فقال ﷺ: وأنت فثبّتك الله يا بنَ رواحة. قال راوي هذا الحديث: فثبّته الله أحسنَ الثبات فقُتِلَ شهيدًا، ومضى سعيدًا.
وحدّث عمر بنُ هِزّان بنُ سعيد الرُّهاوي عن أبيه أنّ رجلًا من قومِه يقال له عمرو بنُ سُبَيْعٍ وفد على النبي ﷺ فأنشده:
إليكَ رسولَ الله أعمَلْتُ نصَّها ... تجوبُ الفَيافي سَمْلَقًا بعد سمْلَقِ
على ذات ألواحٍ متى أُرِدِ السُّرى ... تخُبُّ برحْلي تارةً ثم تعنِقُ
فما لكِ عندي راحةٌ أو تلَحْلَحي ... ببابِ النبيّ الهاشميّ الموَفَّقِ
سلِمتُ إذا من رِحلةٍ بعد رِحلةٍ ... وقطْعِ دياميمٍ وليلٍ مروَّقِ
ففرحَ رسولُ الله ﷺ بشعره وعقد له لواءً. تلحْلَحي: أصلُه تلحّحي من الإلحاح، فأبدلوا من الحاء المُدغَمة لامًا كراهيةً من اجتماعِ الحاءات.
ولما أتى النبيَّ ﷺ وفدُ هوازن بالجِعِرّانَة أنشدَهُ أبو جَرْوَلٍ الجُشَميُّ قصيدةً منها:
أُمْنُن علينا رسول الله في كرمٍ ... فإنك المرء نرجوه وندّخرُ
أمنن على بيضةٍ إعتاقُها قدَرٌ ... ممزِّقٌ شملَها في دهرِها غِيَرُ
فلما سمِعَ شعرَه عطفَ عليهم وردّ إليهم أنباءَهُم ونساءَهم. والحديث مشهور.
ولما قتلَ النبيُّ ﷺ النّضْرَ بن الحارث أنشأَتْ ابنتُه قُتيلة تقول من أبيات:
أمحمدٌ ولأنتَ نجلُ نجيبةٍ ... في قومها والفَحْلُ فحْلٌ مُعْرِقُ
ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما ... منّ الفتى وهو المَغيظُ المُحنِقُ
فلما سمع ﷺ شِعرَها قال - وما ينطقُ عن الهوى -: لو سمعْتُه قبل قتلِه لما قتلتُه.
ومدحَهُ ﷺ العباسُ بنُ مرداس السُلَميّ بأبيات منها:
رأيتُكَ يا خيرَ البريّةِ كلّها ... نشَرْتَ كتابًا جاءَ بالحقِّ مُعْلَما
شرَعْتَ لنا دينَ الهُدى بعد جَيْرِنا ... عنِ الحقِّ لمّا أصبحَ الحقُ مُظلِما
فمنْ مُبلِغٌ عني النبي محمدًا ... وكل امرئٍ يُجْزى بما كان قدّما
أقمْتَ سبيلَ الحقّ بعدَ اعوجاجهِ ... وكان قديمًا رُكنُه قد تهدّما
فخلعَ حُلّتَه عليه، وقطع لسانَه بإحسانه إليه، ولولا الشعرُ، لما شمِلَه من النبي البِرُّ.
وقد سمِعَ ﷺ الشعرَ من جماعة غير هؤلاء مُقبلًا بالإصغاء عليهم، ومائِلًا بالاستحسان إليهم. فمنهم أعشى بني مازِن، وضِرار بن الأزْوَر، وقِردة بن نُفاثَة السّلوليّ، وممّا سمِعَ منه:
بانَ الشبابُ ولم أحفِلْ به بالا ... وأقبلَ الشّيبُ والإسلامُ إقبالا
فالحمدُ للهِ إذْ لم يأتِني أجَلي ... حتى اكتَسَيْتُ من الإسلامِ سِربالا
فقال ﷺ: الحمدُ لله. وسمعَ من عبد الله بن كُرْز اللّيْثي، ومن حُمَيْد بن ثَوْر ومن النَّمر بن تَوْلَب العُكْلي، ومن لبيد بن ربيعة، ومن فَرْوَة بن عامرِ الجُذاميّ، ومن عَمرو بن سالمٍ الكعبي.
ولمّا قصده ميْمون بنُ قيْس الأعشى وامتدحه، لقِيَه أبو جهل فقال: أين قصْدُك يا أبا بصير؟ قال: محمد رسولُ الله. قال: وهل قلتَ فيه شيئًا؟ قال: نعَمْ وأنشده:
ألمْ تغْتَمِضْ عيناكَ ليلةَ أرْمَدا ... وبِتَّ كما باتَ السليمُ مُسهَّدا
حتى انتهى الى قوله:
وآليْتُ لا أرثي لها من كَلالها ... ولا من حَفا حتى تزورَ محمّدا
متى ما تُناخي عندَ بابِ ابن هاشمٍ ... تُراحي وتلْقَيْ من فواضِلِه يَدا
نَبيٌّ يرى ما لا تَرونَ وذِكْرُهُ ... أغارَ لعَمري في البلادِ وأنجَدا
فحسدَه أبو جهلٍ على مديحِ الأعشى، فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرِّك عليك الخمرَ، ولم يزَلْ به حتى صدّهُ عنه، فقال الأعشى: سآتيه من قابِل، فمات وحالتِ المنيّةُ، دون الأمنيّة.
1 / 55