وكان والده إسماعيل باشا عبد الخالق بن المرحوم عبد الخالق أفندي سر خليقة الرزقة في أوائل عهد محمد علي الكبير، فكان جده عظيما على رأس القرن التاسع عشر، وجاء الحفيد عظيما كذلك، ورأس حكومة مستقلة بعد العشرة الثانية من القرن العشرين.
كان جده لأمه كذلك من أشراف هذه المملكة، وهو المرحوم أغاة متسحفظان مصر في ذلك العهد، وكذلك انحدر صاحب الترجمة من أعصاب قوية، وطبيعة أقوى منها، ولعل ذلك سر امتلاء بدنه، وقوة شخصيته، وحدة خاطره، ومتانة طبيعته.
فلما بلغ الثامنة من عمره أدخله والده مدرسة عابدين؛ فتلقى فيها دروسه الابتدائية، وانتقل منها إلى مدرسة المعلمين «النورمال» فأتم فيها علومه الثانوية، ونال شهادة البكالوريا، وكان أول الناجحين في امتحانها من طلبة المدارس الثانوية.
تلك كانت أول بواكر هذا النبوغ، وذلكم مبدأ نضوج هذا الذهن القوي، ولا يني النبوغ يخرج ثماره على ميعاد، وعلى غير ميعاد، وقد يبطئ في الظهور وقد يبتكر، وقد يمر الفتى بشبيبته كلها صبيا عاديا لا غرابة حوله، ولا شيء يدهش من خلقه، أو من حديثه، أو من أثر ذهنه، وقد تظل كذلك فإذا هو على مستهل الثلاثين، أو على ثنية الأربعين قد راح نابغة في قومه، مكتمل الذهن، ناضج المواهب؛ فيعجب الناس لظهور هذه النادرة الجديدة، ويتساءل أقرانه، والذين رأوه في صغره، وشهدوه في مراهقته، كيف أتيح لهذا الرجل الذي كان علما على الغباء، ومادة التبلد، ووخامة الخاطر أن يبدو اليوم بمثل هذا الذكاء، ويتراءى بهذه الأعجوبة الجديدة، ومن أمثال هؤلاء المتسائلين تضحك الطبيعة ساخرة؛ لأنها لا تريد أن تسير في أفعالها على ما يهوى الناس، وأن تقرب نظامها من نظامهم، وتحاكي بين قوانينها وقوانينهم.
والنبوغ المبكر الوثاب من الطفولة الواضع علائمه في وجه الطفل، وهو يمشي إلى المدرسة؛ التارك دلائله تبين في أخلاق الصبي ضاحكا وباكيا، وغضوبا ومارحا، وفي حركاته وفي سكونه، يروح بطبيعته أقوى وأكمل من النبوغ الذي يأتي إذ تقبل الكهولة، وتتقدم السن؛ لأنه إنما يفيض من نبعة مستمرة على الجريان لم تكن يوما ناضبة، ولم يكن معينها جافا لاصقا بالأرض، وهو خارج من يد الطبيعة لساعته وعامه، طالع على الكون من يد الله المبدع العظيم، فلم يكن مخلوق الأعوام، أو مجهود السنين والحوادث، أو نتاج الطوارئ في حياة الرجل، أو تطور العصر، أو ثورة الزمن، كما يكون من النبوغ الذي يقبل متأخرا متمهلا، يمشي الهوينى إلى العالم.
ونحن فنرى أن للأصل والدم والمنشأ والأعصاب دخلا في نبوغ صاحب هذه الترجمة، فإنه ولا ريب من عنصر آري لا أثر في تكوينه للدم السامي، وقد كان الآريون هم الذين فتحوا العالم، وأحدثوا الحضارة، وكتبوا التاريخ بأيديهم؛ لأن ذهنيتهم أكبر وأقوى من ذهنية الساميين، وتركيب أدمغتهم بخلاف تركيب أدمغة أهل العنصر السامي، وسلالتهم، كما يبدو ذلك الآن في تقاطيع وجه هذا الوزير، وشكل رأسه ومزاجه وطبيعته، ومنازع نفسه؛ وأكبر ما يؤيد لدينا هذا الرأي، ويوحي إلينا أننا على الحق فيما ظننا هو أن جده الأعلى حضر إلى هذا الوادي، واستوطن هذه البلاد بعيد الفتح العثماني، فهو منحدر من أصلاب متينة، وسليل جندية راعت العالم كله يوم بسطت سلطانها على هذا الوادي، وقد كان للهواء السجسج في هذه البلاد، والنسائم العلائل الرواحة الهادئة أثر في تخفيف حدة هذه الجندية الخشنة الرائعة.
