ونحن لم نشهد قبل هذا الوزير رئيسا من رؤساء الوزارة في العهد الماضي قد وقف هذا الموقف، وطاوعته نفسه على الخطابة؛ إذ لم يقع لنا قبل هذا الرجل وزير على شيء من الاطلاع بفنون الأدب، ولم نر فيمن جاءنا قبله أحدا من الكتاب المفكرين، بل كان سواد رؤساء الوزارة قبله إداريين، لا أكثر ولا أقل، عاشوا طوال أعمارهم يمهرون القرارات، ويذيلون المراسيم بتواقيعهم، وينفذون هذا الأمر، ويبطلون ذاك، ولئن كان فيهم يوما الكاتب أو القانوني أو الخطيب، فقد كانت تعوزه أساليب الأدب فيما يكتب، وتنقصه ردعة الخطابة، وبلاغة المنحى، وحسن التنسيق، وجلال المعاني، وسحرية الألفاظ فيما يخطب.
ولكن الخطابة للوزراء أول لوازم النبوغ، والسلم إلى المرتبة السامية في الأمم المتحضرة، والممالك الحرة المتخلصة من قيود الإسار، ومعرة الجهل، وذيوع الأمية حتى في الخاصة، وكبار أهل المناصب، ولا يستطيع الرجل في بلاد الغرب أن يبلغ مكانة سامية في الشعب إلا إذا ملأ أسماعهم، وفتن ألبابهم لسعة مواهبه للخطابة، واعتلاء ذوائب المنابر، ولا تجدن الرجل العظيم في أمة كثيرة الكلام، شاعرية النفس، خيالية المزاج، كالأمة الفرنسية، إلا متكلما أبدا، خطيبا متدفقا، كثير الأحاديث، مستفيض البيان، ولا يستطيع أن يعيش حتى يظهر بين الحين والحين على أسماع أمته، فيلقي عليها شيئا من خواطره، ويصدع لها بحججه، وينزل لها عن خواطره.
وإذا كان نزول الوزير الأول عن مكانه إلى الخطابة، والتحدث إلى الجماهير، شيئا طريفا في هذا البلد، حديث عهد، لم يكن له سابقة من نوعه، فإن ما أدهشنا، وأخذ بمجامع أفئدتنا من تلك الخطبة التي ألقاها صاحب الترجمة في ذلك الفندق، رنة الإخلاص التي تتجلى في أضعافها، ومتانة الرأي الذي اجتمع فيها، وغلالة الأدب الرائق الذي احتشد في سطورها، ولكنا لم نلبث أن تبينا أن لا سبيل إلى العجب، ولا حق للدهشة. وصاحب الترجمة كما يعرفه صحابه، والمختلطون به كثير الدرس والقراءة لكتب الأدب، واسع الاطلاع، يلتهم كل شيء من الكتب، ويسيغ كل ضرب من التواليف؛ وإنه من كتابنا الذين لا يقلون عن أكبر كتاب الغرب، وأصحاب الأساليب البليغة، وأهل الترسل والبيان والتفكير، وزعامة الرأي.
وقد تناول الرئيس في تلك الخطابة جملة من الشؤون، وعالج عدة من المعاني، واستطرد في طائفة من أسرار السياسة، ولم ير أن يكتم أمته شيئا مما هو بسبيله، بل تفتح للناس، وتكشف وتراءى لهم على حقيقته صادقا، لا متعمدا كذبا، ولا متجانفا لمغالطة، أو مستعديا الخداع والغش على سامعيه.
وذلكم لعمري هو أوسع معاني الديمقراطية، وأجل أداتها، وأروع مظاهرها، وتلك آية من آيات العصر الجديد، وكانت خليقة بأن تجد عند خصومه ما يحملهم على احترامها وإكبارها، ويغريهم بمعالجتها بالنقد البريء من التحامل، والتخلص من المقصد السيئ.
