إنها اختلافات بعيدة المدى تلك التي تفرق بين رجلين، أحدهما يجري في تفكيره على المنطق الأرسطي، والآخر يحلل الأمور على نحو ما يحللها برتراند رسل؛ فالأول سيتعقب «الجوهر» الذي هو موضوع لكل أفكارنا؛ إذ كيف يفهم فكرة إذا لم يفهم موضوعها؟ فإذا قال قائل عن الإنسان - مثلا - إنه يتصف بالحياة وبالعقل، كانت هاتان الصفتان - بالبداهة - كائنتين في طبيعة الإنسان نفسه؛ وإذن فما على الباحث إلا أن يمعن النظر في «الإنسان» ليدرك «جوهره»؛ فيدرك بالتالي صفاته التي تصفه فتجعل منه إنسانا، ولكن في أي إنسان يمعن الباحث نظره؟ أيمعن نظره في زيد أو في عمرو أو في خالد؟ كلا، بل يمعن نظره في «فكرة» الإنسان، أو في «مفهوم» الإنسان، أو في «تعريف» الإنسان، أو في «صورة» الإنسان، أو في «مثال» الإنسان، أو ما شئت من هذه الكلمات التي تتردد على أفواه الفلاسفة. إنه لا يبلغ العلم الثابت عن الأشياء إذا هو اقتصر على ملاحظة الجزئيات العابرة في هذا الفرد أو ذاك، بل يبلغ العلم الثابت إذا أدرك «الجوهر». ولما كان «جوهر» شيء ما هو بدوره مرتبط بجوهر شيء آخر، فالإنسان - مثلا - فرع عن الحيوان، ولا يفهم جوهره على حدة إلا إذا فهم جوهر الحيوان؛ فإن الأمر كله سينتهي بالباحث إلى وجوب تصور العالم كله كائنا واحدا عضويا، بحيث يكفي أن تفهم أي جزء منه لتفهم سائر الأجزاء، وبحيث لا يمكن أن تفهم أي جزء منه إلا إذا فهمت سائر الأجزاء.
وأما ثاني الرجلين، وهو الآخذ بمنطق الكثرة، فسيرد العالم إلى وقائع من جهة وقضايا نصف بها تلك الوقائع من جهة أخرى، بحيث تكون الواقعة الواحدة مكونة من جزئية واحدة أو أكثر مرتبط بعضها ببعض بعلاقات، وبحيث تعتمد معرفة الواقعة الواحدة - لا على غيرها من الوقائع - بل على إدراك جزئياتها التي تكون منها بمثابة الأطراف الموصولة بهذه العلاقة أو تلك، لكن الجزئية الواحدة لا تدرك إلا بالاتصال الحسي المباشر؛ وإذن فنهاية الشوط هي الارتكاز على هذا الاتصال الحسي المباشر بالجزئيات الذرية التي منها تتكون الواقعة الواحدة، ثم من مجموعة الوقائع يتكون العالم.
والفرق الأساسي بين «الجوهر» الذي هو أساس المنطق التقليدي والفلسفة التقليدية، و«الجزئي» الذي هو أساس المنطق المعاصر والفلسفة المعاصرة، هو أن الأول مزعوم له الثبات والدوام، والثاني مفروض فيه التغير والزوال، حتى ليقال عن الجزئي إنه حادثة تحدث ثم تزول؛ الأول يجعل المعرفة مطلقة والعالم ساكنا، والثاني يجعل المعرفة نسبية والعالم متحركا متغيرا.
يقول المنطق المثالي والفلسفة المثالية إنك لا تستطيع أن «تفهم» طبيعة الجزئي الواحد إلا إذا «فهمت» سائر الكون؛ فلا تستطيع أن «تفهم» هذا القلم الذي أمسكه بيدي الآن إلا إذا «فهمت» الكون كله. لماذا؟ لأن القلم جزء مني، وأنا جزء من الغرفة، والغرفة جزء من البناء، والبناء جزء من القاهرة، وهذه جزء من الكرة الأرضية التي هي جزء من المجموعة الشمسية، وهلم جرا. وبعبارة أخرى، فإن القلم سيرد في مجموعة كبيرة من القضايا التي تقال عن أشياء أخرى في العالم؛ وإذن فلا يمكنك «فهم» طبيعته إلا إذا فهمت تلك القضايا جميعا.
والأمر في هذا القول معكوس، والصواب هو أنك لا تستطيع فهم قضية يرد فيها ذكر القلم إلا إذا كان هذا القلم قد وقع في خبرتك الحسية المباشرة؛ فمعرفة المركب تتوقف على معرفة البسائط التي منها يتركب، وليست معرفة الجزئية البسيطة هي التي تتوقف على معرفة الكون المركب. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فليس من الدقة في استعمال الكلمات أن نقول إننا «نفهم» طبيعة هذا الشيء أو ذاك، إننا لا «نفهم» القلم ولا «نفهم» الكون بأسره، وإنما ينصب الفهم على «الكلمة» أو على «القضية»؛ أقول إنني قد فهمت هذه الكلمة إذا ما عرفت مسماها، وفهمت هذه القضية إذا ما عرفت الواقعة التي تشير إليها؛ فالفهم يكون للغة لا للأشياء التي تشير إليها اللغة.