وقد شهد هذا التأثير جميع الذين انحدروا من أوطانهم للمقام في مصر؛ فقد تطورت أذهانهم؛ وتغيرت أمزجتهم، ودخل عليها أثر هذا الجو الهادئ، فجعلهم يحملون دلائل أصلهم في وجوههم، وتأثير المناخ الذي استوطنوه في أمزجتهم وطبائعهم ، وقد تجلى ذلك في عهد المماليك؛ إذ ضعفت على مر السنين روح الجندية التي كانت مكينة في نفوسهم، ووهنت في أرواحهم صبوتهم إلى الحرب، وشوقهم إلى الحومة؛ لأن جو مصر إنما يخرج كما قال العلامة الطلياني لومبروزو في كتابه «الرجل العبقري» زراعا، وعملة، وحراثا أكثر مما ينتج جنودا وشجعانا، ومساعير حرب، وتعليل ذلك أن البلاد السهلة التربة، الخفيفة الأرض التي لا تطول فيها الجبال، ولا تتحجر الأراضي لا تتطلب من الرجل إجهادا في سبيل رزقه، ولا تسأله كدا متواصلا في سبيل البحث عن قوته على حين نرى القوم في البلاد الصحرية الكثيرة الأجبال، لا يجدون العيش سهلا ذلولا، ولا يقعون على طعامهم إلا من بين الصخور، وفي بطون الأرض يشقونها أحافير ومناجم، وفي العمل الشاق المنهك للقوى، المتعب للأعصاب، ويوم يجد الرجل رزقه ومؤونته بلا مشقة، ويرى العيش أنضر على حبل الذراع منه يصفو مزاجه، ويعتاد الراحة، ويسكن إلى الخمول، ويروح وديعا مبتسما للحياة ابتسامتها له، ساخرا من الزمن؛ لأنه لا يكلفه غير طرح البذور، وترك الجدول الفضفاض ينساب في حقله، فإذا هو واجده بعد أيام زرعا ناضرا أخرج شطأه، وإذا الأرض مدرة عليه طعاما وخيرا، ومثل هذا الرجل لا يكون إلا وديعا مسالما ضحوكا مفراحا، لا يحمل حزنا، ولا يجلد على أسى، ولا تجد للكبرياء أثرا في نفسه، ولا للخشونة عنصرا في خلقه؛ إذ لا تقع الكبرياء والزهو إلا للرجل الذي يعلم أنه إنما يجد الطعام بشق النفس، ويحمل على نفسه ليكون سيدا رافع الرأس، لا بالمتكفف، ولا بالسائل المحروم.
وكذلك نحن في بلدنا هذا الخصيب، فكما يجري النيل متبسما للشمس، وهي تلاعب صفحة أمواهه، ضاحكا للقمر المبتدر يبسط أشعته الفضية عليه ليلتحف به غطاء حلوا فخما، يعم صدره، وكما يتدفق صافيا عذبا فراتا، ويفيض لا صخابا ولا غاضبا، عاتيا طاغيا على الناس في حقولهم، ترى أهل واديه كذلك صفاء نفوس، ونقاء أرواح ووداعة، ومراحا وضحكا، وابتساما، ومزاجا رقيقا، وصفحا، وتهاونا، وتسامحا.
وإذا كان صاحب هذه الترجمة قد ورث عن آبائه روح الجندية، ومتانة الخلق، وصلابة الإرادة؛ وذلك الشمم المتسامي، فقد أخذ عن هذا الوادي كما أخذ آباؤه كذلك منذ استوطنوا هذه الأرض فضيلة الوداعة، ولين العريكة، وابتسامته الدائمة التي لا تفتر عن ثغره.
وإذا كانت تلك الجندية المتمكنة من خلقه المتأصلة في روحه لا تزال تبدو في حياته المدنية في تلك البسالة التي يواجه بها أحداث هذا العصر، وتلك الإرادة الفتية التي يحمل بها على أحرج المواقف، وأشد الظروف عنتا وإرهاقا وتعقدا، وتلك العظمة التي يتجلى بها في منازعته على الحق أعداء بلاده، فإن ما اكتسبه من الروح المصرية لا يزال يبدو في مزاجه الصافي، وفي وداعة أخلاقه، ولطف حديثه.
نامعلوم صفحہ