قال المنصور: فقلت له: كمْ كان مروانُ أعطاك؟ قال: أغناني غِنى الأبَد، فما أسألُ أحدًا بعدَه، قال: فهمَمْتُ بقتله، ثم ذكرْتُ حقّ الاسترسال، وحُرمَةَ الصُحبة، فأطلقْتُه، وبدا لي فأمرتُ بطلبهِ فكأنّ البيداء أبادَتْهُ ورُويَ أنّ يزيدَ بنَ رُوَيْمٍ الشَيْباني، وكان رجلًا مِسْياعًا فأراحَ إبلَهُ ذات ليلةٍ من المَرْعى على أبيه، فقال له أبوه: لمْ تُعَشّها؟ فقال: بَلى قد فعلتُ، فدفعَ أبوه ثوبَه في وجوهِ الإبل فنفّرها وصرفَها الى المرعى وقال: أحسِنْ عَشاءها، فقال الغلام: إني لأحسِبُ غيرَك سيَبيتُ ربَّها. فلما صار الى الموضع الذي يُعَشّي إبلَهُ فيه، مرّ به سِرْحانُ بن أرطأة السّعْدي في مِقْنَبٍ له، فساق الإبلَ وأخذَ الغلامَ فأوثقَهُ شدًّا على بعض تلك الأباعر فرفعَ الغلام عقيرته وأنشد:
يا ويْحَ أمٍّ لي عليّ كريمةٍ ... فقْدي لَها شجَنٌ من الأشجانِ
إنّ الذي ترْجينَ نفْعَ إيابِه ... سقَطَ العشاءُ به على سِرحانِ
سَقَطَ العشاءُ به على مُتقَمِّرٍ ... ثَبْتِ الجَنانِ مُعاودِ التّطْعانِ
فلما سمع سرحانُ بنُ أرطأة شِعرَه قال له: أشاعر؟ قال: نعم، قال: خلّوا عنه، فأطلقَه وردّ عليه إبلَه. وقولهم في المثل: وقعَ العشاءُ به على سِرحان، قيل: السرحانُ هاهُنا الذّئب، وقال قوم: بل هو سرحانُ بنُ معتَّب الغنَويّ، وكان قد أغار على إبلِ نُصَيْحَةَ الأسَديّ، فقال أخوه هزيلةُ بنُ معتَّب:
أبْلِغْ نُصَيحةَ أنّ راعي إبْلهِ ... سقطَ العشاءُ به على سِرْحانِ
سقَطَ العشاءُ بهِ على مُتَقمِّرٍ ... لمْ يُثْنِهِ خوفٌ من الحدَثانِ
والرواية الصحيحة ما ذكرناه أولًا. ولولا الشعرُ والشاعرُ، لذهبَتِ النفس والأباعرُ.
وقال المفضّلُ الضّبيّ: كنتُ الى جنب إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب ﵁ يوم لقائِه عسكرَ المنصور، فالتفتَ إليّ وقال: يا مفضّل أنشدني شيئًا، فقلت: إنّه يريدُ مني ما أحرِّكُهُ به، فأنشدْته أبياتَ عُوَيْفٍ الفَزاريّ:
أقول لفِتيانٍ كِرامٍ ترَوّحوا ... على الجُرْدِ في أفواهِهنّ الشكائِمُ
قِفوا وَقْفَةً مَنْ يَحْيَ لا يخْزَ بعدها ... ومن يُخْتَرَمْ لا تتّبعْه اللوائِمُ
وما أنت باعَدتَ نفسَك عنهُمُ ... لتَسلمَ منها، آخرَ الدّهر سالِم
فقال: يا مفضَّل أعِدْ. فأعدتُ ثلاثًا، فتمطّى في رَكْبه حتى قلت تقطّعَتْ، وحملَ مرّةً بعد مرة يقتلُ في كل واحدة النفس والعشْرَة الى أن حملَ فلم يعُد. وقيل: جاءَهُ سهمٌ عائر فذبحَه.
وحكَى شُرَحْبيل بنُ معن بن زائدة قال: كنتُ بطريقِ مكةَ فسِرْتُ تحتَ قُبّةِ يحْيى بن خالد، وعديله أبو يوسُف القاضي إذ أقبلَ رجلٌ على نجيب، فأنشدَ شِعْرًا لم يرْضَهُ يحيى، وقال له: ألم أنْهَكَ عن قول مثله؟ هلاّ قلتَ كما قال الشاعر:
بَنو مطَرٍ يومَ اللّقاءِ كأنّهمْ ... أسودٌ لها في غِيلِ خفّانَ أشبُلُ
لَهاميمُ في الإسلام سادوا ولم يكُنْ ... لأوّلهم في الجاهليةِ أولُ
همُ يمنعون الجارَ حتى كأنّما ... لجارِهِمُ بينَ السِّماكَيْنِ منزلُ
همُ القومُ إن قالوا أصابوا وإن دُعوا ... أجابوا وإن أَعْطَوا أطابوا وأجزَلوا
ثلاثٌ بأمثالِ الجبالِ حُلومُهمْ ... وأحلامُهمْ منها لدى الرّوعِ أثقَلُ
وما يستطيعُ الفاعِلونَ فَعالَهُم ... وإنْ أحسَنوا في النّابياتِ وأجْمَلوا
فقال أبو يوسف ليحيى: لله درُّ قائله! لمَنْ هذا الشعر؟ فقال يحيى: لمروان بن أبي حفْصَة في والد هذا الفتى، ورمَقَني بطَرْفِه، فالتفتَ أبو يوسف إليّ وقال: من أنت يا فتى؟ فقلت: شُرَحْبيلُ بنُ معن بن زائدة. قال شُرَحْبيل: فوالله ما أعرفُ دخلَ على قلبي سُرور أعظم من سروري بذلك، ولا مرّتْ عليّ ساعةٌ أطيبُ من تلك الساعة.
وقيل لمّا بلغَ علقمَةَ قولُ الأعشى:
تَبيتون في المشتى مِلاءً بُطونُكم ... وجاراتُكم غَرْثَى يبِتْنَ خمائصا
1 / 58