة استدلالا يقينيا، وأما هذه المقدمة الكبرى عنده فهي «مبدأ الصفات الأولية المحدودة»
11
الذي مؤداه أن في العالم عددا من الصفات محددا، كل منها مستقلة عن الأخرى، لا تستدل منها ولا تكون دليلا عليها، ومن هذه المجموعة الأولية المحددة تتكون التشكيلات المختلفة على نحو يجعلني أتوقع صفات «ب، ج، د» إذا وقعت على صفة «أ»؛ لأنني أعلم أن هذه المجموعة توجد معا؛ فالتوقع هنا أو احتمال ما سيحدث مبني على علم سابق بمبدأ عام سلمت به بادئ ذي بدء.
أعيد القول مرة أخرى، وهو أن كل محاولة في سبيل تبرير المنطق الاستقرائي على نفس الأسس التي تبرر يقين النتائج في المنطق الاستنباطي، هي محاولة في طريق خاطئ؛ لأن الأمر من أساسه قائم على افتراض أن النوعين من التفكير يمكن ردهما إلى مجال واحد ومنهج واحد، ولكننا نعلم الآن ما لم يكن يعلمه سابقونا علما واضحا، وهو أن الأمر في الحالتين جد مختلف. وليس من المقبول الآن أن تبرر صدق نتيجة تستخلصها من شواهد الحس بنفس الطريقة التي تبرر بها صدق نتيجة تكرر بها ما قد زعمته في مقدماتها فجاءت تحليلية لا تضيف إلى علمنا علما جديدا؛ فلئن كنت في هذه تتوقع اليقين بطبيعة الحال وتظفر به، ففي تلك لا يكون في وسعك إلا احتمال مرجح الصدق؛ فلو ألقينا على أنفسنا الآن السؤال الذي ألقاه «كانت» على نفسه، وهو: القضية من قضايا العلم الطبيعي قد جاءت من التجربة، ومع ذلك فهي ضرورية الصدق يقينية، فمن أين جاءتها تلك الضرورة وهذا اليقين؟ لو ألقينا هذا السؤال الآن، لما ذهبنا معه نبحث في مبادئ العقل ومقولاته عن مصدر الضرورة واليقين لأمثال تلك القضايا التجريبية، بل لأجبنا بأنه لا ضرورة في القضايا التجريبية ولا يقين.
نامعلوم صفحہ