وقد اعترف الوزير في تلك الخطبة بفضل أولئك الذين جاهدوا قبله، وانحنى انحناءة الإكبار أمام الذين ناضلوا عن حق أمته، وأبلوا أحسن البلاء في نهضة قومه، ولا تكون العظمة الإنسانية معترفة إلا لما هو عظيم مثلها، ولكل جليل جلالها، ومخلص على غرارها، ولم يضرب الله عظيما من عظماء هذه الدنيا بآفة الجحود، ولم يصبهم بمنقصة النكران؛ لأن في نكران العظيم لما يستحق التفاته وجحود لما هو أولى منه بالثناء عليه انتقاصا من قدر نفسه، وريبا من عظمة روحه، ومخافة أن ينقص منه ما يزيده بالثناء على سواه، والاعتراف بالفضل فضيلة في نفسها عظيمة، وقد نقع للصغار فإذا هم كبار خلقاء بالاحترام، حريون بالإكبار، وإذا كانت هي ضربا من العظمة في نفوس الذين لم يظفروا بروح العظمة ومادرتها، فما أحرى بها أن تكون أول مميزات خلق الرجل العظيم، وحسنة عظمته، ومفتنة كبريائه، وما كان مثل صاحب الترجمة ليغمض عينه إزاء العمل النبيل، ويشيح بوجهه عن الفعال الجسام، فإن العظماء لا يشعرون بلواعج الغيرة، ولا يحسون الحسد، ولا ينظرون بالعين الخائنة إلى ما أوتيه غيرهم ليجتذبوه إليهم، أو يقع لهم شيء مما أصاب سواهم؛ لأن الغيرة عاطفة تنم عن العجز، والحسد آفة تنطوي على اللؤم، ودناءة الطبع، وهي نتاج خاطر مظلم معتم، يريد أن يجعل الفضيلة احتكارا، ويكرهها على أن تكون في جزء واحد من الدنيا، ويجعل الجزء الآخر منها معتما غير مضيء.
فإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن نرى صاحب الترجمة في خطبته الفياضة العظيمة أبعد الناس عن «الأنانية»، والأثرة، والحسد، وغمط الفضل، وإخفاء الإعجاب، والضن على أهل العمل والجهاد بالثناء والإنصاف.
وقد أثنى على صديقيه عدلي ورشدي، واستفاض في التنويه بما عملا، وتمداح ما قاما به، وجاهدا في سبيله.
وما كان الوزير الأول مجازفا بالثناء مسرفا في المديح؛ لأن العظمة تشفق من أن تبدو أمام الناس طائشة مسرفة، فإنها إذا فعلت ذلك أنقصت من قدر من تثني عليه، وتحيفت جوانب قدرها هي ومكانها، وفي قلة الكلمات التي تقول، وعبارات المديح التي تفوه بها أبلغ صورة من حسن نيتها، ونقاء وجدانها، وصدق سريرتها، وليست كلمة العظيم توزن بألفاظها، وتقاس بأسطرها؛ لأنها لا تفيض كما تفيض الشاعرية؛ فتكذب في سبيل أن تقول الحق، وتقول حقا في صورة يخيل إلى سامعها أنها الباطل بجملته، وأصوله، ومادته، وهي ليست تتطلب من وراء ثنائها على لداتها زلفى إليها، وقربى منها، وصلة بها، وعطاء من لدنها، وإلا كان أحق بها أن تطوف بالرباب، وتجري على توقيعات المزمار والغاب.
وهل كان أروع ما مدح به رجل رجلا، وما أثنى به عظيم على عظيم من تلك الكلمة الفردة الصغيرة التي فاه بها نابوليون بونابرت؛ إذ وقف على أكبر فلاسفة ذلك العصر وشعرائه، ذلك الذي مزق ديوان الشعر قبله، وقذف إلى الخمول جميع من كتب قبله في الفلسفة والتفكير، ونعني به الشاعر الألماني جوث؛ إذ نظر إليه، ثم دار بعينه في وجوه من حوله، ولم يلبث أن قال يمدح ذلك الشاعر: «إنه رجل!».
نامعلوم صفحہ