معان مختلفات لكلمة «معنى». ومن بينها أن أري رسما على الورق (هو رسم كلمة أو عبارة) فأسأل: ما معناه؟ ليكون الجواب إشارة إلى ما قد جاء هذا الرسم ليرمز إليه. وهكذا ترى أن «المعنى» دائما هو أن شيئا يرمز إلى شيء، وكلا الشيئين يكونان من كائنات العالم الواقع.
غير أننا ها هنا سنقصر حديثنا على مجموعة واحدة من مجموعات الأشياء الرامزة، وهي مجموعة الألفاظ والعبارات اللغوية، وسنتصور دنيانا الواقعة ذات شقين؛ فالكائنات والوقائع من جهة، واللغة التي ترمز إليها من جهة أخرى. وإذا كانت دراسة الكائنات والوقائع هي من نصيب العلماء كل فيما يختص به، فإن اللغة باعتبارها رموزا تشير إلى عالم الأشياء هي وحدها المجال الذي تجول فيه الفلسفة بالمعنى الذي نريده لها؛ ومن ثم نفهم ما يقال الآن عن الفلسفة - على الأقل بالمعنى الذي نريده لها - إنها علم «المعنى».
لكن الفلسفة إذ تجعل «المعنى» موضوع بحثها على وجه التحديد، فهي لا تريد بذلك أن تكتب القواميس لتضع إلى جانب كل كلمة معناها؛ ففرق بعيد بين أن يسأل المتعلم عن معنى لفظة أو رمز معين، كأن يسأل: ما معنى «زاوية قائمة» أو «قمر صناعي» أو «اشتراكية»؟ وبين أن يسأل الفيلسوف قائلا: ما المعنى؟ ما الشروط التي تتوافر في الشيء الذي نقول إنه «معنى» لشيء آخر مهما كان نوع الشيئين؟ فالأمر هنا شبيه في عالم الاقتصاد بالفرق بين أن يسأل سائل: «ماذا أستطيع شراءه بهذا القرش؟» أو «بكم تباع الأقة من اللحم؟» وبين أن يسأل الاقتصادي قائلا: ما هي القوة الشرائية بصفة عامة؟ بغض النظر عن الثمن المدفوع والشيء المشترى في الحالات الخاصة من حالات البيع والشراء.
والبحث في «المعنى» ماذا يكون وكيف يكون هو الشغل الشاغل للكثرة العظمى من المشتغلين بالفلسفة في يومنا هذا. وليس الأمر جديدا كل الجدة؛ فسقراط لم يشغله شيء بمقدار ما شغله تحديد المعنى لهذه الكلمة أو تلك، وكذلك أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته يجعل تحديد المعنى جزءا هاما من عمله الفلسفي، وأرسطو في منطقه قد جعل «التعريف» الذي يحدد معاني الكلمات موضوعا لبحثه، وكثير جدا غير هؤلاء من فلاسفة العصور الوسطى وفلاسفة العصر الحديث قد جعلوا مشكلة المعاني وتحديدها أمرا جديرا بالاهتمام والبحث، لكن الموضوع لم يكن قط على نحو ما هو عليه اليوم من حيث يراد له أن يكون هو موضوع الفلسفة الذي لا موضوع لها سواه؛ ذلك لأن أولئك الفلاسفة الأولين حين كانوا يبحثون في المعاني كانوا من جهة يبحثون في تحليل المدركات بغض النظر عما تشير إليه، ومن جهة أخرى كانوا يظنون أن عمل الفلسفة الرئيسي هو البحث في حقيقة الوجود نفسه؛ فلا بأس - مثلا - في أن يتحدث الفيلسوف عن الفلك وعن التطور كما يتحدث العلماء؛ فالفرق بين المعاصرين وأسلافهم من حيث اهتمام الفريقين بالمعنى هو باختصار - وسنذكر الأمر تفصيلا فيما بعد - أن الأسلاف كانوا يجعلون وحدة التحليل هي مفهوم الكلمة الواحدة، فما «الشجاعة» مثلا وما «الروح»؟ بينما المعاصرون يجعلون الوحدة هي الجملة، أو إن شئت فقل باصطلاح المنطق إنها القضية؛ لأن الرموز اللغوية كلها تكون بغير معنى إلا إذا وضع الرمز في قضية، لماذا؟ لأن قوام العالم الخارجي هو كائناته الجزئية وهي مجتمعات بعضها مع بعض في «وقائع»، والواقعة الواحدة لا تصورها إلا جملة تكون كلماتها مقابلة للجزئيات التي هي أطراف الواقعة، وعلاقاتها مقابلة للروابط التي تصل هاتيك الأطراف فتجعل منها واقعة واحدة.
