وقد وهب الموصِلَ شرفُ الدولة مُسلم بن قريش لبعض شعرائه وارتحلَ عنها فقيلَ للشّاعر إنها لا تبقَى عليك فلو بعْتَها لنوّاب الأمير لكنتَ موَفقًا، فابْتاعوها منه بعشرينَ ألفِ دينار. فلما بلغ شرفَ الدولةِ ذلك قال: ائتوني به، فلزِمَ أذنَهُ وقال: قبضتَ المالَ؟ قال: نعم، قال: وأنت راضٍ؟ قال: أجَل والله، فعرَك حينئذ أذنَهُ وقال له: يا ديّوث لقد بعتَ رخيصًا هلاّ لزمتَ يدكَ وطلبتَ مائةَ ألفِ دينار، فما كان لهم غَناءٌ عن دفعِ المالِ إليك.
وهذه الحكاية هكذا رَواها لي والدي ﵁، ولم يذكرْ لي الشِّعْرَ ولا الشاعر. قال ﵀: حدّثني بذلك عمُّ والدتي محمّدُ بنُ عُبَيْدِ الله العلويّ الحُسيني قال: حدَّثني المهذّبُ أبو الحسَن عليّ بنُ مُسْهِرٍ الكاتب بذلك في شُهور سنةِ إحدى وثلاثين وخمسمائة، وكان ابنُ مُسْهِر يمدحُ بني مُسلِم ابن قريش ويخدمُهم، وروى لي أنّ أبا القاسمِ الحسَن بن هانئ المغربيّ الأندلسيّ كان شاعرًا لبني مروانَ بالأندلس، فلما سمِعَ المُعزُّ العلَويّ شِعرَه، أنفذَ إليه فأوفدَه عليهِ رغبةً في الأدبِ، ومنافَسةً على شرفِ الرُّتَب، فلما اتّصل بخدمته مدحَه بمدائحَ منها:
الحبُ حيثُ المعْشَرُ الأعداءُ
ومنها:
تقَدّمْ خُطا وتأخّرْ خُطا
ومنها:
أقولُ دُمًى وهيَ الحِسانُ الرّعابيبُ
ومنها:
هلْ كان ضمّخَ بالعبيرِ الريحا
ومنها:
سَرى وجَناحُ الليلِ أسحمُ أفتحُ
ومنها:
ألا طَرَقَتْنا والنّجومُ رُكودُ
ومنها:
أقوى المُحَصَّبُ من هادٍ ومن هيدِ
ومنها:
ألؤلؤٌ دمْعُ هذا الغَيْثِ أم نُقَطُ
ومنها:
قد سارَ بي هذا الرِّكابُ فأوْجَفا
ومنها:
قُمْنَ في مأتمٍ على العُشّاقِ
ومنها:
أريّاكِ أم رَدْعٌ من المِسكِ صائِكُ
ومنها:
قد مرَرْنا على مغانيكِ تلكِ
ومنها:
أتظنُّ راحًا في الشّمالِ شَمولا
ومنها:
يومٌ عريضٌ في الفَخارِ طويلُ
ومنها:
قامَتْ تَميسُ كما تدافَعَ جَدْوَلُ
ومنها:
أصاخَتْ فقالتْ وقعُ أجردَ شَيْظَمِ
ومنها:
سَقَتْني بما مجّتْ شُدوقُ الأراقِمِ
ومنها:
هل من أعِقّةِ عالجٍ يَبْرينُ
فكان كلّما مدحَه بقصيدةٍ أعطاهُ ضَيعةً، فلما خرج مملوكُه جوهَرُ وأخذ مصرَ خرجَ المُعزُّ، فلما جلَسَ للهناء دخل عليه ابنُ هانئ واستأذَنَهُ في الإيراد فأذِن له فأنشدَ قصيدةً يقول منها:
ألا إنّما الأيامُ أيامُكَ التي ... لكَ الشّطْرُ من نَعْمائِها ولنا الشّطْرُ
التفتَ الى وزيره وقال: اكتبوا له بالاسكندرية وسلّموها إليه بمَنْ فيها فهيَ شطْرٌ قد خصصناهُ به. هكذا كانت جوائز الشعراء. وأُعْطِيَ الأحْوَصُ عشرينَ ألف دينار لقوله:
وما كانَ مالي طارِفًا من تِجارةٍ ... وما كان ميراثًا من المالِ مُتلَدا
ولكنْ عَطاءٌ من إمامٍ مُبارَكٍ ... مَلا الأرضَ مَعروفًا وجودًا وسُؤدَدا
وهي أبيات مشهورةٌ وما أظنّ أحدًا من مُقصِّري شُعراء الوقت يعجز عن قول مثلِها.
وكان زهير قد بلغ الغايةَ في مدحِ هرِم بنِ سِنان بن حارثة حتى ضربَتِ العربُ المثلَ بهرمٍ في الجودِ لقول زِهير:
إنّ البخيلَ مَلومٌ حيثُ كان ول ... كنّ الجوادَ على عِلاّتِه هَرِمُ
هو الجوادُ الذي يعطيك نائِلَهُ ... عفوًا ويُظْلَمُ أحيانًا فيَظَّلِمُ
وأجمع أهل العلم بالشّعر أنّ أمْدَح ما قالته العرب قولُ زهير:
قد جعلَ المُبْتَغونَ الخَيْرَ من هَرِمٍ ... والسائِلونَ الى أبوابِه طُرُقا
إن تلْقَ يومًا على عِلاّتِه هَرِمًا ... تلْقَ السّماحةَ منه والنّدى خُلُقا
فأفرطَ هرِمٌ في عطائه والبذل له حتى أنّ هرِمًا أقسم أنه زُهيرًا لا يُسلِّمُ عليه إلا أعطاه المالَ والإبلَ، فترك زُهير السّلام على هرمٍ إبقاءً وحَياءً من إفراطِه في العطاء، كان زهيرٌ يمُرُّ بالنادي فيقول: ألا أنعِموا صباحًا ما خَلا هَرِمًا وخيرَكُم تركتُ.
هكذا كان الشعراء يستَحْيون من صلاتِ الممدوحين وإحسانِ المُنعمين كما قال المعرّي:
1 / 61