ونعود إلى موضوعنا الأصلي في هذه الفقرة، وهو الكلمات المنطقية، مثل «و»، «أو»، «ليس»، «كل» ... إلخ، فنقول إنها وإن تكن لا تسمي شيئا من أشياء الواقع، إلا أنها هي الإطار الذي يحدد صورة الفكرة، إنها أدوات يستخدمها الإنسان المدرك لينظم بها علمه عن الأشياء المدركة. إن كلمة «أو» - مثلا - لا تكون شيئا من الأشياء التي تحتل أجزاء المكان، ولكنها تكون علاقة نربط بها أقوالنا التي نقولها عن تلك الأشياء. إنني إذ أنظر إلى المنضدة أمامي وأقول «ليس القلم على المنضدة»، فلا أقول ذلك لأنني أرى «ليس» فيما أراه، بل كل ما أراه هو كتب وأوراق. إنني بكلمة «ليس» لا أسمي شيئا أراه، وإنما أستخدمها ل «أستدل» نتيجة مما أراه. إنني أرى ما هو كائن هناك مما تنطبع صورته على حاسة بصري، ولست أرى ما ليس هناك، لكني أستدله؛ وإذن فيستحيل علي أن أستعمل كلمة «ليس» إلا إذا سبقت لي لغة أصف بها ما هو كائن فعلا؛ وبالتالي لا أستطيع أن أستخدم النفي إلا إذا سبقته معرفة إيجابية هي معرفة ما تنطبع به الحواس.
5
قد أسلفنا لك القول في ثلاثة ضروب من الكلمات من حيث دلالتها على مسميات خارجية؛ فهنالك أسماء الأعلام التي يدل كل اسم منها على مسماه الجزئي، وإنه ليتحتم منطقيا لاسم العلم أن يكون له مسمى وإلا فهو لا يحقق تعريفه. على أننا أشرنا في هذا الصدد إلى أن اسم العلم بمعناه المنطقي؛ أي بمعناه الذي يجعل له مسمى جزئيا واحدا، هو كلمة تدل على حالة واحدة، يشار إليها بقولنا «هذا» أو «هذه». ولما كان الفرد الواحد من الناس كالعقاد، أو من الأشياء كهذه المنضدة التي أكتب عليها، هو في الحقيقة سلسلة من حالات متتابعة، كان اسم العلم في هذه الحالة هو اسم الإشارة الذي يشير إلى العقاد في إحدى حالاته أو إلى المنضدة في إحدى حالاتها.
وهنالك إلى جانب أسماء الأعلام ضرب آخر من الأسماء هو ما يطلق عليه «الأسماء الكلية»، مثلي «إنسان» و«جبل»، وواضح أن كل كلمة من هذه الكلمات لا تقتصر على تسمية فرد بعينه، بل هي تلخيص لمجموعة وصفية إن وجد لها فرد تنطبق عليه، كان ذلك الفرد واحدا من الفئة التي تطلق عليها الكلمة. على أن النقطة المهمة هنا هي أن المجموعة الوصفية التي تدل عليها الكلمة الكلية، لا تقتضي بالضرورة أن يكون لها فرد تتحقق فيه؛ ومن ثم كانت الكلمة الكلية رمزا ناقصا؛ لأنها لا تدل بذاتها على ضرورة أن يكون لها مسمى. والكلمة الكلية في حقيقة أمرها هي عبارة وصفية بأسرها، لا اسم واحد، غير أن تلك العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية الواحدة عبارة ذات ثغرة؛ أعني عبارة مجهولة الفرد الذي تنطبق عليه، ولا يتم تكوينها إلا إذا وضعنا مكان الثغرة اسم علم يملؤها؛ فكلمة «إنسان» تحليلها «س تتحقق فيه صفات أ، ب، ج»، وقد نجد بعد ذلك فردا معينا نضع اسمه مكان س فتصبح العبارة الناقصة جملة كاملة، وقد لا نجد فردا تتحقق فيه الصفات المذكورة، فتظل العبارة على نقصها، لا تدل وحدها على معني كامل؛ أي لا تدل وحدها على وجود ما ترمز إليه بين كائنات الوجود الفعلي.
والضرب الثالث من الكلمات هو ما أسميناه بالكلمات المنطقية، مثل «إذا» و«ليس» و«أو» وما إليها، وهي كلها كلمات لا تدل على مسميات في الخارج، ولكنها ضرورية لربط الأسماء ربطا يجعل منها جملة ذات فكرة معينة؛ فالكلمة من هذه الكلمات المنطقية هي التي تخلع على الجملة صورتها، وهي التي تحدد لها حالات صدقها أو عدم صدقها؛ فمثلا إذا قلت جملة كهذه: «إذا قرأت أهل الكهف أدركت قدرة الحكيم الفنية.» كانت كلمة «إذا» هنا محددة لأربع حالات من حالات الصدق والكذب، هي: (1) أن تقرا أهل الكهف وأن تدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تصدق الحالتان معا. (2) ألا تقرأ أهل الكهف ومع ذلك تدرك قدرة الحكيم الفنية (من قراءة كتاب آخر مثلا)؛ أي أن تكذب الحالة الأولى ولكن تصدق الحالة الثانية. (3) ألا تقرأ أهل الكهف ولا تدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تكذب الحالتان معا. كل هذه الحالات الثلاث تجيزها كلمة «إذا»، وهنالك حالة رابعة مستحيلة بحكم استعمال كلمة «إذا»، وهي أن تقرأ أهل الكهف ومع ذلك لا تقدر قدرة الحكيم الفنية؛ فلو كانت هذه هي الحالة كان استعمال المتكلم لكلمة «إذا» خارجا عن الحدود الجائزة في استعمالها الصحيح.
نامعلوم صفحہ