وفرق آخر بين المعاصرين والأسلاف في اهتمام الفريقين بالبحث في «المعنى»، وهو أنه بينما المعاصرون يقصرون أنفسهم على جانب اللغة وحده يحللونه من حيث قوته الرامزة، ترى الأسلاف يتناولون بالبحث جانب الكون المرموز إليه؛ فبينما عمل المعاصرين منطق صرف - أي تحليل للكلام من حيث دلالته ومعناه - نرى عمل الأسلاف يجاوز المنطق إلى حيث البحث في الطبيعة، بل وفيما وراءها.
2
وما دمنا بصدد الخصائص العامة التي تميز الفلسفة المعاصرة عما سبقها، وهي اهتمامها بالبحث في «المعنى» وجعلها القضية - لا الاسم - هي وحدة الفكر التي ينتهي إليها التحليل، فجدير بنا أن نستطرد قليلا لنذكر المراحل الرئيسية التي تطور الأمر خلالها حتى أصبح على ما هو عليه اليوم.
ليعجب القارئ ما شاء له العجب إذا ما علم أن الفلاسفة لم يفكروا تفكيرا جادا في تحديد موضوعهم إلا منذ عهد قريب؛ فلم يكد واحد منهم يسأل نفسه: ماذا تحاول الفلسفة أن تصنعه مما ليس يصنع مثله العلم الطبيعي أو العلم الرياضي أو اللاهوت؟ ولعل «كانت» أن يكون أول فيلسوف حديث يلقي هذا السؤال جادا، ويحاول الإجابة عنه إجابة يقرر بها أن علماء الرياضة والطبيعة ورجال اللاهوت لهم أن يقولوا ما يريدون أن يقولوه؛ فليس من شأن الفيلسوف أن يشاركهم القول، ولا أن يحكم على قول معين بالصواب وعلى آخر بالخطأ، ولكنه يتناول هذه الأقوال المختلفة ليبحث عن الشروط التي ينبغي أن تتوافر حتى يمكن إطلاقا لصاحب القول أن يقول ما يقوله.
على أن المهمة التي تضطلع بها الفلسفة على وجه التحديد، متميزة بها عن سائر العلوم، لم تتبلور ولم تستوقف الأنظار بصورة واضحة إلا في أوائل هذا القرن العشرين. وإذا جاز لنا أن نسمي البحث في تحديد موضوع الفلسفة «فلسفة الفلسفة» كان لنا أن نسأل متعجبين: كيف أمكن للفلسفة طوال عصورها أن تفلسف شتي جوانب المعرفة ولا تفلسف نفسها؟ كيف أمكن للفلاسفة أن يتعرضوا لكل ما قد تعرضوا له من شئون المعرفة والكون ولا تتعرض أولا لرسم معالم طريقها؟
لم تحاول الفلسفة إلا منذ عهد قريب جدا أن تحدد الرقعة التي تبني عليها دارها، ولا عجب أن رأيناها تجاوز حدودها وتبني على أرض الجيران، حتى نهض هؤلاء الجيران فطردوها من أرضهم واحدا بعد واحد؛ فحتى أواخر القرن الماضي - ودع عنك القرون السوالف - لم يكن للفيلسوف عمل خاص كما يكون - مثلا - لعالم النبات أو عالم الكيمياء عمل خاص، فكان الفيلسوف هو العلامة كائنا ما كان العلم الذي يحيط به؛ فلم يكن مما يخرج بالكلمة عن معناها المألوف أن تسمي عالم الفلك أو عالم الكيمياء أو عالم النبات فيلسوفا، ولم يكن مما يخرج بالأمر عن حدوده المألوفة أن يجيء إنتاج الفيلسوف محتويا على ضروب من العلم مختلفات؛ فابن سينا فيلسوف بمنطقه وبطبه على السواء، وديكارت فيلسوف بنظرية المعرفة وبنظرية البصريات على السواء. أليس عجيبا ألا تنشأ في اللغة الإنجليزية كلمة تدل على العلم بمعناه الخاص (أعني كلمة
نامعلوم صفحہ